[98_2]
روى الحكاية الأولى الجهشياري، وروى الثانية ابن قتيبة، وروى الثالثة الراغب الأصفهاني. أليس لنا أن ندعي بعد ذلك أن ابن المقفع كان يعمل بما يقول، ويهون عليه أن يبذل لصديقه دمه وماله، وأنه طبع على مكارم الأخلاق، يحب الإيثار ويبغض الأثرة، يفعل الخير ما استطاع، ويبذل حب البذل، لا عن رغبة ولا عن رهبة؟
ولع ابن المقفع بالجمال والطرب، فكان يغشى معاهد الصفاء، ويجتمع إلى القينات، ويطرب في غير محرم، ويتعاطى قليلا من الشراب من نبيذ العراق الذي أفتى بحله فقاؤهم. ويقول:
سأشرب ما شربت على طعامي ... ثلاثا ثم أتركه صحيحا
فلست بقارف منه أثاما ... ولست براكب منه قبيحا
فابن المقفع كان إذا يأخذ من الحياتين بنصيب على نحو ما قال: لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجده من لذة دنياه؛ وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع بها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر ، وإن استجمام القلوب وتودعها زيادة قوة لها وفضل بلغة. وعلى العاقل أن لا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث خصال: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
واتل بعد هذا حكايتين دونهما الأصفهاني في الأغاني، تنمان أيضا عن كرم وإيثار. قال: إن ابن المقفع حضر يوما مأدبة فيها معن بن زائدة المشهور بكرمه، وفيها جوار يغنين، فغنت واحدة ابن زائدة فأعطاها ألف دينار، وغنت أخرى ابن
पृष्ठ 98