Training Advocates on Rhetorical Methods
تدريب الدعاة على الأساليب البيانية
प्रकाशक
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
العدد ١٢٨-السنة-٣٧
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٥هـ
शैलियों
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فلا جرم أن إعداد الدعاة جزء أساس من الواجبات المنوطة بالأمة الإسلامية، فهي أمة دعوة وجهاد، تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلوْ آمَنَ أَهْل الكِتَابِ لكَانَ خَيْرًا لهُمْ مِنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الفَاسِقُونَ﴾ (١)
ولا شك أن الدعوة إلى الله تعالى لا تصح ولا تتم إلا إذا أديت على الوجه الشرعي وتحقق في الدعاة المؤهلات العلمية والخُلقية والنفسية المتوخاة لأن الدعوة لا تصح إلا على بصيرة قال تعالى: ﴿قُل هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إِلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ﴾ (٢) .
والبصيرة هي: الحق واليقين والعلم (٣) وإعداد الدعاة يشمل ذلك كله، وقد ورد في القرآن العظيم ما يدل على أن (إعداد الدعاة) بكل صور الإعداد من الواجبات الشرعية والمطالب الحياتية والضرورات الحضارية كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
_________
(١) سورة آل عمران: ١١٠
(٢) سورة يوسف: ١٠٨
(٣) انظر تفسير الطبري ١٣ / ٨٠
1 / 327
وَليُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (١) فالإعداد الجهادي الحربي يواكب ويضارع في فضله الإعداد الفقهي والإعداد البياني، وينبغي أن لا تخلو الأمة الإسلامية من طائفتين هما ركيزتا المجتمع: المجاهدون والدعاة بكل مؤهلاتهم وخصائصهم ومقوماتهم، فالمجاهدون في سبيل الله يدافعون عن العقيدة وينافحون عن العرض والأرض ويستخرجون حقوق المستضعفين المضطهدين، والدعاة يتفقهون في الدين ومن ثم يدعون إلى الله تعالى ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على نور وبصيرة.
قال الإمام أبو السعود في الآية الشريفة: ﴿ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ أي يتكلفوا الفقه فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها ﴿وَليُنذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومرمى غرضهم من ذلك إرشاد القوم وإنذارهم ﴿إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ﴾ وتخصيصه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليل على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية، وأن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة، لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد (٢)
والتفقه في الدين ينتظم فيما ينتظمه (إعداد الدعاة) وهو باب واسع يشتمل على جوانب متعددة ومسالك متنوعة ومراحل مختلفة منها: الإعداد العلمي، والإعداد التربوي، والإعداد النفسي الروحي، والإعداد الخُلقي، والإعداد البلاغي والإعلامي، كما أن آلية الإعداد تختلف باختلاف النوع، وهي ما تسمى بمسميات متنوعة منها التطبيق والتدريب والممارسة والتجريب والتعويد والتربية والتوظيف وكل أولئك من فقه واجبات الدعاة.
ولعل من أجل المضامين العالية والمطالب السَّنِية في إعداد الدعاة (الإعداد
_________
(١) سورة التوبة: ١٢٢
(٢) إرشاد العقل السليم ٤ / ١١٢
1 / 328
المتعلق بسمة التبليغ والبيان والأداء) ويمكن تسميته بالإعداد البياني التعبيري، وسبيله بعد التحصيل العلمي الشرعي: الممارسة والأداء، فبالممارسة والتدريب تصقل المواهب الخطابية وتقوى العارضة البيانية وتتهذب العبارة وتنجلي الأخلاق الفاضلة، وبالتطبيق العملي يتعرف الداعية على مكامن التأثير ويتمكن من بلاغة التعبير. فالخطابة - مثلا - موهبة وعلم، لا تنجلي هذه الموهبة والملكة ولا تتكشف ولا تُكتشف إلا بالتدرب والتمرس، فقد يكون الإنسان خطيبا موهوبا مُمكّنا من الإمساك بأزمة البيان أوتي فصل الخطاب لكن ملكته تلك هامدة خامدة لم يثرها عامل ولا حركها فاعل! .. وقد تغشى النفس مشكلات معقدة مُشغلة تحول بينها وبين بروز ملكاتها التعبيرية الإبداعية فترى المرء بليد الحس ركيك الكلام خامد الفكر هدته المشكلات هدًا فإذا ما حُلت مشكلاته وفُكت عقده انقلب أسدا هصورا وخطيبا مصقعا لا يشق له غبار ولا يخمد له أوار! .. وقد يكون الإنسان خطيبا في بني قومه وبين عشيرته وأهل لسانه وملته لا تتجاوز بلاغته حدودهم ولا تعدو منازلهم لتوافر العوامل التي أبرزت فيه هذا الجانب..وهكذا، فلا تبرز قدراته التعبيرية وملكاته الخطابية الجدلية إلا حين يتهيأ لها سبيل البروز، فالتدريب العملي والتطبيق الميداني مجال رحب لتفتيق المواهب وترسيخ القدرات وصقلها وتهذيبها نحو الرشد والسداد.
