شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
التصور الخامس: الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية العالمية
التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
التصور السابع: كل شيء سيوجد موجود بالفعل
التصور الثامن: السفر جانبيا عبر الزمن
التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
التصور الخامس: الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية العالمية
التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
التصور السابع: كل شيء سيوجد موجود بالفعل
التصور الثامن: السفر جانبيا عبر الزمن
التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
قراءات إضافية
تسعة تصورات عن الزمن
تسعة تصورات عن الزمن
السفر عبر الزمن بين الحقيقة والخيال
تأليف
جون جريبين
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
شيماء طه الريدي
إلى تيريزا، التي تدرك جيدا أهمية الزمن.
إشادة بكتاب «ستة أشياء مستحيلة» «كتاب تمهيدي عن كل ما يتعلق بالكم ... يمتاز بالدقة وسلاسة الأسلوب.»
صحيفة صنداي تايمز «ألهم جريبين أجيالا بمؤلفاته في العلوم المبسطة، وهذا الكتاب، الذي يعد أحدث مؤلفاته، هو ملخص موجز وممتع للمتبارين الأساسيين في تقديم تفسير حقيقي لميكانيكا الكم. ... إن لم تنتبك الحيرة من قبل حول ما ترمي إليه أنجح نظرياتنا العلمية، أو حتى إن سبق وانتابتك تلك الحيرة وتريد أن تعرف آخر ما توصل إليه الفكر، فسيقدم لك هذا الكتاب الجديد كل المعلومات التي سبقت انهيار الدالة الموجية.»
جيم الخليلي «يقدم لنا جريبين وجبة دسمة من المعلومات تتسم بالدقة والوضوح؛ إذ يزخر هذا الكتاب على صغره بكم هائل من المعلومات. يضم الكتاب بين دفتيه كما عظيما من كتب العلوم المبسطة، وأنا أحبه. ... يمكن القول إن هذا الكتاب هو أفضل وأعظم ما أنتجت العلوم المبسطة البريطانية؛ لأنه يوجز نتاج سنوات عديدة من الدراسة في طبيعة فيزياء الكم في كتيب صغير.»
برايان كليج،
popularscience.co.uk «كتاب رائع وسهل الفهم ... أنصح به بقوة لطلاب العلوم والمتحمسين للخيال العلمي، وكذلك أي شخص لديه فضول لفهم العالم الغريب لفيزياء الكم.»
مجلة فوربس
إشادة بكتاب «سبعة أعمدة للعلم» «في العامين الماضيين، شهدنا سلسلة من الكتب تراكم أكداسا من العلوم في شكل مبسط ومفهوم في مساحة صغيرة. وقد أثبت جون جريبين نفسه كأستاذ لهذا النهج بكتابه «ستة أشياء مستحيلة»، ثم أثبتها مرة أخرى ... بكتاب [سبعة أعمدة للعلم]، هذا الكتاب اللطيف المباشر الذي يزخر بكم هائل من المعلومات. ... إنه يتناول الكثير من الموضوعات العلمية، ويسرد حكاية مثيرة للاهتمام، وهو ذو غلاف جميل.»
برايان كليج،
popularscience.co.uk
إشادة بكتاب «ثمانية احتمالات مستبعدة» «أعجبنا هذا الكتاب ... إنه كتاب يستحث الفكر ونرغب في مشاركته مع أكبر عدد ممكن من الناس.»
موقع «أيريش تك نيوز» «يصل جريبين النقاط بعضها ببعض ببراعة وإتقان لإظهار صورة كبرى أروع حتى من مجموع أجزائها.»
مجلة «فيزيكس وورلد» «إنها رحلة رائعة داخل عالم الغرائب والاحتمالات العلمية المستبعدة.»
ليلي باجانو، موقع «ري أكشن» «يوسع جريبين نطاق بحثه ويستعرض معرفته الواسعة من خلال تضمين الكثير من المعلومات في كل فصل من فصول الكتاب ... إنه كتاب موجز، لكنه قد يلهم القراء ويدفعهم إلى مزيد من البحث.»
جايلز سبارو، مجلة «بي بي سكاي آت نايت»
شكر وتقدير
أوجه الشكر مجددا إلى جامعة ساسكس لاستمرارها في توفير المرافق والأدوات البحثية، التي من بينها مكان عمل مليء بالدفء والود والكثير من القهوة. إن اهتمامي بطبيعة الزمن والسفر عبره تعود إلى سنين طويلة، وقد قادني هذا الاهتمام إلى نقاشات مثمرة مع الكثير من الأصدقاء والزملاء، وهم أكثر من أن يسعهم المقام هنا، لكنني أود أن أخص بالذكر بول ديفيز من عالم العلوم، ودوجلاس آدامز من عالم الخيال. أما بقيتكم فتعرفون قدركم عندي!
«هيا، لنبدأ بربات الإلهام اللائي يبهجن بأغانيهن روح والدهن زيوس في جبل الأوليمب، يقصصن ما يجري الآن، وما سيجري، وما صار آنفا.»
هسيود، في قصيدته «ثيوجونيا» «إلى تساؤلات الرجال يعود سبب تفلسفهم الآن وتفلسفهم من قبل؛ إذ تساءلوا أولا حول الصعوبات الجلية، ثم تقدموا شيئا فشيئا وتحدثوا عن صعوبات أمور أعظم، مثل ظواهر القمر والشمس والنجوم ونشأة الكون.»
أرسطو، من كتاب «ما وراء الطبيعة»
تمهيد
تأمل في مصادر الإلهام
استهوتني مسألة السفر عبر الزمن منذ بدأت القراءة؛ كنت سأقول منذ بدأت القراءة عن الخيال العلمي، لكن بعض ذكريات قراءاتي الأولى تتمحور حول جول فيرن (عشرون ألف فرسخ تحت الماء) وإتش جي ويلز (آلة الزمن)، تبعهما سريعا أي شيء وكل شيء بقلم آرثر سي كلارك وإسحاق أسيموف، مع جرعات شهرية من مجلة «أستوندينج»
1
تحت رئاسة جون دبليو كامبل للتحرير، وذلك قبل فترة طويلة من تحولها لتصبح باسم «أنالوج». ولعل أحد الأشياء العظيمة بشأن مجلة «أستوندينج» أن كل إصدار منها كان يحوي مقالا واقعيا، يصف اكتشافات علمية حقيقية من النوع الذي يروق محبي الخيال العلمي. وكان فيرن وويلز وكلارك وأسيموف بالطبع كتابا يضمنون جرعة صحية من العلم الحقيقي في قصصهم. وقد أصبحوا - إلى جانب مجلة «أستوندينج» - مصادر إلهامي الشخصية؛ الإلهام الذي استوحيته في مسيرتي في الكتابة عن العلم الذي يبدو في بعض الأحيان كالخيال، و(في نهاية المطاف) الخيال المبني على العلم؛ ولعل أحد أبرز اللحظات في مسيرتي كان حين نشرت لي أول قصة في مجلة «أنالوج»، مع أن كامبل حينها لم يعد بيننا.
غلاف مجلة أستوندينج
بيني بابليكيشنز/ديل ماجازينز
أورانيا
سيبيا تايمز/جيتي
على امتداد مسيرتي المهنية، لطالما عدت إلى موضوعات الزمن والسفر عبر الزمن، وتبدو لي فكرة حسنة أن أجمع الخيوط معا في نسيج واحد. هذه ليست مجموعة موضوعات معادة الطبع، بل إعادة صياغة لأبرز النقاط الأساسية، التي قد يكون بعضها مألوفا لك وقد يفاجئك بعضها الآخر، مع إضافة مواد وتحديثات جديدة. ويحدوني الأمل في أن يكون هذا الكتاب في مجموعه أفضل من أجزائه ، وقد استمتعت بكتابته بقدر ما استمتعت برؤية أولى قصصي القصيرة منشورة في مجلة «أنالوج».
وقد أمدتني فكرة مصادر إلهامي الشخصية الخمسة بنمط لهذا المشروع. فقد ذكرتني بربات الإلهام التسع من اليونان القديم: كليو، ويوتيربي، وتاليا، وميلبوميني، وتيربسيكوري، وإراتو، وبوليمنيا، وأورانيا، وكاليوبي. لقد كن الربات اللائي جسدن العلوم والأدب والفنون؛ وإن كانت إحداهن تطل من فوق كتفي، فلا بد أنها كانت أورانيا، مبتكرة علم الفلك وملهمة الكتابات الفلكية.
لكن ربات الإلهام هؤلاء كن - أو ما زلن - متعددات المواهب. فقد ابتكرت اثنتان منهن نظرية التعلم، وابتكرت ثلاث الذبذبات الموسيقية، وابتكرت أربع منهن اللهجات الأربع لليونان القديم، وابتكرت خمس منهن الحواس البشرية الخمس. لا بد أنك لاحظت أن مجموع كل هذا بالفعل يساوي أكثر من تسعة؛ فلكل ربة إلهام عدة أدوار تضطلع بها. والواقع أنه لا يزال هناك المزيد من الأدوار؛ إذ ابتكر سبع منهن أوتار القيثارة السبعة، ومناطق القبة السماوية السبع، والكواكب السبعة المعروفة لدى القدماء، والحروف المتحركة السبعة في الأبجدية اليونانية. وتقديرا لهن، ولأنني لم أستطع تضمين كل شيء في خمسة تصورات، وزعت تصوراتي حول الزمن، وبالأخص السفر عبر الزمن على تسعة موضوعات أساسية؛ تسعة تصورات عن الزمن.
جون جريبين، أبريل 2022
هوامش
مقدمة
السفر عبر الزمن ليس «مجرد خيال علمي»
«يمر الزمن كالسهم، أما الفاكهة فتمر كالموز.»
تيري ووجان
ثمة نوع من الخيال العلمي يكون فيه كل العلم حقيقيا، لكن الأحداث فيه تجري في زمن أو مكان خيالي. وأحد الأمثلة المفضلة لدي هو سلسلة قصص في مجموعة «الدافع الخارجي» من تأليف جون ويندهام،
1
والتي تقدم مخططا لاستكشاف الفضاء القريب. وعلى الطرف الآخر من عالم الخيال العلمي، ثمة قصص تقع على الحدود المبهمة والمشوشة بين الخيال العلمي والخيال الخرافي، وهي منطقة اجترأ على اقتحامها في بعض الأحيان آرثر سي كلارك، الذي قال ذات مرة: «الخيال العلمي هو ما يمكن أن يحدث، لكنك عادة لن ترغب في أن يحدث. والخيال الخرافي هو ما لا يمكن أن يحدث، إلا أنك تأمل أن يحدث». تلك طرفة جيدة. لكن لدي شكوكي حول دقة الجزء الأخير فيها؛ إذ إن سلسلة «سيد الخواتم» (لورد أوف ذا رينجز) تنتمي إلى الخيال الخرافي البدائي، لكنها ليست بشيء يرغب فيه المرء، إلا أنها تسلط الضوء على الموضع الذي يتخذه موضوع السفر عبر الزمن، في اعتقاد الناس، على النطاق الممتد بين الخيال العلمي والخيال الخرافي.
