وقد بادرت الحكومة الفرنسية بانتزاع ملكية هذه الأراضي من يد الفلاحين التونسيين، وتركت لهم في الأول حق استغلالها، ثم ما لبثت أن طردتهم منها وأقرت فيها «المعمرين الفرنسيين»،
2
وتلا هذا الإجراء صدور الأمر المؤرخ في 13 يناير 1896 الذي يقضي بإلحاق «الأراضي البور» بأملاك الدولة، فأخذت سلطة الحماية على عاتقها تحديد الأراضي البور، وراحت تدخل ما تشاء من الأراضي في هذا النوع، معتدية بذلك على حرية الملك الفردية، وتوالت اعتداءاتها على أصحاب الأملاك تحت هذا الستار. (6) أراضي الغابات
يوجد بتونس غابات وأحراش شاسعة بالمنطقة الشمالية تبلغ مساحتها مليونا وتسعة عشر ألف هكتار، وقد عمدت فرنسا إلى الاستيلاء عليها منذ بدء الحماية، وأصدرت أمرا بتاريخ 4 أبريل سنة 1890 يقضي بإدخالها ضمن أملاك الدولة الخاصة.
ثم أصدرت أمرا بتاريخ 22 يوليو سنة 1903 يتضمن وضع حدود نهائية لهذه الغابات، وكان الغرض الحقيقي لهذا الأمر إنما هو اغتصاب أراضي السكان المجاورة لهذه الغابات، وتضمن هذا الأمر النص على أنه لا يمكن قبول أية دعوى تتعلق بحق الملكية بعد إتمام عملية التحديد، وكانت عملية التحديد تتم في الخفاء، حتى إن أكثر الملاك - وأغلبهم من البدو - ما كانوا يعرفون إجراءات هذا التحديد إلا بعد فوات أوانها، وقد عجز أكثرهم عن تقديم رسوم ملكيتهم؛ إذ كانوا يتصرفون في أراضيهم منذ أجيال، ومن ذلك الحين تعددت المنازعات بين السلطة الفرنسية والأهالي في هذا الشأن؛ إذ وقع إقصاء الكثيرين عن أراضيهم، وسلطت الإدارة الفرنسية الغرامات الفادحة على من عاد إلى التصرف فيها، ثم صدر أمر في 6 يونيو سنة 1928 بتأسيس لجنة للفصل في هذه المنازعات، وأعقبه أمر آخر في 26 ديسمبر سنة 1928 ينص على ضم نائبين من التونسيين إلى اللجنة، ومهمة هذه اللجنة هي فحص صحة المستندات التي تقدم إليها من حيث إثباتها للملكية.
ومن أغرب ما ورد من نصوص في سبيل اغتصاب ملكية الأراضي التونسية، ما جاء في الأمر الصادر في 26 ديسمبر سنة 1938 من أنه لإثبات حق المدعي يشترط أن تكون الأرض بها حرث أو نبات أو بناء، وأن لا ملكية ما لم يتوفر هذا الشرط، ولو كان بيد المالك عقود تثبت صحة الملكية. وقد ثار الرأي العام لهذا الاستبداد والجور، فكان جواب السلطة الفرنسية أن أصدرت أمرا بتاريخ 20 مايو 1930 بفصل العضوين التونسيين من لجنة المنازعات حتى لا يبقى بها من يمثل حقوق أصحاب الأملاك المغتصبة.
وقد ارتكبت فرنسا لتحقيق أغراضها واعتداءاتها على الملكية الفردية للأراضي المجاورة للغابات أشنع الفظائع، واستعملت في هذا السبيل شتى الوسائل والمناورات غير المشروعة، ونذكر على سبيل المثال أن السلطة الفرنسية طلبت من الفلاحين في جهة فريانة سنة 1934 أن يسلموا للإدارة مستنداتهم لملكية الأراضي بدعوى الاطلاع عليها مقابل إيصالات، ثم استردت الإيصالات، وامتنعت عن تسليم المستندات لأصحابها، وأسرعت إلى تسجيل تلك الأراضي تحت ملكيتها، ووضعت يدها على ما فيها من مبان وبساتين.
وفي سنة 1938 حملت سلطة الحماية الفلاحين على الاعتراف بملكيتها لتلك الأراضي مقابل بقائهم لزراعتها، وألزمت كل فلاح بدفع إيجار سنوي، وهكذا أصبح المالك مستأجرا والغاصب مالكا. ومن أمثلة هذا أن سلطة الحماية انتزعت من الفلاحين المجاورين للغابات بجهة عين الدراهم مساحات تتراوح بين الهكتارين والعشرين هكتارا، ووقع هذا الاعتداء في ثماني عشرة «شياخة» وبلغت ما اغتصب من شياخة واحدة منها وهي شياخة الفويدية ثلاثمائة هكتار بما عليها من نبات ومبان، وقد أرغم ملاك هذه الأراضي على ترك ديارهم وأراضيهم أو يعترفون بملكيتها للدولة، ويدفعون جعلا سنويا، وعندئذ تباح لهم فقط الإقامة فيها على سبيل العمرة.
هذا بالإضافة إلى أن السلطة الفرنسية قد اتخذت مسألة حراسة الغابات وسيلة إلى الاضطهاد، فأرسلت إلى الغابات جيشا من الحراس الفرنسيين يفرضون على الفلاحين التونسيين الغرامات تلو الغرامات، وراح الحراس يهاجمون الأهالي في عقر دورهم ويعتدون على نسائهم تحت ستار تنفيذ القانون والتفتيش عن أخشاب الغابة؛ كل هذا باسم القانون والمدنية والإصلاح.
وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أوراق الشجر التي تعبث بها الرياح وتلقيها على الأرض سيما في فرض الغرامات المتتالية، والحجز الإداري، وبيع مواشي الفلاحين لتسديدها. وهكذا أصبح هؤلاء الفلاحون تحت رحمة حراس الغابات، توقع عليهم أنواع الظلم المختلفة والاعتداءات المتوالية على أموالهم وبيوتهم ونسائهم، وغدوا في حالة من البؤس والفقر أصبحت مضرب الأمثال.
अज्ञात पृष्ठ