त्यूनिस ख़दरा
تونس الخضراء
शैलियों
مقدمة
تمهيد
المراجع
جغرافية تونس
تاريخها
السكان
الدين الإسلامي
اللغة
مدينة «تونس»
القيروان
अज्ञात पृष्ठ
المهدية
بنزرت
سفاقس
قابس
توزر
مقدمة
تمهيد
المراجع
جغرافية تونس
تاريخها
अज्ञात पृष्ठ
السكان
الدين الإسلامي
اللغة
مدينة «تونس»
القيروان
المهدية
بنزرت
سفاقس
قابس
توزر
अज्ञात पृष्ठ
تونس الخضراء
تونس الخضراء
مقدمة
شغلت تونس أذهان العالم من عهد قريب، وقد أحست اللجنة رغبة الناس في استطلاع أخبارها والإلمام بتاريخها، فرأت أن تنشر عنها هذا الكتاب المبسط، وهو مستقى من مواد من دائرة المعارف الإسلامية، كتبها طائفة من أعلام المستشرقين الفرنسيين، وقد حذفنا منها المصادر؛ ليكون الكتاب أقرب إلى التناول. وتفضل العالم الجليل أستاذنا شفيق بك غربال فتحدث عن طرف من تاريخها الحديث، ودرس بعض مشكلاتها السياسية.
وإنا لنرجو أن نوفق إلى نشر كتب أخرى عن سائر أقطار العالم الإسلامي.
لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية
القاهرة في 26 رمضان سنة 1362ه
تمهيد
تونس المعاصرة
لا يستطيع الباحث في تاريخ تونس المعاصرة الاستغناء عن النظر في أصول وعوامل قد تبدو بعيدة كل البعد عما يجري الآن في ذلك القطر الإسلامي الخاضع منذ سنة 1881م لحكم دولة أوروبية حديثة. فالواقع أن الإسلام الذي انتشر في تونس وفي غيرها من أقطار الشرق القديم حل في قطر قديم له وضع جغرافي قد شكله الفينيقيون ثم الرومان تشكيلا خاصا - أصبح القطر إسلاميا، ولكن القوى الكامنة أو الظاهرة، والاتجاهات المستترة أو البارزة، استمرت بعد الفتح الإسلامي فعالة قوية التأثير - ولا يسعنا في هذا التمهيد الموجز أن نتولى شرح شيء من ذلك، إنما يكفي أن نحيل القارئ على دراسات الأستاذ جوتييه
अज्ञात पृष्ठ
E. F. Gautier ، وبخاصة على كتابه القيم: “Les Siècles obscurs du Maghreb” Paris, 1927
في هذا الموضوع.
متى بدأت تونس تتخذ طريقها نحو وضعها المعاصر؟ أو بعبارة أخرى: متى بدأت العوامل الفعالة في تشكيلها بشكلها المألوف لنا؟ نرى أن ذلك كان في القرن العاشر الهجري، عندما امتد نفوذ الدولة العثمانية إلى ذلك القطر، وقد ترتب على ذلك من أول الأمر اتخاذ الأقطار المغربية قاصيها ودانيها التقسيم الجغرافي السياسي المعروف، كما ترتب عليه اندماج القطر التونسي في العالم العثماني بكل ما في هذا من نتائج خطيرة.
وقد تعرضت الأمم العربية والأوروبية التي دخلت في نطاق العالم العثماني لأحداث أكسبتها لونا من الوحدة التاريخية، كما أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال تلك الأمم بالحضارة الأوروبية الناهضة، وإن كان الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر، وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للمسلمين وللمسيحيين من رعايا السلطان العثماني ثمرات نهوضهم العلمي هدية خالصة، والمنصف لا يجهل أن تقدم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسما مرادفا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، يشد أزر الملوك - ولكن في سبيل المجد الأعلى - رجال الدين، وفي سبيل الاستغلال رجال المال. إلا أن ما يؤخذ على الملك العثماني بحق أنه لم يقم على فكرة سياسية أو اجتماعية جديدة، ولم يفتح لرعاياه العديدين المختلفين بابا لتنظيم علاقاتهم المختلفة على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان للعالم العثماني من موقع فريد في نوعه، ومن ميزة اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب كبير في تقدم الإنسانية.
وقد أكسب العهد العثماني تونس - كما أكسب مصر - عنصرا حاكما جديدا في بابه، لا يقوم على عصبية قبلية أو دينية، ولا يدعو لأية فكرة عامة من أي نوع كان، بل ليس له من هم إلا الاستيلاء على أزمة الحكم مستعينا بأعوان على شاكلته، والمتصفح لتاريخ الدايات والبايات والأغوات والأسطوات والرؤساء العثمانيين فيما بين القرنين العاشر والثالث عشر الهجريين لا يمكنه إلا إقرار ما ذهبنا إليه، حقيقة كان من هؤلاء الصالح والطالح، الخير والشرير، ولكنهم جميعا ينطوون على نوع واحد من أنواع السلطان.
وثم اختلاف بين هذين العهدين المضطربين من تاريخ تونس ومصر. ففي الأولى - في تونس - كان بين العنصر الحاكم فيها وأوروبا حرب مستمرة، أما في الثانية - في مصر - فلم يحدث إلا ما كان بين الحكام والتجار الأوروبيين من سوء العلاقة.
ومما ينبغي أن يعترف به لذلك العنصر العثماني الحاكم ما توافرت فيه من صفات قوة القلب والرياسة والاضطلاع بمهام الأمور، وهي صفات ملكته رقاب الرعية الكادحة، وجعلت منه الأداة الأولى لتطور تونسي جديد، وذلك أن الكتخدا حسين بن علي تقلد أمر تونس في سنة 1117ه، وتمكن من جعل البايوية وراثية في بيته - البيت الحسيني - واستمرت فيه إلى يومنا هذا، وقد تقدمت تونس، مصر - في هذا، فقد تولى محمد علي باشوية مصر في 1220ه وأسس بذلك البيت المحمدي العلوي.
وقد نجح البيتان الحسيني والعلوي نجاحا تاما في تقويض النظام الذي أنبتهما، وحطما العصبيات المسلحة وغير المسلحة التي ترعرعت في ظل السيادة العثمانية، وأقاما سلطانهما على شبه نظام قومي. فمهدا بذلك لنمو قومية تونسية وقومية مصرية بالمعنى الحديث للقومية.
والمتتبع لتاريخ تونس في ظل البيت الحسيني يلحظ مروره بالأدوار الآتية - وهي بصفة عمومية شبيهة بالأدوار التي مر فيها التاريخ المصري في القرن التاسع عشر.
أحس أمراء تونس إحساسا قويا بضرورة إنشاء قوة حربية مجهزة تجهيزا حديثا، تحل محل العصبيات المسلحة التي يخشونها، وتمكنهم من بسط حكمهم على سائر أجزاء المملكة، وتصون حدودهم. فبدءوا بهذا وفعلوا ما فعله سليم الثالث ومحمود في الدولة العثمانية، ومحمد علي في مصر.
अज्ञात पृष्ठ
ثم وجدوا أن هذا يستلزم تنظيما جديدا لشتى المرافق والإدارات، كما أنه يستلزم تنمية الموارد الاقتصادية لزيادة الجباية، ويقضي بإعداد جديد للناشئين.
وقد انبعث من هذه الحركة كل ما واجهته تونس وما تواجهه من مسائل ومشكلات.
من هذه المشكلات ما يرتبط بالعلاقات بين البيت الحاكم والمحكومين، فقد زاد شعور المحكومين بتضامنهم القومي، وبوجوب نيل ما يكفل منع سوء الحكم، ويقي كرامتهم القومية اعتداء الغير، ويضع بلادهم الموضع اللائق بها في مختلف الحركات التي هزت العالم الإسلامي هزات متواصلة، فأدى هذا إلى اكتساب الأمة حقوقا وضمانات مختلفة، أعمها وأهمها ما اشتمل عليه عهد الأمان الصادر في 1274ه/1857م. يذكرنا هذا بعهود محمد علي باشا، وسعيد باشا، والخديوي إسماعيل، المتضمنة حقوقا وضمانات مختلفة للرعية، والمنتهية بقيام المجالس النيابية في عهد إسماعيل، وأوائل عهد توفيق، وفي تونس - كما في مصر - لم تتح لأهل البلاد حكاما ومحكومين فرصة العمل على وضع العلاقة بين الأمة والحكومة على قواعد ثابتة يرتضيها الجميع، بل عقد الأمر في القطرين التدخل الأجنبي.
ومن هذه المشكلات ما يتعلق بعلاقة الأمراء بالدولة العثمانية، فقد أدرك الأمراء إدراكا تاما ما في بقاء ارتباطهم بالدولة العثمانية من منافع، ففي هذا الارتباط شيء من القوة والاطمئنان يقيان بلادهم اكتساح الدول الغربية استقلالهم، كما أنهم شعروا بما يكنه الشعب من تعلق ببيت الخلافة الإسلامية، واعتزاز ببقاء الدولة العثمانية دولة قوية مصونة الجانب، وبذلك نفهم لم وضع أمراء تونس مواردهم الحربية والمالية المتواضعة تحت تصرف السلطان في بعض حروبه، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يخشون ما تكنه الدولة العثمانية نحو تونس وغيرها من الأقطار المتمتعة بقدر من الاستقلال الداخلي من نيات، ويحذرون عواقب الغلو في تأكيد التبعية العثمانية، مما كان يحملهم من وقت لآخر على مجاراة بعض الدول الغربية، عندما كانت تشجعهم على الظهور بمظهر الملوك المستقلين، باستقبالهم في بلادها استقبالات ملوكية، والدخول معهم في مشارطات ومعاقدات تمس جوانب هامة من سلطانهم، ولا يمكن لوم الأمراء على قبول ذلك. فإن سياسة الدولة العثمانية جرت في القرن التاسع عشر على وتيرة حملت الأمراء التونسيين على قبول أي تعضيد أوروبي يحول دون تنفيذ الدولة ما تكنه من تقويض استقلال تونس، وما قامت به الدولة العثمانية من عزل الخديوي إسماعيل لما فقد التأييد الأوروبي، وما قامت به لإفساد الحركة العرابية - شاهدان على ما جرت عليه في تونس، وقد وقعت الخسارة على الجميع - ما عدا الدول الأوروبية.
ومن المشكلات أيضا ما يتصل بالعلاقات بالأجانب وبالدول الأوروبية؛ فقد فتح الأمراء الباب واسعا للأجانب، واستعجلوا النهوض واليسر، فاستقدموا الفنيين الأوروبيين يرسمون لهم الخطط، ويعاونونهم على تنفيذها، ومكنوا للعقول الأوروبية والأموال الأوروبية من استخراج خيرات البر والبحر، ويسروا لكل طالب رزق من جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله أن يتخذ من تونس وطنا ثانيا، يتوق لو أن ضمه لوطنه الأصلي ملحقا.
قويت الجاليات الأجنبية، وأصبح للامتيازات الأجنبية من المعاني غير ما كان لها ، ومن وراء الجاليات القناصل، ومن وراء القناصل الجيوش والأساطيل، وأضحت موارد الأهلين وموارد الحكومة نهبا مباحا لكل طامع.
أما الأموال الأوروبية فقد استخدمت فيما هو قائم على أسس اقتصادية سليمة، وفيما هو وهمي، وفيما هو غير ذاهب إلا لاستكمال أدوات الترف والتقليد الكاذب، والدول الأوروبية في مواقفها لحماية تلك الأموال وأصحابها، لم تميز بين الحلال فتؤيده والحرام فتستنكره، ولم تتحر عن وجه الحق ووجه الباطل، بل الكل لديها مصلحة قومية تؤيدها بكل ما تستطيع من قوة، وليت الأمر كان عند ذلك الحد، فإن التنافس بين الدول كان عاملا قويا في تورط الإمارة التونسية في الكثير من المشروعات الفاسدة، فمثلا إذا نال ماليون من أمة ما امتيازا بمد سكة حديدية، فلا بد أن ينال ماليو أمة أخرى امتيازا يماثله، وقد لا تكون له ضرورة، وهكذا، والمصري لا يسعه إلا أن يذكر في هذا ماليي مصر سعيد وإسماعيل.
والخلاصة أن الأمراء وضعوا أنفسهم وبلادهم في شراك لم يستطيعوا منها خلاصا، وكلما امتد بهم الزمن ضاقت العيون وازدادوا خبالا.
وقد وجد الأمراء في تنافس الدول الأوروبية الكبرى أملا في تجنب ضياع استقلال بلادهم، والواقع أنه كان شرا عليهم؛ إذ كان مدعاة لمحاولة إرضاء الكل - وفي هذا من تبديد الموارد والحقوق ما فيه، كما كان صارفا بكل جهود الحكومة التونسية نحو استقراء طوالع الجو السياسي الأوروبي، علها تهتدي لطريق يقيها الزلل، كما كان مفسدا لبطانة الأمير؛ يميل رجل منها لدولة أوروبية ما، فيصبح رجلها في تونس، وينحاز آخر لدولة أخرى، فيصبح عدوا لمواطنه، وهكذا، وقناصل الدول كل منهم يؤيد مشايعه التونسي، كما يحاول أن يجتذب إلى صفه رجال الحكم التونسيين، أو كل ذي حظوة لدى الأمير، وقد اتخذت هذه المحاولات ألوانا شتى من الترغيب والترهيب؛ مما أفسد الضمائر والذمم.
