Umm Al-Qura University Journal 19-24
مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤
शैलियों
العدد ١٩
فهرس المحتويات
١- تنويه القرآن بعلم داود وسليمان ﵉
٢- حديث القرآن عن الحج
٣- الآثار المروية في صفة المعية
٤- الأحاديث والآثار الواردة في التسليم في الصلاة
٥- المُسْتَخْرَجات نشأتها وتطورها
٦- أحكام السواك
٧- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية وصداها في المغرب
٨- السلطة السياسية في النظام الإسلامي مفهومها، وأهميتها، وحكم إيجادها، وخصائصها
٩- حقوق الإنسان في فلسفة الثورة الفرنسية
١٠- مصادر الحافظ ابن الفرضي في كتابه " تاريخ العلماء والرواة "
١١- مختارات من روايات الشعبي التاريخية عن عصر الراشدين من كتابي تاريخ الرسل والملوك ووقعة صفين
١٢- ميزاب الكعبة المشرفة المؤرخ عام ١٢٧٣هـ
١٣- التضامن العربي الأفريقي تجاه القضية الفلسطينية
١٤- إيصال مياه العيون إلى مدينة جدة منذ القرن العاشر حتى نهاية القرن الثالث عشر للهجرة
١٥- صيغة فُعْلَى في العربية
١٦- التداخل في اللغات دراسة لغوية قرآنية
١٧- من النباتات الطبيعية في سراة غامد دراسة لغوية وصفية
١٨- مقتضى الحال مفهومه وزواياه في ضوء أسلوب القرآن الكريم
١٩- ملامح تأثير الثقافة الإسلامية فى بلاد الملايو
٢٠- تهمة الرواة بعض الشعراء الأعراب الذين عاصروا نشأة الإسلام بجفاء الدين ورقته
٢١- المسافة بين الشعر والفكر - أحمد جمال نموذجًا
٢٢- شرح العلاّمة الأمير على نظم العلاّمة السُّجاعيّ في " لاسيَّمَا "
٢٣- لباب الإعراب المانع من اللحن في السنة والكتاب
٢٤- دفاعٌ عن المبني للمجهول في اللغة العربية
1 / 1
تنويه القرآن بعلم داود وسليمان ﵉
د. إبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري
قسم القرآن وعلومه، كلية أصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا بحث في التفسير الموضوعي يتناول دراسة النبيّين الكريمين داود وسليمان ﵉ لإبراز هدايات القرآن الكريم ودلالته من خلال علمهما الذي نوّه الله به في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وقد عني هذا البحث بربط قصصهما بموضوعات السور التي ورد فيها ذكرهما ﵉ مع التركيز على محور العلم، ومن ثم ألقي الضوء على علومهما من خلال القرآن الكريم وصلة ذلك بشخصيتهما في دراسة تأصيلية تحليلية تعتمد على تدبر كلام الله تعالى والاطلاع على كتب التفاسير القديمة والحديثة والدراسات العلمية، دون التفات إلى الإسرائيليات وما شابهها، ثم انتهت هذه الدراسة - بحمد الله وتوفيقه - إلى نتائج قيمة تتصل بعلم الله تعالى، وتبرز أهمية العلم ومكانة هذين النبيين الكريمين وشرفهما، كما تضمنت الرد على اليهود وكل من طعن في نبوة داود وسليمان ﵉ أو تنقّص من قدرهما أو أطراهما، كما أكد البحث أن العلم من أبلغ المعجزات التي أُويدا بها، وغير ذلك من النتائج التي تضمنها هذا البحث، فهو يعتبر دراسة جديدة في موضوعه، إذ لم أقف على مؤلف خاص يعني بجانب علمهما مع ما حظيا به ﵉ من إشادة في ذلك، حتى أصبح العلم هو الصبغة الغالبة في قصصهما. والله أعلم.
«««
الحمد لله عالم الغيب والشهادة، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
1 / 2
فيقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ (١) ويقول تعالى ذكرُه عنهما ﵉: ﴿وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (٢) فنوّه الله بعلمهم في كتابه الكريم في تضاعيف قصصهم، وصرّف في مثانيه أنواع علومهم، ولقد انتدبنا الله في سياق قصصهما إلى التدبر والادّكار، فقال جلّ شأنه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (٣)، وعن مجاهد قال: قلت لابن عباس أنسجد في ص؟، فقرأ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ (٤) حتى أتى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ (٥)، فقال: «نبيكم (ممن أمر أن يُقتدى بهم» (٦) .