وعلى عكس السفر عبر الفضاء - وهو عنصر أساسي في الخيال العلمي جائز الحدوث بكل تأكيد حتى لو كانت أنظمة الدفع المذكورة في القصص لم تصبح عملية بعد (وقد لا تكون كذلك أبدا) - فإن السفر عبر الزمن بكل تأكيد شيء لا يمكن أن يحدث، مع أنك تتمنى لو أنه يحدث. أم هل يمكن أن يحدث؟ السفر عبر الزمن، كما أرغب في توضيحه في هذا الكتاب، لا تمنعه قوانين الفيزياء، وإن لم يكن ممنوعا فلا بد إذن أنه ممكن. لا تأخذ كلامي على محمل الصدق وحسب هكذا. فقد قال ديفيد دويتش أستاذ الفيزياء بجامعة أكسفورد: «أنا نفسي أعتقد أن السفر عبر الزمن سيكون متاحا ذات يوم؛ لأننا حين نعرف أن شيئا ما لا تمنعه قوانين الفيزياء الشاملة، نجد في النهاية طريقة تكنولوجية لجعله حقيقة.»
إن السفر عبر الزمن ليس وهما، وليس مجرد خيال علمي أيضا، رغم أنه كالسفر عبر الفضاء، يعد مجازا مشتركا في الخيال العلمي. وكمثل السفر عبر الفضاء أيضا، يعتبر السفر عبر الزمن علما حقيقيا جادا خضع لتدقيق مكثف من المنظرين (لا عجب هنا) كما خضع أيضا لاختبارات تجريبية حقيقية وجادة، وهو ما قد يفاجئك. كل من يرفض السفر عبر الزمن باعتباره «مجرد خيال علمي» مخطئ على أساس علمي، كما أنه مخطئ في استخدام الوصف؛ لأن استخدام السفر عبر الزمن في الخيال العملي عادة ما يبرز الحقائق العلمية على نحو لا تضاهيها فيه المطبوعات العلمية، وسأقدم مثالا جيدا على ذلك في تصوري الخامس. لكن قبل أن أخوض في هذه المسألة الشائكة، ينبغي لي أن أعرض طبيعة الفضاء والزمن اللذين يمكن السفر عبرهما.
هوامش
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
«ليس للجاذبية وجود بشكل ما؛ ما يحرك الكواكب والنجوم هو اختلال الزمان والمكان.»
ميتشيو كاكو «يعرف الجميع» أن ألبرت أينشتاين هو أول من وصف الزمن باعتباره «البعد الرابع» في نظريته عن النسبية الخاصة المنشورة عام 1905. و«الجميع» مخطئون في ذلك، بل وخطأ مضاعف.
قبل ذلك بعشر سنوات، أي في عام 1895، نشرت قصة إتش جي ويلز الكلاسيكية «آلة الزمن» للمرة الأولى في شكل كتاب. وفي واقع الأمر، كان ويلز هو من كتب - في قصة «آلة الزمن» - أنه «لا فرق بين الزمن وأي من أبعاد المكان الثلاثة، عدا أن وعينا يتحرك عبره». ويمضي في وصف الأشياء التي نراها بأبعاد ثلاثية - كالمكعب - باعتبارها كيانات ثابتة تمتد عبر الزمن في واقع الأمر؛ ومن ثم يكون لها الأبعاد الأربعة، وهي الطول والعرض، والارتفاع، والزمن. لكن حتى في عام 1905، لم يصف أينشتاين الزمن باعتباره البعد الرابع. فمن أدخل الفكرة إلى النظرية الخاصة في الواقع هو هيرمان مينكوفسكي، في محاضرة ألقاها في مدينة كولونيا في سبتمبر من عام 1908. كان مينكوفسكي أحد محاضري أينشتاين حين كان طالبا في زيورخ، وأطلق عليه حينها وصفه الشهير له بأنه «كلب كسول» والذي «لا يعبأ أبدا بأمر الرياضيات». غير أنه كان أول من ثمن تحقيق ذلك الكلب الكسول شيئا بارزا بنظريته عن النسبية الخاصة. وفي مقدمة محاضرته في مدينة كولونيا، قال مينكوفسكي:
الآراء حول الزمان والمكان التي أرغب في طرحها على مسامعكم ولدت من رحم الفيزياء التجريبية، وفيها تكمن قوتها. إنهما مطلقان. ومن ثم فإن المكان في حد ذاته والزمان في حد ذاته مآلهما إلى التلاشي والتحول إلى مجرد ظلال، وحدوث اتحاد من نوع ما بينهما هو فقط ما سيحفظ لنا واقعا مستقلا.
وسرعان ما عرف ذلك الاتحاد بينهما باسم الزمكان. لكن أينشتاين في البداية أبغض الفكرة، ورأى أنها مجرد خدعة رياضية؛ إذ علق بفظاظة بقوله: «منذ أن هاجم علماء الرياضيات نظرية النسبية، لم أعد أنا نفسي أفهمها.» «السبب الوحيد لوجود الزمن هو ألا يحدث كل شيء دفعة واحدة.»
ألبرت أينشتاين
إتش جي ويلز
أرشيف هولتون/جيتي
من السهل جدا فهم هذا في واقع الأمر. فأي موقع على مستوى الشارع في إحدى المدن - على سبيل المثال - يمكن أن يوصف على أساس رقمين، أو إحداثيين. قد أرتب للقائك خارج البناية عند ناصية شارع فيرست وجادة ثيرد. ويدخل إحداثي ثالث إذا ما رتبنا للقاء في المقهى الكائن في الطابق الثاني من تلك البناية. ويدخل الزمن في المعادلة باعتباره البعد الرابع إذا ما رتبنا للالتقاء في ذلك المكان، لنقل في الساعة الثالثة. وبذلك يمكن أن نمثل أي موقع في ذلك المكان من خلال ثلاثة أرقام، وأي موقع في الزمكان يمكن أن يمثل في أربعة أرقام. جميعنا يعرف اللعبة التي نصل فيها سلسلة من النقاط بعضها ببعض على صفحة لنكون بها صورة. يتمثل موقع كل نقطة من تلك النقاط (في هذه الحالة) في رقمين، هما إحداثياتها على الصفحة. وإن كانت الورقة من المطاط وممدودة، تصبح الصورة مشوهة، وهنا يمكن أن نصف الصورة المشوهة على أساس الطريقة التي تحركت بها كل نقطة من موضعها الأول. ويمكن استخدام المعادلات التي تقيس العلاقة بين النقاط لوصف هذا التشوه. وبالطريقة نفسها، يمكن استخدام المعادلات التي تربط بين الإحداثيات (النقاط) في الزمكان لوصف التشوهات أو الانحرافات في الزمكان.
غير أينشتاين موقفه وقبل بتطبيق القواعد الهندسية على نظريته على هذا النحو حين أدرك أن ذلك يعد أحد أساليب وضع نظرية عامة أكثر عن النسبية، والتي من شأنها أن تصف الجاذبية وكذلك الزمان والمكان. فالنظرية الخاصة للنسبية تصف ما يحدث للأشياء حين تتحرك بسرعات ثابتة عبر الفضاء. والنظرية العامة تفعل ذلك أيضا، لكنها، إضافة إلى ذلك، تصف ما يحدث للأشياء حين تتسارع، وكيف تؤثر الجاذبية على الأشياء. وتخبرنا المعادلات (التي، لحسن الحظ، لست في حاجة إلى أن أتطرق إليها هنا) بأن التسارع يساوي الجاذبية تماما ويكافئها. ويؤدي هذا، من بين أشياء أخرى، إلى خلق القوة التي تقع على رائد فضاء على متن صاروخ ينطلق من الأرض، والتي عادة ما تقاس على أساس
G ؛ أي قوة الجاذبية على سطح الأرض. فقوة الجاذبية التي يكون قياسها
4G
تعني حرفيا أن وزن رائد الفضاء يعادل أربعة أضعاف وزنه على الأرض. وفي المدار الذي يسقط سقوطا حرا حول الأرض، والذي يعد نوعا من التسارع الذي لا ينتهي أبدا؛ لأن المدار يعد حلقة مغلقة، يكون رائد الفضاء حرفيا منعدم الوزن؛ لأن التسارع في هذه الحالة يلغي عمل الجاذبية الأرضية.
وفي إطار المنظور الهندسي للزمكان، تكون الجاذبية هي نتاج انبعاج أو تجويف في نسيج الزمكان سببه كتلة الأرض (أو أي جسم آخر كبير الحجم؛ فأي جسم مهما كان صغيرا يحدث عمليا انبعاجا في نسيج الزمكان، لكن آثاره تكون أصغر من أن نلاحظها في حياتنا اليومية، مثلي أو مثلك أو مثل كوب القهوة أو تاج محل). ولم يأت أحد حتى الآن بتشبيه أفضل من ذلك التشبيه الخاص بمنصة الترامبولين. إذا كان الترامبولين مشدودا بإحكام، فإنه يكون سطحا مستويا، يشبه «نسيجا زمكانيا مستويا»؛ حيث يسير سلوك كل شيء وفقا للنظرية الخاصة للنسبية. مرر كرة زجاجية عبر سطح الترامبولين وستجد أنها تسير في خط مستقيم. والآن ضع جسما ثقيلا - ككرة بولينج - على الترامبولين. ستجد أنها أحدثت به انبعاجا. جرب أن تدحرج كرة زجاجية بالقرب من الجسم الثقيل، وستجد أنها تنعطف حول الانبعاج قبل أن تمضي في طريقها. يشبه هذا تأثير الكتلة على الزمكان؛ إذ يؤثر على مسارات الأجسام بحيث تبدو وكأنها تنجذب بفعل قوة تشدها تجاه الأجسام الضخمة. لكن من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الانبعاج قد تكون في الزمكان وليس في المكان وحده. فالزمن يمر بمعدل مختلف في المنطقة المنبعجة من الزمكان بالقرب من الأجسام الضخمة، مقارنة بمعدل مروره على سطح الزمكان المستوي.
