وأعلن الجنود التونسيون الذين أدمجتهم فرنسا في جيوشها حركة العصيان، وامتنعوا عن الدفاع عن الأرض الفرنسية، وثار المرابطون منهم بالقطر التونسي، واستولوا على مدينة القيروان، وشوشوا مدينة قابس؛ فحاربتهم فرنسا، ولم تلن في قمعهم، ثم جردتهم من كل سلاح وسجنتهم في الثكنات لا يفارقونها خلال الحرب. (1-4) التنكيل والتعذيب
لم تكتف السلطات الفرنسية بالاضطهاد العام، واعتقال الوطنيين بالجملة حتى غصت بهم المعتقلات والسجون، واكتظت سجون الجزائر نفسها، ونقلت عددا منهم إلى سجون فرنسا، بل عمدت إلى أنواع من التنكيل والتعذيب، كنا نظن أن التاريخ طواها مع القرون المظلمة والعصور المتوحشة قبل أن نراها بأعيننا ونحمل سماتها في أجسامنا، ولو جمعت ما شاهدت منها وجربت بنفسي لملأ كتابا، ولا يتسع المقام إلا لسرد بعضها من غير تفصيل.
دخل معنا إلى السجن العسكري بتونس شاب لم يتجاوز الخمسة والعشرين من عمره اسمه «عبد العزيز»، وكنا نسكن كل واحد منا زنزانة؛ أي غرفة صغيرة جدا، فمرض عبد العزيز، واشتدت به الأوجاع، وعسر علينا الاتصال به أو التفريج عنه في ذلك السجن الذي كان يخيم عليه جو من الإرهاب والاضطهاد، وكنا نبيت الليل كله ونحن نستمع إلى أنين المريض، ولا تغمض لنا جفون، ولا مسعف، ولا طبيب، ولا دواء.
وفي الليلة الثالثة سمعنا منه صيحة أزعجتنا، وتوالت صيحاته في الظلام، أدخلت على قلوبنا الوحشة، وحيرت الهواجس، وبقي يصرخ صرخات كأن أحشاءه تتقطع إلى السحر فهدأ وسكن، ولما فتح الحارس في الصباح غرفته وجده ميتا، وعلمنا فيما بعد أن أمعاءه ثقبت، وكانت عملية جراحية ربما تنجيه، أو تخفف على الأقل من آلامه، وكم من أمثال «عبد العزيز» من الشباب التونسي ذهبوا ضحية الإهمال وقسوة القلب.
وقد أصبحت مراكز البوليس في تلك المدة أماكن تنكيل تقشعر منه الأبدان، فبعد أن يلقوا القبض على الوطنيين يحملونهم إليها، ويشرعون في تعذيبهم بالطرق القديمة، وبالطرق العصرية المحدثة أيضا؛ فأحيوا الخازوق (وهو عمود طويل يجلسون عليه المحكوم عليه فيخرق أمعاءه)، ولكن عوضوه بزجاجات، وكانوا يضعون أنابيب الماء في فم التونسي، ويملئون بطنه، ثم يدوسونها بأقدامهم، أو يرمونه في غرفة مظلمة بها الجص، ويبقونه أياما متوالية حتى ينسل جلده، وقسم من لحمه تحت تأثير الجص، أو يسجنونه مع عدد كبير من رفاقه في زنزانات فاقدة للهواء تقريبا، ويبللون أرضها بالماء الكثير المخلوط بالبوتاس، بعد أن يخلعوا عنهم ثيابهم ما عدا قميص وسروال، وتمر عليهم الأسابيع والأشهر أحيانا فلا يتمكنون من النوم في الليل، ولا من الراحة في النهار فوق الماء والبوتاس، ولا يعطونهم من الأكل إلا قطعة صغيرة جدا من الخبز فقط، وكوبا من الماء في الصباح وآخر بعد الظهر، فكانت أجسامهم ترتعش وترتجف من البرد الشديد وهم جياع عطشى، وما زالت أصواتهم ترن في أذني، وهم يتلهفون لجرعة ماء ويتوسلون للحارس بيتري: «يا عرف بيتري! أنا عطشان! عطشان الله يبقي لك أولادك، أغثني بشربة ماء! إني أموت! أموت!» وكان الحارس يجيبهم (مو ... ت)! بالتطويل هكذا؛ ويحمل أكثرهم من تلك الزنزانة إلى مستشفى السجن حيث يموتون.