لهذه الأسباب كلها، لم تصب المحاولات الدولية لحل مسائل الدين ونظيراتها من المسائل نصيبا من النجاح، كما كان الحال في مصر، وكيف تنجح وقد تحولت اللجان الدولية لتسوية الديون ومراقبة المالية التونسية ميدانا جديدا، اشتد فيه النزاع بين ممثلي الدول، بل إن من ممثلي الدول من عمل على فشل الفكرة الدولية؛ ليثبت إثباتا لا يدع محلا لشك أن الإدارة الوطنية قد عجزت عجزا تاما عن إصلاح المختل من أحوالها، وأن علاج تلك الأحوال بخلق هيئات دولية قد أتى بعكس المقصود منه، فأدى إلى تفاقم العلة، والحل الوحيد المجدي إذن هو أن تتولى الأمر كله دولة أوروبية.
अज्ञात पृष्ठ
من تكون تلك الدولة؟ وكيف يمكن أن تتخلى لها الدول الأخرى؟ أذلك مستطاع دون عوض ما في مكان آخر غير تونس؟ وأين ذلك المكان أو تلك الأمكنة؟
معنى هذا أنه كان لا بد لتحول الرقابة الأوروبية في تونس إلى رقابة دولة واحدة من ظروف أوروبية أدت إلى مواجهة مشكلات مستقبل العالم العثماني كله، إلى وضع المسألة الشرقية - كما كانوا يقولون إذ ذاك - على بساط البحث عندئذ، وعندئذ فقط - تتحتم مواجهة الحقائق، وتبرز القوة أداة للتنفيذ، فيخضع لها من ليس مستعدا لمواجهتها بقوة تساويها.
وقد خلقت الثورات في البلقان ضد الحكم العثماني والحرب بين الروسيا والدولة العثمانية (1877-1878م) هذا الموقف الذي وصفنا، وفي هذا الموقف ولدت حماية فرنسا لتونس، كما ولد أيضا الاحتلال البريطاني لمصر، وقد بدأ بتلك الحماية الفرنسية فعل العامل الأخير في تشكيل تونس المعاصرة، ويجدر بنا وقد نشرت الحكومات الأوروبية بعد الحرب العالمية الماضية الكثير من وثائقها السرية السياسية، أن نعرض بشيء من التفصيل كيف نالت فرنسا ما كانت تصبو إليه من السيطرة على تونس، وما ترتب على ذلك من عواقب لتلك البلاد وأهلها. •••
كيف أدى التطور الذي شرحنا معالمه إلى وقوع تونس تحت السلطان الفرنسي وحده؟ لبيان هذه النهاية لا بد لنا من البحث عن أسبابها في العلاقات الأوروبية التالية لهزيمة فرنسا في سنة 1870م، وفي تأثر تلك العلاقات بالأزمة الشرقية المترتبة على هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع الروسيا 1877م.
لقد بدأت حوادث سنة 1870م عهدا جديدا في التاريخ الأوروبي الحديث، فقد أثرت هزيمة فرنسا الكاملة وإتمام خلق الإمبراطورية الألمانية واقتطاع إقليمي الألزاس واللورين من جسم فرنسا الحي في العلاقات الأوروبية حتى يومنا هذا، ويشاء موقف الدول الأوروبية في العالم أن كل ما يجري في أوروبا يتردد صداه في أراض وبين أقوام «لا ناقة لهم فيها ولا جمل».
كان هم ألمانيا الجديدة بعد 1871م وشغلها الشاغل أن تمنع فرنسا من نقض ما تم في تلك السنة، واتجهت خطط عاهلها العظيم - بسمارك - نحو عزل فرنسا عزلة سياسية، فلا تجد حليفا أوروبيا قويا يشد أزرها في حرب ضد ألمانيا، وقد فضل بسمارك أن تقع فرنسا تماما تحت سلطان أحزاب اليسار الجمهورية؛ اعتقادا منه بأن أمل تلك الأحزاب في نيل تأييد سياسي أوروبي أقل من أمل أحزاب اليمين، وأن انتصار الأحزاب الجمهورية الفرنسية يضعف من شأن الكاثوليكية في ألمانيا، وكانت إذ ذاك في حرب شعواء ضد بسمارك.
ولم يكن بسمارك بالسياسي الذي يكتفي بالإجراء السلبي، أو الذي يعتقد بإمكان قمع أمة كالأمة الفرنسية إلى الأبد، بل هناك ما يثبت أنه أدهشته سرعة نهوض فرنسا من كبوتها في السنوات التالية لسنة 1871م، وأنه اعتقد أنه ينبغي أن يضع نصب أعين زعمائها أهدافا يجدون في تحقيقها منصرفا للهمم القومية وغسلا لعار الهزيمة الكبرى، واستعادة لمركزهم القديم بين الأمم، وإبعادا لهم عن فكرة «الانتقام» المتملكة العقول - لذلك كله عرض بسمارك على فرنسا في أكثر من مرة بسط سلطانها على تونس، ولم يكتف بهذا بل أدرك أن إرضاء المطامع الأوروبية في أنحاء البلقان والشرقين الأدنى والأوسط، ما يكفل صيانة ما تم في أوروبا نفسها، ويحول دون قيام محالفات أوروبية لقلب الحالة القائمة، فلم يكره امتداد النفوذ الروسي في الدولة العثمانية على شرط أن تنال الإمبراطورية النمسوية المجرية ما يرضيها في البوسنة والهرسك، وعلى شرط قبول الحكومة الإنجليزية أن توطد أقدامها في مصر وغيرها من المناطق الشرقية التي تهمها بالذات.
ولم تصب السياسة البسماركية في السنوات الواقعة فيما بين 1870-1877م إلا قدرا محدودا من النجاح. فلم تبد بوادر تدل على أن تسوية 1871م قد أصبحت نهائية بالمعنى الصحيح. أو أن فرنسا أو إيطاليا أو الروسيا أو النمسا والمجر أو إنجلترا مستعدة للتسليم تسليما خالصا بالوضع البسماركي للأشياء.
ولكن عندما تشتغل الثورات في بعض ولايات الدولة العثمانية في البلقان، وتأخذ الدولة العثمانية الثائرين وغير الثائرين بما درجت عليه من ضروب الشدة الوحشية، وتغزو الدولة الروسية أراضي السلطان في أوروبا وآسيا، عند ذلك وجدت الدول الأوروبية أن لا بد من مواجهة حقائق الأشياء، وتلمست كل منها في الشهور السابقة لصلح سان استيفانو كما في الشهور التالية حلا يصون مصالحها الخاصة، ويكون في نفس الوقت أساسا لتسوية شرقية عامة - أما فرنسا فأمامها مشكلتها الكبرى، أمامها أن لا طمأنينة حقيقية إلا إذا وجدت لنفسها حليفا قويا، وما لم يتيسر لها ذلك، فلا بد من تجنب الأزمات والابتعاد عن مواطن الزلل، فابتعدت بقدر الاستطاعة عن الأحاديث والمفاوضات المتعلقة بالمسألة الشرقية، وترددت في قبول الدعوة لمؤتمر أوروبي يستعرض صلح سان استيفانو، ويحيل هذا الصلح من اتفاق روسي عثماني إلى تسوية ترضاها أوروبا. ثم اشترطت لقبولها ألا يبحث المؤتمر إلا ما اتصل مباشرة وطبيعيا بالحرب بين الروسيا والدولة العثمانية، وفسرت هذا بألا يعرض على المؤتمر أي شأن من شئون غربي أوروبا، أو من شئون مصر وسورية والبقاع المقدسة [رسالة من وزير خارجية فرنسا لسفرائها في برلين ولندن وروما ... إلخ بتاريخ 7 مارس 1878م - الوثيقة رقم 262 من المجلد الأول من الوثائق السياسية الفرنسية]، ولما ضمن لها هذا قبلت الدعوة لمؤتمر برلين.
وأما الحكومة البريطانية، فيمكن القول بأن حوادث السنوات 1876، و1877، و1878م قد هدمت فيها خطة المحافظة على الدولة العثمانية وأحلت محلها خططا أخرى متناقضة، إحداها خطة الأحرار «وهم في المعارضة» القاضية بأن يكون رائد الحكومة الرائد الإنساني المسيحي؛ أي تحرير الشعوب العثمانية المسيحية المغلوبة على أمرها، وخطة ثانية: هي خطة رئيس الوزارة «اللورد بيكونز فيلد»، وهي تتكون من عناصر شتى: من السياسة التقليدية البريطانية، ومن القيام بمغامرات حربية وسياسية من أشباه ما كان الشاب الطموح بنيامين دزرائيلي يتلهى به في قصصه، ولم يصل دزرائيلي للحكم إلا بعد أن أصبح شيخا حطمته السنون والأمراض، وفي الخطة البيكونز فيلدية ما اجتذب إليه بالذات الملكة والعامة ، وكل من شبوا على كره الروسيا من المحافظين، وخطة ثالثة، وهي خطة وسطى، خطة التسليم بالواقع، بأن إنقاذ الدولة العثمانية كما هي حلم قد زال، بأن تحرير الشعوب المسيحية هدف طيب حقيقة جدير بالاحترام، ولكن الأجدر منه بالاحترام ألا يكون التحرير سببا في إثارة حروب وإسالة دماء، وأن المغامرات الحربية والسياسية قد لا يحترمها السياسي الإنجليزي في قرارة نفسه، ولكنه لا يسعه إغفالها تماما. فالواجب يقضي إذن بخطة عملية تساير الظروف محاولة الوصول إلى حل سلمي يرضي الجميع، ويمكن القول بأن هذه هي خطة سالسبوري - وزير الهند أولا، ثم وزير الخارجية ثانيا في وزارة بيكونز فيلد.
अज्ञात पृष्ठ
وقد عملت الحكومة البريطانية ما تستطيع أثناء سير الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية؛ لإثبات وجهة نظرها ولتشجيع الدولة العثمانية على إطالة مدة المقاومة، مما حمل معارضي الحكومة على اتهامها بأنها ترمي لإعلان الحرب على الروسيا. كما حاولت تأليف ما سمته «حلف البحر الأبيض المتوسط» من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان والنمسا؛ لصيانة مصالح دول الحلف التجارية والسياسية في ذلك البحر، واتخاذ ما يلزم لمنع مسها بأذى، ولم يؤد هذا إلى نتيجة ما، فقد خشيت فرنسا وإيطاليا مغبة التورط في عمل إجماعي كهذا، أما النمسا فمجال سياستها أوسع من ذلك البحر، وتفاهمها مع الروسيا وألمانيا حقيقة واقعة، واليونان وحدهم لا يؤلف منهم أحلاف - والمفاوضات الخاصة بهذا الحلف جديرة بالعناية، فقد جعلت الحكومة البريطانية لا تؤمن بالسياسة الإيطالية بصفة خاصة، وسيكون لهذا أثره فيما بعد في استيلاء فرنسا على تونس.
بعد هذه المحاولة عادت الحكومة البريطانية إلى العمل الانفرادي، فعبر الأسطول البريطاني في 14 فبراير 1878م مضيق الدردنيل، على الرغم من احتجاج الحكومة العثمانية - واستقال وزير الخارجية اللورد دربي كارها ما يمكن أن يؤدي إلى حرب مع الروسيا، وتولى سالسبوري وظيفته، وفي 3 مارس 1878م وقعت الدولة العثمانية صلح سان استيفانو وكانت شروطه معروفة.
وقد أخذت الحكومة البريطانية تعمل من جانبها لصيانة مصالحها في الظروف الجديدة التي كشف عنها انهيار الدولة العثمانية.
لقد كشف ذلك الانهيار عن استحالة إقامة الحكومة العثمانية على ساقيها، فلا بد لها من أن تتكئ على سند [من خطاب من سالسبوري لبيكونز فيلد بتاريخ 21 مارس 1878م، الوثيقة رقم 142 من كتاب أسس السياسة البريطانية]. أما فيما يتعلق بممتلكاتها في أوروبا، فهذه - إن قريبا وإن بعيدا - مقدر عليها الزوال، والمسألة هي أنه ينبغي للسلطان لأجل الاحتفاظ بممتلكاته في آسيا من حليف. هذه الممتلكات شأنها غير شأن ممتلكاته في أوروبا، فليسوا أمما تسعى للاستقلال وما إليه، فمعظمهم مسلمون، والحكم العثماني أصلح ما يمكن لمسلمين الحصول عليه (إذا استثنينا الحكم البريطاني)، فينبغي إذن أن نعاون الدولة العثمانية على الدفاع عن تلك الأراضي في آسيا وحسن إدارة شئونها، ولا نستطيع أن نفعل ذلك إلا إذا استولينا على قواعد أقرب لتركية آسيا من مالطة [من كتاب من سالسبوري لسفير إنجلترا بالقسطنطينية بتاريخ 9 مايو 1878م - الوثيقة رقم 145 من كتاب أسس السياسة البريطانية].