نحن الآن على استعداد لتناول تداعيات كل هذا على السفر في الزمن. أحد الاحتمالات ينبثق من النظرية الخاصة للنسبية، التي لا تنطبق إلا في الزمكان المستوي. وكذلك ينبثق من النظرية العامة للنسبية؛ لأنها تشمل كل ما تشتمل عليه النظرية الخاصة إلى جانب أشياء أخرى. بالنسبة إلى الأجسام التي تتحرك بسرعات ثابتة (الأمر الذي يعني أنها تتحرك بسرعات ثابتة في خطوط مستقيمة) في الزمكان المستوي، فإن المعادلات تخبرنا بالسلوك النسبي للساعات (بمعنى أي جهاز لضبط الوقت) وعصي القياس (بمعنى أي جهاز لقياس المسافة) حين تتحرك الأشياء - كسفن الفضاء مثلا - بعضها نحو بعض. والحركة في مجملها نسبية؛ لأن أي «ملاحظ» (كرائد الفضاء على متن إحدى تلك السفن الفضائية) مخول له أن يقول إنه ثابت (أي «في حالة سكون») وكل شيء حوله يتحرك بالنسبة إليه. فيقال إنها في «إطار مرجعي». وبالمقارنة مع ذلك الملاحظ الثابت، نجد أن الساعات التي تكون على متن سفينة فضائية متحركة تسير ببطء، بينما تتقلص السفينة المتحركة في الاتجاه الذي تتحرك فيه. فالوقت حرفيا يمر ببطء أكثر في السفينة الفضائية المتحركة، وكلما زادت سرعة السفينة (حتى تصل إلى حد السرعة الذي يتحدد بسرعة الضوء)، مر الزمن أبطأ. ولعل أحد الأسباب التي تجعل سرعة الضوء هي الحد الأقصى للسرعة، أن الوقت يقف ساكنا عند تلك السرعة؛ لكن لهذا الأمر أيضا تداعيات مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بموضوع السفر عبر الزمن سوف أناقشها في التصور الرابع. ونظرا إلى أن رائد الفضاء في سفينة الفضاء المتحركة مخول له أن يقول إنه في حالة سكون، وإنك أنت من تتحرك، فبالنسبة إليه، ساعتك أنت هي التي تتحرك ببطء. كلتا وجهتي النظر صحيحة، وليس هناك تناقض أو تضارب؛ لأن سفينتي الفضاء كلتيهما لا تتوقفان أبدا عن الحركة بعضهما إلى جوار بعض في الإطار المرجعي نفسه. لكن ثمة أشياء مثيرة للاهتمام تحدث إذا ما حدث واجتمعتا بهذه الطريقة.
إذا ما انطلقت سفينة فضاء في رحلة بجزء لا بأس به من سرعة الضوء، ثم استدارت وعادت أدراجها لمقارنة الوقت من خلال الساعة، فسيجد رواد الفضاء أن الوقت قد مر أبطأ بالفعل وهم على متن السفينة التي انطلقت ثم عادت، وأي راكب على متنها سيكون قد زاد عمره بمعدل أقل من أي رفقاء له ظلوا في منازلهم. ما زال هذا لا يمثل تناقضا؛ لأن الموقف لم يعد متماثلا. نحن نعرف أي سفينة ذهبت وعادت؛ لأنه تحتم عليها أن تستدير. وهذا يقتضي حدوث تسارع، وحساب فارق الزمن على نحو صحيح يتم عن طريق استخدام النظرية العامة للنسبية؛ لكن الأمر صار أسهل لأي شخص يريد أن يقوم بهذه العملية الحسابية؛ إذ تبين أنه حال استخدام معادلات النظرية الخاصة المطبقة على رحلتي الذهاب والإياب، كل على حدة، ووضعنا فرضية غير حقيقية بأن عملية الاستدارة تحدث في الحال، فإنها تقدم الإجابة نفسها. فعند نصف سرعة الضوء، يتباطأ الوقت («يتمدد») بنسبة 13 بالمائة؛ وعند نسبة 99 بالمائة من سرعة الضوء، يتباطأ الوقت بنسبة 86 بالمائة. عند تلك السرعة، لكل سنة تمر على الصديق الماكث في منزله، يمر ما يزيد قليلا على شهر واحد على المسافر على متن السفينة. وفي الرحلة التي تدوم 50 سنة على ساعة المسافر، سيعود ليجد أنه في حين أن عمره قد زاد بمقدار 50 سنة فعلا، إلا أن 350 عاما مرت على الأرض، وأن صديقه قد فارق الحياة منذ وقت طويل. لقد تحرك المسافر في المستقبل 350 عاما فيما لم يمر من عمره إلا 50 عاما. «لا بد لشعرك أن يشيب بفعل هندسة الزمكان الرياضية.»
براين كوكس، «قوى الطبيعة»
استخدم تأثير التمدد الزمني هذا أساسا للكثير من قصص الخيال العلمي، ليقدم بذلك وسيلة للذهاب في رحلة في المستقبل في اتجاه واحد. وقصتي المفضلة بين تلك القصص هي قصة «تاو زيرو» لبول أندرسون، والتي تدفع هذه الفكرة إلى أقصى حدودها المنطقية.
لكن تمدد الزمن ليس «مجرد خيال علمي». فأكثر النتائج الخاصة بتجارب السفر عبر الزمن أهمية تأتي من دراسات أجريت على جسيمات أولية قصيرة العمر في مسرعات كبيرة للجسيمات، كتلك الموجودة في مختبر سيرن في جنيف أو مختبر المسرع الخطي الوطني بستانفورد (سلاك) بولاية كاليفورنيا، الذي يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات. في تلك التجارب، تصنع الجسيمات من الطاقة الخالصة - توافقا مع معادلة أينشتاين الشهيرة - من خلال تحطيم جسيمات أخرى معا على سرعات عالية للغاية. تكتشف الجسيمات التي تصنع بهذه الطريقة بأدوات تقع على مسافة من موقع تصنيعها. ولبعض هذه الجسيمات الجديدة فترة حياة قصيرة جدا، وتتحلل إلى أشكال أخرى أكثر ثباتا في جزء ضئيل للغاية من الثانية. وفي كثير من الحالات تكون مدة حياة هذه الجسيمات قصيرة جدا لدرجة أن السفر حتى بجزء كبير من سرعة الضوء لا يسمح لها بالوصول إلى أجهزة الكشف، إلا أنها تكتشف رغم ذلك. ويرجع هذا إلى أن الزمن الذي مر عليها أقل من الزمن الذي مر في العالم الخارجي. فهذه الجسيمات تكون قد سافرت، بطريقة ما، مسافة قصيرة في المستقبل. أما بالنسبة إلى جسيم ساكن الإطار بفترة حياة 10 ملايين جزء من الثانية ويسافر بسرعة 12 /13 من سرعة الضوء، فينبغي له أن يكون قادرا على قطع مسافة هي أقل قليلا من 30 مترا قبل أن يتحلل. لكن تأثير التمدد الزمني يسمح له بالسفر مسافة ضعف هذه المسافة بمقدار 2,6، أي ما يزيد قليلا عن 70 مترا.
اختبرت بعض التجارب الأخرى تأثير تمدد الزمن على المسافرين لمسافات بعيدة، وإن كان ذلك على نطاق محدود، ومرة أخرى وجد أن النتائج تطابق توقعات نظرية أينشتاين تماما. في إحدى مجموعات التجارب، صنعت جسيمات متطابقة بالطريقة المعتادة، بتثبيت جزء من مجموعة الجسيمات في مكانها بواسطة حقول مغناطيسية وكهربية، في حين ذهبت البقية في دورة حول مسرع جسيمات وعادت إلى نقطة البداية. وعادت تلك الجسيمات وقد تبقى من عمرها قدر أكبر مقارنة بنظيراتها التي لم تذهب إلى الرحلة.
لكن انتظر. أليس كل هذا نسبيا؟ ما الذي يحدث من منظور الجسيم؟ من ذلك الإطار المرجعي، فإن جهاز الكشف ونظام التجربة (بل كوكب الأرض كله) هما اللذان يتحركان بجزء كبير من سرعة الضوء؛ لذا تقلصت المسافة إلى جهاز الكشف، بالقدر الذي نحتاج إليه بالضبط لشرح كيفية انتقال الجسيمات من أحد طرفي التجربة إلى الآخر قبل أن تتحلل. وبالنسبة إلى الجسيم الذي يسافر بسرعة 12/ 13 من سرعة الضوء، فإن المسافة تقلصت بمعامل قدره 2,6. أي النتيجة نفسها!
يبرز هذا حقيقة أن التشوهات التي تحدث في الزمان والمكان بعضها يوازن بعضا دائما. فالحركة تجعل المكان يتقلص والزمن يتمدد. والسمة الأهم في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد هي عبارة عن مزيج بينهما، وتدعى الامتداد. وامتداد جسم ما يظل كما هو دائما، بغض النظر عن كيفية حركته، فيما يشوه الزمان والمكان على نحو منفصل. هذا أشبه بشكل ما بالطريقة التي يمكن أن تلقي بها عصا بظل متغير على جدار ما بينما تلتف وتتقلب، رغم أن طول العصا يظل كما هو. فتمدد الزمن وتقلص المسافة هما الظلال في زمان ومكان امتداد يتعرض للتدوير والالتفاف في نسيج الزمكان (تذكر ما قاله مينكوفسكي!). وهذا أحد الأشياء التي علينا أن نبقيها نصب أعيننا فيما ننظر بتفصيل أكثر في الأدلة المباشرة على تمدد الزمن.
تأتي هذه الأدلة المباشرة من تجارب تجمع قياسات لتأثير تمدد الزمن الذي ينتج عن الحركة، وتأثير التمدد الثاني الذي ينشأ عن تشوه نسيج الزمكان بالقرب من جسم ضخم، أو بفعل الجاذبية باللغة الدارجة. وينطبق هذا التمدد الزمني الثقالي حتى على الساعات التي تقف ساكنة في حقل جاذبية، وإن كان ينطبق أيضا على الساعات التي تتحرك. بتعبير مبسط، كلما كنت أقرب إلى جسم ضخم كالأرض، مر الزمن أبطأ؛ لذا وباعتبار تساوي العوامل الأخرى، فإن رائد الفضاء في المدار حول الأرض سيتقدم في العمر بمعدل أسرع (بمقدار ضئيل للغاية) من شخص على الأرض. ولكن لسوء الحظ ليس الأمر بهذه البساطة؛ لأن رائد الفضاء يتحرك، وتمدد الزمن الناشئ عن الحركة ينبغي أيضا أن يوضع في الحسبان. وهذا هو ما جعل إجراء اختبارات عملية على تنبؤات نظرية أينشتاين هذه في غاية الصعوبة.