أما الوطنيون الذين نقلتهم السلطات الفرنسية إلى سجون الجزائر، فلم يرجع إلى تونس منهم إلا الثلث تقريبا، ومات الباقي أشنع موت. ولقد سمي بعضهم سجن «لامبيز» الشهير بجهنم البيضاء، لكثرة الثلوج بجهته في فصل الشتاء، كان كل تونسي يسكن غرفة ضيقة وحيدا فريدا، والكلام محرم تحريما باتا كليا، وكانوا يجبرون على صناعة الحلفاء المبللة بالماء، في ذلك البرد القارس، فتنتفخ أيديهم وتدمى، وتتبلل أجسامهم التي لم تبق فيها قوة للمقاومة لفرط ما هم فيه من جوع. وكان الرعب يملأ قلوبهم كلما نزلوا إلى ساحة السجن وقت الطعام صفا، الواحد تلو الآخر، خيفة من السجانين الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة، وقد اختار مدير السجن عددا من المجرمين الكبار والأشقياء سفاكي الدماء وقاتلي الأرواح، واتخذهم أعوانا للسجانين، وهم أقوياء الأجسام ذوو عضلات وشدة، وأكثرهم من حثالة الأوروبيين (ألمان وبولنديين وروس وفرنسيين وغيرهم) يعيشون عيشة ممتازة ويأكلون أكلا فاخرا ليحتفظوا بقواهم، وعلى صدر كل واحد منهم قطعة قماش حمراء كعلامة وشارة؛ ولذا سموا بكلاب الدم، وكانوا يترصدون المساجين عند مرورهم بالساحة، ولأقل إشارة وأتفه عبارة تراهم ينقضون على التونسي انقضاضا، وينهالون عليه ضربا ويدوسونه دوسا بأقدامهم، وإذا بأسنانه تتطاير ودمائه تكسو الأرض وجسمه النحيف قد انهار، فسقط مغشيا عليه، ثم يأخذونه إلى زنزانة ضيقة مظلمة لا يدخلها هواء ولا ضوء فيتعذب فيها جوعا وعطشا، ولا تسمع أناته طيلة إقامته بها إلا ضئيلة خفيفة، وبعد أيام يخرجونه منها لا يقدر على حراك، فاني الجسم، ويزجون به في بيت الموت، وهو مستشفاهم، فلا يلبث أن يموت، وقد قضى عشرات وعشرات من التونسيين نحبهم هكذا.
كنا نقرأ في تاريخ فرنسا أن تحت قصورها وأبراجها وحصونها القديمة دهاليز وسراديب محفورة في الأرض، يضعون فيها المغضوب عليهم، ويسمونها المنسيات، وكنا نعتقد أنه لم يبق منها في القرن العشرين إلا آثار يزورها السواح ويتفرجون عليها، إلى أن نقلتنا السلطات العسكرية الفرنسية في بارجة حربية من السجن العسكري بتبرسق إلى حصن «سان نيقولا» بمدينة مارسيليا، الذي اختير كمعتقل لنا، فوصلناه برفقة زعيمنا الأستاذ الحبيب بورقيبة، وأيدينا في الأغلال والسلاسل، وكانت فرنسا على وشك الانهيار، تحت ضربات الجيش الألماني، وقد سقطت باريس في أيديهم (14 يونيو 1940) فأمرنا الحراس والجندرمة بنزع ثيابنا تماما ثم انهالوا علينا ضربا، ثم ساقونا في دهاليز تقطر ماء لفرط الرطوبة بها، وأغلقوا علينا الأبواب، وبقينا في ظلام دامس. ولما استيقظنا لم نر إلا ضوءا ضئيلا يأتينا من فوهة في السقف، وإذا بها كالبئر علوا؛ أكثر من عشرة أمتار عمقا، ووجدنا أنفسنا في منسية من تلك المنسيات العتيقة، وقد عشنا فيها ستة أشهر كاملة حتى صار الواحد منا إذا ما خرج إلى ضوء الشمس، ورأى الحركة والحياة حوله بقي مبهورا مبهوتا، وقل الأكل شيئا فشيئا وهزلت الأجسام حتى أصبحنا هياكل من عظام. ولما وزن الأستاذ الحبيب بورقيبة نفسه، رأى أن وزنه لا يفوق الخمسة والثلاثين كيلوجراما.
وما تلك إلا نماذج مما عاناه الوطنيون التونسيون، والأعجب أن العذاب لم يزدهم إلا عزما في وجوب التخلص من الاستعمار الفرنسي الفظيع. (1-5) المنصف باي
وأثناء ذلك الاضطهاد القاسي، اعتلى عرش تونس (4 أغسطس 1942) الملك الصالح والوطني المتحمس محمد المنصف باي الذي أدى يمين الخدمة الوطنية واشترك في الحزب الدستوري منذ حياة أبيه، عام 1922، واتصل بالشعب الذي أقام له الحفلات والاجتماعات، والتف حوله وعلق عليه الآمال، فأهدى لشعبه ما يملك من مال ومتاع وسار سيرة العدل والإنصاف حتى لقب بعمر الثاني، وبقدر ما كان رحيما بالشعب بقدر ما كان صلبا شديدا مع أصحاب النفوذ من وزراء ومتصرفين ومديرين، حتى انقطع الظلم وزالت الرشوة وساد الأمن والطمأنينة.
ونزلت جيوش المحور بتونس في شهر نوفمبر 1942، فأصبحت ميدانا للحرب، واكتسحها الخراب والدمار، ولكن الشعب تآزر وتساند، ولم يكترث بالقنابل والموت؛ إذ حصل على ضرب من الحرية لم يعهده منذ انتصاب الحماية الفرنسية.
अज्ञात पृष्ठ