ـ[تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير]ـ
١ - مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل.
٢ - عروة المفتاح.
٣ - التوشية والتوفية.
٤ - نصوص من تفسيره المفقود لسورتي البقرة وآل عمران.
المؤلف: الحَرَالِّيُّ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنٍ التُّجِيْبِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ (المتوفى: ٦٣٨هـ)
مستخرجة من: تفسير البقاعي «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور».
تصدير: محمد بن شريفة، عضو أكادمية المملكة المغربية
تقديم وتحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي، أستاذ بكلية أصول الدين تطوان
الناشر: منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي - الرباط
الطبعة: الأولى، ١٤١٨ هـ - ١٩٩٧ م
قدمه للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ
अज्ञात पृष्ठ
تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي
في التفسير
١ - مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل.
٢ - عروة المفتاح.
٣ - التوشية والتوفية.
٤ - نصوص من تفسيره المفقود لسورتي البقرة وآل عمران.
مستخرجة من تفسير البقاعي: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.
1 / 23
مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل
لأبي الحسن علي بن أحمد الْحَرَالِّي التجيبي المراكشي
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الحمد لله أهل الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العبد، وعلى آله القائمين لله بالله بوفاء العهد، والرضا عن أصحابه المجدين في سبيل الله أتم الجد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الوعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
أما بعد، فإن لله مواهب جعلها أصولا للمكاسب، فمن وهبه الله عقلا يسر عليه السبيل، ومن ركب فيه خرقا نقص حظه من التحصيل، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع أموره علمه وفهمه، ومن أتاه فصل خطاب أبان به حقيقة ما علمه.
وإن الله تعالى إذا أقام داعيا له اختار له من يلقي عنه ويتبين منها؛ أولي أحلام ونهى، يحملهم الله ببداية إفضاله بها عليهم إلى المنتهى، وإنه إذا خوطب قوم ببيان،
1 / 24
وحوروا بتبيان، فلم يلقنون ولا فهموا، علم أن أساس مواهبهم يحتاج إلى تزكية تهيئهم إلى ما يقصد بهم من التفهم بقوانين وتنبيهات عل أمور جامعات. فاتخذ للمقصرين في اللسن قوانين النحو، حين اعوجت الألسنة، وكان أول من اتخذ ذلك أبو الأسود الدؤلي، ﵀، في زمن علي، ﵇.
واتخذ للناقصي التعقل والتصور علم المعقولات، وذلك في زمن حكماء اليونانيين. واتخذ للناقصى الإبانة والبلاعة علم الأدب، وكان أول من صنف في ذلك وجمع شتاته أبو عمرو، الجاحظ، ﵀.
واتخذ للناقصي التفهم في علم الأحكام من كتاب الله، وسنة رسول الله، علم أصول الفقه، وكان أول من وضع في ذلك الإمام المطلبي أبو عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي ﵁.
وإن الله سبحانه يقيم من أمره ما شاء، ويزيد في الخلق ما يشاء. وإن أتم الزيادات وأكملها، من وهبه الله فهما في كلامه، ووعيا عن كتابه، وتبصرة في الفرقان، وإحاطة بما شاء من إحاطة علم القرآن. ففيه تمام شهود ما كتب الله بمخلوقاته من ذكره
1 / 25
الحكيم، بما يزيل عنايته من غطاء الأعين، ونبأ ما نزل من الذكر المبين، بما يسمع من يشاء بتأييده روح منه، فيندرج في علمه كل علم، من أصناف علم الخلق وعلم الأمر، طبعا وعقلا وإيمانا ويقيا، إذ فيه تفصيل كل شيء، وتنزيل كل وحي، ولذلك كان ختما لكل كتاب، ونبوة المنزل عليه ختما لكل نبوة ورسالة، كمل محمد، ﷺ في دار الدنيا قلبا، وفي ليلة الإسراء ذاتا: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ وذاته هي آية ربه الكبرى، "من عرف نفسه عرف ربه" ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾. وكمل آله قلبا ووجدا بوجد ذاته ليلة إسرائه، ومن دونه وآله يتكاملون بهم نشئا نشئا، وتماما تماما في الداربن "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". إلى ما شاء الله من سر قوله: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾. وذلك من وراء آباد، والله واسع عليم. وقد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم على، ﵇، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء.