أجرى الاختبار الكلاسيكي لهذه التنبؤات كل من جوزيف هافيلي بجامعة واشنطن بسانت لويس، وريتشارد كيتنج بمرصد البحرية الأمريكية في مطلع سبعينيات القرن العشرين. فقد أرادا أن يأخذا ساعات ذرية شديدة الدقة في رحلة حول العالم على متن طائرة، ثم إعادتها إلى المختبر لمقارنتها مع ساعات ذرية مطابقة لها ظلت في المختبر، وذلك لقياس فارق التوقيت الذي تراكم. كانت العقبة التي واجهتهما - فضلا عن الصعوبات الجلية في التجربة - أنهما لم يتمكنا من الحصول على التمويل الكافي لاستئجار طائرة خاصة، ولم يتمكنا كذلك من استعارة طائرة عسكرية للقيام بالمهمة. لم تثنهما التحديات عن المضي في مسعاهما، فقررا إرسال الساعات على متن رحلات تجارية مجدولة، حيث لم تسمح ميزانيتهما إلا بحجز مقاعد في مقصورة الدرجة الاقتصادية. وبطريقة ما، تمكنا من إقناع شركات الطيران بالسماح لهما باصطحاب الساعات معهما، وربطاها إلى الجدار في مقدمة المقصورة. وكإجراء احترازي في حال وقوع تأثيرات غير متوقعة، اضطرا إلى القيام بهذه الرحلة مرتين: الأولى حول العالم من الشرق إلى الغرب والثانية من الغرب إلى الشرق؛ لأن سرعة الطائرة على الأرض وبالنسبة إلى الساعات التي ظلت في المختبر في كلتا الحالتين كانت مختلفة، وذلك بسبب دوران الأرض تحت الطائرة. بدأت الرحلة نحو الشرق (والتي كانت في واقع الأمر سلسلة من الرحلات تخللها توقفات حتمية) في الرابع من شهر أكتوبر لعام 1971 وانتهت في السابع من الشهر نفسه، فيما امتدت الرحلة نحو الغرب من الثالث عشر إلى السابع عشر من الشهر نفسه. في الرحلة المتجهة غربا، اكتسبت الساعات التي كانت على متن الطائرة 273 مليار جزء من الثانية، مقارنة بتنبؤ ببلوغ مجموع تأثيري حالتي تمدد الزمن إلى 275 مليار جزء من الثانية. كانت نتائج الرحلة المتجهة غربا أقل دقة، لكن في المجمل قدمت تجربة هافيلي-كيتنج أدلة قوية على أن كلا تأثري التمدد الزمني حقيقي. أما الدليل الحاسم فقد ظهر بعد ذلك بخمس سنوات.
في يونيو من عام 1976، أجريت تجربة تدعى مسبار الجاذبية أ نفذها كل من مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية ووكالة ناسا، حيث أطلق المسبار إلى ارتفاع عشرة آلاف كيلومتر في مهمة صعود وهبوط بسيطة دامت ساعة و55 دقيقة، ليسقط بعدها في المحيط الأطلنطي. حمل المسبار ساعة ذرية ترصد «دقاتها» من خلال وصلة أرضية أثناء الرحلة وتقارن بدقات ساعة مماثلة لها على الأرض. وبعد أخذ طريقة تغير حمولة الطائرة بفعل السرعة والارتفاع أثناء سير التجربة في الاعتبار، تطابق الفارق الزمني المسجل بين الساعتين مع تنبؤات نظرية أينشتاين بدقة تصل إلى 70 جزءا من المليون ، أو سبعة آلاف جزء من 1 بالمائة.
وقد انتقل هذا الأمر الآن من عالم التجارب العلمية إلى الحياة اليومية. فالأقمار الصناعية لأنظمة التموضع العالمي (
GPS ) التي تنتج الإشارات المستخدمة في أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية (ساتناف) والهواتف الذكية لتخبرنا بموقعنا بالتحديد على سطح الأرض تدور في مدار أعلى بقليل من الارتفاع الذي وصل إليه مسبار الجاذبية أ. وتدور هذه الأقمار أيضا بسرعة بالنسبة إلى سطح الأرض. ولو لم يراع تأثيرا تمدد الزمن، فسينشأ فارق بين وقت تلك الأقمار ووقتنا، يصل إلى نحو 38 ميكروثانية في اليوم، الأمر الذي سينتج عنه أخطاء في قياسات تحديد الموقع بزيادة تصل إلى 10 كيلومترات كل يوم. لذا فإن أنظمة تحديد المواقع تقوم فعلا بعمل تصحيحات لهذه التأثيرات. فحين تسأل هاتفك الذكي عن موقعك وتأتي الإجابة في حدود أمتار قليلة، فإنه بذلك يستخدم النظرية العامة للنسبية ويراعي كلا تأثيري تمدد الزمن ليعطيك الإجابة. إن نسيج الزمكان مرن حقا. وتمدد الزمن حقيقي. والمعدل الذي ننتقل به من الماضي إلى المستقبل يعتمد على شكل الزمكان في محيطنا. لكن كيف لنا أن نعرف الفارق بين الماضي والمستقبل؟ لماذا يتحرك الوقت في اتجاه واحد فقط؟
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
«إذا وجد أن نظريتك تتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية فلا تنتظرن مني أملا؛ فليس لنظريتك مصير سوى السقوط في غياهب المهانة.»
آرثر إدينجتون
إن الفارق بين الماضي والمستقبل لهو واحد من أكبر الألغاز في العلم. فعلى أبسط المستويات - أي على مستوى الذرات والجزيئات - ليس ثمة فارق بينهما. فحين يتحد جسيمان ويتفاعلان معا بطريقة ما لينتجا جسيمين مختلفين تماما - ينفصلان بدورهما بعد ذلك - فإن قوانين الفيزياء تسمح لكل تفاعل تقريبا من هذه التفاعلات أن تجري بالعكس بالدقة ذاتها. فالجسيمان «النهائيان» يعودان بعضهما إلى بعض ويتفاعلان من أجل إنتاج الجسيمين «الأصليين». لتطبيق هذا على نطاق أكبر، تخيل كرتي بلياردو تتحركان عبر الطاولة وتتصادمان ثم ترتدان بعيدا إحداهما عن الأخرى في اتجاهين مختلفين. لو جرى هذا التصادم بالعكس، فسيظل خاضعا لقوانين الفيزياء. ولا توجد طريقة للتمييز بين الماضي والمستقبل من خلال النظر فقط إلى الطريقة التي يتحرك بها كل زوج من الجزيئات.
لكن حين ينطوي الأمر على المزيد من الجسيمات، يصبح الفارق بين الماضي والمستقبل واضحا. فالأشياء تبلى؛ والناس يتقدمون في العمر. تخيل كأس نبيذ تقف متوازنة على حافة طاولة ثم تسقط على الأرض وتتهشم. بمقارنة صورة للكأس على الطاولة وصورة أخرى لأجزائها المهشمة على الأرض، ستعرف أي الصورتين التقطت أولا حتى ولو لم تر الحادث؛ لأننا لا نرى أبدا زجاجا مهشما يعيد تجميع نفسه. لكن طبقا لقوانين الفيزياء المعروفة، فإن كل تفاعل يتضمن ذرات كأس النبيذ وهو يتهشم هو تفاعل قابل للعكس. فلماذا يكون هناك سهم للوقت يشير من الماضي إلى المستقبل في حين أننا نتعاطى مع أنظمة معقدة تنطوي على الكثير من الجزيئات؟
إن هذا الفارق هو أساس علم الديناميكا الحرارية، الذي يعنى بالطريقة التي تتغير بها الأشياء بينما ننتقل من الماضي إلى المستقبل. والسمة الأساسية للديناميكا الحرارية هي أن مقدار الاضطراب في الكون في تزايد دائم؛ فالأشياء تبلى، والغرف لا ترتب نفسها، والزجاج المحطم لا يعيد تجميع نفسه، وهكذا. يقاس مقدار الخلل أو الاضطراب فيما يطلق عليه الفيزيائيون «نظاما» (والذي قد يكون كأس نبيذ قابعة على طاولة، أو غرفة نومك، أو حتى الكون بأكمله) يقاس بكم يقال له القصور الحراري أو الإنتروبيا. وينص أبسط قوانين الفيزياء على أن معدل الإنتروبيا في نظام مغلق يكون في حالة زيادة دائمة (وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية).
النظام المغلق هو نظام معزول عن بقية الكون وقائم بذاته تماما (كغرفة مراهق، حيث تتزايد الفوضى وعدم النظام دائما ما لم يكن هناك تدخل خارجي). يمكنك تجنب هذا القانون فيما يعرف بالنظام المفتوح، الذي يمتص الطاقة من الخارج. يبدو أن الحياة على الأرض تنتهك القانون الثاني. فالأشياء الحية تنمو ويمكن للناس أن يفعلوا أشياء من قبيل تحويل كومة من الطوب إلى هيكل أكثر ترتيبا بكثير، كمنزل مثلا. وحين نبني منزلا (أو أي شيء آخر) يبدو الأمر وكأننا ننتهك القانون الثاني. لكن صفة النظام في الشيء الذي نصنعه دائما ما تعوض إلى حد كبير بالفوضى في مكان آخر؛ كما يحدث في تعدين المواد اللازمة لصناعة الطوب، وتوليد الطاقة اللازمة لإشعال الأفران التي يصنع فيها الطوب، وما إلى ذلك. إن مرور الزمن يظهر في الطبيعة في هيئة تحلل أو اضمحلال. فأنت لا ترى سيارة صدئة تتحول ببطء لتصبح لامعة وخالية من الصدأ؛ ولا ترى كومة الطوب القديم تجمع نفسها بنفسها لتصبح منزلا من دون تدخل بشري. أما العمليات المضادة (كصدأ السيارة، أو سقوط مبنى) فهي عمليات شائعة. ويبدو أن الزمن جزء لا يتجزأ من الطبيعة.
آرثر إدينجتون
هولتون دويتش/جيتي
يعتمد النقصان المحلي في الإنتروبيا على الأرض - وهو شكل من أشكال انعكاس مجرى الزمن - على إمداد من الطاقة يأتي من الخارج، ومن الشمس بصفة أساسية.
1
هناك بالفعل نقص في الإنتروبيا (أي زيادة في صفة النظام) يحدث على الأرض، لكنه أقل بكثير من الزيادة في الإنتروبيا المرتبطة بالتفاعلات التي تجري داخل الشمس لتحافظ على سخونتها وطريقة إطلاقها للحرارة في الفضاء. وبمرور الوقت يتزايد معدل الإنتروبيا «للنظام» بأكمله، أي الشمس+ الأرض، وعلى أكبر المقاييس الممكنة تزيد إنتروبيا الكون بأكمله بمرور الوقت. بلغة الفيزيائيين، وبالنظر إلى الكون ككتلة واحدة، فإن حالات الكون ذات الإنتروبيا الأعلى تتفق مع المستقبل مقارنة مع حالاته ذات الإنتروبيا الأقل. هذا هو ما يقدم لنا سهما للزمن، ليشير من الماضي إلى المستقبل.
وهذا السهم الزمني نفسه مدمج في بنية الكون بطريقة أخرى. هناك وفرة من الأدلة على أن الكون قد بدأ في حالة ساخنة وكثيفة (الانفجار العظيم) قبل نحو 14 مليار سنة مضت، ومنذ ذلك الحين وهو في حالة تمدد مستمر، مع تباعد المجرات (أو بالأحرى عناقيد المجرات) بعضها عن بعض. والأوقات التي تتباعد فيها المجرات بعضها عن بعض تسير في اتجاه المستقبل، مقارنة مع الأوقات التي تتقارب فيها معا. والانفجار العظيم نفسه يعبر عن سهم الزمن المطلق؛ فمتى وأينما كنت في الفضاء، فإن الانفجار العظيم دائما ما يكون في الماضي. والإنتروبيا في ازدياد مستمر منذ وقوع الانفجار العظيم. فبطريقة ما، انبثق الكون من الانفجار العظيم بمعدل متدن من الإنتروبيا يكفي ليسمح بتكون النجوم والكواكب والبشر؛ وهو في حالة نفاد منذ ذلك الحين.