تفسر هذه الآراء الاتفاق الذي عقد بتاريخ 4 يونيو 1878م، الذي تسلمت الحكومة البريطانية بموجبه جزيرة قبرص، كما تفسر أيضا اتفاق الحكومتين البريطانية والنمساوية بتاريخ 6 يونيو 1878م على توحيد غاياتهما في المؤتمر نظير السماح للحكومة النمساوية باحتلال إقليمي البوسنة والهرسك.
بعد هذه التمهيدات وغيرها اجتمع المؤتمر في برلين، وتولى رياسته بسمارك. أعلن في أثنائه الاتفاق الخاص بقبرص، وثارت ثائرة الوفد الفرنسي - وكان لا بد من إرضائه للوصول بسفينة المؤتمر لبر السلامة، وعمل بسمارك من جانبه على إصلاح ما بين الإنجليز والفرنسيين، فكان عرض تونس على فرنسا، وتم هذا العرض واضحا، قال سالسبوري لوادنجتون رئيس الوفد الفرنسي ببرلين ووزير الخارجية: «افعلوا بتونس ما تريدون. إنكم ستضطرون لامتلاكها، لا يمكنكم ترك قرطاجنة للبرابرة.» وكرر ذلك اللورد بيكونز فيلد، وأكده نفس ولي العهد البريطاني في باريس [راجع في ذلك - على سبيل المثال - الوثيقة رقم 330 من المجلد الأول في مجموعة الوثائق الفرنسية: رسالة من وادنجتون لداركور سفير فرنسا في لندن بتاريخ 21 يوليو سنة 1878م].
وقد شرعت وزارة ديفور (وهي الوزارة التي قبلت هذا العرض) تستعد فعلا لتنفيذه بالتمهيد له في تونس نفسها، ولكنها عدلت عنه، ولم يتم تحقيقه - كما نعرف - إلا في أثناء سنة 1881م، وعلى يد وزارة جول فري
Jules Ferry
بانية الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية الجديدة.
أكان ذلك لعدول الحكومة البريطانية عما وعدت به في 1878م؟ حقيقة أن موقف حكومة المحافظين، ثم حكومة الأحرار من وعود سنة 1878م كان له شيء من التأثير في تردد الحكومات الفرنسية المتعاقبة، إن ذلك الموقف لم يبلغ حد الإنكار أو النكوص، ولكنه اتخذ شيئا من تضييق التأويل، فقد قرر اللورد سالسبوري أنه حقيقة يذكر أنه قال الألفاظ التي أسندها له وادنجتون، ولكنه يذكر أنه لم يدر في خلده أنها تؤدي معنى عرض تونس على فرنسا؛ إذ كيف يستطيع منح ما ليس يملكه، وأضاف إلى ذلك أن الوعود الإنجليزية لا تفيد أكثر من إطلاق يد فرنسا في تونس بلا معارضة إنجليزية؛ أي أن إنجلترا نزلت عن كل ما تدعيه لنفسها في تونس، ولكنها لا تذهب إلى حد إرغام الغير (وتقصد بذلك إيطاليا) على النزول عن ادعاءاتها.
अज्ञात पृष्ठ
بعث ذلك الموقف إيطاليا على اتخاذ موقف عداء صريح من فرنسا في تونس، ووجدت فرنسا أن لا بد من القيام بعمل حاسم في تونس، قبل أن تسبقها إيطاليا إليه، وحمسها بسمارك على اتخاذ هذه الخطوة.
ولا يفيد ذلك أن الرأي العام في فرنسا ممثلا في البرلمان أو في الصحافة قد مال إذ ذاك إلى صف المشروعات الاستعمارية، الواقع أن لا. بل إن ذلك الرأي العام لم ير فيها إلا شبه خيانة للقضية القومية الكبرى، تشتيتا للجهود، إلا تسليما نهائيا بتسوية 1871م، وهل يطلب دليل على صحة هذا أقوى من كون التشجيع على الإقدام على تلك المشروعات يأتي من بسمارك نفسه؟
والواقع أنه لا الرأي العام ولا البرلمان قد عدلا عن خطتهما، والصحيح أن جانبا قويا من الزعامة الجمهورية قد انحازت إلى الرأي القائل بأنه ينبغي على الجمهورية ألا تبقى إلى الأبد متسربلة بثياب الحداد، بل عليها أن تنهض ، وأن ترعى مصالحها، وأن تتبوأ مكانها الجدير بها.
كان جول فري من أبناء اللورين، ولا بد أنه أحس بكارثة 1871م إحساسا قويا، ولكنه كان يرى أيضا أن ذلك الجيل من الفرنسيين كان عليه واجبات نحو فرنسا، وأن فرنسا ينبغي ألا تنزل عن مكانها الخليق بها وأن مصلحتها في بلاد الجزائر، وتأمين حدودها، ورعاية مصالحها في تونس تتطلب عملا حاسما في تونس، وإلا سبقتها إيطاليا إليه. أي أنه كان يرى أنه ينبغي أن يأخذ أكثر ما يستطيع دون نزول أو تخل عن حقوق فرنسا التاريخية، وقد تحمل في سبيل فكرته هذه عنتا شديدا من مواطنيه.
والظاهر أيضا أن فري لقي تأييدا في خطته من الزعيم الجمهوري الكبير جامبتا، الذي أخذ في آخر أيامه يبتعد شيئا ما من فكرة حرب انتقامية ضد ألمانيا.
وقد حملت هذه العوامل المختلفة «فري» على أن يخفي جهد الاستطاعة حدود عمله في تونس، وأن يضيق دائرة التزامات فرنسا في تونس.
دخلت الجنود الفرنسية تونس تحت ستار تأمين الحدود، وأرغمت الباي على توقيع معاهدة باردو (مايو 1881م). وتعطي هذه المعاهدة فرنسا حق احتلال الأرض التونسية وإدارة المسائل الحربية، ولكنها لا تشير إلى الحماية الفرنسية، وعلى أثر الاضطراب في سفاقس، وقع الباي اتفاقا ثانيا (يونيو 1883م) نالت به فرنسا حمايتها لتونس، والتدخل في مسائلها الداخلية. وقد تم سنة 1884م تكوين أدوات الإدارة اللازمة، وبدأت تونس عهدا جديدا.
سارت فرنسا في تونس على نهج يخالف منهجها في الجزائر، ولم ينل الحياة الإسلامية في تونس ما نالها في الجزائر من التحطيم المقصود وغير المقصود. فتونس في العهد الفرنسي قطر «محمي» له إطار إداري تونسي، على عكس الجزائر فهي «قطعة» من فرنسا، والجزائر أرض استعمار يستفلحها ألوف من الفلاحين الأوروبيين فرنسيين وغير فرنسيين. أما تونس فهي أرض «استغلال» تعمل فيها «رءوس الأموال» الكبيرة فرنسية وغير فرنسية، وفي تونس ما تثيره السلالة الإيطالية المستقرة بها من مشكلات تمس العلاقات بين إيطاليا وفرنسا، «ولا تعرف الجزائر» مشكلات من ذلك النوع.
إن الفضل في وضع قواعد الحكم الفرنسي في تونس يرجع بصفة خاصة لبول كامبون
، المقيم العام فيما بين 1882 و1886م، ويمكننا أن نحلل في الوضع التالي الثنائية الفرنسية التونسية إلى ما انتهت إليه:
अज्ञात पृष्ठ
يدل هذا على اتجاه الخطة الفرنسية نحو نجعل اشتراك الفرنسيين وأهل البلاد وسيلة لرعاية وتنمية المصالح المشتركة، وبخاصة في الدائرة الاقتصادية، وهو تنظيم يهمل جانب الاعتبارات القومية، كما أنه يعطل نمو الحياة السياسية، والظاهر أن أهل البلاد يحسون إحساسا شديدا بأن ذلك التنظيم لا يرضي أمانيهم، فنظموا حركات شبيهة بالحركات الحديثة في بعض الأقطار الإسلامية الأخرى؛ لتحقيق برامج سياسية قومية، تسودها المعاني والنظريات الغربية، ولا نزال بعد - في مصر كما في تونس وفي غيرهما - نرقب فجر حركات أعمق وأدوم. فجر ابتعاث «حياة إسلامية» تامة، وهذا الفجر لما تلح بعد تباشيره.
شفيق غربال
المراجع
(أ) مجموعات الوثائق (1)
Ministère des Affairs Etrangéres. Documents diplomatiques françaises. Première Serie. Tomes. Premier, second, trois.
وقد نشرت في سنتي 1930 و1931م، وتتعلق بالسنوات من 1871 إلى 1881م الترجمة الفرنسية لمجموعة الوثائق السياسية الألمانية تحت العنوان الآتي: (2) “La Politique exetérieure de l’Allemagne”, tomes 1, 2, 3.
وتتعلق بحوادث السنوات من 1870 إلى 1882م، وقد نشرت في سنتي 1927 و1928م. (1)
Temperley & Penson: Foundations of British foreign
وهي مختارات جيدة توضح قواعد السياسة الخارجية البريطانية. (ب) دراسات الدكتور محمد مصطفى صفوت (1)
Tunis and the Powers.
अज्ञात पृष्ठ
رسالة لم تنشر بعد، مستندة على المصادر الأصلية، في موضوع العلاقات بين تونس والدول العظمى. (2)
Stephen. H. Roberts: History of French Colonial Policy.
في مجلدين، 1929م بحث علمي نزيه في تاريخ الاستعمار الفرنسي من 1870 إلى 1925م، لا يستغني عنه المتتبع لتاريخ الأمم الإسلامية الواقعة تحت السلطان الفرنسي. (3)
James Headlam-Morley: Studies in diplomatic history.
وكان المؤلف في وقت ما مستشارا لوزارة الخارجية البريطانية في المسائل التاريخية.
نشر في سنة 1930م، وهذه مجموعة من تسع دراسات مهمة، واحدة منها تؤرخ العلاقات المصرية الإنجليزية، وأخرى تشرح وضع إنجلترا يدها على جزيرة قبرص في سنة 1878م. (4)
R. W. Seton-Watson: “Disraeli, Gladstone and the Eastern Question”. London 1935.
باريس 1917م. (5)
J. L. de Lanessan: La Tunisie.
جغرافية تونس
अज्ञात पृष्ठ
مساحة تونس بحدودها الحالية بين خطي طول 8 °
و11 °
شرقا وخطي عرض 32 ° ، 37 °
شمالا: 180 و125 كيلومترا مربعا، وتتاخمها من الغرب الجزائر، ومن الجنوب الصحراء، ومن أقصى الجنوب الشرقي ليبيا الإيطالية؛ أي طرابلس، وتضرب مياه البحر الأبيض المتوسط سواحلها في الشمال والشرق، وأغلب هذه الشواطئ، أراض منخفضة، ومناخها على الجملة دفيء معتدل، ولكن سقوط الأمطار يختلف كثرة وقلة من ناحية إلى أخرى، بل من سنة إلى سنة، وللقرب من البحر أو من الصحراء شأن فيه؛ ولذلك يختلف كثيرا باختلاف خطوط العرض واختلافا أكثر بارتفاع الأرض، وتضاريسها جد متباينة، ومتوسط ارتفاعها فوق سطح البحر ليس كبيرا، وتمتد جبالها من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، وهي بقية جبال الجزائر، وفي الشمال الغربي لتونس جبال من الطباشير والحجر الرملي، وقلما يزيد ارتفاعها تجاه الجزائر على ثلاثة آلاف قدم، ويهطل على هذه الجبال مطر غزير، ويغطيها البلوط والحسك، وفيها مناجم الزنك والحديد، وهي تساير الساحل؛ حيث نصادف ثغر طبرقة الصغير، ثم كثبان نفزة ورأس العبد، وشبه جزيرة رأس سرات الصغيرة، ويقل ارتفاع هذه الجبال في الشرق شيئا فشيئا إلى أن تبلغ التلال التي تكتنف سهل بنزرت وماطر، وكلاهما وافر الماء يثمر ثمرا طيبا من الحنطة، وبحيرة بنزرت ويصلها بالبحر مجاز ضيق، فرضة حسنة ماؤها بعيد الغور تجاه صقلية، وهي على مقربة منها. ويشرف على سهل ماطر جبل عجيب يعرف بجبل أشكل، وقد أوشك هذا السهل أن يغطى بالغرين، ولم يعد به من البطائح إلا القليل، وأبعد من هذا ناحية الشرق رأس سيدي علي المكي فوق غار الملح، وهو يتاخم خليج تونس من الشمال، ويملأ هذا الخليج الرسوب الذي يحطه نهرا مجردة ومليان. ذلك أن أوتيكا، وكانت من ثغور الرومان، تبعد الآن عن البحر ستة أميال. أما شبه جزيرة قرطاجنة، وكانت من قبل جزيرة، فيصلها بأرض تونس برزخ يفصل سبخة الرينة من بحيرة تونس، ويصل حلق الوادي البحر بهذه البحيرة - وفي طرفها مدينة تونس، ولا يغزر المطر في ناحية تونس؛ ولذلك تجود فيها الكروم والفواكه ولا تجود الحبوب.
