विरासत और नवीनीकरण: हमारा पुरानी विरासत से स्थिति
التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم
शैलियों
ولا يمكن إيصال أي معنى بلفظ «الله»؛ لأن اللفظ حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معان متعارضة، فهو الأزلي، المطلق، الشامل، الكلي، وهو عند البعض الآخر الزمني، النسبي، الجزئي، المتحرك، المتغير، وهو عند فريق ثالث الدافع الحيوي، والاندفاع، والعاطفة، وعند فريق رابع التاريخ والصيرورة، فإذا استعمل البعض لفظ «الله» وهو يقصد معنى معينا فلربما فهم المستمع معنى آخر، والمعنيان كلاهما واردان في اللفظ، وكل من يجادل في الله، فإنه لا يزيد على إقامة حوار بين صم.
لقد ظهرت اللغة إلهية في أول انتشار الحضارة لتعبر عن الدين الجديد، فقد كان لفظ «الله» له مدلوله الشعوري المثالي في الشعور العربي القديم، ولكن ما إن بدأت الحضارة في التطور حتى بدأت اللغة الإلهية في التراجع وحلت محلها لغة عقلية خالصة كما اتضح ذلك في علم أصول الدين المتأخر، وكما وضح بصورة أوضح في علوم الحكمة. (2)
واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية خالصة مثل: دين، ورسول معجزة، نبوة، وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر، فاللفظ التقليدي «دين» لا يؤدي وظيفته في الإيصال، فإذا كان لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في الإيصال بالإضافة إلى تضارب معانيه، وكلها قد تعارض المقصود منه، فإن لفظ «دين» وإن كان يمكن التعبير به عن المقصود منه، إلا أنه لا يمكن أداء وظيفته في الإيصال نظرا للمعاني العديدة التي التصقت به طول تاريخ استعماله، بل والتي تتعارض أحيانا مع المعنى الأصلي له الموجود في المعنى الاشتقاقي أو في المعنى الاصطلاحي الشرعي، وهو المعنى الأصلي القبلي الذي أتى به الوحي، فنظرا لهذه الشحنة من المعاني الغريبة عن اللفظ والملصقة به فإن اللفظ يفقد معناه الأصلي، بل ويفقد كل قدرته على إيصال أي معنى حتى ولو كان المعنى الأولي له لما يلتصق به من معاني مضادة، بل ويستحيل إعطاء أي معنى جديد له لأن هذا المعنى الجديد بمفرده لا يمكنه مقاومة تاريخ طويل من المعاني الوافدة عليه، ولفظ «دين» أصبح لفظا «منعرجا» ذا طرف واحد لا يوصل إلا معنى واحدا وهو الغالب أي أنه لا يوصل إلا أحد الجوانب في صورته المتطرفة، وهو الجانب الإلهي أو الخارق للعادة أو الأخرويات أو ما وراء الطبيعة، فكل دين بالضرورة يفيد هذا المعنى، وكل «مادة» للدين تكون من هذه العينة، كلها تشير إلى هذا الجانب الواحد، بل وأصبحت هذه المادة عينة مختارة ونموذجا لكل الأديان الممكنة دون أي تصنيف لنوعيات الأديان إلى دين تاريخ ودين وحي، دين ما وراء طبيعة ودين طبيعة، دين سر ودين علن، دين لا عقل ودين عقل، دين سلطة ودين فرد، دين خطيئة ودين براءة، دين طقس ودين تقوى، دين كهنوت ودين عالم، دين إله ودين إنسان ... إلخ، ودون أي مراعاة لتطور الدين في مراحله المختلفة، فنظرا لأن لفظ «دين» له استعمالات كثيرة، ويفيد معاني متناقضة فإنه أصبح يشير إلى ما لا يقصد به، فهو يشير إلى التاريخ أكثر مما يشير إلى الوحي، ويشير إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للدول المعتنقة لهذا الدين أو إلى العلوم الدينية التي نشأت منه أو إلى المذاهب والتيارات الفكرية التي أسسها بعض المعتقدين به أو إلى مجموعة من العقائد التي نشأت من تصورات معينة في مرحلة محدودة من تطور الحضارة التي نشأ فيها هذا الدين، وهي كلها لا تفيد معنى الدين والمقصود منه في الوحي أو في عصرنا الحاضر طبقا لمتطلباتنا الحالية، لقد كانت اللغة الدينية ضرورة أولى في نشأة الحضارة، ولكن ما إن تقدمت الحضارة حتى بدأت اللغة الدينية تتراجع وتأتي محلها لغة عقلية خالصة كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر، ولما كان لفظ «دين» قاصرا عن أداء المعنى فإن لفظ «أيديولوجية» أقدر منه على التعبير عن الدين المعني وهو الإسلام، وإيصال معناه لأن الوحي مجموعة من الأفكار والتصورات تصدر منها أنظمة وشرائع خرجت من الواقع «بأسباب النزول» وتكيفت حسب الواقع «بالناسخ والمنسوخ» وهدفها تغيير الواقع إلى واقع أفضل منه، فالحاكمية لله تعني تحقيق الوحي كنظام اجتماعي وإنشاء الدولة التي تعبر عن الكيان السياسي للأمة، وذلك عن طريق المؤمنين وهم الحزب الطليعي، أو بمعنى معاصر هم الحزب «البروليتاري» الذي يقوم بتحقيق الأيديولوجية في التاريخ.