وإن كثيرًا من العلماء والأدباء والعقلاء خاضوا في علم القرآن تفسيرًا مما بدا منه في يوم الدنيا، وتأويلا لما يبدو منه في يوم الآخرة، وفهما لما هو عليه دائما، حيث لا ليل، ولا نهار.
فأما قوانين تفسيره ففي علم النحو والأدب، وأما قوانين تأويله ففي علم
1 / 26
الإيمان، وتحقيق أن الخبر ليس كالعيان، وأما قوانين التطرق إلى فهمه، ففي قلوب عباد اختصهم الله بالفهم، وآثرهم بإحاطة من العلم، تأمن بهم القرون، وتنجلي بهم ظلم الفتون، لاتخلو الأرض من قائم لله بحجة: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. حتى يأتي أمر الله".
وإن مما أقامه الله لتتبع علم التفسير والتأويل، تم فتح عليه حظا من التطرق للفهم، بما زكاه الله من الزهد، والقيام على باب الله عشرين سنة - الشيخ الإمام عالم المدينة في وقته؛ أبا عبد الله محمد بن عمر القرطبي، قدس الله روحه.
وإنما توقف الفهم على مثل حاله، لأن الله، سبحانه، أباح علم الآيات بغير شرط، وجعل من دون تعلم الكتاب، والحكمة، التزكة بالزهد، والوجهة إلى الله، ﴿يتلوا عليهم آياته يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
فكان مما يسره الله رؤيته والقراءة عليه، تفهمنا عليه الفاتحة في أربعة
1 / 27
أشهر، وكان يفيد قوانين في التطرق إلى الفهم، تنزل في فهم القرآن منزلة أصول الفقه، في تفهم الأحكام.
ثم من الله سبحانه، ببركات ومواهب لا تحصى، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاستخرنا الله سبحانه، في إفادة قوانين تختص بالتطرق إلى تفهم القرآن، ويتنبه بها، بأيد من الله وروح منه، إلى على البيان، يكون "مفتاحا لغلق الباب المقفل، على تدبر القرآن المنزل" ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
قوم منعهم من فهمه تفسيره وشغلهم بما حضر من دنياهم، وقوم منعهم من فهمه تأويله وشغلهم بما سمعوا من أمر أخراهم، وقوم منعهم من فهمه سابق آراء عقلية انتحلوها، ومذاهب أحكامية عقلية تمذهبوا بها، فإذا سمعوه تأولوه لما عندهم، فيحاولون أن يتبعهم القرآن، لا أن يكونوا هم يتبعونه، وإنما يفهمه من تفرغ من كل ما سواه. "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين".
فإن للقرآن علوا من الخطاب يعلو على قوانين العلوم علو كلام الله على كلام خلقه، فنورد، بعون الله، والتأييد بروح منه، أبوابا تشتمل على ما يجريه الله من: "مفتاح الباب إلى فهم الكتاب" والله الولي الحميد.
1 / 28
الباب الأول
في علو بيان القرآن
على بيان الإنسان
اعلم أن بلاغة البيان تعلو إلى علو قدر المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه، بقدر علو الله على خلقه. فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه، وهو لا يحيط به علمه، فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي. فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائنا في ذكره، لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبئ عن الآتي، أعوزه البيان كله، إلا ما يقدره أو يزوره، فبيانه في الكائن ناقص، وبيانه في الماضي أنقص، وبيانه في الآتي ساقط: ﴿يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾.