ويخترق نهر مجردة شمالي تونس من الغرب إلى الشرق، وهو النهر الوحيد في تونس الحقيق بهذا الاسم، ويقل ماؤه كثيرا في الصيف، ويفيض ويكدر من نوفمبر إلى أبريل، وتفصل «حلوق تستور» مجراه الأسفل «مجاز الباب وطبربة» من مجراه الأوسط؛ حيث يروي غور دخلة (ناحيتي سوق الأربعاء وسوق الخميس) وهو غني بالحبوب والمراعي شأنه في ذلك شأن تلال بجاية الطباشيرية المجاورة له، وتكتنف وادي نهر مجردة من الشمال تلال تبرسق، وهي من الحجر الجيري، وإلى جنوب الوادي معارج تونس الوسطى، والغربية، وهي تلال مدورة من الحجر الجيري، ثم سهول عظيمة وهكذا، وهذه المعارج امتداد جبال الأطلس في الجزائر، ويغطي هذا التل المرتفع غابات من صنوبر حلب وشجيرات نامية ومراع عظيمة؛ ولذلك تطيب فيه الحنطة. أما ناحيته الجنوبية الغربية فأكثر جفافا من نواحيه الأخرى، ولا يطيب فيها إلا الشعير، وهذه الناحية بالذات وبخاصة تجاه حدود الجزائر أغنى نواحي تونس بالمناجم. وتصب أنهار تونس في خليج تونس، وهي فروع مجردة ونهر مليان.
وتقوم إلى الجنوب من التل المرتفع أبرز الحدود الجبلية، وتمتد هذه الجبال التي هي بمثابة العمود الفقري لتونس من جوار تبسة إلى جبل زغوان وجبل الرصاص وبوقرنين. على أن هذه الجبال لا تعوق الاتصال بالجنوب، فهو ميسر بفضل ممرات أو دروب أشهرها مجاز قصور سبيبة الكبيرة ومسايل المنحدرات الجنوبية، مثل وادي مرجولل وزرود والحطب تفيض في غير مواسم وبغير انتظام في الأخبات السبخة في إقليم الفيافي الكبير الذي يمتد من قفصة، ولا تقطعه إلا تلال قليلة جيرية متوسطة الارتفاع. ويغطي هذه الفيافي في الغرب الحلفاء أو الشيبة، وتغطيها من ناحية الشرق أشجار السلم، ثم تنحدر شيئا فشيئا حتى أحراج الزيتون على ساحل سفاقس، ومع ذلك ففي هذه الفيافي مزارع شاسعة وبقاع صالحة للرعي، وليس بها من البلاد، إذا استثنينا القيروان، إلا ما يقوم عند رءوس الممرات من جبال تونس. على أن هذه الفيافي تتغير طبيعتها صوب الجنوب، فتصبح كالصحراء لندرة المطر، وتنتهي وراء قفصة أرض غنية برواسب الفوسفات عند غور الشطوط وواحتي الجريد ونفزاوة، وهنا تبدأ الصحراء الكبرى.
وشبه جزيرة رأس أدار المشهورة على الساحل الشمالي الشرقي؛ حيث أفلحت مزارع مثمرة، وعلى امتداد جبال تونس، وهي بين خليجي تونس والحمامات، وتتصل سهولها التي على الساحل بممري زغوان وقرنبالية، وإلى الجنوب من أحراج البرتقال في نابل والحمامات وسهل سوسة، وفيه وديان ما زال ماؤها وافرا يكفي بزيتونه وغلاته الأخرى السكان الذين تكتظ بهم القرى الكبيرة الحصينة، والساحل مستقيم لا تبرز منه إلا شبه جزيرتين صغيرتين هما المنستير والمهدية.
ويبدأ الساحل عند رأس كبوديا في مستوى الجور تقريبا، ثم ينعطف إلى الداخل فيخلف في جون سفاقس جزر قرقنة ويفصلها عن الشاطئ بطائح، ثم يساير خليج قابس وفيه إسفنج كثير، وأحراج النخيل في قابس عند نهاية الخليج، وبين هذه الأحراج وبين واحة الحمة المتاخمة للشطوط ممر يصل سهول تونس الوسطى أو الشرقية بسهول الساحل الجنوبي الأقصى، وهذه السهول هي: سهول أرث، وبالقرب منها جزيرة جربة الكبيرة المستوية الخضراء، وسهول جفرة التي تتاخمها البحيرات، ومع ذلك فثم أحراج زيتون زاهرة حول جرجيس وبن جردان.
تاريخها
قدم غزاة العرب برا من الجنوب الغربي، ففتحوا ما يعرف الآن بالساحل التونسي، وقد اقتضاهم هذا الفتح قتالا شاقا مع سكانه من البربر وعمال الروم دام حوالي نصف قرن، وكتب على المسلمين في شمالي إفريقية أن يصطدموا بالروم كما اصطدموا بهم في المشرق، على أن الأحوال في ولاية إفريقية كانت في منتصف القرن السابع الميلادي جد مواتية للفاتحين الذين غلبوا عليهم، وقد مزق الخلاف الديني أوصال الجماعة المسيحية في قرطاجنة، وفصل عن بوزنطة المتمسكين بأهداب السنة المسيحية، وكان سلطان الإمبراطور يخف شيئا فشيئا على الولاة، فأخذوا ينزعون إلى الاستقلال، واضطرهم ذلك إلى طلب العون من شيوخ القبائل، فأفادت القبائل من هذا الموقف، وألقت عن كاهلها على الأيام كل أثر لسلطان الروم، حتى إذا جاء الفتح الإسلامي كان جنوب ولاية إفريقية مستقلا عن قرطاجنة أو يكاد، وغزا العرب هذه البلاد غزوتين بينهما ثمانية عشر عاما، على أنهما لم تكونا فتوحا بالمعنى المفهوم، وإنما كانتا غارات مهدت الطريق لحملات أخرى أحسن نظاما وأكمل عدة تم بها فتح البلاد، ومن المصادفات العجيبة أن المغيرين ألفوا إفريقية البوزنطية في الغزوتين على أبواب محنة سياسية، ففي عام 647م كان البطريق جريجوريوس قد انفصل وشيكا عن الإمبراطور، واستقر به المقام بين البربر، لما دهمه والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند سبيطلة وقضى عليه، ثم شرع في اكتساح بلاد الجريد، وفي عام 665م كان أهل قرطاجنة قد جاهروا الإمبراطورية بالعداء مخلفين في ذلك ظن الناس جميعا عندما ضرب معاوية بن حديج إفريقية وغزا جلولا.
अज्ञात पृष्ठ
وإنا لنتساءل: هل كان حكم المغرب منوطا بوالي مصر عندما حل عام 667م؟ الواقع أن الفتح الحقيقي لم يتم إلا بين عامي 669 و770م، وقد تميز بانتصار عقبة بن نافع وبناء مدينة القيروان، وكان هذا تاريخ استيلاء العرب على إفريقية والتمكين لهم فيها، وفاتحة دخول قبائل البربر في الإسلام. على أن أهم هذه الحوادث جميعا هو تشييد هذه المدينة الجديدة، وهي حاضرة من حواضر المسلمين ودار للصناعة ومحط للقوافل وسوق للتجارة، وقد رفع أهل هذه المدينة منذ ذلك الوقت قواعد مسجدها، ومدوا أرباضها في السهول المواجهة لنجاد تونس الوسطى التي ظل يحميها خط من حصون الروم.
وعاد عقبة عام 681م بعد أن انقضت ولاية أبي المهاجر، ولا نعرف من أخبار هذا الوالي إلا القليل، وحدث بعد عامين أن كان عقبة راجعا من غزوة له، فسقط في الزاب أمام تهودة صريع فتنة شديدة، قام بها الأهلون في وجهه، وقد ناصر الروم كسيلة رأس هذه الفتنة، وظل هذا الرجل أعواما طويلة أميرا على دولة بربرية مترامية الأطراف، ناهضت غارات العرب الجديدة وقاتلتهم أشد قتال، وسقط كسيلة نفسه في حومة الوغى بناحية سبيبة عام 678م، ويقال إن زهير بن قيس البلوي كان قد وفد عليها في ذلك الحين.
ولم تسمح الأحوال في داخل الدولة الأموية باستئناف الفتح إلا عام 693م، وفيه خرج حسان بن النعمان في جيش عدته أربعون ألف مقاتل لغزو إفريقية، ثم تقدم مسرعا صوب الشمال؛ للقضاء على الروم قبل أن يرجع لقتال بربر «أوراس» الأشداء، واستولى على قرطاجنة عام 695م، ولكنه فقدها وهزمه البطريق يوحنا، ثم هزمه البربر في سهول باغاية بقيادة الكاهنة، وهي شخصية أسطورية، فرجع إلى برقة، ثم هاجم قرطاجنة في العام التالي بحرا وبرا، فاستولى عليها وثبت أقدامه فيها، وفي عام 698م انتزع العرب من البربر والروم جميع ما يعرف الآن بتونس تقريبا، واستطاع حسان أن يشيد تونس، واستولى خلفه موسى بن نصير على زغوان، ثم قاد بربر إفريقية لغزو المغرب ...
وتمكن معظم الروم في إفريقية من الهرب بحرا إلى صقلية ومالطة خاصة، والظاهر أن غالب السكان الذين بقوا في البلاد بادروا إلى الدخول في الإسلام، اللهم إلا جماعات قليلة من النصارى «الأفاريق» أو اليهود. على أن بربر إفريقية قد نزعوا إلى الاستقلال حتى بعد إسلامهم، شأنهم في ذلك شأن بقية أقطار شمالي إفريقية، وحاولوا في عدة مناسبات أن يستعيدوه، وتذرعوا في ذلك بأيسر الأسباب وهو الزندقة، فكان القرن الثامن كله فتنا، وقد استعين بمذهب الخوارج الاشتراكي؛ لإثارة أهل البلاد على العرب الحاكمين، كما كان هذا القرن حافلا بفتن الجند العرب الذين كانوا يسارعون إلى الشغب والخروج على النظام.
وتمكن حنظلة بن صفوان من إخماد فتنة عكاشة الصفري، ولكنه أجبر على الفرار إلى الشرق عندما استولى الثائر عبد الرحمن بن حبيب الفهري على القيروان، وعجز آخر الأمويين عن استعادة هذه الولاية النائية التي كانت بسبيل الخروج من أيديهم. ورأى العباسيون أن الأندلس بمنجاة من سلطانهم، فقصروا همهم على استعادة إفريقية من أبي الخطاب الإباضي، واسترجع قائدهم محمد بن الأشعث القيروان وعمر أرباضها، وأقام فيها يلي أمورها، ولكن حكمه لم يدم طويلا، فقد نقم جند العرب عليه، وأجبروه على الرحيل، وعجز الأغلب بن سالم التميمي عن الثبات للمنتقضين من المضرية، وقتل في فتنة عام 767 فسادت الفوضى خمسة أعوام سويا.
وتوارث حكم إفريقية من عام 772 إلى عام 794م بنو المهلب، وهم دويلة من عمال الخلافة يمانية الأصل، نجحت بعض النجاح في إقامة النظام، ونشر الأمن في ربوع البلاد، وتخلص يزيد بن حاتم يعاونه أربعون ألف جندي من أبي حاتم الإباضي، وعمر مسجد القيروان الجامع عام 774م، ونظم أهم طوائف المدينة، وقضى ابنه داود على حلف وفرجومة البربري، وتمكن أخوه وخلفه روح من الاتفاق مع ابن رستم الإباضي صاحب تيهرت ، وقد قضى هذا الاتفاق على نزعة التمرد بين بربر إفريقية، ولم يعد يهدد أمن البلاد إلا جند العرب وحدهم، فقد حل بها، بعد وفاة الفضل آخر بني المهلب، عهد ساده الفتن وسفك الدماء، فأنفذ الخليفة العباسي إليها القائد هرثمة بن أعين، فردها إلى طاعته، وبنى رباط المنستير، وخلف هرثمة محمد بن مقاتل العكي، فأثار جند تونس التميمية بسوء تدبيره وضعف حيلته فعزلوه في أكتوبر عام 799م، وفي هذا الوقت ظهر إبراهيم بن الأغلب فجأة وناصر العباسيين في ولاية الزاب، وكان ابن عاملها، وقد قتل عام 867م، ورد ابن مقاتل إلى القيروان، واستمع هارون الرشيد لناصحيه فجعل إبراهيم «أمير» إفريقية مكافأة له وتوطيدا لأركان الحكم في البلاد، وظل السلطان في بيته أكثر من قرن بلا انقطاع.
وقد أحدثت دولة الأغالبة أثرا بالغا في تونس، وكان الأمراء يتبعون الخلافة في الظاهر، ولكنهم كانوا في الواقع مستقلين عنها يتوارثون الحكم فيما بينهم، فجنحوا إلى السلم والنظام والتوسع. بيد أن التميمية في تونس لم تهدأ ثائرتهم، وكان إبراهيم نفسه تميميا، ولكنه اختلف مع هؤلاء الجند من مضر، وقد برموا بأولي الأمر سواء أقربت ديارهم أم بعدت عن العباسيين، الذين قربوا اليمانية أعداءهم القدماء. فاضطر إبراهيم إلى الاعتماد على جند بينهم كثير من الأعاجم الوافدين من خراسان، وكان حرسه حديث النشأة من الزنج يعتصم بحصون القصر القديم أو العباسية التي أقامها على بعد فرسخ من القيروان، وفي عهده أخذت تنتشر الحصون المعروفة بالمحارس على حدود الساحل الشرقي، ولما توفي عام 812م، عادت الفتنة إلى طرابلس.