يرتبط ذلك بصيغة أخرى للتعبير عن القانون الثاني. تنص هذه الصيغة على أن الحرارة لا يمكن أن تتدفق من جسم بارد إلى جسم أكثر سخونة. وقد صاغه لورد كلفن - وهو من رواد الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر - بلغة أكثر تقنية؛ إذ قال: «من المستحيل الحصول على تأثير ميكانيكي من أي جزء من المادة، بواسطة قوة مادية غير حية، من خلال تبريدها إلى ما دون درجة حرارة أبرد الأجسام المحيطة بها». كان هذا ضربا مهما من العلم العملي خلال القرن التاسع عشر، حين توصل كلفن إلى قوانين الديناميكا الحرارية بما فيها القانون الثاني. وقد كان اهتمام كلفن بالديناميكا الحرارية يعزو إلى أسباب مادية؛ فهي تخبرنا كم يمكننا الاستفادة من الطاقة للقيام بالشغل. وكان كلفن أيضا رائدا من رواد الهندسة الكهربائية؛ إذ تولى مهمة مد أول كابل تلغراف ناجح عابر للأطلسي، وجنى ثروة طائلة من وراء ذلك.
نحن نشاهد تطبيقا عمليا للقانون الثاني في كل مرة نضع فيها مكعبا من الثلج في مشروب. فنجد مكعب الثلج يذوب مع اكتسابه الحرارة بفعل سخونة السائل. ولا نرى مكعب الثلج يزداد حجما مع تدفق الحرارة منه إلى السائل الدافئ. إن مقدار الطاقة يظل كما هو في الكوب بعد ذوبان الثلج، إلا أنها توزعت على نحو أكثر توازنا. وبطريقة مماثلة، كان الكون في حالة تبريد منذ وقوع الانفجار العظيم، وثمة تدفق أحادي الاتجاه للطاقة من النجوم الساطعة إلى الكون البارد. في نهاية المطاف، حين تتخلى كل النجوم في الكون عن حرارتها، سيكون كل شيء في الكون بأكمله بدرجة الحرارة نفسها. لن تتدفق أي طاقة ولن يتغير أي شيء. أي سيكون الكون قد عانى «موتا حراريا». «لم ينجح أحد بعد في اشتقاق القانون الثاني من أي قانون آخر للطبيعة. إنه قانون قائم بذاته . إنه القانون الوحيد في حياتنا اليومية الذي يعطي الوقت اتجاها، والذي يخبرنا بأن الكون يتجه نحو التوازن، والذي يعطينا أيضا معيارا لتلك الحالة، تحديدا نقطة الإنتروبيا القصوى، أو نقطة الاحتمالية القصوى».
براين إل سيلفر، كتاب «صعود العلم»
يقدم لنا هذا طريقة أخرى للنظر إلى سهم الزمن. إن كمية الطاقة في نظام مغلق (أو في الكون بأكمله) لا يمكن أن تتغير. هذا هو القانون الأول للديناميكا الحرارية. حتى حين تتحول الكتلة إلى طاقة بما يتماشى مع معادلة أينشتاين ، فإن الكتلة تعد هنا شكلا من أشكال الطاقة المختزنة، ومن ثم لم تستحدث طاقة «جديدة». ما يخبرنا به القانون الثاني إذن هو أن كمية الطاقة «النافعة» تتناقص في أي تفاعل يجري في نظام مغلق.
والطاقة النافعة هي الطاقة التي يمكن استخدامها في إحداث الأشياء. على سبيل المثال، حين تسقط الكأس من فوق الطاولة، يمكن أن نصلها عموما بسير بكرة يقوم بتشغيل مولد ويحول طاقة الجاذبية المرتبطة بالكأس التي سقطت إلى طاقة كهربائية. لكن حين تسقط الكأس سقوطا حرا، تتحول هذه الطاقة الثقالية المحتمل أن تكون نافعة إلى طاقة حركة (أو طاقة حركية). وحين ترتطم الكأس بالأرض وتتهشم، تتحول الطاقة الحركية إلى حرارة وتتبدد؛ إذ ترتج ذرات الكأس والأرض وجزيئاتهما وتهتز بسرعة أكبر. وفي نهاية المطاف تتحول هذه الطاقة الحرارية إلى أشعة تحت الحمراء وتتسرب إلى الفضاء. ولا يمكن أبدا أن نجعلها تعمل عملا مفيدا. فلا يحدث مطلقا أننا نرى الإشعاع قادما من الفضاء ليجعل ذرات وجزيئات كل من الأرض وقطع الزجاج المكسور تتحرك بالشكل الصحيح بحيث تلتصق قطع الكأس الزجاجية المهشمة معا مرة أخرى وتقفز الكأس إلى الطاولة. وهذا تجسيد آخر لسهم الزمن.
ترتبط الإنتروبيا أيضا بكمية المعلومات في نظام ما. فزيادة الإنتروبيا هي نفسها نقصان في المعلومات. على سبيل المثال، في أحجية الصور المقطوعة التي تحتوي على صورة لوجه إنسان، يوجد الكثير من المعلومات في تلك الصورة. فإذا كانت الأحجية غير محكمة واهتزت، فإن أجزاء الصورة تبدأ في التباعد بعضها عن بعض . يظل بإمكاننا أن ندرك أن الصورة لوجه إنسان، لكن تزداد صعوبة تحديد هوية صاحب هذا الوجه. فنحن هنا نفقد المعلومات. والإنتروبيا تزداد. والوقت يمر.
وفي النهاية تصبح الصورة في حالة تامة من الفوضى والاختلاط. ففي هذه الحالة يصبح معدل الإنتروبيا أكبر ما يمكن (على مستوى النظام)، ولا توجد ثمة معلومات متبقية. كما أن الوقت يكون قد توقف بالنسبة إلى الصورة. وقياسا على ذلك، حين تكون كل النجوم قد تخلت عن حرارتها بالكامل وتكون درجة حرارة الكون هي نفسها في كل مكان، سيكون الكون في حالة إنتروبيا قصوى، وذلك في نهاية الزمن.
يمكن إعادة تركيب قطع الأحجية، وذلك بإعادة إدخال المعلومات (وإخراج الإنتروبيا) قطعة بقطعة. لكن النظام الذي تصنعه دائما ما يكون أقل من الفوضى التي تصنعها في مكان آخر فقط بكونك حيا. إن الطاقة التي تبقيك حيا تأتي من الطعام، الذي يأتي في النهاية من ضوء الشمس. وليس بوسع الناس سوى حل أحاجي الصور المقطوعة، وأشياء أخرى؛ لأن الشمس آخذة في التآكل والتلاشي.
ورغم أن سقوط الكأس من فوق الطاولة وتهشمها لا يؤدي إلى فقدان أي طاقة، وإنما يعيد ترتيبها وتنظيمها فقط، وحتى إذا كنت تملك سير بكرة ذا قدرات بارعة يتصل بمولد وبطارية، فلن يكون بوسعك استخدام الطاقة التي تتولد من سقوط الكأس لتشغيل محرك لرفع الكأس مرة أخرى إلى الطاولة؛ نظرا إلى عدم وجود عملية كاملة أو مثالية لتحويل الطاقة. سيهدر بعض الطاقة في الاحتكاك ويتحول إلى حرارة، تتسرب في صورة أشعة تحت الحمراء، تماما كما يحدث للطاقة الحركية إذا ما ارتطمت الكأس بالأرض وتهشمت. ولهذا السبب من المستحيل بناء آلة دائمة الحركة.
لا نزال هنا أمام لغز، وهو أن الكأس حين تسقط وتتهشم، فإن كل تفاعل يتضمن زوجا من الذرات أو الجسيمات هو تفاعل قابل للعكس عموما. فلماذا لا تحدث عملية العكس هذه في الواقع العملي؟ يذهب أحد الاقتراحات التي طرحت في ذلك الشأن إلى أن هذا ليس مستحيلا في المطلق، وأن حدوثه مستبعد للغاية لا أكثر .
ولعل أفضل طريقة لفهم هذا الأمر هي تخيل نظام أبسط، يتمثل في صندوق مقسم إلى نصفين بواسطة حاجز، في أحد النصفين غاز وفي النصف الآخر فراغ. إذا أزلت الحاجز، فسينتشر الغاز ليملأ الصندوق بأكمله (وسيبرد بعض الشيء في أثناء ذلك). والآن اجلس وراقب الصندوق. مهما طال انتظارك، فلن يكون لك أن تتوقع أن ترى الغاز كله يتحرك عائدا إلى أحد نصفي الصندوق، تاركا فراغا في النصف الآخر. لكن كل تصادم بين جسيمين بداخل الصندوق يمكن عكسه من حيث المبدأ! فإذا استطعت بطريقة سحرية أن تعكس حركة كل جسيم، فسيعود الغاز حتما إلى حيث أتى، وستنطبق قوانين الفيزياء كالمعتاد في أثناء ذلك.
وقد أثبت عالم الفيزياء الفرنسي هنري بوانكاريه أن المشكلة تكمن في أن «الفترة الطويلة بما يكفي» هي فترة طويلة للغاية بالفعل. إن ذرات الغاز المحصور في الصندوق وجسيماته ينبغي في النهاية أن تمر بكل نظام ممكن. وفيما تتحرك تلك الجسيمات والذرات عشوائيا في الأرجاء، فإنها عاجلا أو آجلا ستتخذ أي ترتيب مسموح به، بما في ذلك أن يكون الغاز كله في أحد نصفي الصندوق. وإذا ما انتظرنا طويلا بما يكفي، فسيعود النظام إلى حيث بدأ. وبذلك سيبدو الزمن وكأنه مر بالعكس. «مثلما تبنى البيوت من الأحجار، يبنى العلم من الحقائق.»
هنري بوانكاريه
لكن لا تحبس أنفاسك في انتظار حدوث ذلك. إن الوقت اللازم لمرور جميع الجسيمات بكل نظم الترتيب الممكنة يسمى بدورة بوانكاريه الزمنية، وهو يعتمد على عدد الجسيمات في الصندوق. قد يحتوي صندوق صغير من الغاز على عدد ذرات يقدر ب 10
22 ، ومن ثم سيتطلب الأمر وقتا أطول بكثير من عمر الكون لكي تمر هذه الجسيمات بكل ترتيب ممكن. ودورات بوانكاريه الزمنية للأنظمة الحقيقية تشتمل على عدد أصفار في الأرقام أكثر من عدد النجوم في الكون المعروف. وفيما يلي الاحتمالات القائمة في مواجهة أي نمط بعينه يظهر أثناء مراقبة صندوق الغاز. يمكنك أن ترى كيف تتزايد الأرقام من خلال البدء بذرة واحدة تتحرك عشوائيا في أرجاء الصندوق. ثمة احتمالية نسبتها 50 : 50 (أي 1 إلى 2) أن تلك الذرة ستكون في أحد نصفي الصندوق في أي لحظة. وإن كان ثمة ذرتان، فهناك احتمالية بنسبة 1 إلى 4 أن كلتا الذرتين ستكون في النصف ذاته من الصندوق في الوقت عينه. وفي حالة وجود ثلاث ذرات، تكون الاحتمالات 1 إلى 8، وهكذا دواليك. وفي حالة وجود مليون ذرة، تكون الاحتمالات 1 إلى (2 مرفوعة إلى أس 1000000). ويظل عدد مليون ذرة عددا ضئيلا مقارنة بعدد الجسيمات الموجودة في صندوق حقيقي مليء بالغاز.