وبيان الله، سبحانه، عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، وعن المنقطع، كونه بحسب إحاطته بالكائن، وسبحانه من النسيان ﴿لا لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ وعن الآتي بما هو الحق الواقع ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ والمبين الحق لا يوهن بيانه إيهام نسبة
1 / 29
النقص إلى بيانه، والإنسان يتهم نفسه في البيان، ويخاف أن ينسب إلى العي، فيقصد استغراق البيان، ويضعف مفهوم بيانه ضعفا من منته.
ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف إفصاحه، وقل ما ينقص عن نظيره، فنذكر قانونه في الباب الثاني، يحول الله.
1 / 30
الباب الثاني
في جمع القرآن لنبأي
الإفصاح والإنهام
اعلم أن الله، سبحانه، أنزل القرآن مثاني، بين إجمال وتفصيل، وبين إفصاح وإفهاء. يفهم نبؤه عنه، تعالى، إفصاحا نبأه عن عبده إفهاما، لمقابلة ما بين العبد والرب، يفهم نبؤه عن عبده إفصاحا نبأه عنه تعالى، إفهاما، وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة، والأخرى الآجلة، وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، وبين كل متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الإعتبار من أمر الخلق، ومعتبراتها من أمر الحق، ولايكاد هذا النحو من البيان يقع شيء منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم، إلا نادرا؛ لمقصد اللحن به، والإلغاز بإفهامه، فمتى أنبأ عنه، تعالى، أخذ القاهم مقابل ما يتلو إفصاحا في قلبه عن العبد مفهوما، فيملأ القرآن قلبه بإفهامه، ويملأ سمعه بإفصاحه، فإفهامه إسراره للقلوب الفهمة، وإفصاحه إعلانه للأسماع الواعية، فيسمعه من ربه سرا وعلانية، وهذا من أجل قوانين فهمه وإحصاء علمه.
وأما ما يقع فيه الإفهام في متقابلات ظاهرة يقع البيان عن أحدها إفصاحا، ويلازمه الآخر إفهاما، فربما وقع لآحاد من بلغاء العرب نظيره، وهو في القرآن كثير، وفي بلاغات العرب قليل، وأمثلة ذلك بالمشافهة بها أولى، لما يعلمه الله.
1 / 31
ولما كان لجمع أصل الخلق تفريج، وجعل ما يجريه على ألسنة الخلق من نطقهم عنه نبأ تفريق، ظهر التقصير في بيانهم، وبلغ إلى غاية البلاغة بيان القرآن عن كل ناطقة بأيما لسان، فنذكر قانونه في الباب الثالث، بحول الله.
1 / 32
الباب الثالث
في إبانة القرآن عن ألسنة ذوات الخلق، وعن تنزلات أسماء الحق
اعلم أن الله، سبحانه، امتن على عباده بالقرآن نطقا عن ذواتهم، وعن ذات كل خلق، وإقامة كل أمر، بما لا يصل بيانهم إلى النطق به عن ذواتهم، فسكتهم وأبان عنهم، كما سكتهم بالتوحيد، وتوكل لهم، فمن اكتفى ببيان الله عن بيانه، وبوكالة الله عن تكلفه، استوى حاله في الدنيا والآخرة، وذلك هو إقامته، كما أنه إذا رحم قول، واكتفى منهم بالقول، فيما لم يستطيعوا، وإذا امتحن كلف أمرًا ونهيا، لتبدو في الإبانة إقامته، وفي التقويل رحمته، وفي الامتحان حلمه ونقمته، وأعظم أمره إقامته وإبانته، ولكل بيان يخصه.
وكذلك لكل اسم من أسمائه بيان تخص إقامته طورا من أطوار خلقه تفصيلا وإجمالا، فمن تفطن إلى رتب الخطاب في القرآن بحسب أسماء الله وأطوار الخلق، وتنزلات الأمر، ورتب تنامى القلوب في الرجوع إلى الله، وأطوار الخلق، والأعمال، وما يقابل ذلك من دركات البعد والبغض والطرد واللعن - فتح الله له بابا إلى الفهم يجد به يقين تجربة إبانته، ووضوح صدق إنبائه عن كنه الذوات ورتب التنزلات، حتى إن خطاب الإقبال ينتظم بخطاب الإعراض، والغيبة بالحضور، والاختصاص بالتعميم، فنذكر في ذلك ترتيبا في الباب الرابع، بحول الله.
