विरासत और नवीनीकरण: हमारा पुरानी विरासत से स्थिति
التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم
शैलियों
ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقا لما طلب. الوحي ذاته مجموعة من الآيات نزلت إبان ثلاثة وعشرين عاما، كل آية أو كل مجموعة من الآيات تمثل حلا لموقف معين في الحياة اليومية لفرد أو لجماعة من الأفراد. نصوص الوحي ليست كتابا أنزل مرة واحدة مفروضا من عقل إلهي ليتقبله جميع البشر، بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة، وكثير من هذه الحلول قد تغيرت وتبدلت حسب التجربة على مقدار الإنسان وقدرته على التحمل، وكثير من الحلول لم تكن كذلك في بادئ الأمر معطاة من الوحي بل كانت مقترحات من الفرد أو الجماعة، ثم أيدها الوحي وفرضها، وهذه الخاصية توجد في الوحي في آخر مراحله وهو الوحي الإسلامي، فهو ليس عطاء من الوحي بقدر ما هو فرض من الواقع وتأييد الوحي له، وهذا هو معنى «أسباب النزول».
وما ينطبق على الكتاب ينطبق على السنة؛ فالسنة مجموعة من المواقف الإنسانية يعمل فيها شعور النبي، ويقوم بدور المشرع للواقع إما بناء على الوحي الأول أو بناء على وحي جديد أو على الفهم التلقائي للنبي لهذا الواقع. وقد كان النبي قبل نزول الوحي وبعده يعيش ويتأزم، ويفرح ويتألم، يأمل وينتظر، فكانت له تجارب شعورية، وكان الوحي الذي ينتظره ثم يأتيه تفريجا عن هم أو حلا لإشكال، أي أن علاقة النبي بالوحي كانت علاقة شعورية وعلاقتنا نحن بالنبي علاقة شعورية أيضا باتخاذنا إياه قدوة حسنة ومثال للسلوك.
وما ينطبق على الكتاب والسنة ينطبق على الإجماع والاجتهاد؛ فالإجماع تجربة مشتركة تتم في شعور الجماعة، ويصدر الحكم نتيجة لعديد من العمليات الشعورية يتدخل فيها نص الوحي من الكتاب والسنة كعامل كما تتدخل فيها التجربة المشتركة والواقع المشكل كطرف آخر. والاجتهاد أيضا عمل شعوري خالص يقوم به المجتهد ابتداء من فهمه لنصوص الوحي في الكتاب والسنة وعلمه بالتجارب المشتركة السابقة ورؤيته للواقع المشكل رؤية مباشرة لمعرفة طريقة تغييره إلى واقع مثالي مطابق للوحي، فالمنهج الأصولي إذن كله بأدلته الأربعة منهج شعوري، كما أن المنهج الصوفي منهج شعوري، وعلم الكلام علم شعوري، وعلوم الحكمة علوم شعورية. والشعور هو وصف حقيقي للمعرفة وللوجود إجابة على سؤالي: كيف يحصل الإنسان على معرفة وكيف يعيش الوجود؟ لا شيء في العالم الخارجي يمكن إدراكه ومعرفته إلا من خلال الشعور، والتصورات لا تفكر بل تعمل من خلال الشعور، والأشياء لا تعني إلا من خلال الشعور؛ فالشعور هو موطن المعرفة والوجود معا لأنه هو ذاته معرفة ووجود، فهو الذات العارفة وهو الوجود الإنساني في آن واحد. نحن ما نشعر به والعالم هو ما نشعر به، وعلمنا نتيجة لشعورنا بالعالم، ووجودنا ووجود العالم هو ما نشعر به، فالبداية بالشعور بداية يقينية لا تسبقها بداية أخرى.
والشعور أيضا مطلب من مطالب العصر، وكثيرا ما نجد في أدبنا المعاصر دعوة إلى الإحساس بما يدور حولنا، ونداء لليقظة الداخلية، وخطابا موجها مباشرة إلى شعورنا. يقظة الشعور هو هدف المصلح، وغاية المجدد، أمل المفكر، وبغية الثائر، وهو أن يعي الإنسان موقفه في الحياة حتى يشعر بذاته وبما حوله وبأبنية الواقع التي هو غارق فيها، ومدى بعدها عن الأبنية المثالية في الوحي، وعندما نعاني أزماتنا وهزائمنا وانتصاراتنا فإننا نعانيها بالشعور، وعندما نحس بالمرارة والألم والعار والتسول فإنما نحسها بالشعور، وعندما يحاول الطاغية استعباد الناس يلهيهم ويبعدهم عن دائرة الشعور؛ فالفقر هو شعور بالفقر، والاحتلال شعور بالاحتلال وإلا لما ثار الناس ضد الفقر ولما حاولوا تحرير أراضيهم، كذلك كثرت في أدبنا المعاصر تحليلات الشعور ووصف ما يعتري في نفوس الناس من تمزق وحيرة وألم وضياع.