هذه هي «الإجابة» القياسية للغز قابلية العالم للسير بالعكس على المستوى المجهري وليس على مستوى العين المجردة، وسبب وجود سهم للزمن. إن قانون زيادة الإنتروبيا هو قانون إحصائي ونقص الإنتروبيا (جريان الزمن بالعكس حتى ولو على نطاق محدود) ليس محظورا لكنه فقط مستبعد على نحو استثنائي.
انطلق عالم الفيزياء النمساوي لودفيج بولتزمان من هذه الفكرة مقترحا أن الكون بأكمله قد يكون شطحة إحصائية. فقد أشار إلى أنه في كون لا نهائي حيث وقعت حالة الموت الحراري وأصبح كل شيء منتظما ومتعادلا، سيتصادف من حين لآخر (أيا كان ما يعنيه هذا في مثل هذا الموقف) أن كل الذرات في أحد أجزاء الكون ستتحرك بالطريقة الصحيحة تماما لخلق النجوم، أو المجرات، أو حدوث انفجار عظيم. وفي الواقع، سيسير الزمن بالعكس في ذلك الجزء من الكون، ما يخلق فقاعة من نظام منخفض الإنتروبيا. بعد ذلك تتفكك فقاعة الإنتروبيا المنخفضة فيما تعود إلى حالة أكثر ترجيحا. «الطاقة المتاحة هي أول شيء على المحك في كفاحنا من أجل البقاء وتطور العالم.»
لودفيج بولتزمان
لا يأخذ معظم علماء الكونيات هذه الفكرة على محمل الجد اليوم. لكن أحدهم، وهو بول ديفيز، طورها ليقدم رؤية مثيرة عن طبيعة الزمن. في عالم اليوم، يشير سهم الزمن دائما إلى اتجاه تزايد الإنتروبيا؛ فلم قد تكون هذه الفكرة مختلفة بأي شكل في فقاعة بولتزمان؟ فيما تتنامى الفقاعة وتتناقص الإنتروبيا بالمقارنة بما عليه الحال في الكون في الخارج، قد يظل كيان ذكي في الفقاعة يختبر سهما زمنيا يشير إلى حالة من الإنتروبيا المرتفعة؛ أي حالة الموت الحراري. وحتى لو كان الكون ينهار «فعلا» بدلا من أن يكون في حالة تمدد؛ أي يتحرك في اتجاه حالة من الحرارة والكثافة عوضا عن التحرك بعيدا عنها، قد لا نزال نرى المستقبل باعتباره الزمن الذي تكون فيه المجرات متباعدة بعضها عن بعض.
هذا أكثر من مجرد كونه جدلا فلسفيا عقيما؛ لأن بعض الأشكال المختلفة لنموذج الانفجار العظيم تشير إلى أن تمدد الكون سيتوقف ذات يوم، ثم يسير بعدها في الاتجاه المعاكس. فهل سيسير الزمن نفسه بالعكس إذا ما حدث هذا أو حين يحدث؟ أم إن ذلك حدث بالفعل؟ ربما نعيش بالفعل في كون آخذ في التقلص والانكماش - حيث يسير الزمن بالعكس - ولم نلحظ ذلك! أو ربما أن الزمن يسير بالعكس فعلا بالمعنى الدارج للكلمة في حين ينهار الكون. ورغم أن فيليب كيه ديك لا يقدم أي تبرير علمي وفقا لهذا النسق، فإنه يقدم في روايته «عالم عكس عقارب الساعة» رؤية غريبة عن عالم يسير فيه الزمن بالعكس، حيث تبعث الجثث من قبورها، والطعام سليم لم يؤكل وأشياء أخرى أسوأ لسنا في حاجة لذكرها هنا فيما يسير الزمن بالعكس.
لكن هل الزمن «يسير» أصلا؟ من المهم، كما أشرت، التفريق بين سهم يشير إلى المستقبل وآخر يتحرك نحو المستقبل. والقياس الصحيح في هذا الإطار هو إبرة البوصلة، التي تشير إلى الشمال في الجزء الذي أعيش فيه من العالم، لكن لا يتحتم عليها أبدا أن تتحرك نحو الشمال (أو أي اتجاه آخر). لو كان لدينا فيلم للكأس التي تسقط عن الطاولة بدلا من مجرد صورتين «قبل وبعد» عملية السقوط، وإذا ما قصت الأطر الفردية للفيلم وخلطت معا، لظل بإمكاننا فرزها وترتيبها بالشكل الصحيح. وليس بالضرورة أن يجري تشغيل الفيلم عبر جهاز عرض لكي يتضح لنا الفارق بين الماضي والمستقبل.
يذهب بعض العلماء (والفلاسفة) إلى أن انطباعنا عن مرور الزمن قد لا يكون أكثر من مجرد وهم. قد يكون الأمر كما لو أن عقولنا تفحص أحداث تاريخنا الشخصي، كما يحدث حين يتم تشغيل الفيلم عبر جهاز عرض ويعرض على شاشة. قد يكون الواقع الأساسي الكامن وراء تلك الأحداث لا يزال موجودا - في كل من الماضي والمستقبل كليهما - كالأطر المنفصلة لشريط الفيلم، رغم أن انتباهنا مجبر على تتبع القصة بالتسلسل، بالانتقال من إطار إلى آخر في الفيلم في المرة الواحدة. وسواء أكانت هذه الأفكار - التي أتناولها بالنقاش في التصور السابع - حقيقية أم لا (وهي مسألة خلافية للغاية)، يظل صحيحا أن ثمة اختلافا بين الماضي والمستقبل، يمكن تمثيله بسهم يشير من الماضي إلى اتجاه المستقبل. ومن ثم لا يزال من المنطقي التحدث عن السفر إلى الماضي أو المستقبل. لكن السؤال هو، كيف نفعل ذلك؟
هوامش
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
«أي شيء ليس محظورا هو شيء إلزامي.»
موراي جيل-مان
شجعت فكرة الزمن، باعتباره البعد الرابع، العديد من العلماء والكثير من كتاب الأدب على التخمين بشأن احتمالية «تدوير» محاور الزمكان بطريقة ما بحيث يصبح أحد أبعاد المكان بعدا للزمن ويصبح الزمن بعدا للمكان. الأمر يشبه بعض الشبه قلب طائرة رأسا على عقب بحيث تصبح «مقدمتها» «ذيلها» ويصبح «ذيلها» «مقدمتها». حينها، كل ما عليك فعله هو السفر عبر بعد الزمن بقدر ما تشاء، قبل أن تعيد الأشياء إلى نصابها الصحيح وتجد نفسك في الماضي أو في المستقبل. لكن ثمة مشكلة كبيرة في استبدال الزمان بالمكان بهذه الطريقة، حتى ولو كنت تملك آلة يمكنها أن تحقق هذا الغرض. فلسوء الحظ، لا تقف أبعاد الزمان والمكان على قدم المساواة في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد.
تكمن المشكلة في الطريقة التي تدخل بها سرعة الضوء إلى الحسابات. تحملني قليلا فيما أقدم لك بضع معادلات بسيطة، أو يمكنك أن تتخطى ذلك وتنتقل إلى الخلاصة إن كنت تخشى المعادلات.
في الفضاء الثلاثي الأبعاد، يمكن تحديد المسافة (أو المسافات) بين أي نقطتين باستخدام النسخة الثلاثية الأبعاد من مبرهنة فيثاغورس الشهيرة التي تنص على أن:
تعتبر « ، و
و » هي الفروق ومن ثم ( ) في المسافة بين النقاط في الاتجاهات
و
و ، وينطبق التربيع على المسافات كلها وهكذا، وليس فقط على الجزء بداخل الأقواس. الأمر بسيط حتى هذا الحد. لكن في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، الطريقة المكافئة لذلك لقياس «المسافات» بين الأحداث هي:
حيث
هي سرعة الضوء و
هي الزمن. المسافة (بالكيلومترات) ببساطة هي حاصل ضرب السرعة (كيلومتر/ثانية على سبيل المثال) في الزمن (بالثانية)، الأمر الذي يجعل كل شيء في توازن.
الخلاصة: كل ما تحتاج إلى فهمه من هذا هو أن المسافة المكافئة لأي فترة زمنية هي تلك الفترة الزمنية «مضروبة في سرعة الضوء». وسرعة الضوء (بأرقام تقريبية) تساوي 300000 كيلو متر/ثانية. إذا كان بإمكانك تدوير المتسلسلة الزمكانية الرباعية الأبعاد والسير عبر اتجاه الزمن نحو الماضي، فسيكون عليك السير مسافة 300 ألف كيلومتر من أجل العودة بالزمن ثانية واحدة. قد لا يؤدي هذا إلى الاستبعاد التام لاحتمالية حدوث شيء كهذا - كما أناقش في تصوري الخامس - لكنه يشير بالفعل إلى أن هذا النوع من السفر عبر الزمن ليس بالسهولة التي يتخيلها كتاب القصص. لكننا لم نفقد كل أمل لنا في ذلك. فالمشكلة تشير بالفعل إلى حل آخر للغز السفر عبر الزمن. إن كان بإمكانك السفر أسرع من الضوء، فلن يتطلب الأمر وقتا طويلا كي تعود إلى الدرب متجها نحو الماضي. لكن السرعات الأعلى من سرعة الضوء محظورة طبقا لنظرية النسبية، أليس كذلك؟ ليست محظورة تماما، وهذا يفتح أمامنا المجال، إن لم يكن للسفر جسديا عبر الزمن، فللتواصل مع المستقبل (أو منه).
كان المفتاح الذي فتح الباب أمام ألبرت أينشتاين للتوصل إلى نظرية النسبية الخاصة هو اكتشاف جيمس كلارك ماكسويل للمعادلات التي تشرح سلوك الإشعاع الكهرومغناطيسي، بما في ذلك الضوء. تشتمل تلك المعادلات على ثابت، وهو ما لم يتوقعه ماكسويل، بل ظهر فجأة دون سعي لإيجاده، وسرعان ما أدرك ماكسويل أن ذلك الثابت يمثل سرعة الضوء. غير أن هذا قد أثار مشكلة محيرة للفيزيائيين في نهاية القرن التاسع عشر. فقد نصت المعادلات على أن هذه السرعة - التي غالبا ما يرمز إليها الآن بالرمز - ينبغي أن تكون هي نفسها بالنسبة إلى الجميع، بغض النظر عن حركتهم. فإن كنت تقود سيارة باتجاهي بسرعة 100 كيلومتر في الساعة، فإن الضوء الصادر من المصابيح الأمامية لسيارتك يسافر بسرعة
بالنسبة إلى سيارتك؛ لكن لو قست أنا سرعة الضوء بينما يمر بي، فسأحصل أيضا على الإجابة نفسها وهي ، وليس
كيلومتر/ساعة. وهذا يتعارض تماما مع قوانين نيوت للحركة التي كانت مسيطرة آنذاك لأكثر من مائتي عام. لا يمكن أن يكون نيوتن وماكسويل محقين كليهما. فقد كان من عبقرية أينشتاين أنه أدرك أن قوانين نيوتن في حاجة إلى تعديل، وليست معادلات ماكسويل، والبقية معروفة.