1 / 33
الباب الرابع
في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران
اعلم أن الله، سبحانه، محيط بكل شيء خلقا وأمرًا، أولًا وآخرا، ظاهرا وباطنا، وهو حمده، وله ظهور في علو أمره وكبير خلقه، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره، بما أبداه من حكمته، وأسباب هداه وفتنته، وذلك العلو هو إلهيته، والاحتجاب هو ملكه، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له، وتأييده كل أمر من الأمرين لما أقيم له، وذلك هو ربانيته، ولكل فئق من خلقه وأمره رتق سابق، ولكل تفاوت سواء، وذلك هو رحمانيته، ولكل أقرب من مدد الحجاب اختصاص، وذلك هو رحيميته، ولكل أبعد في مدد الحجاب بطش منه شديد، في رده إلى القرب، وتلك هي نقمته، ولكل من تنزلاته العلية، ظاهرًا وباطنا، أمر خاص، ولكل أمر خلق، يرد بيان القرآن لكل خلق بحسب كنه ذاته. واختصاص رتبة قربه ومحل بعده.
وإن الله، سبحانه، جعل آدم وذرءه خليفة له في جمع أمره وتفصيله، وأنزل القرآن نبأ عن جملة ذلك، فأردى الأحوال لهذا المستخلف المحل الذي يسمى فيه
1 / 34
بالإنسان، وهو حيث أنس بنفسه وغيره، ونسي عهد ربه، فيرد لذلك نبؤه بالذم في القرآن، ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه، وهو له بمنزلة سن الميز لابن سبع، ولايقع إلا عن اجتماع وثراء، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس، لنوسهم أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم، وغلبة أهوائهم عليهم، فيرد لذلك نبؤهم بذم أكثرهم في القرآن؛ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ و﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾.
ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق، ولكنهم ينزلون عنه كثيرا، عند كل عارضة نبل وخادعة رفعة، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي ذاق طعم بدو النطفة من باطنه الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات، وذلك هو السن الذي يسمون فيه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهو أول سن التلقي، فلذلك جميع آداب القرآن وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن، كان ابن مسعود، ﵁، يقول: إذا سمعت الله ﷿ يقول: "يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك، فإنه خبر يأمر به، أو شر ينهى عنه".
وكما أن ما يخص البالغ العاقل من الخطاب لايدخل فيه الصبي المميز، وما يخص المميز لايدخل فيه البالغ، كذلك خطاب الذين آمنوا لم يصل إليه الناس بعد، وخطاب الناس قد جاوزه الذين آمنوا، لأنهم قد انزجروا، بما قبلت قلوبهم، عما يزجر عنه الناس، وقد ائتمروا بما يؤمر به الناس.
وهذه الأسنان الحالية عند أولي البصائر، وخاص خطابها، أشد ظهورا من أسنان الأبدان، عند أصحاب الأبصار، وعدم التبصرة بهده المراتب في الأحوال والبيان، هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن.
1 / 35
وكذلك ما فوق سن الذين آمنوا من سن الذين يؤمنون، وهم، في أول حد القرب، بمنزلة بلوغ الأشد، وسن الذين آمنوا والناس في مدد حد البعد، ولذلك يخاطبون بحرف "يا" المرسلة إلى محل البعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
وفوق ذلك سن المومنين، وأدنى قربا، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم، ياء البعد، وهذه السن بمنزلة الاكتهال، وسن الشيب، وتمام سنهم المومنون حقا، وكذلك إلى سن المحسنين إلى غيب سن الموقنين، إلى ما وراء ذلك، فإن أسنان الجسم أرابع، وأسنان القلب أسابيع، يعرفها من تطور فيها، ويجهلها من ثبت سن قلبه على الجهل، وتطور سن جمسه إلى الهرم، "يهرم ابن آدم وتشب منه إثنتان: الحرص والأمل" فالحرص فقره، ولو ملك الدنيا، والأمل همه وتعبه، فمن لم يتحقق أسنان القلب، وتفاوت خطابها، لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن، ومن لم تتضح له تنزلات الخطاب لم يبق له خطاب الله من خطاب الرحمن، من خطاب الملك الديان.