ولا جرم أن ما اشتمل عليه قصصهما في مجال العلم يعتبر سمة بارزة، فهو حقيق بالدراسة لتأصيل بعض الموضوعات الأساسية وإبراز هدايات القرآن الكريم في هذا الجانب المهم، وذلك ضرب من التفسير الموضوعي.
مواطن ورود قصصهما:
يسوق الله تعالى ذكره القصص في السور حسب موضوعها ومقاصدها، ويعتبر العلم من المحاور التي تدور عليها بعض السور، ومن الأغراض والقضايا التي تحفّل بها القرآن الكريم.
وقد ورد ذكر داود وسليمان ﵉ في تسع سور في المواضع التالية:
أرقام الآيات التي في سليمان ﵇
أرقام الآيات التي في داود ﵇
نوعها
اسم السورة
م
١٠٢
٢٥١
مدنية
البقرة
١
١٦٣
١٦٣
مدنية
النساء
٢
-
٧٨
مدنية
المائدة
٣
٨٤
٨٤
مكية
الأنعام
٤
-
٥٥
مكية
الإسراء
٥
٧٨-٨٢
٧٨-٧٩
مكية
الأنبياء
٦
١٥-٤٤
١٥-١٦
مكية
النمل
٧
١٢-١٤
١٠-١١
مكية
سبأ
٨
٣٠-٤٠
١٧-٣٠
مكية
ص
٩
_________
(١) سورة النمل، الآية ١٥.
(٢) الأنبياء، الآية ٧٩.
(٣) ص، الآية ٢٩.
(٤) الأنعام، الآية ٨٤.
(٥) الأنعام، الآية ٩٠.
(٦) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾ ٤/١٣٥.
1 / 3
وقد وقع ترتيب تلكم السور حسب النزول كالتالي: سورة ص، ثم النمل، ثم الإسراء، ثم الأنعام، ثم سبأ، ثم الأنبياء، ثم البقرة، ثم النساء، ثم المائدة (١) .
وهذه السور على أربعة أقسام:
سورةٌ العلمُ أحد مقاصدها الأساسي، وأشير فيها إلى علم داود وسليمان ﵉ وهي سورة البقرة.
السور التي يعتبر العلم من أهم مقاصدها الأساسية، وفصّل فيها قصصهما أو أحدهما وهي سور الأنبياء والنمل وسبأ.
سورةٌ العلمُ ليس من مقاصدها الأساسية، وفصّل فيها قصصهما، وهي سورة ص.
السور التي ذُكرا فيها أو أحدهما على وجه الإيجاز ضمن النبيين أو لأغراض أخرى اقتضاها السياق، وهي سور النساء والمائدة والأنعام والإسراء.
وسألقي الضوء على الأقسام الثلاثة الأول، أما القسم الرابع فلا يستدعي ذلك؛ لأنه ليس على شرط هذا البحث.
القسم الأول/ سورة البقرة:
_________
(١) انظر الزركشي: البرهان ١/١٩٣.
1 / 4
نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ) على أنها اشتملت على «تقرير أصول العلم وقواعد الدين» (١)، وبهذا تظهر المناسبة جلية بين السورة والآيتين التي ورد فيهما ذكر داود وسليمان وهما قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ (٢)، وقوله تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (٣) ففي الآية الأولى تبرئة من الله تعالى لسليمان من السحر، فإن اليهود كانوا يقولون - افتراءً - «هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم» (٤)، فمعنى الآية: واتبع اليهود ما كانت تتلوه الشياطين من كتب السحر والشعوذة على عهد ملك سليمان، وقوله جلّ وعلا: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ (٥) لأن اليهود نسبته إلى السحر، «ولكن لما كان السحر كفرًا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر» (٦) .