لكن ثمة شيئا آخر غريبا بشأن معادلات ماكسويل. هناك مجموعتان صحيحتان بالقدر نفسه من الحلول للمعادلات التي تصف الموجات الكهرومغناطيسية. يصف أحد هذه الحلول موجة كهرومغناطيسية تتحرك خارجة من مصدرها متجهة إلى المستقبل في طريقها عبر الكون. قد تكون هذه الموجة شعاع ضوء صادرا من مشعل كهربائي، أو بثا إذاعيا، أو أي نوع آخر من الموجات الكهرومغناطيسية. وهذه الموجة يطلق عليها موجة «متأخرة». لكن ثمة حلا صحيحا بالقدر نفسه للمعادلات التي تصف موجة آتية من المستقبل عائدة في الزمن وتتركز على مشعلك الكهربائي، أو جهاز إرسال لموجات الراديو، أو أيا يكن. ويطلق على هذه الموجة اسم الموجة «المتقدمة». «يمكن للإنسان أن يصعد في السماء ضد الجاذبية في منطاد، فلم ينبغي له ألا يتطلع إلى قدرته في النهاية على إيقاف حركته عبر بعد الزمن أو تسريعها، أو حتى الالتفاف والسفر في الاتجاه المعاكس.»
إتش جي ويلز
ثمة طريقة لشرح كل هذا، وذلك في إطار ما يطلق عليه الفيزيائيون «المخروط الضوئي». في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، يقال لكل شيء في المستقبل يمكن أن يتأثر بما نفعله في المكان والزمان الحاليين بأنه في المخروط الضوئي المستقبلي. وكل شيء في الماضي ربما يكون قد أثر على ما يحدث في المكان والزمان الآنيين كامن في المخروط الضوئي الماضي. خارج هاتين المنطقتين، يوجد الزمكان الذي لا يمكن أن يؤثر علينا في الزمان والمكان الحاليين ولا يمكن أن يتأثر بأي شيء نفعله نحن فيهما. وهذا ما يطلق عليه «زمان آخر». في ضوء هذا المصطلح، تخبرنا معادلات ماكسويل أن بإمكاننا استقبال إشارات في الزمان والمكان الحاليين من المخروط الضوئي المستقبلي وأيضا من المخروط الضوئي الماضي «على حد سواء». ولا يزال الجدل قائما بين علماء الفيزياء بشأن أهمية هذا التناظر الزمني في معادلات ماكسويل، وأدى هذا الجدل إلى بعض الأفكار المثيرة للاهتمام في نظرية الكم.
1
عند مستوى أساسي ما، تسمح المعادلات التي تستند إليها الآليات الأساسية لعمل الكون بالرجوع في السفر عبر الزمن، أو على الأقل الرجوع في التواصل الزمني. لكن الوصول إلى نقطة الزمان الآخر يتطلب إما آلة زمن أو السفر أسرع من الضوء، أو بما يتخطى حاجز سرعة الضوء.
هذا الحاجز موجود؛ نظرا إلى عدم إمكانية تسريع حركة شيء يتحرك أبطأ من الضوء بحيث يصل إلى سرعة الضوء بالضبط. وهناك عدة زوايا للنظر إلى هذا الحاجز، كلها قائمة على معادلات نظرية النسبية، وكلها مؤكدة بتجارب استخدمت فيها جسيمات سريعة الحركة، كتلك التي تحدثت عنها في تصوري الأول. إحدى تلك الزوايا أن الزمن يسير أبطأ وأبطأ حين تقترب من سرعة الضوء؛ لذا سيتطلب الأمر وقتا لا نهائيا لتصل إلى سرعة الضوء التي تبتغيها. ثمة زاوية أخرى أن الأمر سيتطلب مقدارا لا نهائيا من الطاقة للوصول إلى الكتلة اللانهائية اللازمة للقيام بالمهمة؛ وذلك لأن كتلة الجسم تزداد مع زيادة سرعته. وأيا كانت الزاوية التي ستنظر منها إلى الأمر، فإن سرعة الضوء تمثل حاجزا حقيقيا لا يمكن تخطيه أبدا (على عكس «حاجز» الصوت الذي هو ببساطة تحد تكنولوجي تخطيناه قبل زمن طويل). للضوء نفسه أن يسافر بسرعة الضوء؛ لأنه جبل على التحرك بسرعة الضوء، ولا يبطئ إلا حين يمتص. لكن هذا استحث فكر البعض. فلو أن جزيئا جبل على التحرك بالفعل بسرعة الضوء، فبم ستخبرنا معادلات أينشتاين عن خصائصه؟ «الزمن ليس خطا وإنما بعد، كأبعاد المكان. وإن كان باستطاعتك ثني المكان فباستطاعتك ثني الزمن كذلك ، وإن كنت تعرف ما يكفي وكان بإمكانك التحرك أسرع من الضوء، يمكنك إذن أن تعود بالزمن.»
مارجريت آتوود، رواية «عين القطة»
ثمة منطق معاكس تجاه العالم على الجانب الآخر من حاجز الضوء. إن كان الزمن يسير أبطأ وأبطأ فيما تزداد سرعتك أكثر وأكثر على الجانب الآخر من الحاجز، حتى يتوقف تماما بلا حراك عند سرعة الضوء، فمن المنطقي، على الجانب الآخر من الحاجز، وبالنسبة إلى جزيء يتحرك أسرع من الضوء بشيء قليل، أن الزمن يمضي ببطء إلى الخلف، وكلما زادت سرعة الجزيء، عاد الزمن إلى الخلف أسرع. هذا ما تخبرنا به المعادلات بالضبط. وتخبرنا أيضا أنه على كلا جانبي الحاجز، كلما أضفت طاقة إلى حركة جسم ما، قاربت سرعته سرعة الضوء. وهذا يعني أنه في عالمنا، كلما أضيفت طاقة إلى جسم ما تحرك بشكل أسرع، أما في العالم الأسرع من الضوء، فكلما أضفت طاقة إلى جسم ما تحرك على نحو أبطأ. ومع فقدان الجسيمات في العالم الأسرع من الضوء للطاقة، تتحرك أسرع وأسرع وتندفع إلى الخلف في الزمن. واللافت في الأمر أن هذه السمة الغريبة في العالم الأسرع من الضوء قد اكتشفت «قبيل» توصل أينشتاين إلى نظرية النسبية الخاصة. ففي عام 1904، أدرك عالم الفيزياء أرنولد سومرفيلد - الذي أصبح لاحقا رائدا من رواد نظرية الكم - أن معادلات ماكسويل تتنبأ بذلك بالضبط فيما يتعلق بسلوك الجسيمات في العالم الأسرع من الضوء، رغم أن سومرفيلد في ذلك الوقت لم يكن على دراية بحاجز سرعة الضوء. ولما كانت نظرية النسبية قائمة إلى حد كبير على معادلات ماكسويل، فلا غرابة في أنها تنص على الشيء نفسه، لكن من المعلوم أن معادلات ماكسويل قالت بذلك أولا.
لم تؤخذ تلك الفكرة على نحو جاد طيلة عقود. والقلة من العلماء الذين كانوا على وعي بها اعتبروها من غرائب الرياضيات، كالحلول السالبة التي تبرز فجأة في المعادلات التربيعية. فإن كان هناك مهندس معماري يحاول أن يحسب كم ينبغي أن يكون ارتفاع أحد المباني، ويقوم بعملية حسابية تخبره بأن الإجابة هي الجذر التربيعي للعدد 400،
2
فإن الرياضيات تقول إن ارتفاع المبنى يمكن أن يكون إما 20 مترا أو «سالب» 20 مترا. وبافتراض أن هذا المهندس لا يصمم مرأبا للسيارات تحت الأرض، فسيتجاهل الحل السالب، وهو نفس ما حدث بالضبط مع حلول معادلات أينشتاين المقابلة لجسيمات العالم الأسرع من الضوء. على الأقل، تم تجاهلها حتى ستينيات القرن العشرين، حين بدأ علماء الفيزياء في دراسة الأشعات الكونية بالتفصيل.
لكن لم تكن هذه هي المرة الأولى (ولا الأخيرة) التي يدلنا فيها الخيال العلمي على الطريق. ففي عام 1954، نشرت مجلة «جالاكسي ساينس فيكشن» رواية قصيرة بعنوان «صافرة التنبيه» للكاتب جيمس بليش.
3
لا تعتبر هذه الرواية من أفضل ما كتب، لكنها تقدم فكرة «راديو ديراك» الذي يوفر تواصلا فوريا عبر أي مسافة. لكن متى استقبلت رسالة صوتية، فإنها تبدأ بصافرة تنبيه مزعجة. وقد تبين أن تلك هي نسخة مضغوطة من «كل رسالة من رسائل ديراك أرسلت من قبل أو سترسل فيما بعد». تتجاوز الإشارات كلا من المكان «والزمان»؛ وأدرك بليش أن الإشارات التي تسافر أسرع من الضوء (فوريا في هذه الحالة) لا بد أنها تسافر أيضا عبر الزمن عكسيا. لم يول أحد القصة اهتماما كبيرا، حتى قرأها عالم الفيزياء جيرالد فاينبرج - الأستاذ بجامعة كولومبيا - في مجموعة مختارات أدبية
4
بعد مرور أكثر من عقد على نشرها، فأوحت إليه بفكرة البحث في العلوم والخوض فيها، وقدم ورقة بحثية علمية بعنوان «احتمالية وجود جسيمات أسرع من الضوء»، والتي نشرت في دورية «فيزيكال ريفيو» في عام 1967. في تلك الورقة البحثية قدم جيرالد اسم «تاكيون» للإشارة إلى الجسيمات الأسرع من الضوء الافتراضية، وهي كلمة مشتقة من اللفظة اليونانية
tachys ، ومعناها «سريع أو خاطف». لكن إن وجدت إشارة ديراك في المستقبل من الأساس باستخدام عمليات إرسال تاكيونية، فسيكون لذلك الراديو سمة غاية في الغرابة. تتمثل هذه السمة في أنه سيفقد الطاقة حين تصله إشارة، ومن ثم سيبرد. لكن وبما أن أحدا لا يتوقع أن يصمم مثل هكذا جهاز، فلن أقلق بشأن ذلك في هذا الصدد . الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن التاكيونات إذا فقدت الطاقة وزادت سرعة حركتها، فستكون طاقة معظم التاكيونات الموجودة طبيعيا في الكون (إن وجدت) صفرا بصفة أساسية وستتحرك بسرعة شبه لا نهائية، الأمر الذي سيجعل كشفها أمرا في غاية الصعوبة. لكن ثمة حلا لهذه المشكلة.
