وظلت هذه الدويلات وغيرها تتصارع ويسقط بعضها بعضًا، دون أن تستطيع تكوين دولة قوية، أو تنضم إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد قويت شوكتها؛ إلى أن قامت روسيا القيصرية فضمت جزءًا منها، ورثها عنها النظام الشيوعي، واحتل البريطان والهولنديون والبرتغال وغيرهم الجزء المتبقي. لقد كان أهم حدث في هذه المنطقة بعد انحسار المغول عنها، هو قيام مملكة آل عثمان في الأناضول سنة ٧٠٠ هـ - ١٣٠٠م، على أنقاض السلجوقيين وعلى حساب البيزنطيين. وظلت هذه الدولة أسيرة حدودها في حالة دفاع وترصد وحذر، ثم اتخذت عاصمة لها مدينة " بروسا " سنة ٧٢٧ هـ ١٣٢٦م، ثم في السنة الموالية تحولت إلى مملكة عاصمتها " أدرنة "، ثم كان محمد الفاتح الذي دخل القسطنطينية سنة ٨٥٧ هـ ١٤٥٣ م، فكان فتحه لها نقطة تحول في التاريخ الإسلامي. عمل فيه العثمانيون على ضم الدويلات القطرية في الشام والجزيرة ومصر وإفريقية وغيرها إلى إمبراطوريتهم.
خاتمة
وبعد، فهذه صورة تقريبية للوطن الإسلامي في القرن الثامن الهجري - الرابع عشر الميلادي -، بمقارنة وجيزة مع ما كان عليه الأمر لدى قوتي الجذب الرئيسيتين في الشرق والغرب - المغول ونصارى أوربا -. وهي إن كانت قاتمة، فإنما لعدم تطور الفكر السياسي لدى المسلمين، وبقاء أبحاثه لدى الفقهاء تبريرية لواقع الأنظمة منذ سقوط الخلافة الراشدة. طيلة هذه العهود ظل النظام وراثيًا أساسه أن يقوم داعية طموح فتلتف حوله أسرته ثم قبيلته، ثم يتحالف مع قبائل أخرى لها به رابطة نسب أو صهر أو مصلحة، ثم يسيطر على الحكم. وبعد حين تتنكر قبيلة الأمير الجديد للقبائل الحليفة وتنكبها وتستبد بالسلطة دونها؛ ثم تستبد أسرة الأمير من بعد ذلك بالأمر دون قبيلتها وتنكبها، ثم يتناحر أفراد الأسرة الحاكمة فيما بينهم من أجل الاستئثار بالسلطة، فيغدر الأخ بأخيه ويقتل الأب ابنه، والابن أباه، وتسمم الزوجة زوجها، ويتقاتلون فيما بينهم، فيتغلب عليهم زعيم قبيلة أخرى سالكًا النهج نفسه. ويستمر الدور والتسلسل في التداول على الحكم على هذا المنوال. كما ظهر نموذج آخر من نظم الحكم، هو طراز المماليك الذين كانوا يستولون عليه بطريقة أقرب إلى الانقلابات العسكرية. والغريب في الأمر أن أنظمة الحكم لدى المسلمين وصولًا إلى السلطة واستدامة فيها، لم تتغير إلى الآن. فمازال نظام الحكم مابين وراثي وانقلابي؛ حتى المؤثرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تعتبر بوصلة التوجه السياسي لم تتغير؛ بل حتى سلم توزيع المسؤوليات في الدولة الواحدة كان ومازال من ثلاث فئات: البطانة المقربة: وتتألف من الأوفياء للسلطان الذين لا يمثلون أي خطر؛ وينتقون من بين الأقليات العرقية والدينية، أو من ضعاف الشخصية والتفكير الذين مردوا على الخنوع لمن غلب. طائفة الكتبة والمتأدبة والإداريين: من ذوي الثقافات المتخنثة البعيدة عن مفاهيم الأنفة والعزة والشهامة، مع شرذمة من الفقهاء " المبرراتية " أمثالهم. الجهاز التنفيذي: أمنًا وجيشًا، وغالبًا ما يكون من جفاة الأعراب أو مخنثي المدن.
