وهكذا كانت نتيجة وضع المشكلة التونسية في الميدان الدولي، احتلال الجيوش الفرنسية للبلاد وفرض الحماية عليها؛ لأن الدولة الاستعمارية قد اقتسمت العالم في ذلك الحين وتصرفت في الأقطار كما شاءت لها مطامعها؛ إذ القوة بيدها والمال في قبضتها والسياسية العالمية في حوزتها.
وبمجرد استيلاء فرنسا على تونس أصبحت المشكلة التونسية تحتل مكانا ممتازا في السياسية الفرنسية البحتة التي لم تكن واضحة جلية في أول أمرها؛ لأن معاهدة «باردو» لم تحتو على لفظة الحماية، بل أبقت السيادة التونسية كاملة غير منقوصة، وكان المستعمرون ينادون بوجوب القضاء على الدولة التونسية وإلحاق البلاد التونسية بفرنسا مثل ما تم فيما يتعلق بالجزائر. وكان الأحرار الفرنسيون مثل «كليمنصو» ينددون بالعدوان على شعب صديق، ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس، فاتخذ رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك «جول فيري» موقفا وسطا وقال: إن فرنسا لا تريد استعمار تونس ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التراب الفرنسي، وإن احتلالها لها إنما هو ضمان لبقائنا بالجزائر. فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخص حسب عباراته في كلمتين: «لا إلحاق ولا انسحاب.»
أما داخل البلاد التونسية، فقد كانت السياسة الفرنسية تناقض ما قررته الحكومة الفرنسية، وكان أكبر عامل في تبديلها وقلبها هو المقيم العام «بول كامبون» الذي اشتهر بمهارته الإدارية بفرنسا، ففرض على تونس اتفاقية جديدة (اتفاقية المرسى)، واستدرج الحكومة الفرنسية إلى الموافقة عليها، ثم اتخذها أداة للاستيلاء على السيادة الداخلية التونسية وإنشاء إدارة حديثة تكون آلة في قبضته؛ ليتمكن من حكم البلاد حكما فرنسيا مباشرا، فيتصرف في الميزانية لتنفيذ أغراضه، ويشرع في سياسة تنمية الجالية الفرنسية بتشجيع الهجرة ومنحهم الوظائف العامة والأراضي الخصبة، ويسرع إلى تقسيم الثروة المعدنية على الشركات الفرنسية.
فإذا كان «جول فيري» بطل احتلال تونس، فإن «بول كامبون» هو مستعمرها الأول وواضع أساس جميع المشاكل الكبرى التي صيرت القضية التونسية معقدة متشعبة استعصى حلها على الحكومات الفرنسية المتوالية وحيرتها وأفسدت سمعة فرنسا ونزلت بها إلى الحضيض. (2) المشكلة التونسية في الميدان العالمي
بقي التناقض والاضطراب بينا في السياسة الفرنسية نحو تونس، فطورا تسير إلى تطبيق معاهدة الحماية والوقوف عندها، ومرة تنتهج السنة الاستعمارية التي سنها «بول كامبون»، وهي في تناقضها واضطرابها لم تلتفت إلى العالم وإلى الواقع، كأنها ذاهلة بنفسها عن غيرها، وإذا ما وعدت الحكومة الفرنسية وعدا، فسرعان ما تتراجع فيه تحت تأثير جاليتها الاستعمارية بتونس، غافلة عما طرأ على العالم كله من تغيير عميق وعما أحدثته الحروب العالمية فيه من تبديل. عواصف هبت على الدنيا، فزعزعت قوات أوروبا الاستعمارية وأضعفتها حربيا واقتصاديا، حتى أصبح مركزها اليوم أقل أهمية من ذي قبل، وأضاعت الدول الاستعمارية الكبرى هيبتها في القلوب، ورأى كل سياسي أن العصر الذي كانت دول أوروبا تقتسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ بينها تفرض فيها سيطرتها واستعمارها وحمايتها وانتدابها قد انقضى وفات، فلم تبق في قبضتها دفة السياسة العالمية، بل أفلتت منها إلى غيرها، وقام إثر الحرب العالمية الثانية عملاقان كبيران هما أمريكا ودولة السوفييت، وأصبحت الدول الأوروبية بأسرها إما تحت النفوذ السوفياتي المباشر، وإما تحت رحمة أمريكا التي تغدق عليهم من مالها الوافر ليعيشوا ويحافظوا على كيانهم ووجودهم. وكأن فرنسا لم تعلم بعد أن كل دولة تأخذ من الدنيا على قدر قواها، وأن المحافظة على إمبراطورية كبرى ممتدة في أطراف العالم تتطلب من الجيوش والأساطيل والطيران والقوات الاقتصادية والمالية ما يكفي للوقوف أمام أكبر الدول المنافسة، وكأن فرنسا لم تعلم أيضا أنها لا تملك هذه القوة اللازمة.
والأعجب أن فرنسا التي كانت طيلة قرون تسير في مقدمة البشرية في بث الآراء الحية الجديدة والدفاع عن حرية الأفراد والمجتمعات، صارت اليوم كأنها في عزلة عن التيارات الفكرية الكبرى التي تسير بالعالم نحو مصيره، فقد تجبرها الظروف أحيانا على مسايرة غيرها، ولكن سرعان ما تتراجع إلى الوراء وتتشبث ببعض المبادئ البالية.