أضف إلى ذلك أن عصرنا عصر الإعلام المقنن والموجه، تتسارع فيه فنون الخطاب والإعلام فتغطي مساحات واسعة من حياتنا على نحو لم يكن معهودا من قبل، وهذا يستدعي أن يكون الدعاة على معرفة واسعة ودقيقة بكل فنون والاتصال كالخطابة والحوار والمناظرة وإدارة الندوات وغيرها مما يجده القارئ في هذا البحث.
وحبذا أن يتوافق ويتسهل مع الدراسة النظرية: التطبيق العملي والممارسة
1 / 329
الفعلية للخطابة وغيرها من ضروب البيان في المجالات المناسبة كالمساجد والمنتديات وبعض الأسواق ونحو ذلك، لتسير النظرية والتطبيق في خطين متوازيين ولكي تتحقق للطالب الداعية إلى جانب الدراسة النظرية الممارسة العملية على الوجه الأتم الأكمل.
وقد ارتكز البحث في هذه الصفحات على محورين رئيسين: المحور الخطابي ويشمل المحاور الرئيسة للخطابة من حيث الأنواع والأجزاء وطرق الإعداد والإلقاء وصفات الخطيب وعيوبه، والمحور الإعلامي ويشمل الندوة والإذاعة والراي، وفي غضون هذين المحورين ترد المرتكزات الأساسية للمواقف التعبيرية البيانية للداعية.
وتضمنت خطة البحث الفصول التالية:
الفصل الأول (مفهوم التدريب وأهميته وخصائصه) وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم التدريب وأهميته.
المبحث الثاني: خصائص التدريب البياني.
الفصل الثاني (التدريب على الخطابة) وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الخطابة وبيان خصائص الأسلوب الخطابي
المبحث الثاني: مسالك التدريب على الخطابة
الفصل الثالث (التدريب على الندوة) وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الندوة وأنواعها ومحاورها العامة
المبحث الثاني: مسالك التدريب على إقامة الندوات.
الفصل الرابع (التدريب على الكلمة الإذاعية) وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مقدمة عن الإعلام وخصائصه ووسائله ووظائفه.
1 / 330
المبحث الثاني: تعريف الإذاعة، وخصائصها
المبحث الثالث: مسالك التدريب على الكلمات الإذاعية.
الفصل الخامس (التدريب على الكلمة المرئية) وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الراي، خصائصه، نبذة عن بعض الأحكام المتعلقة به
المبحث الثاني: مسالك التدريب على الكلمات المرئية
الخاتمة.
وقد حرصت في كتابي هذا على تقديم المعلومة الموثقة في تركيز وتلخيص، وكنت حثيثا على تتبع واستيفاء معالم الموضوع الأساسية، على ما هو المتوخى في الأبحاث العلمية ولأن تتبع المسائل الفرعية والإيغال فيها والإكثار من الاستطراد يضخم المادة وقد يذهب برونق البحث وبهائه ويقلل من قيمته
الإبداعية. وقد أطلت الحديث في الفصل الثاني وهو في: (التدريب على الخطابة) لأنه تضمن أسسا ومرتكزات عامة ينبني عليها ما تلاها من فصول.