4
وكذلك لفظ «الإسلام» مشحون بعديد من المعاني كلفظ «دين» فإن أمكن، من الناحية النظرية على الأقل التعبير به عن معنى فإنه لا يمكن ذلك من الناحية العملية، وذلك لأنه أصبح هو أيضا محملا بما لا حصر له من المعاني التي قد تتفق أحيانا مع المعنى الأصلي للفظ، وليس من الضروري أن تقوم هذه المعاني في ذهن المتعلم أو السامع، ولكن يكفي أن تكون شائعة في الجو الثقافي كي يستحيل بعدها استعمال اللفظ للتعبير به عن المعنى الأصلي وإيصاله، فهو أساسا مصطلح يشير إلى دين معين وإلى ميدان معين وليس لفظا عاما يدل على معنى مستقل عن كل ميدان مثل: حرية، تحرر، مساواة، إنسانية، وحتى لو استعمل اللفظ ابتداء من معناه الاشتقاقي فإن معناه التاريخي يكون أقوى وأمثل للأذهان، ومن الصعب تجريد الذهن وتخليصه من المعنى الشائع وإلزامه بالمعنى الاشتقاقي الأول، فلفظ «التحرر» هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون «الإسلام» أكثر من اللفظ القديم، فالذي يسلم لله يتخلص أولا من كل ما يكبل الإنسان من القيود وهو فعل التحرر الذي يبدأ بالنصف الأول من الشهادة «لا إله»، فإذا تحرر الإنسان من القيود فإنه يقوم بالفعل الثاني وهو الإثبات «إلا الله» فيسلم لله؛ فالإسلام هو تحرر الشعور الإنساني من كل قيود القهر والطغيان مادية أو سياسية،
5
ولفظ «السلام» أيضا يعبر أكثر عن مضمون «الإسلام» من اللفظ ذاته؛ لأن الإسلام هو الذي يحقق السلام الداخلي للإنسان بعد تحرره من كل قيود القهر والاستعباد، ثم هو الذي حقق المجتمع الواحد الذي لا طبقات فيه ولا استغلال ولا احتكار؛ ومن ثم ينشأ السلام في المجتمع، وهو أيضا الذي نظم علاقات الأمم، بعضها مع البعض الآخر على أساس من السيادة المتبادلة وأحلاف السلام. (3)
واللغة في تراثنا القديم لغة تاريخية تعبر عن وقائع تاريخية أكثر من تعبيرها عن الفكر، فهناك الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية في أصول الفقه، والمعتزلة والأشاعرة والخوارج والشيعة في أصول الدين، والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد في الفلسفة، ورابعة والحسن البصري والحلاج والغزالي وابن الفارض والسهروردي وابن عربي وابن سبعين في التصوف، وكل هذه الألفاظ لا تشير إلا إلى وقائع تاريخية، وأشخاص أو حوادث أو مناطق جغرافية، وليست مفاهيم علمية لها دلالتها المستقلة، صحيح أن العلوم العقلية القديمة نشأت في أحضان التاريخ وفي بيئات جغرافية، وحسب مقتضيات الظروف، فارتبطت العلوم بأسمائها، وارتبطت العلوم بأسماء من اشتغلوا بها، والتيارات الفكرية بأسماء من اعتنقوها، وإذا كان تراثنا القديم قد وقع بذلك فيما وقع فيه التراث الغربي فإن مهمتنا هي القضاء على تشخيص الأفكار، فالأفكار لا أسماء لها، بل هي أفكار عامة شائعة في كل زمان ومكان، وتظهر في كل حضارة، ونحن نعاني من نسبة الأفكار إلى أشخاص، ونخلط بين الصراع الفكري والصراع الشخصي، وينقلب الحوار بين الأفكار إلى صراع بين الأشخاص، وإلا لكان الإسلام محمديا، والعقل معتزليا، والنقل أشعريا، والطبيعة نظامية أو جاحظية والشورى سنية، إن التشبيه والتنزيه لا شأن لهما بالأشاعرة والمعتزلة بل هما موضوع شعوري مستقل، وقد اقترب تراثنا القديم من ذلك عندما ضم كل مجموعة من العلماء تحت