وقد انتصرت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مبادئ اعتنقتها غالب الشعوب والدول، واهتز لها كل مظلوم وكل مغلوب على أمره. وكانت أمريكا حاملة لرايتها داعية لها ساعية في تحقيقها، فظهرت في الميثاق الأطلنطي الذي جعله الحلفاء دستورا عالميا لجلب الأمم إلى جانبهم، والذي امتاز بإعلان حق كل شعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، ثم سجلت مبادئه في ميثاق سان فرانسيسكو الذي أسست بمقتضاه هيئة الأمم المتحدة، فالتفتت إليها جميع الأنظار وعلقت عليها الآمال، مع أن الدول الاستعمارية احتاطت لنفسها في ميثاق تلك الهيئة، فضيقت ميدانه وجعلته لا يطالبها إلا بتقديم بعض التقارير فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة لها. ولكن تلك الدول لم تتمكن من التملص من توقيع ذلك الميثاق الذي جعل مهمتها في الأقطار التابعة لها تقتصر على إعدادها لحكم نفسها بنفسها، وكانت فرنسا في الواقع لم تغير من سياستها الاستعمارية التقليدية شيئا، ثم إنها وقعت أيضا على ميثاق حقوق الإنسان وخالفته حالا وخرقته بسرعة عجيبة واعتدت على الحريات الفردية والحريات العامة، وقتلت ونكلت وسجنت وعذبت في أكثر مستعمراتها وخصوصا في تونس، فلم تقم وزنا لتلك المواثيق كلها ولم تعترف بها عند التطبيق ولم تحترم توقيعها لها أصلا.
وأعظم ظاهرة للعصر الحديث مقت الاستعمار في العالم بأسره، واعتباره عبودية ورقا والحكم عليه نهائيا بالإزالة، وقد عزز تلك الظاهرة إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها في التخلص منه، وإن أدى ذلك بها إلى تضحيات جسيمة، وإن أخل بالأمن العالمي، وإن اكتسح الاضطراب والحرب قسما كبيرا من المعمورة؛ لأن المستضعفين في الأرض والمقهورين والمظلومين والجائعين رأوا في الاستعمار والتسلط الأجنبي بأنواعه أقوى أركان النظام السائد في بلادهم القائم على الفساد والارتشاء وخدمة مصالح بعض الأشخاص أو الجاليات الأجنبية، فتحركت الجماهير الغفيرة التي تعد مئات الملايين بين آسيا وأفريقيا، واستيقظت وتفطنت إلى أسباب دائها وعزمت عزما كليا على جثها من أصولها، وتقدمت لفك الأغلال من رقبتها والتخلص من النير الأجنبي أولا، ومن ذلك النظام البالي ثانيا، ودوى صوت الحرية الهائل في أرجاء الدنيا، وتجاوبت أصداؤه من جزر إندونيسيا وسهول الهند إلى جبال الأطلس بالمغرب الأقصى، فتقطعت السلاسل وتحررت الشعوب وتكونت دول فتية وفتحت أمامها أبواب المستقبل على مصراعيها، وكأن دولة أوروبا قد دالت فتقلص ظلها عن بلد بعد بلد، وكلما ولد مولود جديد من تلك الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار، تعزز به جانب الحرية في العالم، وازدادت الدول الاستعمارية ضعفا، وتقهقرت الروح الاستعمارية، وأحرزت هكذا غالب أمم الأرض استقلالها: الهند وباكستان وبورما وسيلان وإندونيسيا وسوريا ولبنان وليبيا والحبشة. وقد حصلت شعوب أخرى على حكمها الذاتي في سيرها نحو استقلالها.
وهل يمكن أن تقف موجة الحرية التي اكتسحت العالم عند حدود تونس؟ أم توهم الفرنسيون أن هذا التيار البشري الجبار سيتعطل أمام ما وضعوه من سدود وضربوه من حصار شديد حول المغرب العربي خاصة وبقية الإمبراطورية الفرنسية عامة؟
أولم يعلموا أن النطاق الحديدي الذي أرادوا به عزل تونس عن بقية الدنيا لا يمكن أن يوقف حركة شعب ونهضة أمة أرادت إرادة فعالة أن تحيا من جديد حياة العزة والكرامة، بل لم يزدها ذلك النطاق المفروض إلا شوقا إلى الاتصال بالشعوب الشقيقة وإلى الخروج إلى الهواء الطلق الحر، فخرق التونسيون الوطنيون السد الفرنسي المنيع من كل جهة، وخرجوا بقضيتهم إلى الميدان العالمي، ووجدوا جميع تلك القوات الفتية المعادية للاستعمار تناصرهم وتشد أزرهم، فقد أصبحت تلك الدول الجديدة تشارك مشاركة حقيقية في سياسة العالم. وينبغي هنا ألا ننسى أن عددا وافرا من شعوب الدنيا قد ذاق في السابق مرارة الاستعمار، وبقيت آثارها في فمه إلى يوم الناس هذا؛ ولذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا الجنوبية (الأرجنتين، والبرازيل، والشيلي، وبوليفيا وغيرها ...) تبغض الاستعمار طبيعة وجبلة؛ ولذا كان من المتوقع أن تقف تلك الدول التي حصلت على استقلالها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن لجانب الدول الآسيوية الأفريقية التي رفعت لواء مكافحة الاستعمار. فلا غرابة إذن في أن تجد تونس أعظم قوات العالم - الأدبية والمادية - تعطف عليها وتميل إلى مساعدتها على التخلص من ذلك الاستعمار البغيض، فأصبحت المعركة في كنهها بين الماضي والمستقبل، ففرنسا وقواها تسعى للمحافظة على النظام القديم البالي، وتسعى تونس وأنصارها إلى تحقيق نظام أساسه العدل والحرية والمساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة يضمن للبشرية سلامتها ورفاهيتها، ولا يكون الانتصار إلا للمستقبل.
अज्ञात पृष्ठ