وفي منهج البحث تتبعت النصوص المنقولة فأثبتها كما هي من مظانها ومصادرها لا سيما الأحاديث النبوية الشريفة، ورمزت في الحواشي في عزو الأحاديث إلى الصحاح الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك بالرموز الآتية: (خ) صحيح البخاري طبعة فتح الباري المطبعة السلفية، (م) صحيح مسلم ترقيم محمد عبد الباقي، (د) سنن أبي داود ترقيم الموسوعة الالكترونية (صخر)، (ت) سنن الترمذي ترقيم أحمد شاكر، (ما) سنن ابن ماجة ترقيم محمد عبد الباقي، (ط) موطأ الإمام مالك ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر، (أحمد) مسند الإمام أحمد ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر. وذكرت إثر كل رمز اسم الكتاب من المرجع الحديثي ورقم الحديث وذلك للاختصار وتحرير
1 / 331
الحواشي من ثقل الإطالة والتكرار، وعلى سبيل المثال فإذا قلت [خ: المغازي (٤٠٠١)] فإنني أعني: رواه البخاري في كتاب المغازي حديث رقم (٤٠٠١) وهكذا في بقية الكتب الحديثية الأخرى.. وفيما عدا الكتب التسعة الآنفة فإني أذكرها باسمها دون رمز لقلة الإحالة إليها. والتزمتُ بطبعة واحدة في كل المراجع التي أحلت إليها، التزاما مني بمنهج البحث المتعارف عليه.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرم هذا العمل بالقبول، وأن يعفو عن التقصير والقصور، وأن يلهم الكاتب والقراء الصواب والسداد، وأن يجزل للجميع المثوبة، له سبحانه الفضل والحمد ظاهرا وباطنا وسرا وعلانية وأولا وآخر، وهو الحكيم الخبير. وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين.
1 / 332
الفصل الأول:
مفهوم التدريب وأهميته وخصائصه
المبحث الأول: مفهوم التدريب وأهميته
التدريب في اللغة: التدريب على وزن تفعيل من دَرِبَ بالأمر دَرَبًا ودُرْبة، وتدرّب: ضَرِيَ ودرّبه به وعليه وفيه: ضَرّاهُ. والمدرَّب من الرجال: المجرّب.. والمدرّب: الذي قد أصابته البلايا ودربته الشدائد حتى قوي ومرن عليها. والدُّربة: الضراوة، والدُّربة: عادة وجرأة على الحرب وكل أمر. وقد درب بالشيء يدرُب ودرب به إذا اعتاده وضري به، تقول: ما زلت أعفو عن فلان حتى اتخذها دربة.. والدارب: الحاذق بصناعته (١)
ومن هذه المعاني والمرادفات اللغوية يتبين أن التدريب يكون بمعنى التعويد والحذق والتمرين، بحيث يتأهل المتدرب ويتعرف على ما هو بصدده ليكون فيما يتدرب فيه حاذقا متقنا متمرسا خبيرا، بحيث يعرف دقائق صناعته وأسرارها ويعرف مع ذلك كيف يستفيد من ملكاته وقدراته بدقة وإحكام.
والتدريب العملي اصطلاحا:
يتطابق مفهومه مع التعريف اللغوي، لأن التّدرُّب والتعوّد والتمرّس والوقوف على أسرار الصناعة والولوع بها والنبوغ فيها من مقتضيات التدريب ولوازمه ومعانيه، ورُكبت الجملة من كلمتين هكذا: (التدريب العملي) لتعطي دلالات على الجانب التطبيقي الميداني الذي ينتهجه المتدرب بعد الوقوف على
_________
(١) لسان العرب مادة (درب) ١/٣٧٤
1 / 333
الجانب النظري فيطبق عمليا ما يدرسه نظريا، فيسير التنظير والتدريب في خطين متواكبين متوازيين.
وعليه فمن التعريفات الاصطلاحية لتدريب الدعاة إلى الله:
(القيام بأنماط التعبير المشروعة لتبليغ الدين وإيصال الحق) .
و(التمرس على أشكال التعبير البياني لتبليغ الدين الحق) .
و(تجلية المواقف التعبيرية للداعية) .
و(صقل المهارات الكلامية والقدرات البيانية) .
وهذه التعاريف متقاربة تبرز المعنى المتوخى المراد، وتتضمن العناصر الرئيسة الثلاثة:
١- التدرب وبذل الجهد فيه.
٢- كون التدرب في شكل واحد وهو البيان التعبيري الكلامي.
٣- توخي المقصد من ذلك وهو تبليغ الحق للخلق وبه ينوي الداعية الخير فيؤجر.