المؤلف
ترجم للمؤلف عدد كبير من المؤرخين، وذكره من الفقهاء الجم الغفير، وهم إن لم يستفض حديثهم إيرادًا لتفاصيل حياته، فإنهم لم يضنوا عليه بالثناء العطر، والإِعجاب بنبوغه المبكر، وإتقانه أدب التدريس والوعظ، وأَساليب التصنيف والفتوى والحكم، وبلوغه في علوم عصره شأوًا بعيدًا. ناهيك بشهادة الإِمام ابن كثير له، إذ حضر أول درس ألقاه، وهو ابن خمس عشرة سنة أمام العدد الوافر من علماء العصر وفقهاء المذاهب الأربعة، فسجل هذا الحدث في تاريخه - البداية والنهاية ١٤/١٦٦ - بقوله: (وفي يوم الاثنين رابع وعشرينه - أي ٢٤شوال ٧٣٤هـ - درس بالإِقبالية الحنفية، نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضًا عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الأصبهاني، ابن العجمي الحبطي ويعرف بابن الحنبلي، وكان فاضلًا دينًا متقشفًا، كثير الوسوسة في الماء جدًا، وأما المدرس مكانه، وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة) . وقد أوردت كل المصادر أن اسمه: إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد، أبو إسحاق، نجم الدين، برهان الدين، الدمشقي، قاضي القضاة، الحنفي الطرسوسي؛ إلا أن صاحب الجواهر المضيئة سماه أحمد بن علي (١/٨١)، وإبراهيم أَصَحُّ كما قال اللكنوي في الفوائد البهية (ص١٠) . أسرته: ينتمي المؤلف إلى أسرتين حنفيتين عريقتين في العلم والفضل والجاه والتقوى، من جهة أبيه ومن جهة أمه. فوالده قاضي القضاة عماد الدين، أبو الحسن علي بن الشيخ محيي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي الحنفي، المولود في مصر سنة ٦٦٩هـ والمتوفى سنة ٧٤٨هـ في دمشق، المدرس بجامع القلعة والنورية والمقدمية، والريحانية والقيمازية بدمشق. كان آية في حفظ القرآن، شأنه التلاوة، لا أسرع منه فيها من غير إخلال بشيءٍ منه فيها، حتى إنه صلى به بكماله في التراويح في ثلاث ساعات ونصف على اصطلاح الحنفية من التهليل على رأس الأربع. وكان أدين الفقهاء وأجودهم باطنًا وأطهرهم سريرة من الخبث والهراء؛ كما اعتبر في وقته شيخ الحنفية، ورأسًا في الفقه والأصول. وابن عمه، رفيق صباه، وتلميذ والده، القاضي الحنفي أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن عبد الواحد الطرسوسي المتوفى سنة ٧٧٩هـ. وجده لأمه شمس الدين، أبو عبد الله شرف الدين أبو البركات محمد بن الشيخ عز الدين، ابن العز، صالح بن أبى العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الأذرعي الحنفي، أحد أئمة الحنفية، وفضلائهم في مختلف العلوم، وقضاتهم المتصفين بالعفّة والورع والكفاية، ومدرس المعظمية واليغمورية والقليجية والظاهرية، اشتغل بالقضاء ونظارة الأوقاف، وشهد له الناس بالخير، وكان والد المؤلف عماد الدين زوجًا لابنته ونائبًا عنه في القضاء. فلما توفي سنة ٧٢٢هـ خلفه في منصبه. وجده الأعلى من جهة أمه هو القاضي وهيب الأذرعي الحنفي المشهور بالقاضي عبد الله، المدرس بالمدرسة المرشدية الحنفية، والمولود سنة ٥٩٩هـ بدمشق. وخاله الشيخ علاء الدين بن أبي العز الذي خلف والده شمس الدين في تدريس المعظمية والقليجية وتوفي سنة ٧٤٦هـ. وعم جده لأمه، قاضي القضاة، صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب المتوفى سنة ٦٧٧هـ، انتهت إليه رئاسة الحنفية في زمانه، ولي القضاء بالديار المصرية والشامية والبلاد الإسلامية، وأذن له في الحكم حيث حل من البلاد. وولداه محمد بن سليمان قاضي القضاة، وأحمد تقي الدين بن سليمان، اللذان درسا بالمدرسة المقدمية الجوانية والمدرسة الشبلية البرانية، وانتفع بعلمهما العدد الوافر من الطلبة.
1 / 13