وفي الآية الأخرى يمتن الله على داود بما آتاه وعلّمه، وقد استنبط الفخر الرازي (ت٦٠٤ هـ) من هذه الآية أصلًا من أصول التعلم فقال: «فإن: قيل إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة وكان المراد بالحكمة النبوة، فقد دخل العلم في ذلك، فلِم ذكره بعد ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾؟.
قلنا: المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن
_________
(١) دقائق التفسير ١/١٩٥.
(٢) البقرة، الآية ١٠٢.
(٣) البقرة، الآية ٢٥١.
(٤) الزمخشري: الكشاف ١/٣٠١.
(٥) انظر المصدر السابق، ابن عطية: المحرر ١/٤١٥، ابن العربي: أحكام القرآن ١/٢٨.
(٦) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ٢/٤٣.
1 / 5
التعلّم، سواء كان نبيًا أو لم يكن، ولهذا السبب قال لمحمد (: ﴿وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (١») (٢)، ولا يخفى أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ﴾ يشير إلى أن المصدر الحقيقي للعلم هو من عند الله تعالى.
ولما كانت سورة البقرة سورة مدنية فقد تناولت ذكرهما ﵉ في قضايا تشريعية: السحر والقتال، وأيضًا وقع مثل ذلك في سورة المائدة، حيث ذكر داود في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يقول الله جلّ شأنه: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ (٣) .
القسم الثاني/ سورة الأنبياء:
وهي سورة مكيّة ركزت على الحساب والرسالة وما يتصل بذلك من قضايا العقيدة (٤)، وقد ورد ذكر العلم صريحًا في أولها ووسطها وآخرها دلالة على علم الله المحيط وقدرته جل وعلا على البعث والجزاء كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (٥)، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ (٦)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ (٧)، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ *إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ (٨) .
_________
(١) طه، الآية ١١٤.
(٢) الرازي مفاتيح الغيب ٦/٢٠٤.
(٣) الآيتان ٧٨،٧٩.
(٤) انظر البقاعي: مصاعد النظر ٢/٢٨٦، سيد قطب: الظلال ٤/٢٣٦٤، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٧/٦.
(٥) الآية ٤.
(٦) الآية ٢٨.
(٧) الآية ٤٧.
(٨) الآيتان ١٠٩،١١٠.
1 / 6
وقد ذكر الله فيها جملة من قصص الأنبياء ﵈، فدلّت كل قصة على معنى أو أكثر مما اشتملت عليه السورة (١)، «وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه» (٢) .
قال الله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ (٣) فافتتح قصصهما بالشهادة والعلم، واختتم بالعلم والحفظ، فلذلك جاء قصصها للدلالة على كمال علم الله، ثم في هذا القصص تنبيه على أن العلم من أفضل النعم وأشرفها حيث زينهما الله بالعلم والفهم (٤) .
سورة النمل:
_________
(١) انظر البقاعي: مصاعد النظر ٢/٢٨٦.
(٢) محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٧/١١٥.
(٣) الأنبياء، الآيات ٧٨-٨٢.
(٤) الرازي: مفاتيح الغيب ٢٢/١٩٥، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٧/١١٥.
1 / 7
وتسمى سورة سليمان (١)، لما فيها من تفصيل لقصة سليمان في تسع وعشرين آية من ثلاث وتسعين آية عدد آي السورة، والمتدبر لآي هذه السورة تظهر له بوضوح قضية العلم واتخاذها مسلكًا لإبراز سعة علم الله في الأرض وفي السماء وفي العلن وفي الخفاء وفي الغيب والمستقبل، وما دلت عليه الآيات الكونية وعالم الحيوان من براهين ناطقة بلسان الحال والمقال على علم الله جل وعلا، ولذلك نص برهان الدين البقاعي (ت ٨٨٥هـ) على أن «المقصود الأعظم منها إظهار العلم والحكمة» (٢)، وقد تنبه لذلك سيد قطب (ت ١٣٨٧هـ) فقال: «والتركيز في هذه السورة على العلم، علم الله المطلق بالظاهر والباطن، وعلمه بالغيب خاصة، وآياته الكونية التي يكشفها للناس، والعلم الذي وهبه لداود وسليمان، وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم، ومن ثم يجيء في مقدمة السورة: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (٣)، ويجيء في التعقيب: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ (٤)، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٥)، ويجيء في الختام: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ (٦)، ويجيء في قصة سليمان ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٧)، وفي قول سليمان: ﴿يَا أَيُّهَا
_________
(١) انظر السخاوي:جمال القراء ١/٣٧، السيوطي: الإتقان ١/١٥٦، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٩/٢١٥.