ويمكن تلخيصها في ثلاث كلمات: ممارسة البيان للتبليغ.
هذا وللتدريب العملي في حياة الدعاة مفهومان:
المفهوم الأول منصب نحو المناهج والخطط وجملة الوسائل والأساليب التي يتدرب عليها الداعية ويتمرس، كالوعظ والتذكير والتدرب على ذلك إما مشافهة أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة، ومعرفة مواقع الكلام ووقفاته وسكتاته وتخير ألفاظه، وأيضا تأليف الكتب والنشرات وإقامة معارض الكتاب، وتأسيس وبناء دور الرعاية الاجتماعية والمعاهد العلمية، ومعرفة أولويات الدعوة ... إلى آخر متعلقات المناهج والخطط، وهذا مفهوم عام وليس هو
1 / 334
المقصود بالدراسة في هذه المادة. إذ يدرسها طلاب الدراسات العليا في مادة (مناهج الدعوة) .
المفهوم الثاني: الأساليب البيانية خاصة، أي التي تعتمد على جارحة اللسان والبيان، كالخطابة والحوار والجدال والحديث الإذاعي وندوة الرائي، والصور التعبيرية المتنوعة، وغيرها من ضروب وألوان البيان والكلام، وهذا المفهوم هو المعني في هذا الكتاب.
والتدريب باعتباره فنًا يتخذ مفاهيم أخر بحسب كل مجال وتخصص، فهناك التدريب الخطابي البياني، وهناك التدريب الإعلامي الصحفي، وهناك التدريب الإعلامي الإذاعي، وهناك التدريب على صور الحوار..
أهمية التدريب الميداني في عمل الدعاة:
ليس أدل على أهمية التدريب العملي (البياني) في إعداد الدعاة من كتاب الله تعالى وسنة النبي ﷺ وسيرته المباركة، يتضح ذلك من خلال ما يأتي:
(أ) ورود مبادئ للصيغ البيانية في القرآن الكريم:
ولا غرو فالقرآن الكريم كله بيان وهدى للناس، بل هو قمة البيان وذروة البلاغة، وحسبنا في هذا المقام الإشارة إلى قبسات من ذلك، فمن ذلك:
- تضافر الكثير من الآيات على سوق الأدلة على قضايا الإيمان وتصديرها بقوله (قل) بصيغة الأمر المشعرة بأن الداعية ينبغي أن يصدع بالحق وأن يتخذ من القول المبين والحجة البالغة منهاجا وغاية، كما في قوله تعالى: ﴿قُل أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَليًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُل إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّل مَنْ
1 / 335
أَسْلمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ قُل إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُل اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلغَ أَئِنَّكُمْ لتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلهَةً أُخْرَى قُل لا أَشْهَدُ قُل إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (١)
وتأمل أيضا ﴿قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل اللهُ قُل أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْليَاءَ لا يَمْلكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُل هَل يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَل تَسْتَوِي الظُّلمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلوا للهِ شُرَكَاءَ خَلقُوا كَخَلقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلقُ عَليْهِمْ قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾ (٢)
ونجد فعل الأمر: (قل) وردت (٣٤٣) مرة في القرآن الكريم من تأملها وسبر غورها وصنف مضامينها وتدبر مقول القول: وقف على منهاج متكامل في صيغ البيان وطرائق الأداء ومسالك إقامة الحجة في إحقاق الحق ودحض الباطل، وهذا لون رفيع من بلاغة القرآن يتضمن التوجيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه الداعية من قوة العارضة والتمرس على صيغ الخطاب.
- وقد يأتي الأسلوب القرآني الجليل على شكل تعليم الحوار وعلى غرار (إن قالوا كذا فقل كذا) وهي صورة من التدريب على القول ومثاله قوله تعالى: ﴿وَقَالوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لمَبْعُوثُونَ خَلقًا جَدِيدًا * قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُل الذِي فَطَرَكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِليْكَ
_________
(١) سورة الأنعام: ١٤ – ١٩
(٢) سورة الرعد: ١٦
1 / 336
رُءُوسَهُمْ وَيَقُولونَ مَتَى هُوَ قُل عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (١)
وهذا يتضمن فيما يتضمنه التوجيه بتعلم صيغ الجدال والحوار ومعرفة متى يتكلم الداعية وكيف وبماذا.. مما هو من مؤهلات الدعاة ومقوماتهم الخطابية.