واشتهر ابنه زيادة الله بنشاطه وقسوة قلبه، وسرعة بادرته، فوجد له منافسا قويا هو منصور الطنبذي الذي أوشك أن يقضي عليه، وخرجت البلاد الشمالية كلها بما فيها تونس عن طاعته أعواما، بيد أن نفحة من نفحات عبقريته هدته إلى ما في الجند المشاغبين من طمع وحمية فاستنفرهم إلى جهاد صقلية فأقلعوا من سوسة يهزهم الحماس، تحت إمرة القاضي المشهور أسد بن الفرات، واستولوا على بلرم عام 831م، ثم على مسينا بعد اثنتي عشرة سنة، وقد شيد زيادة الله رباط سوسة عام 821م، واستطاع أن ينصرف إلى أعمال السلم، ومنها بناء المسجد الجامع في القيروان، وتأثره خلفه فتوسع في إقامة البنى، وشيد عام 850م مسجد سوسة الجامع ومسجد سفاقس، ونحن نخص بالذكر الأمير أحمد الذي أقام الأسوار حول هاتين المدينتين، وبنى «صهريج الأغالبة»، وهو الصهريج الكبير الذي يزود القيروان بالماء.
وفي عام 874م خلف إبراهيم الثاني، آخر الأمراء العظام في هذه الدولة، أخاه محمدا، وقد كني بأبي الغرانق؛ لكلفه باصطيادها، ثم هجر القصر القديم إلى قصبة جديدة جعلت فيها دواوين الحكومة، وهي رقادة التي لا يزال موضعها معروفا على مسيرة خمسة أميال جنوبي القيروان. فلما مات ثارت تونس، وفتحت عنوة وتردد الأمير عليها، ونقل عاصمته إليها لكي يرقب أحوالها بعين ساهرة، وتميزت سياسة الأمير في الخارج بحوادث جسام، فواجهت البلاد أول الأمر من ناحية الجنوب الشرقي غارات العباس بن أحمد، ابن أول أمراء البيت الطولوني؛ ذلك أنه لم يطع أباه وخرج على رأس حملة من مصر وسار إلى طرابلس عام 880م يريد فتح إفريقية، ولكن بربر نفوسة وقفوا بينه وبين طرابلس، وجاء إبراهيم في الوقت الملائم، واستولى على أموال الطولونيين فساعد ذلك على تحسين الحالة المالية للبلاد، بيد أن ذلك لم يدم طويلا؛ لأن الأموال لم تملأ الخزائن التي استنزفتها الفتن والثروات، ثم البذخ والإسراف، وألحت الحاجة على الحكام، فاشتطوا في طلب العبيد والخيول من سهل جمودة، فاندلعت فتنة جائحة! إلا أن فتح صقلية تم بالاستيلاء على سراقوسة عام 878م وتاور مينا عام 901م، وشكا أهل تونس من إبراهيم فصدع لأمر الخليفة، وتنازل لوالده عبد الله، ومات مجاهدا عند كوسنزة من أعمال كلابريا في أكتوبر من العام نفسه.
وكانت الفتنة الدينية التي اجتاحت إفريقية بعد ذلك في مهدها بالمغرب، وكان بربر الجنوب جميعا من الإباضية، وتمتد منازلهم من أوراس إلى جربة وطرابلس، أما بربر نفوسة فكانوا يقطعون الطريق الذاهب إلى الشرق جنوبي قابس، وذلك قبل أن يعمل إبراهيم الثاني السيف في رقابهم، بيد أن مذهب الخوارج لم يحل دون غلبة المذهب السني في الجزء الأكبر من البلاد، وظهور جماعة من مشاهير الرجال، وقد بلغت المناظرات في مسائل الفقه ذروتها أيام الأغالبة، وفي ذلك العهد قامت المذاهب المختلفة، وجمعت أمهات كتب السنة، وقد ظهر في هذه الأثناء اثنان من تلاميذ ابن القاسم فقيه المالكية المشهور في مصر، هما: أسد بن الفرات الذي ولد لأسرة خراسانية، وتوفي في صقلية 828م، وتلميذه سحنون الذي ولد في بلاد الشام لأب من مرتزقة الجند، وولي عام 850م قضاء القيروان، فنصر المذهب المالكي، ولا تزال مدونة ابن الفرات عمدة يرجع إليها، وظلت المالكية المذهب الغالب في تونس، وإن ظهر عليها أحيانا بعض المذاهب الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن أشهر العلماء والمذاهب كان شرقي المنبت، كما وفد الداعي أبو عبد الله عام 894م من المشرق على قبائل كتامة في إكجن؛ ليدخلهم في شيعة عبيد الله المهدي.
अज्ञात पृष्ठ
وأنفذ الأغالبة عام 902م حملة على كتامة، فبلغت غرضها بعد جهد، وازداد خطر الشيعة أيام زيادة الله الذي قتل أباه عبد الله المعتزلي، وفي عام 905 أسرع المهدي بالقدوم من الشام إلى شمالي إفريقية وانتظر في سجلماسة اللحظة المواتية للمجاهرة بدعوته، وكان داعيته المخلص يفتك بجيش الأمير وأخذت الحوادث تجري سراعا، وحاول زيادة الله عبثا أن يحاكم الشيعة أمام مجمع من الفقهاء في تونس، وطلب المعونة من العباسيين، وسقطت باغاية في ربيع عام 907م، وفي شهر مارس عام 909م فر زيادة الله إلى بغداد بعد سقوط الأربس، ودخل الداعي رقادة على الرغم من العداوة التي أسرها علماء السنة، وفي شهر ديسمبر من السنة نفسها تلقى المهدي بنفسه فروض الولاء من الأهلين في القيروان، وهكذا تأسست في إفريقية بفضل الجند المشاة من بدو كتامة الخلافة الفاطمية العبيدية الشيعية، فأحدثت انقلابا في الأحوال السياسية في شمالي إفريقية بأسره، قبل رجوعها إلى موطنها القديم في المشرق.
وكانت الدولة الجديدة تمد بصرها من أول الأمر إلى مصر، ولم تنقطع عن إنفاذ الحملات تمهيدا لفتحها، حتى وطدت أقدامها فيها، وقد قتل عبيد الله في يناير من 911م أبا عبد الله، وهو الذي ثبت له الملك، مثله في ذلك مثل المنصور الخليفة العباسي الذي قضى على داعيته أبي مسلم. وقد سار ابنه على رأس جيش عام 913م وفتح الفيوم، واستولى ابن آخر على مدينة الإسكندرية، فلما توقف الفتح ناحية الشرق فكر المهدي في تأسيس عاصمة له في إفريقية على البحر، فابتنى المهدية لتخرج منها الأساطيل لمهاجمة المشرق، وللتحصن فيها من هجمات البربر من داخل البلاد، وقد أنفذت عام 919م حملة أخرى استولت على الإسكندرية، واحتفظت بها أمدا وجيزا، وكان انتصار هذه الخلافة في الغرب مبينا، فقد قضت على ثورة صقلية وأدخلتها في طاعتها، ولما توفي عبد الله في مطلع عام 934م كان المغرب بأسره قد دان للفاطميين وقضى على دولة الإباضية في تيهرت والإدريسية في فاس وصفرية سجلماسة، واعترفوا جميعا بسلطان الفاطميين.
واستطاع أبو القاسم نزار القائم بأمر الله أن يوطد سلطانه على الدولة المترامية الأطراف التي ورثها. والواقع أن أسطوله تمكن من نهب جنوة عام 935م، بيد أنه لم يكن لهذه الغارة شأن، ولم يكن منه إلا أن استسلم للثورة الشديدة التي قاد لواءها النكاري أبو يزيد بن كيداد الإفراني صاحب الحمار، الذي جهر بأنه «شيخ المؤمنين»، وقاد باسم الدين هوارة شرقي أوراس لمهاجمة مدن إفريقية، ونهب البربر الخوارج عام 944م باجة والأربس والقيروان وسوسة، واستولوا على تونس وحاصروا الخليفة بالمهدية بعد أن زاد عددهم بمن انضم إليهم من بربر نفوسة والزاب، ومات أبو القاسم في أحرج الأوقات عام 946م، واستطاع ابنه إسماعيل المنصور أن يعيد الأمور إلى نصابها يؤيده أهل البلاد الذين أثارتهم مظالم الغزاة، وتنصره كتامة التي ظلت موالية له، وهزم أبو يزيد في وقائع دموية متعاقبة ورأى بعينيه تفرق رجاله، ثم سقط في يد أعدائه مثخنا بالجراح، في الموضع الذي شيد فيه ابن حماد قلعته عام 947م.
فلما انتهى هذا العصر المضطرب، أعقبه عصر آخر يسوده الأمن والرخاء، وبادر المنصور إلى إظهار سلطانه بتشييد مدينة صبرة الزاهرة، التي عرفت بالمنصورية، وسرعان ما أخملت جارتها القيروان، وازدهرت التجارة والصناعة، وكان القائد رشيق يجوب البحر ملقيا الرعب في قلوب النصارى. وجاءت اللحظة المنتظرة من زمن طويل عندما اعتلى المعز عرش الخلافة عام 953م. فقد دان له المغرب بأسره، على الرغم من شبوب الفتن بين الحين والحين لمناصرة الأمويين أصحاب قرطبة، وكانت غارات الأندلسيين على سواحل سوسة وطبرقة ثارات قديمة ليست بذات خطر، وقوي الأمل في فتح مصر، وكان قد ضعف بموت كافور الإخشيدي، فاحتل جوهر الصقلي مدينة الفسطاط في يوليو عام 969م باسم الخليفة المعز، مثله في ذلك مثل أبي عبد الله الذي احتل القيروان لمولاه المهدي، كما احتل أبو عبد الله مدينة دمشق في العام الذي يليه، وأسس مدينة القاهرة لمولاه، ثم دعاه إلى اللحاق به؛ ليقف في وجه القرامطة. فلما فرغ الخليفة الفاطمي من القضاء على آخر ثورات زناتة، وكان يتشبه بالمشارقة في رسوم الملك والخلافة، تجهز للرحيل في أغسطس 972م، فبلغ القاهرة في العاشر من يونيو 973م، وأصبحت هذه المدينة بذلك قصبة دولته.
وعهد المعز قبل رحيله بحكم إفريقية (ما عدا صقلية) إلى الأمير البربري بلكين، وكان أبوه زيري بن مناد عدوا لدودا لقبيلة زناتة الثائرة، وقد أعان العبيديين دائما برجاله من صنهاجة، وقد نجحت هذه الخطة التي رمت إلى حكم البلاد بأمراء من البربر نجاحا كاملا، وكان بنو زيري يتسلمون كتاب الولاية من القاهرة، وفي أيامهم عم الرخاء في إفريقية، وكثر الخير والزاد بفضل ارتقاء الزراعة والصناعة والتجارة مع العالم الخارجي، وكانت المحافل الرسمية غاية في الأبهة والبذخ، ونهضت دراسة الفقه والطب، وكان قد برز فيها أيام الفاطميين رجال مشاهير، كما برز في الأدب الشاعر ابن رشيق، واجتذب يهود القيروان نفرا من مشاهير التلموديين، كما نبغ منهم كثيرون.
ولم تتأثر هذه الحضارة الزاهرة بفتن زناتة المغرب الذين استفحل أمرهم مع الأيام وجهروا بولائهم لقرطبة، كما أنها لم تتأثر بانفصال حماد الذي أسس في عهد أخيه باديس بن المنصور عام 1008م دولة مستقلة في قلعته المشهورة. بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد بلغت الدولة أوجها - فيما يظهر - أيام المعز بن باديس في النصف الأول من القرن الحادي عشر، بيد أن هذا المعز كان كثير الخيلاء، وقد وقره خلفاء القاهرة وبجله أهل المغرب بأسره، ولكنه اقترف خطأ عظيما ببعث الفتن الدينية القديمة التي كان يتذرع بها سكان شمالي إفريقية للانتقاض على حكامهم المشارقة، واجتمع حوله مالكية القيروان، وتوجه بولائه إلى العباسيين في بغداد، وانتهى به الأمر إلى الجهر بعصيان الفاطميين على مراحل استغرقت العهد إلى عام 1050م.