(٢) مصاعد النظر ٢/٣٣٣.
(٣) الآية ٦.
(٤) الآيتان ٦٥،٦٦.
(٥) الآيتان ٧٤،٧٥.
(٦) الآية ٩٣.
(٧) الآية ١٥.
1 / 8
النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرَِ﴾ (١)، وفي قول الهدهد: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ (٢)، وعندما يريد سليمان استحضار عرش الملكة، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن، إنما يقدر على هذه: ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (٣) .
وهكذا تبرز صفة العلم في جور السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كلها من المطلع إلى الختام، ويمضي سياق السورة كله في هذه الظل، حسب تتابعه الذي أسلفنا» (٤) .
ومن ثَمَّ جاءت قصة سليمان بن داود ﵉ في هذا السياق، وجميع موضوعاتها تدور في محور العلم ومجالاته المتعددة كما سيتضح خلال هذا البحث.
سورة سبأ:
قال تعالى في هذه السورة عن داود وسليمان ﵉: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (٥) .
_________
(١) الآية ١٦.
(٢) الآية ٢٥.
(٣) الآية ٤٠.
(٤) سيد قطب: الظلال ٥/٢٦٢٥.
(٥) الآيات ١٠-١٤.
1 / 9
تبدو ملامح العلم في هذه الآيات واضحة، حيث أشاد الله بفضله عليهما بما أفاء عليهما من صنوف النعم، نعمة النبوة والحكمة والعلم وغيرها (١)، ومنها إِلاَنَة الحديد لداود وتعليمه صناعة الدروع، ذلك في المجال العسكري، أما في المجال المدني فقد سخر الله لسليمان النحاس ليصنع منه القدور الراسيات وغيرها (٢)، ثم ختم قصصهما برد علم الغيب إلى الله تعالى وحده.
وقد جاء ذلك منسجمًا مع غرض مهم من أغراض هذه السورة، وهو تقرير إحاطة علم الله (٣)، وهو من أهم مقاصدها، إذ جاء في مطلعها: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٤) كما ورد في آخرها: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ (٥) .
والمتدبر لكلام الله تعالى في قصة داود وسليمان في هذه الآيات يلحظ أنها ركزت على الجانب العملي الذي هو الترجمة الحقيقية للعلم، وسيأتي لذلك مزيد بسط عند الكلام على علومهما إن شاء الله تعالى.
القسم الثالث / سورة ص:
_________
(١) انظر ابن العربي: أحكام القرآن ٤/١٥٩٤، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٢/١٥٥.
(٢) انظر الرازي: مفاتيح الغيب ٢٥/٢٥٠، محمد الغزالي: نحو تفسير موضوعي ص٣٣١.
(٣) سيد: الظلال ٥/٢٨٨٨، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٢/١٣٤، محمد الغزالي: نحو تفسير موضوعي ص٣٣١.
(٤) الآيات ١-٣.
(٥) الآية ٤٨.
1 / 10
ويقال لها سورة داود (١)، حيث استهل به قصص السورة في أنبياء بني إسرائيل، وبُسطت قصته أكثر من غيرها، وقد أشاد الله فيها بداود بما آتاه من الحكمة وفصل الخطاب، إذ يقول الله فيها: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (٢) وسيقت فيها قصة داود وسليمان لتسلية الرسول (عن تكذيب قومه وأمره بالصبر في قوله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾، واستطراد الثناء عليهما بجميل الصفات (٣) .
وبعد هذه الجولة يمكننا أن نرصد أبعاد شخصية هذين النبيين الكريمين وعلمهما ﵉ من خلال آيات القرآن الكريم.
داود وسليمان ﵉ وعلمهما:
هما من ذرية إبراهيم ﵇، وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ (٤) والضمير في ﴿ذُرِّيَّتِهِ﴾ جائز أن يعود إلى إبراهيم أو إلى نوح ﵉ (٥) .