(ب) اتخاذه ﷺ الخطابة أسلوبًا في الدعوة:
لقد اتخذ النبي ﵊ من الخطابة أسلوبا عمليا مباشرًا في إيصال دعوته وأداء برسالته سواء خطبه الراتبة أيام الجمعة أو خطبه العارضة في النوازل وغيرها، فعامة الأحاديث النبوية القولية هي في حقيقتها مقاطع من خطبه البيانية الوعظية.
لقد كان أصحابه يرونه ويعاينونه وهو يخطب بين أظهرهم ولننقل لمحة عن هدي النبي الكريم ﷺ في خطبه مما سطره يراع الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى قال: «فصل في هديه ﷺ في خطبته: خطب ﷺ على الأرض وعلى المنبر وعلى البعير وعلى الناقة، وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء إنه يُفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي ﷺ البتة، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب
_________
(١) سورة الإسراء: ٤٩ - ٥١
1 / 337
بالحمد لله وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا قدس الله سره. وكان يخطب قائما، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه ﷺ كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال السلام عليكم، قال الشعبي وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك وكان يختم خطبته بالاستغفار.
وكان كثيرًا ما يخطب بالقرآن، وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة ﵂ قالت: «ما أخذت ﴿ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ إلا عن لسان رسول الله ﷺ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» (١) وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ كان إذا تشهد قال: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا»
وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله ﷺ يوم الجمعة فذكر نحو هذا إلا أنه قال: "ومن يعصهما فقد غوى" (٢)
وقال ابن شهاب: وبلغنا أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا خطب: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت ولا يعجل الله لعجلة أحد يريد الله شيئا ويريد الناس شيئا ما شاء الله كان ولو كره الناس ولا مبعد لما قرب الله ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله".
_________
(١) سورة ق: ١ والحديث رواه: م: الجمعة (٨٧٣)
(٢) م: الجمعة (٨٧٠)
1 / 338
وكان مدار خطبه ﷺ على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد والأمر بتقوى الله وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه.
وكان يقول في خطبه: "أيها الناس إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به ولكن سددوا وأبشروا" (١)
وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم، وثبت عنه أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" (٢) ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ولا زيقا واسعا، وكان منبره ثلاث درجات فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذن في الأذان فقط ولم يقل شيئا قبله ولا بعده فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته بشيء البتة لا مؤذن ولا غيره. وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح من وجهين أحدهما أن المحفوظ أنه ﷺ توكأ على العصا وعلى القوس، الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي وأما
_________
(١) سورة التغابن: ١٥
(٢) ت: النكاح (١١٠٦) وقال حسن صحيح غريب، د: الأدب (٤٢٠١)، صحيح ابن حبان (٢٧٩٧)
1 / 339
السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ومدينة النبي صلى الله عيه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف. وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين فقطع كلامه فنَزل فحملهما ثم عاد إلى منبره ثم قال: صدق الله العظيم ﴿إِنَّمَا أَمْوَالكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (١) رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما، وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له: «قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما» ثم قال وهو على المنبر: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" (٢)
وكان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ويحرضهن على الصدقة. والله أعلم» (٣)
وفي هذه اللمحة عن الخطابة النبوية يتبين لنا أهم أسس الخطابة وصفات الخطيب والمعايير التي ينبغي أن تراعى في الخطيب البارع والخطابة البليغة.
(ج) تقويمه الخطباء وتصويبه لأخطائهم:
لقد كانت الخطباء تخطب بين يديه، سواء كانوا من خطباء المجتمع المدني أو من خطباء الوفود القادمة من مختلف أنحاء الجزيرة العربية بعد الهجرة، وممن
_________
(١) سورة التغابن: ١٥
(٢) متفق عليه: خ: الجمعة (٩٣٠)، م: الجمعة (٨٧٥)
(٣) زاد المعاد١/١٨٦-١٩٩ وفي خطبته ﷺ النساء، الصحيحين: خ: الحيض (٣٣٠٤)، م: الإيمان (٨٠)
1 / 340
اشتهر من الخطباء في ذلك العهد الميمون ثابت بن قيس ﵁ الذي خطب مقدم النبي ﷺ المدينة وكان يجيب بخطبه على خطباء الوفود التي كانت تقدم المدينة.
