ولم يرسلوا الكلام على عواهنه والخطب المسهبة الطويلة طوع الخاطر وانقيادا لخيال الساعة، بل التزم الكثير من أصحاب المسئولية في السياسة الفرنسية بوعود رسمية قطعوها لتونس باسم حكومتهم، وأسرفوا في الوعود كما أسرفوا في الخطب من قبل ومن بعد، وكرروها المرة تلو المرة، وجددوها في كل مناسبة ومن غير مناسبة، وأكدوها الواحد تلو الآخر.
لقد اختار الجنرال ماسط الوزير المقيم العام لفرنسا بتونس مسجد القيروان الذي أسسه الصحابي الشهيد عقبة بن نافع فاتح المغرب، ليقيم به مهرجانا عظيما قصد إكساء خطابه الرسمي ضربا من القدسية؛ لما فيه من وعود وثيقة للتونسيين، وهو أول مقيم عام جاء تونس بعد الحرب العالمية، فأقام ذلك الاحتفال في نوفمبر سنة 1942، وقال باختصار إنه ينبغي ألا تقتصر فرنسا على الإصلاحات التي أنجزت، ثم بين ما ستنجزه في العبارات الآتية:
إن فرنسا ستحدد في الأشهر المقبلة الدستور التأسيسي لهذا المجموع العظيم من الشعوب والأراضي التي ستكون الوحدة الفرنسية، وسوف لا تتأخر عن إرضاء رغائب التونسيين المشروعة المعقولة.
وكرر الجنرال ماسط نفس الوعود في مدينة القيروان بعد ثلاث سنوات، واتصل بالحركة القومية التونسية اتصالا غير مباشر، ثم تقابل مع الأمين العام للحزب الحر الدستوري التونسي مقابلة دامت سبع ساعات في بيت المعمر الفرنسي دورتولي
Dortoli
عرض فيها ما تراه الحكومة الفرنسية من إصلاح، وأوضح اتجاهها العميق لسياستها بتونس، ويظهر من كلامه أن فرنسا مستعدة لتضحية قسم كبير من جاليتها وخاصة الموظفين وإبدالهم بتونسيين بعد مدة وجيزة، وهي مستعدة أيضا لتعترف بالاستقلال التام لتونس وتتبنى إدخالها كعضو في هيئة الأمم المتحدة، كما أنها لا ترى مانعا من انضمامها لجامعة الدول العربية، ولكنها لا تريد أن تضحي بالمصالح المالية الكبرى التي لها بتونس؛ ولذا تشترط شروطا لضمان هذه المصالح لا يمكن بحال أن تتنازل عنها؛ أولا وقبل كل شيء: أن ينص دستور الدولة التونسية على أن وزير المالية التونسية لا يكون إلا فرنسيا يتمتع بسلطات معينة ليتمكن من حفظ هذه المصالح المالية، وكذلك يحتفظ الفرنسيون لأنفسهم ببعض المناصب الحيوية، فيكون لهم الحق في توجيه السياسة التونسية والاقتصاد التونسي والمالية التونسية، وطلب الجنرال ماسط من ممثل الحزب أن يعرض اقتراحاته على الوطنيين، فأسرع الحزب إلى جمع نواب عن جميع الهيئات والمؤسسات والمنظمات القومية، وانعقد المؤتمر التاريخي مساء 26 رمضان/23 أغسطس 1946، فتجلت فيه وحدة الشعب التونسي وإجماعه على فكرة واحدة، هي العمل لتحقيق الاستقلال التام.
وهاجمت قوات البوليس والجيش الفرنسي المؤتمر في مقر اجتماعه، وألقت القبض على أبرز أعضائه وزجت بهم في السجن العسكري. ولما افتضح الجنرال ماسط وخاب خيبته المرة - إذ اجتمع ذلك المؤتمر لينظر إلى اقتراحاته - وظهر التناقض في أقواله وأعماله، عزلته الحكومة الفرنسية وعينت مقيما عاما جديدا بدلا منه.
ولم تطأ قدم «مونص» أرض تونس حتى جدد في خطبه وتصريحاته الوعود فقال: «إنه لمن الخطأ أن نعتقد أن في عالمنا الحاضر الذي يقاس بمقياس القارات يمكن لتونس أن تسير وحدها وأن تستغني عن مساعدة فرنسا، ولكن من الجنون أن نفكر ونعتقد أن فرنسا الكريمة الوفية المخلصة لرسالتها ينبغي لها أن تؤجل لمدة طويلة التطورات التي وصفتها بأنها ضرورية.» ولكن «التطورات الضرورية» لم تخرج إلى عالم الوجود! وكانت كالجبل الذي ولد فأرة. واقتصر عمل «مونص» على تكوين وزارة تونسية جديدة اختار أعضاءها من بين أصحاب المهن الحرة، وأسند رئاستها إلى مصطفى الكعاك، وفرضها على جلالة الملك فرضا. فأضحت الوزارة الكعاكية تمثل في نظر التونسيين الخضوع والخنوع والاستسلام للاستعمار الفرنسي، وقد أحرزت بسرعة فائقة على لعنة الشعب وغضب الملك واحتقار الفرنسيين أنفسهم، وتسربل أعضاؤها عارا لا يمحى وخسة لا تنسى، وفضيحة ستصحبهم ما عاشوا. وقد أعرض عنهم الملك إعراضا تاما، واتصل بقادة الشعب وأبلغهم إرادته السامية وأعلمهم رسميا «أن تونس لن تنضم إلى الوحدة الفرنسية وأنا جالس على عرشها.» واهتز الشعب فرحا وحماسا عندما اطلع على هذا التصريح الرسمي في الصحف الوطنية، وهو يعلم حق العلم أن الدخول في الوحدة الفرنسية هو اضمحلال للقطر التونسي ومحو لعروبته وتنكر لتاريخه؛ لأن الوحدة الفرنسية هي الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، غيرت اسمها لتغر العالم وحافظت على جوهرها وكنهها، فيها رق الشعوب واستعباد الأفراد ومسخ البشر، ظاهرها رحمة وباطنها شر وعذاب. انضمت إليها الجزائر قهرا وقسرا، فعرفت الديمقراطية المزيفة وتزوير الانتخابات، وفقد أهلها كل ضمان لحياتهم وأرزاقهم وحريتهم، وقتل منهم في مايو 1945 أكثر من أربعين ألفا في مجزرة سطيف الشهيرة عندما أرادوا أن يشاركوا الفرنسيين في عيد النصر على النازية، في عيد تحرير البشرية من الظلم والخوف والاضطهاد والتفوق العنصري، فلم يرحم الفرنسيون شيخا ولا امرأة حاملا ولا طفلا ولا رضيعا.
ودخلت جزيرة مدغشقر في الوحدة الفرنسية فقتل من أبنائها مائة ألف أو يزيد؛ ليعلموا علم اليقين أن طعم الحرية محرم على غير الفرنسيين في الوحدة الفرنسية.
وشاركت فيها أيضا بلاد فيتنام (الهند الصينية)، وإذا بفرنسا تنكث ما تعهدت به إليهم وتشنها عليهم حربا ضروسا لا تبقي ولا تذر، تريد إخضاعهم من جديد لسيطرتها الاستعمارية، فصبروا وثبتوا، وما زالوا يقاسون منذ سبعة أعوام تلك الحرب الطاحنة.
अज्ञात पृष्ठ