_________
(١) انظر ابن الجوزي: زاد المسير ٧/٩٦، السخاوي: جمال القراء ١/٣٧، البقاعي: نظر الدرر ١٦/٣٢٢، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٠١.
(٢) الآية ٢٠، وسيأتي معنى هذه الآية عند الحديث عن علوم داود ﵇.
(٣) انظر: محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٠١.
(٤) الأنعام، الآية ٢٠.
(٥) انظر: الزجاج: معاني القرآن ٢/٢٦٩، ابن عطية: المحرر الوجيز ٥/٢٦٩.
1 / 11
وكان داود أحد جنود طالوت، وهو الذي قتل خصمهم جالوت كما قال تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (١) فاشتملت هذه الآية على ثلاث منح لداود: الملك أي: السلطان، والحكمة أي: النبوة، والعلم في قوله جل شأنه: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ أي علمه صنع الدروع وغيرها (٢)، فكان أول نبي جمعت له النبوة والملك في بني إسرائيل (٣)، مع غزارة علم أشار الله إليها في قوله جلّ شأنه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ (٤) .
هذا هو نبي الله داود كما في القرآن الكريم، وكما يعتقده المسلمون خلافًا لليهود إذا لا يعدّونه نبيًا، وخلافًا لمن بالغ في تعظيمه حتى فضّله على أولي العزم كالداودة الذين يزعمون أنه أفضل الأنبياء والرسل (٥) .
ثم ورث سليمان أباه داود ﵉ في العلم والملك (٦) كما قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ﴾ (٧)، وقال جلّ شأنه: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ (٨)، وكان سليمان أعظم ملكًا من أبيه وأقضى منه ﵉ (٩)، قال تعالى في سليمان ﵇: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (١٠)، وأما القضاء فسيأتي الحديث عنه قريبًا.
_________
(١) البقرة، الآية ٢٥١.
(٢) انظر الطبري: جامع البيان ٢/٦٣٢، ابن عطية: المحرر الوجيز ٢/٢٧١.
(٣) انظر ابن كثير: البداية والنهاية ٢/١٠، التحرير والتنوير ١٧/١١٤.
(٤) النمل، الآية ١٥، انظر الزمخشري: الكشاف ٣/١٣٩ في تفسيرها.
(٥) انظر: انستاس ماري: الداودة، مجلة المشرق، العدد ٢/يناير/١٩٠٣م، ص:٦٠-٦٧.
(٦) الطبري: جامع البيان ١٩/١٤١.
(٧) ص، الآية ٣٠.
(٨) النمل، الآية ١٦.
(٩) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ١٣/١٦٤.
(١٠) ص، الآية ٣٥.
1 / 12
فذلكما النبيان - الكريمان -وإن كانا دون درجة أولي العزم الخمسة لكنهما من جملة الأنبياء الذين امتدحهم الله في القرآن الكريم مدحًا عظيمًا (١)، ولا التفات لما رُميا به مما لا يليق بأفناء الناس فكيف بأنبياء الله؟! .
لقد امتزجت تلكم الهبات الربانية - النبوة والعلم والملك - فأفرزت بفضل الله شخصيتين مكتملتي المواهب سجلت في القرآن الكريم فحقت أخذ العبرة منها.
وفيما يلي ألقي الضوء على علمهما ﵉ وصلته بشخصيتهما الكريمتين:
القضاء:
قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (٢)، الضمير فى ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ راجع إلى داود ﵇، وهو يدل على أن الذي أوتيه من الحكمة وفصل الخطاب من طريق الوحي، وسيأتي الحديث عن الحكمة في آخر البحث، وأما قوله تعالى: ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ فالفصل: «تمييز الشيء من الشيء وإبانته عنه» (٣)، «والخَطب والمخاطبة والتخاطب المراجعة في الكلام» (٤)، ومعنى الآية: إصابة القضاء، وهو قول ابن عباس (ت٦٨ هـ) رضى الله عنهما ومجاهد (ت ١٠٤هـ) وغيرهما، ويدخل في ذلك من قال: إن معناه: تكليف المدّعى البينة، واليمين على من أنكر، وإنما كان فصل الخطاب قضاء لأن به يفصل بين الخصومة، والخصام نوع من الخطاب (٥)، وقال آخرون: معنى الآية فصاحة الكلام، وسيأتي هذا المعنى مفصلًا في المبحث التالي.