ومن الأمثلة على تقويمه للخطباء وتعليمهم مواضع القول حديث عدي ابن حاتم ﵁: أن خطيبا خطب عند النبي ﷺ فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى قال: «قم أو اذهب فبئس الخطيب أنت» وفي رواية أخرى عنه قال: تشهّد رجلان عند النبي ﷺ فقال أحدهما من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله ﷺ: "بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله" (١) فهو هنا ﵊ أنكر عليه تشريكه مع الله في المعصية فقد قال: «ومن يعصهما» ولم يقل ومن يعص الله ورسوله، وهذا درس في التوحيد بليغ.
ولقد كان ﷺ يستمع إلى خطيب الأنصار كثابت بن قيس بن الشماس وإلى شعرائهم، وكانت خطباء الوفود تخطب بين يديه فيستمع ويعلم ويوجه.
(د) تربيته صلوات الله عليه أصحابه على أساليب البيان:
كان يتعهدهم ويوجههم ويصوّب من أخطأ منهم حتى في الدقائق التي قد تخفى على كثيرين، لاسيما ما يمس جناب التوحيد والعقيدة، وكان ذلك شاملا لكل الأشكال التعبيرية البيانية من خطابة وحوار وجدال ... لذا برز عدد غير قليل من الصحابة ﵃ في الخطابة الحوار والجدال وجمعوا في هذه العلوم خصائصها ودقائقها على نحو قل مثيله.
_________
(١) م: الجمعة (٨٧٠)
1 / 341
ومن تأمل خطب هؤلاء الأماجد ﵃ يجد أنها مليئة بالمعالم العقدية والأسس الإيمانية والخصائص الخطابية والمقاصد السنية وهذا كله لم يأت من فراغ، ولولا أنه ﷺ كان يتعهدهم ويربيهم على ذلك ما كان لهم أن يحققوه، ومن خُطب الصحابة ﵃ الذين تبؤوا المكانة السنية في التدرب البياني ممن رباهم ﷺ على عينه:
أ - جعفر ﵁ بين يدي النجاشي (خطبةً وحوارًا) .
ب- مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم ﵄ (تعليما وإقراءً)
ج- معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ﵄ (تعليما وإقراءً وإفتاءً) .
د- عبد الله بن مسعود ﵁ (تعليما ووعظًا)
هـ- عبد الله بن العباس ﵂ (حوارًا وجدالًا)
وإليك مقتبسات مختصرة من سير كل واحد من هؤلاء الأماجد والأسلوب البياني التعبيري الذي سلكه:
أ - جعفر بين يدي النجاشي: تروي القصة أم المؤمنين أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي ﷺ بعد أن ساقت أحداث القصة قالت قال سفيرا قريش للنجاشي: «أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه» [وذكرت أحداث القصة] قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له أيها الملك: «كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام
1 / 342
ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك» قالت فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء قالت فقال له جعفر نعم فقال له النجاشي فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من سورة ﴿كهيعص﴾ قالت فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: «إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد» (١)
ومن هذه القصة يتبين كيف أن الكلمة الهادفة البناءة والحوار الصّيّب الحكيم كان سببا قويا بعد توفيق الله تعالى في صد كيد الأعداء وصيانة مصالح
_________
(١) أحمد: أهل البيت (١٦٤٩) مختصرا، قال في مجمع الزوائد ٦/٢٦ رجاله رجال الصحيح غير إسحاق وقد صرح بالسماع، وقال في مسند إسحاق ١/٧٣ (٢١) رواته ثقات سوى محمد بن إسحاق صدوق مدلس لكنه صرح هنا فإسناده حسن به.
1 / 343
المسلمين وإقامة الحجة والبرهان على المنكرين والمتشككين، ولقد كان جعفر ﵁ موفقا في خطابه وفي حواره. عارفا بمسالك الكلام ومكامن الحوار، ولا جرم أنه لم يكن بتلك المثابة من الحكمة والحنكة إلا بعد أن تعلم ذلك من النبي ﷺ وتفقه فيه على يديه.