فنذكر لذلك تطرقا في الباب الخامس، بحول الله، والتأييد بروح منه.
1 / 36
الباب الخامس
في تنزلات خطاب القرآن بحسب أسماء الله
اعلم أن خطاب الله يرد بيانه بحسب أسمائه، ويجمعها جوامع، أظهرها ما ترى آياته، وهو اسمه ﴿الْمَلِكُ﴾ وما يتفصل إليه من الأسماء المقيمة لأمر الحكم والقضاء والجزاء، نحو: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الذي تختم به آيات الأحكام: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. ثم ما تسمع آيته، وهو اسمه الرحمن الرحيم، وما يتفصل من الأسماء، من معنى الرحمة المنبئة عن الصفح والمغفرة، الذي تختم به آيات الرحمة: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
فلكل تفصيل، في مورد وجهي العدل والفضل، أسماء يختص بها نبؤها،
1 / 37
ولذلك قال ﵇: [أول الحديث: أنزل القرآن عل سبعة أحرف، كلها شاف كاف] مالم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة.
ثم ما توجد آيته وجدانا في النفس، وهي الربوبية، وما ينتهي إليه معنى سواء أمرها من ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وما يتفصل إليه من الأسماء الواردة في ختم الإحاطات، نحو " الواسع العليم".
فمن تفطن لذلك استوضح من التفصيل الختم، واستشرح من الختم التفصيل، وقد كان ذلك واضحا عند العرب، فاستعجم عند المتعربين، إلا ما كان ظاهر الوضوح منه.
ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان متين الإفهام في القرآن، فنذكره في الباب السنادس بحول الله.
1 / 38
الباب السادس
في وجه بيان القرآن
في تكرار الإظهار والإضمار
اعلم أن لموقع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين:
أحدهما يتقدم فيه الإظهار، وهو خطاب المومنين يآيات الآفاق، وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض، لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا.
والثاني يتقدم فيه الإضمار، وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس، ولم يصل إليه تخاطب الخلق، فإذا كان البيان عن إحاطة، تقدم الإضمار: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وإذا كان عن اختصاص تقدم الإظهار: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، وإذا رد عليه بيان على حده، أضمر: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، وإذا أحاط البيان بعد اختصاص، استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط أو بإضمار، أو بجمع المضمر والمظهر: ﴿ياتقا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي
1 / 39
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان، من هذا نحو، من مفاتيح أبواب الفهم، ومن نحوه: ﴿أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ استأنف لخصوص المستطعمين إظهارا غير إظهار عموم المأتيين.
ولمجاري الإضافات فيما يضاف من الأسماء، وفيما ينعت، وجه بيان في القرآن، نذكره في الباب السابع بحول الله.
1 / 40
الباب السابع
في رتب البيان في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن
اعلم أن الربوبية إقامة المربوب بما خلق له، وأريد له، فرب كل شيء مقيمه بحسب ما أبداه وجوده، فرب المومن ربه ورباه للإيمان، ورب الكافر ربه ورباه للكفران، ورب محمد ربه ورباه للحمد "أدبني ربي فأحسن تأديبي" ورب العالمين ربي كل عالم لما خلقه له: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.
فللربوبية بيان في كل رتبة بحسب ما أظهرته آية مربوبه "من عرف نفسه عرف ربه". ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾. ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
1 / 41