_________
(١) انظر عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن ٦/٥٦٧.
(٢) ص، الآية ٢٠.
(٣) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، مادة (فصل) ٤/٥٠٥.
(٤) الراغب الأصفهاني: المفردات، مادة (خطب) ١٥٠.
(٥) انظر البخاري: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾ ٤/١٣٤، الطبري ٢٣/١٣٩، ابن عطية: المحرر الوجيز ١٢/٤٣٧، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ١٥/١٦٢، الآلوسي: روح المعاني ٢٣/١٧٧.
1 / 13
واختار ابن العربي القول بأنه علم القضاء، ثم قال: «فأما علم القضاء - فلعمر إلهك - إنه لنوع من العلم مجرّد، وفصل منه مؤكد غير معرفة الأحكام ...» (١)
ويؤيد القول بأنه علم القضاء سياق الآيات بعدها، حيث أردفها جل شأنه بحادثة من أقضيته، وهي قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ﴾ (٢)، لا خلاف بين أهل التأويل أن هؤلاء الخصم إنما كانوا ملائكة (٣) .
_________
(١) أحكام القرآن ٤/١٦٢٧.
(٢) ص، الآيات ٢١-٢٦.
(٣) ابن عطية: المحرر ١٢/٤٣٧.
1 / 14
وقوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ يقول: «دخلوا عليه من غير باب المحراب، والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه» (١) وقوله: ﴿وَلاَ تُشْطِطْ﴾ يقول: «لا تجر ولا تسرف في حكمك» (٢)، وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ يعني الأخوة في الدين (٣)، والنعجة هي المرأة (٤)، ﴿أَكْفِلْنِيهَا﴾ أي ضمها إليّ (٥)، ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾: «غلبني في الخصومة أي كان أقوى على الاحتجاج مني» (٦)، قوله تعالى ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾: «يقول: وعلم داود أنما ابتليناه» (٧)، وأكثر العلماء على أن الركوع في قوله تعالى: ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ هو السجود (٨)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى﴾ «يقول: وإن له عندنا للقربة منا يوم القيامة» (٩) .
وقد حكيت في هذه القصة أقاويل وصور مأخوذة من الإسرائيليات لا تليق بنبي الله داود الذي رفع الله مكانته وأذاع فضله ﵇، ومن خلال تدبر كلام الله لهذا النبأ، وتأمل ما صح من الروايات في تفسير هذه القصة ظهر لي أن الله أرسل ملكين لداود ﵇ فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فحكم بحكم هو واقع عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد خرّ ساجدًا فغفر الله له، وذلك أنه ﵇ سأل رجلًا أن يطلق له امرأته ليتزوجها كما كان ذلك جائزًا في صدر الإسلام، فنبهه الله تعالى على ذلك وعاتبه بهذا المثل يشعره أنه كان الأليق بمقامه ألاّ يتشاغل بهذا الأمر وإن كان مباحًا في دينهم.
_________
(١) الطبري: جامع البيان ٢٣/١٤١.
(٢) المصدر السابق ٢٣/١٤٢.
(٣) ابن عطية: المحرر ١٢/٤٤٣.
(٤) انظر البخاري: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾ ٤/١٣٥.
(٥) انظر المصدر السابق.
(٦) الزجاج: معاني القرآن.
(٧) الطبري: جامع البيان ٢٢/١٤٥.
(٨) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ٤/٩٩.
(٩) الطبري: جامع البيان ٢٢/١٤٥.
1 / 15
هذا خلاصة ما وقفت عليه مما صح ومما اعتمده كبار الأئمة، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه (١) والله أعلم.