والشعور أيضا جزء من بيئتنا الثقافية المعاصرة التي انطبعت بطابع الثقافات الملاصقة وأصبح موضوعا شائعا. لقد استطاعت الحضارة الأوروبية بعد نضال دام أكثر من أربعة قرون إثبات الإنسان والشعور الإنساني كنقطة بدء يقينية ليس قبلها شيء، وكل شيء بعدها يكون من خلالها، وهذا هو معنى الكوجيتو الديكارتي واستمرار النضال باسم الشعور حتى تأكد مرة ثانية في القصدية عند هوسرل، وبعد عصر الترجمة الثاني الذي بدأ لدينا منذ قرنين أصبحت لغة الشعور متداولة وصار بعد الشعور شائعا؛ فالشعور وارد من التراث والتجديد على السواء . لغة الشعور لغة شائعة ومعروفة وموجودة في المخزون النفسي عند المثقفين المعاصرين كما كانت ألفاظ السندس والاستبرق ومفاهيم الله والرحمن شائعة في المخزون النفسي في الشعور العربي القديم. (3) تغيير البيئة الثقافية
وواقع البيئة الثقافية مستوى ثالث للتحليل؛ وذلك لأن العلوم التقليدية نشأت في واقع معين له ظروفه وملابساته، وثقافته أدت إلى نوع معين من المادة العلمية التي تعكس تماما المشاكل التي تعرضها هذه الظروف والملابسات، نشأت العلوم التقليدية من واقع الحضارة القديمة وعلى مستواها الثقافي وفي واقعها التاريخي، وهذا الواقع حدد بناء كل العلم، ماهيته، ومناهجه، ونتائجه، ولغته، فالعلوم القديمة بهذا المعنى ليست علوما مطلقة ثبتت مرة واحدة وإلى الأبد بل هي علوم نسبية حاولت التعبير عن الوحي في إطار نوعية الثقافة الموجودة في العصر القديم، هناك إذن فرق بين العلم ومادته، فالعلم بناء عقلي قد يعرض في مادة معينة أو غيرها في حين أن المادة تعطيها البيئة الثقافية المحددة في الزمان والمكان، البناء لا يتغير ولكن المادة تتغير، وهذا ما أوله الفلاسفة المسلمون في شروحهم على أرسطو، خاصة ابن رشد، وذلك بالإبقاء على بناء العلم العقلي، ثم إسقاط المادة اليونانية واستبدال مادة إسلامية بها، وهذا أيضا ما فعله الفقهاء وشارح المنطق بإسقاط الأمثلة اليونانية واستبدال أمثلة من الكتاب والسنة بها.
16
فمثلا يغلب على الفقه القديم طابع العبادات ولا تأتي إلا في الدرجة الثانية؛ وذلك لأن العبادات كانت تكون سلوكا جديدا للناس، وكانت أهميتها أنها تعطي للناس سلوكا شرعيا في حين أن المعاملات كانت موجهة بالوحي، ولم تكن هناك حاجة ماسة لتفضيل المعاملات أو لإعطائها الأولوية على العبادات، ولكن الواقع الآن قد تغير، والظروف قد اختلفت، فالعبادات لدينا قائمة بل ومسيطرة ومهيمنة، ولكن المعاملات هي الضائعة المنزوية، فتجديد الفقه القديم يحدث بإعطاء الأولوية للمعاملات على العبادات لأن المعاملات هي موطن الأزمة، وقد يكون هذا أقرب إلى روح الوحي الذي فيه المعاملات عبادة، وبذلك نقضي على التصور الموروث للعبادة على أنها مجرد التوجه نحو المعبود بالشكر والثناء،
17
وعلى نفس النحو، كانت للعلاقات الشخصية في الفقه القديم، أحكام الزواج والطلاق والمواريث ... إلخ الأولوية على العلاقات العامة التي تشمل علاقات الحاكم بالمحكوم، وروجنا لهذه المادة في عصرنا الحاضر بعد ضمور التشريع واقتصاره على الأحوال الشخصية ما دام المعاصرون قد قبلوا الأوضاع الحالية واستسلموا للحكام، وحددوا علاقاتهم معهم على أساس الطاعة والولاء أو التبرير والنفاق وإلا فالسجن والعقاب، في حين أننا في العصر الحاضر في حاجة إلى تغيير المادة الفقهية القديمة وإعطاء الأولوية لعلاقات الحكام بالمحكومين على علاقتهم الشخصية، فمأساتنا هي في نظم الحكم وليست في نظام الأسرة، ومشاكل الأسرة من طلاق وتربية للأطفال، ليست مشاكل فردية ترجع إلى أخلاق الناس بقدر ما هي مشاكل اجتماعية يحددها وضع الأسرة الطبقي ودخلها ومهنتها وطبيعة النظام السياسي الذي تعيش فيه، وعلى نفس النحو إذا كان الجدل قد تم في العصر القديم بل أهل الأثر في الحجاز وأهل الرأي في العراق، وكثرت الأمثلة الفقهية المفترضة ابتداء من النص أو من الرأي دون أن يكون لها أدنى وجود في الواقع مثل: ما حكم بيضة خرجت من دجاجة بعد أن جامعها رجل هل يجوز أكلها أم لا؟ ما حكم امرأة أقسم بعلها أنها طالق لو جامعها في هذا الثوب أو لم يجامعها في هذا الثوب؟ ما حكم وصية كتبها رجل وهو بين أنياب الأسد؟ هذه الأمثلة الفقهية الافتراضية حدثت من ارتياح الناس لمعاشهم وشغل أوقاتهم بالواقع الافتراضي الخالص حتى يظهروا عبقرياتهم في صياغة الحلول، أما الآن فواقعنا متأزم إلى درجة الاختناق، وحياتنا ذل وعار من الاحتلال ووجودنا كله مهدد بالفناء، والأرض ضائعة، والناس سكرى باللهو، ومنتشية بالغناء والرقص، والروح تضمر، والنهاية تقترب، فمادة التشريع المعاصرة مادة موجودة بالفعل، ومادة ملحة لأنها تنبع من واقعنا وحياتنا ووجودنا، وإذا كان الفقهاء قديما قد اختلوا وتصارعوا في حكم الصلاة في الدار المغصوبة فمن منا يذهب إلى الصلاة في فلسطين؟ ومن منا يعبر القناة أو الأردن للصلاة في القدس؟ نداء الصلاة يشنف الآذان والدار مغصوبة.
अज्ञात पृष्ठ