وكان انتقام الخليفة الذي انتقض عليه انتقاما شنيعا، واستشعر وزير مصر الفاطمي أن الإهانة موجهة إليه، فأنفذ إلى الوالي الثائر جماعات من أعراب الهلالية النهابة، وكانوا يسكنون الصعيد شرقي نهر النيل، وبلغ بنو رياح أول العرب الهلالية شمال إفريقية عام 1051م، فأحدثوا انقلابا في تاريخ سلطنة تونس، وأسرع المعز إلى تحصين القيروان، فلم يجده ذلك نفعا وهزم عندها مرتين، وفي عام 1057م دهمه البدو ونهبوا أغوار البلاد جميعا، فانتقل سرا إلى المهدية في حراسة أمراء من العرب اضطر إلى الإصهار إليهم وتزويجهم من بناته، وقد أحدث هؤلاء الغزاة وعدتهم مئات الألوف انقلابا كبيرا في شمالي إفريقية؛ من حيث الاقتصاد والسياسة والسلالات. فقد رد البربر واستعربت البلاد وغلبت عليها البداوة، واضطرب الأمن، فهلك الزرع وتقوض سلطان الحكومة المركزية، وسقطت بعض المدن الكبيرة في يد العرب، واستقلت غيرها بأمر نفسها، يحكمها أمراء من أهل البلاد، أو عمال جهروا باستقلالهم، وكان منهم من قدم فروض الولاء إلى بني حماد أصحاب القلعة ليحتموا بهم، وهكذا تأسست دويلة بني خراسان في تونس، وبني الورد في بنزرت، وبني جامع في قابس، وبني الرند في قفصة. أما في الوسط فقد عمت الفوضى والاضطراب.
واستطاع بنو زيري - على الرغم من كل هذه المصاعب - أن يحتفظوا بالمهدية، ولم يكن في أيديهم إلا الساحل الممتد بين سوسة وقابس، وخلف تميم أباه المعز، فحاول عبثا أن يستعيض بعض ما فقده أبوه، فاصطلح مع ابن حماد، ولم يوفق في هجومه على تونس، وأصبح محصورا في المهدية، لا مناص له من رد هجمات العرب وصد النصارى الذين تجدد عداؤهم له، وقد سقطت المهدية عام 1087م بتحريض البابا في يد الييزيين والجنويين، فاضطر تميم إلى تعويض المنتصرين وإعفاء تجارتهم من المكوس. واعترف يحيى بن تميم وبعده ابنه علي بسلطان الخلفاء في القاهرة، وأيدتهما قبائل العرب، فأحرزا بعض الانتصار في البر والبحر، حتى دهمهما عدو لم يكن في الحسبان؛ ذلك أن النورمان كانوا قد غزوا صقلية ومالطة، وشرعوا يتدخلون في شئون إفريقية، وفي عام 1118م دبت الفرقة بينهم وبين هذا الأمير الزيري، فاستعان بالمرابطين من أقصى المغرب، واضطر الحسن بن علي أول الأمر إلى الاتفاق مع روجر صاحب صقلية، وقبول حمايته ليقف في وجه بني حماد أصحاب بجاية، بيد أن هذا لم يمنع أمير البحر جورج الصقلي الأنطاكي من إجلائه عن المهدية عام 1148م، وبسط روجر الثاني ثم وليم الأول لونا من الحماية السمحة على جربة والمدن الساحلية من سوسة إلى طرابلس، وكان غرضهم في ذلك تجاريا، ولكن هذا لم يدم طويلا، فقد ثار النصارى وسرعان ما استعادوا حريتهم، وبقيت سوسة والمهدية وحدهما في يد الكفار إلى عام 1160م عندما استولى عليهما عبد المؤمن الموحدي الذي جاء من المغرب الأقصى، وهزم عرب إفريقية عام 1151م، وكانوا قد اتحدوا في وجهه بزعامة الأمير المعز بن زياد الرياحي، ثم قضى على كل مقاومة اعترضت سبيله، واستولى على الحصون وأعمل السيف في اليهود والنصارى، فأعاد بذلك الوحدة السياسية إلى شمالي إفريقية خمسين عاما أو تزيد.
ولم تذق إفريقية طعم السلام على الرغم من نفوذ خلفاء مراكش أصحاب السلطان الجديد فيها، ولم يستشعر الناس سلطان الموحدين؛ لأنهم أقاموا من قبلهم عاملا في مدينة تونس يختار من أقارب الخليفة الأدنين، وسرعان ما ظهر عجزه عن إعادة النظام إلى الولاية التي كان العرب دائما يتهددونها، إلى جانب ما أحدثته جماعات التركمان من اضطراب بزعامة قراقوش الأرمني. وشخص يوسف ويعقوب المنصور على رأس الجند في عامي 1180 و1187م بيد أن ذلك لم يكن كافيا، فقد كان يحيى المرابط حليف قراقوش سعيد الجد، فقد انفصل عن حليفه وغلب خصمه ابن عبد الكريم الرغراغي على أمره، واستطاع أن يبسط سلطانه من قاعدته في الجريد على ولاية تونس بأسرها، واحتاج الأمر أن ينفذ الخليفة الناصر حملة يقضي بها على المرابطين؛ وذلك بزعزعة سلطان يحيى، وإقامة حكومة قوية على الولاية عهد بها أول الأمر إلى الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص، فبلغ الحفصيون بذلك أول مرتبة من مراتب السلطان.
وولي أمير آخر من بني حفص على تونس منذ عام 1184م، وقد انحدر هذا البيت الحفصي من أمير بربر هنتاتة، من قبائل مصمودة التي كانت تعيش في مراكش، وكان له شأن عظيم بين أتباع المهدي بن تومرت، وقد مكنوا لأنفسهم في إفريقية عام 1226م باستعمال أبي محمد عبد الله الذي خلعه بعد ذلك بعامين أخوه أبو زكرياء، واستقل أبو زكرياء بالأمر شيئا فشيئا، ولكنه قنع مع ذلك بالإمارة، وكان المؤسس الحقيقي للدولة التونسية العظيمة التي حكمت ثلاثة قرون ونصف قرن على الرغم من الأحداث التي تقلبت عليها، وقد استمسك الحفصية دائما بسنة الموحدين، وكان نظام الدولتين في الحكم متشابها، إذا استثنينا بعض الفروق الصغيرة، بيد أنه لما نادت مكة بثاني أمرائهم المستقلين، «ابن أبي زكرياء»، ظلت تحيط به بطانة قوية من الموحدين كانوا دعامة الدولة والجيش، وكانت دواوين الحكومة تندرج في ثلاثة أقسام كبيرة: الجيش وبيت المال والقضاء، وكان عمال الولايات يختارون عادة من أقارب الخليفة الأدنين. بيد أن من الخطأ أن ننكر ما كان لكثير من الأندلسيين من شأن في إدارة البلاد وحياتها العقلية، بعد أن أجلاهم النصارى عن الأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي.
अज्ञात पृष्ठ
ولما رغب بنو حفص في نشر ألوية السلام على إفريقية، كانت تواجههم دائما خلافات الأعراب فيما بينهم، وما أثاروه من فتن وقلاقل، فأضعف ذلك من سلطان الحكومة المركزية إبان القرن الرابع عشر الميلادي.
وكان لهذه الدولة عهود زاهرة حتى وفاة الخليفة المستنصر عام 1277م؛ ذلك أنهم بسطوا سلطانهم على الرغم من الثورات التي كانت تنشب بين حين وحين من طرابلس إلى صميم بلاد الجزائر، ومكنوا لأنفسهم في المدن الهامة، وامتد نفوذهم إلى ما وراء شمالي إفريقية، فلفت أنظار إسبانيا وأوروبا المسيحية. وفي هذا العهد توطدت العلاقات التجارية المنظمة مع برشلونة ومرسيليا وجنوة وبيزا وصقلية والبندقية، فعقدت معاهدات تنظم التجارة والملاحة وأنشئت في تونس قنصلية وزادت جباية المكوس، فدفعت تونس الجزية إلى صقلية ثم إلى أرغونة.
وصفوة القول أن الحكم في إفريقية كان أوطد وأزهر مما كان عليه في القرنين السابقين، وآية ذلك نهضة علوم الفقه وفن العمارة، وقد تعاقبت على البلاد فتن أثارها نزوع بعض الأمراء إلى العرش ممن تربطهم بالخليفة قرابة صحيحة أو مزعومة.
ومما يبعث على الأسف أن هذه الفتن أضعفت سلطان الخليفة، وأوهنت الروابط القائمة بين رعاياه، وولي الحكم من أعقاب المستنصر أمير واحد، هو أبو عصيدة، وبوفاته خرج الحكم من هذا الفرع. فحكم أخ ثالث هو أبو حفص ثم ابن عم له هو أبو يحيى بن اللحياني، وقد استقر السلطان آخر الأمر في أعقاب ابن آخر من أبناء أبي زكريا هو أبو إسحاق إبراهيم.
وانفصمت أواصر الوحدة بين بني حفص زمانا بخروج بجاية عن طاعتهم، وقيام دولة مستقلة فيها، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه من اتحاد، وكانت جربة قد بقيت في يد النصارى مذ فتحها روجر صاحب لورية، فأخذها الحفصيون منهم، ووقفوا في وجه بني عبد الواد بفضل تحالفهم مع المرينيين الذين قويت شوكتهم. بيد أن هذا الحلف كان ينطوي على خطر دفين، فقد استغل أبو الحسن السلطان المريني الواسع الأطماع الفتن الداخلية، وبادر إلى فتح إفريقية، واستقر هو وفقهاؤه ورجال بلاطه في مدينة تونس، ولم يكن ليعيد بني حفص إلى السلطان غير فتنة عربية موفقة، وقد حدثت هذه الفتنة عام 1250م بيد أن جيوش أبي عنان المريني استطاعت بعد سبع سنين أن تحتل تونس مرة أخرى، ولم تثبت أقدامهم فيها طويلا.
وفي هذا العهد، أيام أبي إسحاق إبراهيم، ظهر سلطان الحاجب الدساس ابن تافراكين، ولكنه لم يوفق تمام التوفيق فيما بذل من جهد لإعادة وحدة هذه الدولة، فقد خرج جنوبها خاصة عن طاعة الخليفة، وظهرت دويلات مستقلة في تلك الربوع، فحكم بنو يملول في توزر وبنو الخلف نفطة، وبنو مكي في قابس وبنو ثابت في طرابلس، إلا أن أبا العباس (1370-1394م) الذي بدأ حياته السياسية في قسنطينة، أعاد إلى الدولة مجدها، فكان ينفذ الحملات الواحدة بعد الأخرى، حتى دان له الثوار بالطاعة، وفي عهده أرادت جماعة من الصليبيين الجنويين الفرنجة أن تثأر من القرصان الذين جاوز طغيانهم الحد، ففشلت أمام المهدية 1390م.
ونهض ابنه أبو فارس بالأسطول، وأنفذ حملة بحرية على مالطة 1428م، وكان لزاما عليه من الناحية الأخرى أن يرد عادية القطلونيين والصقليين، وأنفذ حملة كبيرة على جربة، وأقام الحصون في رأس أدار ورفرف والحمامات لرد غائلتهم ثم استولى على تلمسان.
وكان عهد الحفصيين في القرن الخامس عشر يتميز بزيادة نفوذ الموالي، الذين كانوا يستعملون على الأقاليم والجيش ويعرفون بالقواد، وقد كان الأمير أبو عمرو عثمان آخر السلاطين المبرزين، وارتبطت تونس بعلاقات ودية مع أوروبا على الرغم من نشاط قرصانها، وأذن للقطلونيين والجنويين بصيد المرجان في طبرقة، وسمك التون في رأس أدار. أما في الداخل فقد اتسع سلطان مذهب المرابطين، الذي جاء من الغرب وارتقت الزراعة على الرغم من شغب الأعراب، وسرعان ما ساءت الأحوال بموت عثمان، فحكم البلاد ثلاثة من الخلفاء في غضون أعوام قليلة، ثم أخذ نجم الدولة يأفل أيام أبي عبد الله، فمزق أوصالها انتقاض القبائل عليها، قبل أن تحيق بها ضربات الإسبان الذين طاردوا قراصنة الترك في هذه الربوع.
وفي عام 1510م جردها بدرونافارو من بجاية وطرابلس، وفي عام 1520م احتل هيوزده منكاد جربة إلى حين، ثم طرد خير الدين بربروسه آخر الأمر الحسن بن أبي عبد الله من تونس.
ولم يعد الحسن إليها إلا عندما استولى شارل الخامس على المدينة، وأصبح قيلا من أقيالها، وسلم للإسبان حصن حلق الوادي، وساءت الأحوال في تونس عندما استولى أندريا دوريا على مدن سفاقس وسوسة والمنستير، ثم حلت بالإسبان حوادث خطيرة وخارت عزيمة جند الحسن، فذهب يطلب العون من أوروبا، ولكن ابنه أحمد حميدة انتهز فرصة غيابه وخلعه.
अज्ञात पृष्ठ
وحاول حميدة - وكان رجلا غليظ القلب مقداما - أن يستعيد ملك آبائه فلم يفلح. ثم ظهر بطل جديد هو القرصان التركي درغوث، وكان في يد الجنويين، ولم يطلقوا سراحه إلا في مقابل تسليمهم جزيرة طبرقة، وطرده الإسبان من المهدية عام 1550م، إلا أنه استطاع بمهارة أن يفلت من أندريا دوريا في أبريل من العام نفسه بين ممرات جربة، واستطاع من قاعدته في طرابلس أن يحتل قفصة والقيروان، وفيها ترك فرقة من الجند تحت إمرة حيدر باشا، ولما قاد دوق مدينة سالم حملة على جربة، هزمه درغوث هزيمة منكرة، ثم هلك في حصار مالطة عام 1565م.