وفيما أخبر الله به عن نبيه داود ﵇ من إيتائه إصابة القضاء تنويه صريح بما أنعم الله عليه من هذا العلم، ومن ثَمَّ صدّقه بما ساقه جل وعز من نبأ الخصم، فلقد أبان عما كان يتمتع به ﵇ من حلم على الخصوم بعد ما تسوّروا المحراب، وقالوا له لا تُجر في الحكم، كما أفصح ذلكم النبأ عن مظهر من مظاهر العدل في قضاء داود ﵇، فقد حكم بينهما بالعدل، ثم حذرهما من الظلم منتهزًا فرص الهداية لئلا يفوت وعظ النفوس وتوجيهها وهي متهيئة للاستجابة فحثهما على أن يكونا من الصالحين، مع ما تضمنه ذلك من تسلية للمظلوم (٢) .
أما ما قاله بعض الناس إن داود ﵇ حكم في القضية قبل أن يستمع حجة الخصم الآخر، وأن هذه كانت خطيئته فإنه قول ضعيف لا يعوّل عليه، وذلك مما لا يجوز عند أحد ولا في ملة من الملل، فكيف بمن امتدحه الله بإصابة القضاء؟! (٣) .
_________
(١) انظر المصدر السابق ٢٢/١٤٦، النحاس: معاني القرآن ٦/١٠١، وإعراب القرآن ٣/٤٦١، الزمخشري: الكشاف ٣/٣٦٦، ابن عطية: المحرر ١٢/٤٣٩، القرطبي ١٥/١٧٥، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٣٧.
(٢) انظر الزمخشري: الكشاف ٣/٣٧١، ابن عطية: المحرر ١٢/٤٤٦، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٣٩.
(٣) انظر ابن عطية: المحرر ١٢/٤٤٦، ابن العربي: أحكام القرآن ٤/١٦٣٧، الآلوسي: روح المعاني ٢٣/١٨١.
1 / 16
وتبرز هذه الصفة - وهي سمة العدل والإنصاف - عند سليمان بن داود ﵉ في قضية الهدهد حينما توعده في قوله: ﴿لأَعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (١) فلم يقض في شأنه قضاءً نهائيًا قبل أن يستمع منه ويستبين عذره، وحينما أخبره بنبأ سبأ لم يتسرّع أيضًا بل: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (٢) .
_________
(١) النمل، الآية ٢١.
(٢) النمل، الآية ٢٧، وانظر ابن العربي: أحكام القرآن ٣/١٤٥٨، عبد الرحمن السعدي: تفسير الكريم الرحمن ٦/٥٧٣، سيد قطب: في ظلال القرآن ٥/٢٦٣٨.
1 / 17
ومن أبرز الأقضية التي أبانت عن مظهر مشرق من مظاهر حكم كل من داود وسليمان ﵉ ما قصه جل شأنه في قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (١) فتضمنت هاتان الآيتان التنويه بعلم داود وسليمان ﵉ والإشادة بقضائهما واجتهادهما من خلال حكمهما في الحرث وهو الزرع، وقيل الكَرْم، حين دخلت فيه غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلًا - وذلك معنى النفش: وهو الرعي ليلًا - فرعته وأفسدته، فرأى داود ﵇ أن يدفع الغنم إلى أصحاب الحرث لسبب اقتضى عنده ترجيح ذلك، ولعلّه أن ثمن ذلك الغنم يساوي ثمن ما أتلف من ذلك الحرث، فكان ذلك عدلًا في تعويض ما أتلف، وأما حكم سليمان فرأى أن تدفع الغنم لأصحاب الحرث عامًا كاملًا كيما ينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها، ويدفع الحرث إلى أصحاب الغنم ليقوموا بعمارته، فإذا كَمُل الحرث وعاد إلى حالته الأولى رُدّ إلى كل فريق ماله، فرجع داود إلى حكم سليمان لأنه أرفق، وإن كان قضاء داود متوجهًا، إذ الأصل في الغُرْم أن يكون تعويضًا ناجزًا، وفي قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ دليل على أن الأصوب كان مع سليمان، إذ أحرز أن يبقي ملك كل فريق على متاعه، كما تضمن مع العدل والتعويض البناء والتعمير، وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ دليل أن اجتهاد كل منهم كان على الصواب، فهو احتراس من أن يفهم أن حكم داود ﵇ كان جورًا (٢)
_________
(١) الأنبياء، الآيتان ٧٨،٧٩.