الفكرة التي يدافعون عنها فهناك «أصحاب الطبائع» معمر الجاحظ وثمامة والنظام ضمن أهل التوحيد والعدل وهم المعتزلة، وهناك المشبهة والمعطلة، والمجسمة، والقدرية، والمرجئة، والإمامية، والشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وأهل السنة ... إلخ، فالفكرة هي الأساس، ومهمتنا نحن إبراز استقلال الفكرة عن قائليها وعن الأماكن التي ظهرت فيها مثل الحرورية، وعن الحوادث التاريخية التي بدأت فيها مثل المعتزلة والشيعة والخوارج، فيبقى لدينا التجسيم والتشبيه والتعطيل، والقدر، والإرجاء، والإمامة، ومهمتنا إحياء الأفكار من منازل الموتى. (4)
واللغة في تراثنا القديم لغة تقنينية، تضم الوجود وتضعه في قوالب، فهناك قانونية المصطلحات في أصول الفقه، والتقسيمات العقلية في أصول الدين والفلسفة على السواء، وكلها تبدأ بعبارات مثل «يجب على» أو «من الواجب أن»، وكأن الحياة يمكن أن يفرض عليها قانون من الخارج، وكأن الإنسان ما هو إلا مستقبل لتشريعات مفروضة عليه من كل علم، باستثناء أصحاب الطبائع الذين أرادوا فهم كل شيء على أنه طبيعة، لقد كانت اللغة القديمة على اتفاق تام مع نشأة الدين، وتلائم طبيعة الظروف التي نشأت فيها العلوم التقليدية وتطورت، فالدين أتى مشرعا للواقع، ومصدرا للأحكام ولكن لغة التقنين لا تصح لكل عصر، فعصرنا مشابه لعصر الوحي القديم وقت نزوله، واقعنا مشكل ينادي على حل، واقعنا مأزوم يبغي الفرج، ولا يأتي ذلك إلا بإطلاق قواه، فالواقع يقتضي فكرة كما اقتضى الواقع القديم الوحي، صحيح أن تقنين الثورة من قاموسنا المعاصر، ولكنه لا يعني فرض قوانين على الواقع بقدر ما يعني تنظيم ما يفرضه الواقع من تغير ثوري حتى لا يجهض أحد ما هذه التغيرات أو يستغلها لحسابه الخاص، «فالواجب» مثلا لفظ مستعمل في أصول الدين، النظر أول الواجبات، ومستعمل أيضا في أصول الفقه، الواجب أول الأحكام الخمسة: الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح، فهي ألفاظ توحي بأن الإنسان ما هو إلا آلة للتطبيق، وأنه فاقد حريته، في حين أن التعبير بألفاظ أخرى مثل الطبيعة، والانطلاق، والازدهار فيها تأكيد للذات، وإثبات لحريتها، وتحقيق لوجودها. (5)
واللغة في تراثنا القديم لغة صورية مجردة، فهناك تقسيمات عدة للوجود إلى ممكن، وواجب، ومستحيل، وجوهر، وعرض في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وهناك أيضا تفريعات عدة يفتقد الموضوع خلالها، وفي علم أصول الفقه هناك تقسيمات عدة لأنواع العلل إلى موجبة، وقاصرة، ومؤثرة، ومناسبة، وملائمة، دون أن ندري ما هو الواقع وراءها، وفي التصوف هناك تقسيمات أخرى للطبيعة ولمقولات الطبيعة، ولكنها تتحول كلها إلى تجريد خالص فتفقد اللغة المستعملة مباشرتها وواقعيتها وإنسانيتها، أما ألفاظ التاريخ، والجماهير، والأنا، والآخر، والإنسان، والعالم، والتقدم، والتخلف، فهي أكثر إيحاء للمعاني، وهي تمثل أيضا منطقا عمليا أو جدلا تاريخيا أو بناء اجتماعيا، وهو أسلوب العصر ولغة الجيل، إن التجريد ينشأ بعد نشأة العلم، كموضوع وكمنهج وكبناء، ونحن الآن بصدد إعادة بناء العلوم من حيث النشأة، ومن ثم فمستوى التجريد في العلوم لا يلائم مرحلتنا الحالية في إعادة بنائنا للعلم ووصف نشأته وتكوينه من جديد. (6)
अज्ञात पृष्ठ