واستمرت الحرب بين حميدة وعامل الإسبان على حلق الوادي، على الرغم مما عقد بينهما من المعاهدات، فسهل ذلك على أمير الجزائر علي باشا احتلال تونس، فوضع فيها حامية من الجند، ثم استعاد دون جون النمسوي مدينة تونس من الترك، فأعاد سلطان الحفصيين لآخر مرة بتأثير محمد بن الحسن، وتعيين سربلوني مشيرا له، واستولت جنود الترك التي جاء بها أسطول سنان باشا من القسطنطينية على تونس وحلق الوادي، فوضعوا بذلك حدا لحكم الإسبان، وكان مزعزعا لا يطول به العهد، وقضى على دولة بني حفص «الوطنية» التي كانت عزيزة الجانب، وأصبحت على مر الأيام لا حول لها ولا قوة، وكانت عودة حميدة إلى الملك بمثابة صحوة الموت لهذه الدولة، فقد بسط سلطانه على فيافي تونس والجريد أعواما.
أما سنان باشا، فقد جعل تونس ولاية تركية ملحقة بالجزائر يحكمها باشا، وذلك قبل أن يعود إلى القسطنطينية، ثم أصبحت منذ عام 1587م تابعة للباب العالي مباشرة، وكان يقود جيش الاحتلال أغا، ويتألف هذا الجيش من أربعة آلاف رجل على رأس كل مائة داعي «داي»، واستبد الديوان بالأمر، وهو الهيئة الحاكمة التي تضم الضباط العظام. فاندلعت نيران الثورة، وانتهت بوضع أزمة الأمور في يد واحد من هؤلاء الدعاة «الدايات»، وأصبح منصب الباشا في عهد هؤلاء الدعاة منصب شرف فحسب، وإن كان يمثل السلطان، أما الديوان فقد أعيد تنظيمه وقويت شوكته، مثله في ذلك مثل طائفة الرعايا؛ أي «طائفة القرصان». أما من ناحية الدين فقد كانت الصدارة للمذهب الحنفي.
ويعود الفضل في تنظيم الولاية للداعي الثالث عثمان، فقد أصدر مجموعة من القوانين موسومة ب «الميزان»، واستطاع أن يحافظ على الأمن في البلاد يعاونه «باي» مهمته جمع الضرائب بقوة الجند في دورتين كل سنة، وأشرفت الدولة على القرصنة في البحار، وشاركت في غنائمها، ولما طرد المسلمون من الأندلس عام 1609م استقروا في كثير من بلاد تونس مثل رأس أدار وطبورية ومجاز الباب وتستور وقلعة الأندلس، فروجوا سوق الخضر، ونشطت بعض الصناعات كالصباغة وصناعة الجوارب.
وضعف سلطان تركيا على تونس إلى حد أن فرنسا أصبحت تتمتع بفضل الامتيازات العثمانية بمكانة رفيعة في أرجاء الدولة العلية بأسرها، فأنشأت قنصلية لها في تونس 1577م، واقتضى الأمر أن أرسلت عام 1606م سفيرا هو ده بريف، لكي يتصل مباشرة بأولي الأمر في تونس.
واستعاد يوسف زوج ابنة عثمان وخليفته مدينة جربة من باشا طرابلس، واتفق في عهده على تسوية الحدود بين تونس وبين الجزائر؛ نتيجة لغارات الجزائر عليها، ثم خلفه داع اسمه الأسطى مراد (1637-1640م)، وكان قرصانا جنويا دخل في الإسلام، فحصن غار الملح وأسكن فيه جماعة من أهل الأندلس، ولكن سلطان الدعاة «الدايات» كان آخذا في الضعف، ولسنا في حاجة إلى ذكر الدعاة الأربعة والعشرين «خوجة ولاز وغيرهما» الذين حكموا من عام 1640 إلى عام 1702م؛ لهوان شأنهم ولأنهم أصبحوا ألعوبة في يد البايات الذين نجحوا آخر الأمر في القضاء عليهم.
وحكم الباي مراد من عام 1612 إلى عام 1631م، وكان قورسيقيا يلقب بالباشا، وقد تنازل في حياته لابنه محمد، فأصبح بدوره باشا، واعتمد في حكمه على كتيبة من الصبائحية وزعها بين تونس والقيروان والكاف وباجة، وأصبح سيد البلاد دون منازع.
وقد أسس حمودة الدولة المرادية، فحكم ابناه مراد ومحمد الحفصي وأحفاده محمد وعلي ورمضان، فكانت الفتن تهدد سلطانهم، وبلغت هذه الفتن غايتها بمقتل ابن حفيده مراد عام 1702م.
وامتاز النصف الأول من القرن السابع عشر بعودة العلاقات التجارية بين تونس وأوروبا، وبخاصة بينها وبين مرسيليا وليفرنو، ويرجع الفضل في ذلك إلى تجار النصارى واليهود، واتجرت في المرجان الشركات المرسيلية المؤسسة في رأس الأسود وبنزرت جنوبي طبرقة، وكانت تربح من تصدير الجلود والحبوب، واتسعت علاقات الولاية بالخارج، فشملت أمما مثل بريطانيا العظمى والأراضي الواطئة. فكانت وحدات من الأساطيل الأوروبية في النصف الثاني من هذا القرن تضرب الساحل بقنابلها، إلى جانب الحملات التي درج فرسان مالطة على القيام بها؛ انتقاما لأعمال القرصنة الماضية.
وازدهرت البلاد في الداخل أول الأمر، كما يستدل من إقامة المنشآت العامة والمساجد في طول البلاد وعرضها، ثم ساءت الأحوال على مر الأيام في عهد المتأخرين من المرادية، حتى استطاعت الجزائر أن تقوم بغزواتها.
अज्ञात पृष्ठ
وأخذت القبائل في الانتقاض على الحكومة، وظلت الكاف في يد بني شنوف أمدا طويلا وقلعة سنام في أيدي الحنانشة، وكان جبل وسلات موطن شغب عظيم، واجتاح البلاد وباء الطاعون مرات كثيرة فأهلك الناس.
ولما قضى إبراهيم الشريف الذي كثر في عهده سفك الدماء، وكانت قد اجتمعت له لأول مرة ألقاب الباي والداعي والباشا وأغا الجند، نودي بالحسين بن علي تركي بايا على تونس في العاشر من يوليو 1705م في غضون غزوة جزائرية جديدة، وهكذا قامت الدولة الحسينية التي لا تزال تحكم البلاد إلى اليوم. وأعاد حسين السلام إلى الربوع، وشيد كثيرا من المباني (مثال ذلك ما أنشأه في القيروان)، وحاول أن ينظم ولاية العرش لمصلحة ذريته مباشرة، فخلعه علي باشا يظاهره الجزائريون؛ ومن ثم نشأت مصاعب جديدة استفحل أمرها بفتنة يونس بن علي عام 1752م. ثم اعتلى محمد بن الحسين العرش آخر الأمر بتدخل الجزائر أيضا، وحكم علي باي ثم ابنه حمودة، ففعلا الكثير في سبيل إصلاح ما فسد من شئون الدولة وإعادة الرخاء إلى ربوعها.
ونشطت التجارة الخارجية كما نشطت الزراعة، واتسعت علاقات الباي مع الدول الأوروبية، على الرغم من قضائه على الجاليات التجارية برأس الأسود وطبرقة، وأبرمت معاهدات كثيرة كان يوقعها بنفسه، وعينت فرنسا آخر الأمر قنصلا عاما لها في تونس، على الرغم من محاربتها إياها عدة مرات، ونشبت الحرب بين تونس والبندقية واستمرت ثماني سنين (1784-1792م)، وأخضع علي باي ثوار جبل وسلات ومزق كلمتهم، ولكنه عجز عن التخلص من الجزائريين الذين ظلوا مصدر تعب كبير لحمودة، وأعمل حمودة السيف في رقاب الإنكشارية المتمردين عام 1811م.
وطرأت تغيرات ملحوظة على أحوال السلطنة التونسية إبان القرن التاسع عشر؛ أولها القضاء على القرصنة والقرصان، وكانت من أهم موارد الدولة، وقد أرغمت الدول الأوروبية محمودا على ذلك، نتيجة لمؤتمري فيينا وإكس لا شابل، ثم كان احتلال الجزائر عام 1830م أيام الباي حسين ، فأعقب هذا نتائج لم تكن في الحسبان، وقد حاولت تونس عبثا، مدة نصف قرن الملاءمة بينها وبين الأحوال الجديدة بتغيير نظامها الداخلي، وانتهاج سياسة وسط بين التراخي في تبعيتها للدولة العلية والانصراف عن هذه التبعية حينا آخر، وبين السماح للدول المسيحية بالتدخل في شئونها على يد قناصلها، وشجعت بريطانيا سلطان الباب العالي وناوأته فرنسا، ولم يبد هذا السلطان إلا في القليل من فرامانات التولية وفي إرسال الجند التونسية إلى القريم عام 1855م لمحاربة روسيا (وقد اشتركت وحدة بحرية تونسية مع الأسطول التركي في واقعة نفارينو عام 1827م)، وأخذ بعد ذلك النفوذ الفرنسي والإنجليزي والإيطالي يزداد على مر الأيام ... نعم إن خطط فرنسا لإقامة أمراء تونسيين على الجزائر لم تلق نجاحا، ولكن تونس لم تعد تأخذ الجزية التي كانت تدفعها الدول المسيحية نظير حق الاتجار معها، وتولى أحمد وكان أشبه بالحاكم المستبد المتنور، فألغى الرق ومنح اليهود حرياتهم، ونظم «الجيش التونسي» على النسق الأوروبي، واختار له مدربين من الفرنسيين، وزار لويس فيليب في باريس في عام 1846م. بيد أن إسرافه الكثير ونفقات بناء دار الصناعة في غار الملح، وقصور المحمدية استنزف موارد الدولة، وكانت جد قليلة، ففرضت ضرائب جديدة، وأصدر قانون لاحتكار أشجار الزيتون .
وأدخل ابن عمه محمد (1855-1859م) ضريبة على الرءوس مقدارها ستة وثلاثون قرشا، كما أعفيت منها بعض المدن التونسية الهامة، ولكن أهم حادث في عهده هو إصداره عهد الأمان في 9 سبتمبر سنة 1857م حمله عليه القناصل، وأعلن فيه أن أهل تونس جميعا، سواء أمام القانون وفي دفع الضرائب، كما أعلن حرية العقيدة وحرية العمل والتجارة وحق الأجانب في امتلاك الأرض والعقار، وأصدر أخوه محمد الصادق (1859-1882م) دستورا في السادس والعشرين من أبريل عام 1861م أقره نابليون الثالث، وبه ظلت السلطة التنفيذية في يد الباي تئول إليه بالوراثة، وأصبح مسئولا عن الحكم، وينتقل العرش إلى أكبر أمراء البيت الحسيني يعاونه وزراء يختارهم بنفسه، وقسمت السلطة التشريعية بين الباي والمجلس الكبير المؤلف من ستين عضوا معينين. أما السلطة القضائية فكانت مستقلة، وكانت المحاكم تتبع قانونا تونسيا جنائيا ومدنيا، أما إدارة الأقاليم فكانت في يد «القواد» يعاونهم «شيوخ» منتخبون، وجعلت للباي مخصصات، ولم يعد له حق فرض الضرائب وغيرها، ولكن سرعان ما ساء الموقف على الرغم من هذه الإصلاحات، وقد أدت السياسة المالية الخرقاء التي انتهجها مصطفى باشا خازندار من العودة إلى الاستدانة وزيادة الضرائب، إلى عصيان القبائل تحت راية علي بن غذاهم عام 1864م، كما أدت إلى تأليف لجنة مالية دولية (من التونسيين والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين) عام 1869م، وفي يوليو من عام 1859م عطل الدستور، وفي أكتوبر من عام 1873م خلف القائد خير الدين على دست الوزارة الخازندار الذي عزل من منصبه. فامتاز عهده بإصلاحات جليلة، ولو أن البلاد لم تصب منها إلا تقدما يسيرا. بيد أن موارد الدولة كانت قليلة جدا وديونها عظيمة، حتى إن اللجنة لم توفق إلى شيء، وكانت إدارة مصطفى بن إسماعيل السيئة هي الضربة القاضية التي أصابت البلاد، بينما اشتد التنافس بين قنصلي فرنسا وإيطاليا على الصدارة في الامتيازات الخاصة بالمصالح العامة.