ب- مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم ﵄: لقد بعثهما النبي الكريم ﷺ إلى المدينة داعيين معلمين مقرئَين، ولم يكن اختياره ﵊ إلا بعد تأهلهما لهذه المهمة التربوية الإعلامية الجليلة تأهلا صقلته التجربة والممارسة والتربية على عينيه ﷺ، قال البراء بن عازب ﵄: «أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي ﷺ ثم قدم النبي ﷺ فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ﷺ حتى جعل الإماء يقلن قدم رسول الله ﷺ فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل» (١)
ففي هذا الحديث أن مصعبا وعبد الله كانت مهمتهما إقراء الأنصار القرآن وللقرآن كما هو معروف تأثيره النافذ من خلال قوته البيانية وما اشتمل عليه من إعجاز، والقرآن العظيم أجل ما اشتغل به الدعاة تعلما وتعليما وتلقيا وأداءً
ج - دعوة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لأهل اليمن:
عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ لما
_________
(١) خ: المناقب (٣٩٢٥)
1 / 344
بعث معاذا ﵁ على اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس» (١)
وتأمل كيف وجهه النبي ﷺ وهو يعلمه طرائق الدعوة ومنهجها إذ عرفه أولا بالمدعوين الذين سيدعوهم، وبين له بعد ذلك مراتب الدعوة وأولوياتها، ولم يكن اختيار النبي ﷺ لمعاذ ﵁ إلا لتأهله ومكنته في مجال ما بعث إليه. فهو يجمع بين فقه المفتي الأريب وفقه الداعية الحصيف، ومعاذ من فقهاء الصحابة وقرائهم ودعاتهم ﵁.
د - عبد الله بن مسعود ﵁:
لعبد الله أسلوب عرف به فهو فضلا عن كونه مرجعًا في إقراء القرآن وتفسيره، كما في الحديث الشريف: "استقرؤا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل" (٢) نجده أيضا خطيبا مفوها وواعظا حكيما، فمن منهج ابن مسعود أنه كان يتحرى الوقت المناسب للوعظ والتعليم يستجلب بذلك في المستمعين والمتعلمين الاستيعاب ويدرأ عنهم السأم والملل، يدل على ذلك ما رواه شقيق أبي وائل قال كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: «ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم إن رسول
_________
(١) متفق عليه: خ: الزكاة (١٤٥٨)، م: الإيمان (١٩)
(٢) متفق عليه: خ: المناقب (٣٧٥٨)، م: فضائل الصحابة (٢٤٦٤)
1 / 345
الله ﷺ كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا» (١)
وكان عبد الله من المكثرين من ملازمة النبي ﷺ حتى يظنه من لا يعرفه أنه من أهل البيت من كثرة دخوله على النبي وملازمته له، وحسبنا في هذا شهادة الصحابي حذيفة ﵁ له قال حذيفة: «إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًاّ وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللهِ ﷺ لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلى أَنْ يَرْجِعَ إِليْهِ لا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلهِ إِذَا خَلا» (٢)
وهذا الشبه في السمت والهدي بالنبي ﷺ سببه كثرة ملازمته له والأخذ عنه والجلوس بين يديه، ومن جملة ذلك معرفته بأصول الخطابة وخصائصها ومضامينها ومعالمها ومتعلقاتها يشهد لذلك حديث الأسود أنه سمع أبا موسى يقول: «قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت رسول الله ﷺ، مما نرى من دخوله ودخول أمه عليه» (٣)
إن هذه الملازمة بهذه المثابة أسلوب تربوي يتحقق معه التعلم والأخذ بطريق القدوة، وهي قدوة يصاحبها حب ورغبة في التشبه والإقتداء، فإذا كان ذلك بدافع الإيمان والتقوى لا لشيء آخر فكيف تراه يكون، وهذا ما كان من عبد الله بن مسعود ﵁ في أخذه من رسول رب العالمين ﷺ، وفي رواية أخرى عن أبي الأحوص قال كنا في دار أبي موسى مع نفر من
_________
(١) متفق عليه: خ: العلم (٧٠)، م: صفة القيامة (٢٨٢١)
(٢) م: الأدب (٦٠٩٧)
(٣) متفق عليه: خ: المناقب (٣٧٦٣)، م: فضائل الصحابة (٢٤٦٠)
1 / 346