(٢) انظر الطبري: جامع البيان ١٧/٥١، الزمخشري: الكشاف ٢/٥٨١، ابن عطية: المحرر الوجيز ١٠/١٧٦، ابن العربي: أحكام٠. القرآن ٣/١٢٦٦، سيد قطب: في ظلال القرآن ٤/٢٣٨٩، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٧/١١٦.
1 / 18
وفي هذه القصة إشارة إلى لون من ألوان اجتهادهما على أساس من العدل ودقة بالغة في فقه القضاء، كما دلت على تعدد طريق القضاء بالحق والتفاضل بين مراتب الاجتهاد (١) .
«قال جمهور الأمة: أن حكمهما كان باجتهاد» (٢)، ولذلك جوّز المحققون ذلك على الأنبياء (٣)، والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الغلط مؤيدون من الله ﷿،والوحي من ورائهم تأييدا وتصويبا (٤)، فلهذا عُدّ من علوم داود وسليمان العلم بطريق الاجتهاد، وهو نوع من العلوم المكتسبة غير العلم اللدني (٥) .
وفي هذه القصة دلالة على أن الفطنة والفهم موهبة من الله لا تتوقف على كبر سن ولا صغره (٦) وقريب من هذه الحكومة ما جاء في الصحيحين أن رسول الله (قال: «كانت امرأتان معهما ابنهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود ﵇، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود ﵉ فأخبرتاه، فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى» (٧) .
الفصاحة:
_________
(١) انظر محمد الطاهر: التحرير والتنوير ١٧/١١٥.
(٢) ابن عطية: المحرر الوجيز ١٠/١٧٨.
(٣) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ١١/٣٠٩، الآلوسي: روح المعاني ١٧/٧٤، محمد
الأمين: أضواء البيان ٤/٥٩٧.
(٤) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ١١/٣٠٩، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ٥/٣٥١، ابن حجر: فتح الباري ١٣/٢٢٢.
(٥) انظر الآلوسي: روح المعاني ١٧/٧٥.
(٦) انظر ابن حجر: فتح الباري ١٣/٢٢١.
(٧) صحيح البخاري، كتاب الفرائض، باب إذا ادّعت المرأة ابنًا ٨/١٢، صحيح مسلم، باب بيان اختلاف المجتهدين ٣/١٣٤٤، رقم الحديث ١٧٢٠، واللفظ للبخاري.
1 / 19
قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (١)، سبقت الإشارة إلى هذه الآية في المبحث السابق، والمعنى الآخر في ﴿َفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ أن الله آتى داود ﵇ بلاغة القول، فكان كلامه فصلًا يعبر عن المعنى بأوضح عبارة، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، ولا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان، وهذا القول هو الذي يعطيه لفظ الآية، ويدخل فيه من قال إنه علم القضاء، فكلامه ﵇ في القضايا والخصومات والمحاورة والمخاطبة والمشورات كله من فصل الخطاب، واختار هذا القول جماعة من المحققين (٢) .
وتلكم البلاغة التي أوتيها ﵇ كانت على اللغة العبرية، ويدخل فيها الزبور «المسمى عند اليهود بالمزامير فهو مَثَلٌ في بلاغة القول في لغتهم» (٣) .
وروى ابن جرير بإسناد صحيح عن الشَّعبي أن فصل الخطاب قوله: «أما بعد» (٤)، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه قالها بلسانه بمعناها في اللغة العبرية (٥)، وذلك داخل في القول المذكور آنفًا، فمن فصل الخطاب قوله: «أما بعد» (٦) .
_________
(١) ص، الآية ٢٠.
(٢) انظر الطبري: جامع البيان ٢٣/١٤٠، الزمخشري: الكشاف ٣/٣٦٥، ابن عطية: المحرر الوجيز ١٢/٤٣٤، مفاتيح الغيب: الرازي ١٣/١٨٧، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٢٩.
(٣) محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٢٩.
(٤) انظر الطبري: جامع البيان ٢٣/١٤٠، ابن حجر: فتح الباري ١٣/٢١١.
(٥) انظر ابن العربي: أحكام القرآن ٤/١٦٢٩، محمد الطاهر: التحرير والتنوير ٢٣/٢٢٩.
(٦) انظر الزمخشري: الكشاف ٣/٣٦٥.
1 / 20