وشجعت بريطانيا وألمانيا منذ مؤتمر برلين عام 1887م التدخل الفرنسي في شئون تونس، وقد سير الوزير جول فري ثلاثين ألف مقاتل لغزو تونس؛ نتيجة لغارات أهل جبال خمير على الجزائر وغيرها من الحوادث. وبعد عشرين يوما أرغم الجنرال بريار صادقا على أن يوقع معاهدة «قصر سعيد» المعروفة بمعاهدة باردو، دون أن يسفك دماء أو يأبه لاحتجاج تركيا. وقد أعطيت هذه المعاهدة فرنسا حق الإشراف على الشئون العسكرية والخارجية والمالية للسلطنة التونسية، وعين وزير مقيم فرنسي، يتولى الشئون بين الباي والحكومة الفرنسية، وكان القنصل روستان بطبيعة الحال أول من شغل هذا المنصب، وهكذا بدأت الحماية، وإن لم تكن قد أعلنت بالفعل. ثم أصبحت الحماية أمرا واقعا بعد ثورة الوسط والجنوب تحت إمرة علي بن خليفة والقضاء السريع عليها بواسطة حملة فرنسية ثانية، ووافق الباي بمقتضى ميثاق المرسى في 8 يونيو عام 1883م على أن يبدأ بالإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية نفعها للبلاد.
وتعتبر الحماية الفرنسية فاتحة عهد جديد في تاريخ تونس، ولم تؤثر فيها منذ أن فتحها المسلمون حادثة كهذه الحماية التي غيرت نظامها وحياة أهلها.
وكان الطابع الأصيل لهذا العهد الإبقاء على نظام الحكم القديم في مظهره، وقد ألبس هذا النظام ثوبا جديدا، وزيدت عليه نظم حديثة، وظل سائدا على رغم ما وجه إليه من نقد.
وظل عظمة الباي هو سيد السلطنة الأسمى وصاحب مملكة تونس، ولكن صاحب الأمر والنهي في البلاد هو الوزير الفرنسي المقيم الذي عرف منذ 23 يونيو عام 1885م بالمقيم العام، وكان وزيرا مفوضا للجمهورية الفرنسية في السلطنة التونسية، يأتمر بأمر وزير الخارجية الفرنسية، وكان كذلك وزير خارجية الباي لا يتصل الباي بباريس إلا عن طريقه، وكان رئيسا لمجلسه يوقع إلى جانبه على المراسيم التي أصبحت نافذة منذ مرسوم يناير عام 1883م، وكان يأتمر بأمره قواد الجيوش في البر والبحر، كما كان يشرف على جميع المصالح الإدارية، ولم يكن للباي سوى حرس صغير مكون من ستمائة رجل، وكان رعاياه يجبرون على الانخراط في جيشه الذي كان بمثابة قسم من الجيش الفرنسي، وقد هلك منه ما يزيد على العشرة آلاف رجل في سبيل فرنسا إبان الحرب العظمى.
ويتكون مجلس الوزراء من اثنين من الوطنيين، صاروا بعد ذلك ثلاثة، ومن المديرين أو رؤساء مصالح الفرنسيين، ثم قائد جيش الاحتلال وأمير بحرية بنزرت اللذين يقومان بأعمال وزير الحربية وقائد الأسطول.
अज्ञात पृष्ठ
وأصبحت القائديات التي تنقسم إليها القبائل أقساما إدارية على رأس كل منها مراقب فرنسي مدني.
أما المسائل التي تتصل بالمقيم العام والمراقبين المدنيين والقضاء الفرنسي، فقد فصل فيها وحدها مراسيم صدرت من رئيس الجمهورية الفرنسية. وتتنازع الحالة السياسية والإدارية والقضائية الآن في تونس سلطتان؛ إحداهما محافظة يمثلها الباي، والأخرى مجددة حديثة هي سلطة الفرنسيين. وكان أهم ما قامت به دولة الحماية هو الحد بقدر المستطاع من التدخل الأجنبي في شئون المال والقضاء؛ فضمنت فرنسا الدين التونسي، ووافقت بريطانيا العظمى وإيطاليا على إلغاء اللجنة المالية، وعاد الميزان الاقتصادي في تونس إلى الاستقرار بفضل نظام ثابت لإدارتها المالية، ووضع ميزانية لها على المنهج المألوف، وجعلت للباي مخصصات ينفق منها على بيته وحاشيته، ولا تزال الحكومة الفرنسية تعتمد في ميزانية تونس بعض المبالغ الخاصة كالإعانة التي ترصدها لأسقفية قرطاجنة، وأصبحت وحدة العملة هي الفرنك لا القرش، بمقتضى مرسوم أول يوليو عام 1891م.
وأنشئت محاكم فرنسية بمقتضى القانون الفرنسي الصادر في 10 أبريل عام 1883م، ووافق الباي بمرسومه الصادر في 5 مايو من العام نفسه على أن الذين كانوا يتمتعون بالامتيازات يحق لهم التقاضي أمام هذه المحاكم الجديدة؛ ولذلك أخذت الدول الأجنبية الواحدة تلو الأخرى تلغي محاكمها القنصلية، كما أنها تنازلت عن المزايا الجمركية التي كانت تتمتع بها أيام الامتيازات، وأبدت إيطاليا وحدها بعض التحفظات، فلما انتهت معاهدتها مع تونس عام 1868م، وهزمت في عدوة بالحبشة، اضطرت إلى الاعتراف بالحماية الفرنسية على تونس، ولكن تركيا رفضت الاعتراف حتى معاهدة سيفر 1920م، وبالرغم من هذا احتفظت إيطاليا بمكانة ممتازة في السلطنة، وأبت التنازل عنها، ويرحل إلى تونس عدد كبير من الإيطاليين، وتنشر إيطاليا نفوذها عن طريق الصحافة وبيوت المال ومعاهد الثقافة بنوع خاص، ولا تخضع هذه المؤسسات للرقابة الفرنسية بمقتضى الاتفاقات المعقودة بينها وبين فرنسا، وهي تشكو مع ذلك من عدة أمور فيها حيف برعاياها، وفي عام 1919م اعترفت فرنسا بملكية إيطاليا لواحتي غات وغدامس، بمقتضى اتفاق وضع حدا للمشكلة الإيطالية المعلقة في تونس.
وساعدت الحماية فرنسا على أن تقوم في السلطنة باستغلال الموارد الطبيعية، وتزويد البلاد بحاجاتها الثقافية والاجتماعية كالمستشفيات والصيدليات، وإعداد الأطباء وإنشاء الجمعيات الخيرية والمعاهد العلمية المختلفة، وقد أدى التقدم الحديث والتوسل بالأسباب السليمة الصحيحة إلى انتعاش اقتصادي مشجع.
وتونس بلاد زراعية أولا، وقبل كل شيء تنبت الحبوب والكروم والزيتون والبلح والخضر، وكذلك الفلين والحلفاء. على أنها قد أصبحت بمرور الزمن تصدر الحديد والرصاص والخارصين، ثم الفوسفات بنوع خاص منذ أن كشف مناجمه ب. توماس عام 1885م، أما وارداتها فهي الوقود والحاصلات الاستوائية، ومقدار كبير من المصنوعات.
وتبلغ تجارتها الخارجية حوالي ثلاثة مليارات من الفرنكات، وظل ميزانها التجاري في عجز عدة سنوات، ولم تكن مواردها من قدوم السياح كافية لسد هذا العجز.
وعملت الحكومة على تيسير الاستعمار الأوروبي، ووضع ملكية الأراضي على نظام حديث. فأصدرت قانونا عقاريا عاما ينص على أن تسجيل الأراضي اختياري، لا يتم إلا بموافقة محكمة مختلطة أنشئت لهذا الغرض. وصدر مرسوم في مارس عام 1924م مهد للقيام بمسح الأراضي، وفي باكورة عهد الاحتلال الفرنسي ترك امتلاك الفرنسيين للأراضي لتصرفهم الشخصي، ولم تنتهج الحكومة سياسة إسكان الفرنسيين المدنيين في الأراضي التونسية، والسير عليها سيرا حثيثا إلا منذ عام 1900م، وأخذت الحكومة تبتاع الأراضي لتبيعها مرة أخرى بشروط يسيرة جدا للفرنسيين من خريجي المدرسة الزراعية الاستعمارية في تونس، وأخذ الإيطاليون ينافسون الفرنسيين بكثرة فلاحيهم لا بعدد ضياعهم، ولما رأت فرنسا أن الفرنسيين المدنيين يقل إقبالهم على الهجرة شرعت تستن سياسة لتيسير التجنس، بيد أن النزاع الذي أثارته إنجلترا في هذا الصدد أمام محكمة لاهاي الدولية دفع الحكومة إلى إصدار قانون فرنسي في عشرين ديسمبر عام 1923م يسر التجنس للأجانب والوطنيين تيسيرا كبيرا، ووافقت بريطانيا بوجه عام على قواعد هذا القانون، وهي متعلقة بصفة خاصة برعاياها المالطيين. أما الإيطاليون فقد تخلصوا باتفاقاتهم الخاصة من ضروب التجنيس الإجباري ، وإن قبل بعضهم التجنس مختارا، ويبلغ عدد المتفرنسين في الوقت الحاضر ربع السكان الفرنسيين، ولا يزيد عدد المسلمين فيهم على ألفين، بينما يزيد عدد اليهود على خمسة آلاف.
واحتفظ اليهود وبينهم آلاف من أصل أوروبي، بالرعوية الإيطالية.
وظلوا في غالبية شئونهم من رعايا الباي خاضعين للسلطة والقضاء المحليين، إلا في الشئون المتصلة بالأحوال الشخصية، فتفصل فيها محكمة تونس الربانية، كما يفصل فيها أيضا كتاب العقود الإسرائيليين، ولا يؤدي يهود تونس الخدمة العسكرية، كما أنهم لا يلتحقون بوظائف الحكومة على وجه عام، ويثير تقدمهم السريع في مضمار الحضارة الأوروبية مشكلة تجنيسهم جملة أو زرافات بالجنسية الفرنسية، وبمقتضى المرسوم الصادر في 30 أغسطس عام 1921م أنشأت الحكومة لليهود جميعا على اختلاف جنسياتهم مجلسا مليا يتألف من اثني عشر عضوا ينتخبون على درجتين، ومدة عضويتهم أربع سنوات، ولهذا المجلس حق الفصل في المسائل المتصلة بالإعانات والعبادات، وتعين الحكومة رؤساء الطوائف اليهودية الأخرى، وكذلك حاخام الربانيين الأكبر ، ولا يقبل اليهود على القيام بشعائر دينهم، وإن كان للدعوة الصهيونيو هناك مكانة ملحوظة.
وقد سعت الحكومة الفرنسية إلى النهوض بالإدارة الوطنية والأحوال الاقتصادية والدينية للمسلمين، مع احترام شعورهم الديني، ولا تزال أمامها عدة مشاكل لم تحل، وتتطور الجماعة الإسلامية تطورا جوهريا على الرغم من مقاومتها للحياة الأوروبية، ومن سبق الحوادث التكهن بنتائج هذا التطور. أما حركة الدستور التي تطالب بالحكم الذاتي، والتي نشطت في أعقاب الحرب فقد كبح جماحها المقيم العام لوسيان سانت، وكان بارعا في ذلك، والظاهر أن الأهلين راضون الآن بالإصلاحات التي اتجهت إليها حكومة الحماية في سياستها الداخلية ما بين سنتي 1920 و1930م.
अज्ञात पृष्ठ
وتقوم السياسة الفرنسية الآن على مبدأين أساسيين: نزوع إلى زيادة التعاون تدريجيا مع الأهالي الوطنيين، وتوسع في سلطان المجالس المنتخبة.
وقد تمتع الأهلون بحقوق جديدة كإنشاء المجالس البلدية والتوسع في حرية الصحافة والاجتماع.
السكان
تضم سلطنة تونس - إلى جانب المسلمين واليهود - عددا يتزايد على الأيام من الأوروبيين؛ وذلك نتيجة لهجرة الإيطاليين إليها، وحماية الفرنسيين لها. وقد بلغ عدد السكان في إحصاء عام 1926 للميلاد 2159708 نسمة، بينهم 1932184 مسلما و54243 يهوديا تونسيا، لا يدخل فيهم اليهود المتجنسون بالجنسيات الأوروبية.
أما الأوروبيون فيبلغ عددهم 173281 شخصا، منهم 71020 فرنسيا، 89216 إيطاليا، 8396 مالطيا من رعايا بريطانيا، و4649 شخصا يتجنسون بجنسيات أوروبية أخرى.
وقد وفد أغلب الإيطاليين من صقلية وسردينيا، وهم يشتغلون بالبناء والتعدين والزراعة وفلاحة الكروم. أما الفرنسيون فأغلبهم موظفون في الحكومة وتجار ومستعمرون.
ويسكن جمهور الأوروبيين منطقة مدينة تونس، وكذلك يقيمون في غيرها من المدن الساحلية. فمنهم:
103000
في تونس
6700
अज्ञात पृष्ठ
في بنزرت
4150
في فريفيل
6900
في سوسة
6900
أيضا في سفاقس
أما اليهود التونسيون، فيعيش أكثر من نصفهم في مدينة تونس؛ أي حوالي 28141 شخصا، ويقيم أكثر من 3700 منهم في سوسة، وحوالي 3300 في سفاقس، وكثير منهم في بنزرت وباجة ونابل، وقليلون يسكنون داخل القطر. أما في الجنوب فيسكن قابس حوالي 2500 منهم، وفي جربة 3800، وفي المناطق العسكرية أكثر من 2500.
أما توزيع السكان عموما على أهم مدن تونس، فهو كما يلي:
تونس
अज्ञात पृष्ठ