كان القطار يدخل المحطة برأسه الأسود الضخم ينبعث منه الدخان، وبعينه الوحيدة الكبيرة المضيئة بنور قوي كشف المحطة، وكشف حميدة وهي واقفة، فاختبأت وراء عمود، وقف القطار بعد أن اصطدمت عرباته بعضها بالبعض، واصطكت عجلاته الحديدية بالقضبان الحديدية محدثة صوتا عاليا فاضحا، خيل إليها أنه أيقظ كل أهل القرية، فاندفعت نحو القطار تخفي وجهها بذيل طرحتها.
مدت قدمها اليمنى الصغيرة لتضعها فوق سلم القطار، لكن السلم كان بعيدا عن الرصيف، ولم تكن قد ركبت قطارا من قبل، فلم تصل قدمها إلى السلم.
عادت بقدمها إلى الرصيف، وتلفتت حولها في ذعر، خشيت أن يتحرك القطار ولا تركب، رأت بعض الرجال والنسوة يركبون العربة الأمامية فأسرعت ووقفت خلفهم، راقبتهم وهم يصعدون السلم واحدا وراء الآخر، كل واحد منهم كان قبل أن يضع قدمه على السلم يمسك بيده اليمنى مقبضا حديديا على جانب الباب لم تره من قبل، مدت حميدة ذراعها وأمسكت المقبض بكل قوتها ثم شدت جسمها فأصبحت قدمها فوق السلم، وصعدت إلى الداخل.
جلست على أول مقعد قابلها، ورأت جوارها نافذة فأطلت منها، كان القطار قد تحرك ببطء، وتصلب رأسها خارج النافذة وهي ترى أمها لا تزال واقفة في مكانها، ثابتة لا تتحرك، وطرحتها ورأسها وصدرها ورموشها وكل شيء فيها جامد ثابت.
انفجرت شفتاها لتناديها، لكنها تذكرت أنها لم تعد أمها، وإنما هو تمثال الفلاحة القائم عند مدخل القرية منذ سنين لا تعرف عددها، فقد رأته منذ ولدت، ولا بد أنه كان هناك دائما قبل أن تولد.
كان رأسها لا يزال خارج النافذة، لكن أنفاسها أصبحت تدخل وتخرج، تلهث وهي جالسة في مكانها، ولأول مرة تعرف ملمس دموعها فوق بشرة وجهها، ومذاقها في فمها، لكنها لم تتحرك ولم تمد يدها بطرف جلبابها أو كمها لتمسحها، تركتها تنساب وتجري وتدخل فمها، ثم لعقتها بلسانها دون أن تتقلص في وجهها عضلة واحدة، ودون أن يخرج من فمها صوت، ودون أن يتحرك جفناها أو تهتز رموشها، وكل شيء أصبح أسود، وذاب القطار في السواد وامتزج بالليل، كالقطرة تذوب في جوف البحر. •••
في تلك اللحظة كان حميدو لا يزال راقدا فوق الحصيرة، كان نائما وعيناه مغمضتان، لكنه كان يرى عيني أبيه في الضوء الخافت، واقفا بقامته الطويلة كجذع شجرة كافور ضربت بجذورها في بطن الأرض.
سرت في جسده الصغير برودة ثقيلة، خدرت ساقيه وذراعيه، وبذلك الثقل الذي يصيب الأطراف أثناء الحلم المزعج، وظل راقدا في مكانه لا يتحرك، شاخصا نحو ذلك الشبح الطويل الواقف الثابت بغير حراك، وأدرك أن شيئا خطيرا قد حدث أو سيحدث، كتم أنفاسه واختفى تماما تحت اللحاف المسود القذر، أصابعه الصغيرة تشد الغطاء حول رأسه، وأذنه اليمنى فوق الوسادة الصلبة ترتج من تحته بدقات قلبه، تنبعث من رأسه وليس من صدره.
توقع في كل لحظة أن تمتد الأصابع الطويلة وتشد الغطاء عن رأسه، وتستقر العينان الواسعتان في عينيه تصب فيهما الشيء الخطير، لكن اللحاف ظل مشدودا حول رأسه، ودقات قلبه مسموعة في الصمت، وحركة صدره مرئية، كرءوس الأشجار في ليل ساكن بغير نسمة هواء واحدة، وبغير قمر، والظلمة كاللحاف الأسود تلف السماء والأرض في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار، قبل أن تبدأ خيوط الفجر ويزحف الظلام صاعدا ببطء، كحوت ضخم يسبح في محيط لا نهائي، ترقد في قاعه بيوت القرية الطينية الصغيرة المتلاصقة ككوم من السباخ الأسود.
وحين فتح حميدو عينيه كان ضوء النهار يملأ الغرفة، وأيقن أن ما رآه لم يكن إلا حلما، فقفز من فوق الحصيرة وجرى إلى الشارع، كان أصدقاؤه من أطفال الجيران يلعبون كعادتهم في الحارة الضيقة الممتدة أمام البيوت، يمسك كل واحد منهم بذيل جلباب الآخر ويصنعون قطارا يصفق ويرقص، ثم يتفككون ويلعبون المساكة، يختبئون وراء أكوام السباخ، وفي الزرائب، وخلف زير الماء، وداخل فتحة الفرن.
अज्ञात पृष्ठ