فبايعوه «على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، وعلى حرب الأحمر والأسود» ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ﴾ [الحج:٣٩] وغيرها، و«إنه من وفى فله الجنة، ومن غشى مما بايعهم عليه، كان أمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه».
ثم رجعوا إلى رحالهم، وقد طابت نفس رسول الله ﷺ، إذ جعل الله له منعة: قوما أهل حرب وعدة ونجدة، وقدموا المدينة، فدعوا إلى الإسلام حتى فشى فيها، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله ﷺ، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين، لما يعلمون من الخزرج، فيضيقوا عليهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى.
فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، واستأذنوه في الهجرة إلى المدينة لإخوانهم من الأنصار، فأذن لهم، فخرجوا أرسالا، مختفين حتى قدموا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم وواسوهم.
ولما علم المشركون بذلك، وأنه لم يبق بمكة إلا رسول الله ﷺ، وأبو بكر وعلي ﵄، أو مفتون محبوس، أو مريض، أو عاجز عن الخروج: خافوا خروج النبي ﷺ، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجى، ليتشاوروا في أمره، وحضرهم إبليس اللعين، في صورة شيخ كبير من أهل نجد، فقيل: يحبس أو ينفى، فلم يرتض إبليس بواحد منهما.
فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما نهدا جلدا، ثم نعطيه سيفا صارما، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يدري بنو عبد مناف بعد هذا ما يصنعون، فاستصوبه إبليس. وتفرقوا مجمعين على ذلك، فأتى جبريل النبي ﷺ فأعلمه به، وأمره أن لا ينام فيه.
واجتمع الأعداء يتطلعون من صير الباب، ويرصدونه حتى ينام، ليحمل عليه بعضهم، فطلع ﷺ عليهم، وهم جلوس عند الباب، فأخذ حفنة من تراب، فجعل يذره على رؤوسهم ويتلو (يس والقرآن الحكيم-إلى يؤمنون) ومضى.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال لهم: «قد خبتم وخسرتم إنه والله-مر بكم، فما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته» فخاب ما أملوه، وأنزل في ذلك ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال:٣٠].
وتحرك رسول الله ﷺ-بعد مكثه من حين النبوة بضع عشرة سنة-للهجرة، ثم
1 / 13