سعى الناس خلال السنوات التي تلت نشر فاينبرج لورقته العلمية إلى إيجاد دليل على وجود التاكيونات في الأشعات الكونية. والأشعات الكونية هي جسيمات عالية الطاقة تأتي من الفضاء (تتكون في معظمها من البروتونات)، تنتج في الأحداث الكونية العالية الطاقة، وتنطلق هذه الأشعات متسارعة عبر المجرة في جزء كبير من سرعة الضوء (يصل إلى 90 بالمائة أو أكثر منها)، وتصطدم بالغلاف الجوي العلوي للأرض. وتحمل هذه الأشعات مقدارا هائلا من الطاقة، حتى إنه حين تصطدم أشعة كونية «أولية» كهذه بنواة ذرة كالنيتروجين مثلا - وهو المكون الأكثر شيوعا لغلافنا الجوي - فإنها لا تدمر النواة فحسب. بل يتحول قدر كبير من الطاقة إلى جسيمات جديدة - أشعات كونية «ثانوية» - تصنع من الطاقة الخالصة بما يتوافق مع معادلة أينشتاين الشهيرة، وتنهمر هذه الجسيمات على سطح الأرض فيما يعرف بسيل الأشعة الكونية. لا تسبب لنا هذه الجسيمات أي ضرر (وإن كانت قد تسبب ضررا حال إنتاج أعداد هائلة منها بسبب انفجار مستعر أعظم قريب، على سبيل المثال)، لكن يمكن كشفها باستخدام كل من الأدوات على الأرض وأجهزة الكشف التي توضع على متن مناطيد شاهقة الارتفاع. وإن كان بعض الجسيمات التي أنتجتها هذه العملية لإحداث سيل من الأشعة الكونية هي في أصلها تاكيونات، فإنها ستصل إلى أجهزة الكشف الكائنة على الأرض ليس قبل وصول كل الجسيمات العادية في السيل فحسب، بل حتى قبل أن تصطدم الأشعة الكونية الأولية بالطبقة العلوية من الغلاف الجوي؛ وذلك لأنها تسافر عبر الزمن عكسيا. قد يكون من الممكن كشف هذه الجسيمات قبل أن تفقد كل طاقتها وتنطلق عبر الكون بسرعة لا نهائية.
ونظرا إلى أن علماء الفلك الذين يدرسون الأشعات الكونية يملكون أجهزة كشف تعمل معظم الوقت تقريبا في مواقع مختلفة حول العالم، فلم يتطلب الأمر منهم جهدا كبيرا، أو تمويلا إضافيا، لفحص تسجيلاتهم لرصد أي آثار لومضات أولية على شاشات أجهزتهم قبيل وصول سيل كثيف من الأشعة الكونية. وقد فعل كثيرون ذلك في مطلع سبعينيات القرن العشرين، حين كانت التاكيونات موضوع نقاش رائج، ووجد بعضهم بوادر تشير إلى حدوث أمر غريب. لكن الدليل الوحيد المقنع بحق جاء من باحثين اثنين في أستراليا، وهما روجر كلاي وفيليب كراوتش في عام 1973. فقد وجدا ما بدا بمثابة مؤشرات قوية لومضات أولية أسرع من الضوء تظهر على أجهزة الكشف لديهما، وكان الدليل قويا بما يكفي بحيث تمكنا من نشر اكتشافهما في مجلة «نيتشر» عام 1974، وذلك بعد أن تحقق علماء آخرون من الأمر أثناء مراجعة الأقران لتقييم إنجازهما. ولم يتمكن أحد من إيجاد خلل في تحليلاتهما. كنت في ذلك الوقت أعمل في مجلة «نيتشر»، ونتذكر فورة الحماس التي أثارها الخبر الذي وضع علماء الفيزياء في حيرة وجعل يوم الصحفيين حافلا. لكن للأسف، لم تجد أي تجربة أخرى دليلا مقنعا على وجود مثل هذه المؤشرات الأولية ترتبط بسيول أخرى من الأشعة الكونية، ومع أنه لم يتمكن أحد إلى يومنا هذا حتى من اكتشاف أي مواطن خلل في تحليل بيانات كلاي وكراوتش، فإنه متقبل باعتباره شيئا من تلك الأشياء التي لا يسعنا تغييرها أو تفسيرها؛ إذ لا بد أن شيئا آخر فعل جهاز الكشف الأسترالي في الوقت المناسب (أو غير المناسب، الأمر يتوقف على وجهة نظرك) بما يحاكي دفقة سالفة من جسيمات تاكيونية. وبحلول عام 1988 بدت احتمالات إيجاد أدلة على وجود التاكيونات قاتمة للغاية؛ حتى إن نيك هيربرت حين لخص الموقف في كتابه «أسرع من الضوء» خلص إلى أن معظم علماء الفيزياء «يضعون احتمالية وجود التاكيونات في مكان أعلى بقليل من احتمالية وجود وحيد القرن».
لكن إنهاء قصة السفر بأسرع من الضوء والتواصل العكسي في الزمن عند هذه النقطة شيء كئيب ومحزن للغاية. في عام 1980، تناول أحد الفيزيائيين، وهو جريجوري بينفورد، تداعيات ذلك في روايته «منظر طبيعي للزمن»، والتي لا تتناول فكرة التواصل التاكيوني فحسب، بل تعالج أيضا مشكلة تغافلنا عنها في معظم قصص السفر في الزمن، وهي أن السفر في الزمن يعد أيضا سفرا في المكان. إن الأرض في حالة حركة دائمة؛ إذ تدور حول محورها وحول الشمس وتسير عبر المجرة. فلو كنت أملك آلة زمنية في غرفة معيشتي وأردت أن تعود بي هذه الآلة إلى غرفة معيشتي في يوم الثلاثاء الماضي، لوجب أن أكون قادرا على برمجة الآلة بحيث تذهب إلى الموقع الذي كانت به غرفة معيشتي يوم الثلاثاء الماضي، والذي يعد الآن منطقة فضاء خالية. وقد جسدت هذه التداعيات بدقة في قصة كريستوفر بريست «آلة الفضاء»، لكن في قصة «منظر طبيعي للزمن» يقر بينفورد بالمشكلة، رغم أن أبطال روايته لم يكن عليهم سوى الانشغال بالوجهة التي يوجهون إليها الأشعة التاكيونية. يسأل أحد هؤلاء الأبطال: «نوجهها إلى ماذا؟». «أين العام 1963؟» فيجيبه: «إنه بعيد جدا، كما يتبين. العام 1963 بعيد للغاية». لكن المؤلف لم يوضح أبدا كيف تمت عملية التوجيه؛ فالتواصل العكسي عبر الزمن هو صميم قصته ومحورها.
كتب بينفورد قصته في سبعينيات القرن العشرين، لكن أحداثها تدور في بداية الستينيات وأواخر التسعينيات من القرن نفسه، وهي «مسافات» شبه قريبة من وقت نشر الكتاب. والمستقبل الذي يتصوره في القصة أكثر قتامة بكثير مما تبينت عليه فترة التسعينيات؛ إذ كان العالم على حافة كارثة بيئية. يحاول مجموعة من العلماء في جامعة كمبريدج في ذلك الوقت إرسال رسالة تحذيرية إلى الماضي أملا في إمكانية تجنب بعض الأخطاء التي أدت إلى هذا الموقف، ويستقبل باحث شاب يدعى جوردون بيرنشتاين بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو نسخة مشوشة من هذه الرسائل التاكيونية. وليس من قبيل المصادفة أن بطل القصة يتشارك مع بينفورد الأحرف الأولى من اسمه، أو أن بينفورد قد أنهى شهادة ماجستير في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو وعمل في كمبريدج في أواخر سبعينيات القرن العشرين. لذا فإن خلفية القصة لها أصل حقيقي إلى حد كبير وتضفي عليها شيئا من الصدق ، رغم أن الجانب العلمي فيها قائم على التخمين.
جريجوري بينفورد
شاترستوك
المشكلة في قصة بينفورد - كما هو الحال مع كل القصص التي تتناول التواصل مع الماضي من المستقبل - أن المستقبل يغير الماضي، وبذلك فإن المستقبل نفسه يتغير، وليس بالضرورة أن يكون التغيير نحو الأفضل.
5
وأناقش بعض الحلول الممكنة لهذه المشكلة في تصوري التاسع. لكن ثمة طريقة واحدة للالتفاف حول هذه المشكلة وهي ملائمة بشكل خاص للحديث عن التاكيونات. نحن معتادون على فكرة أن الأحداث في مخروط الماضي الضوئي تؤثر على ما يحدث هنا في الحاضر، وأن «خطوط العالم» في الماضي تلك تعد ثابتة. ونرى أن المستقبل ليس ثابتا بعد. لكننا إذا ما قبلنا فكرة أن المخروط الضوئي المستقبلي يؤثر أيضا على ما يحدث هنا في الحاضر، فإننا بذلك نكون أمام موقف لخصه لورنس شولمان في مقال بعنوان «مفارقات تاكيونية» نشر في دورية «أمريكان جورنال أوف فيزيكس» في عام 1971: «التاريخ هو مجموعة من خطوط العالم مجمدة بالأساس في الزمكان. وفي حين أننا على الصعيد الشخصي على قناعة قوية بأن أفعالنا تتحدد فقط بمخروطنا الضوئي الماضي، فإن الحال قد لا يكون على هذا المنوال دائما.» وفي ذلك إشارة إلى أن «خطوط العالم» لمخروطنا الضوئي المستقبلي مجمدة أيضا في الزمكان، وأنها تؤثر أيضا على حاضرنا، لكن أيضا لا يمكن تغييرها مثلما لا يمكننا تغيير خطوط العالم الماضي. وفي إطار هذا السيناريو، فإنه ما من شيء فعله «جوردون بيرنشتاين» في الستينيات من شأنه أن يغير ما جاء في الرسائل التي تلقاها من حقبة التسعينيات. وهذا موضوع سأعود إلى الحديث عنه في تصوري السابع. لكن قبل أن أترك موضوع السفر بأسرع من الضوء، أريد أن ألفت انتباهك إلى احتمالية مثيرة للفضول. إن الضوء قد يكون قادرا على السفر بأسرع من سرعة الضوء.
هوامش
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
«التنوير كالأنفاق الكمومية؛ حين يرى الجميع أسوارا وحواجز، يرى المستنير إمكانات لا نهائية.»
أميت راي، «التنوير خطوة بخطوة»
تتوقف قدرة الضوء على السفر أسرع من الضوء على ظاهرة تعرف باسم النفق الكمومي.
1
وينبغي لنا ألا نندهش من تداخل فيزياء الكم مع قصة السفر عبر الزمن؛ لأن كليهما يعد غريبا مقارنة بتجاربنا اليومية. والنفق الكمومي هو أحد أغرب جوانب فيزياء الكم.
ترتبط ظاهرة النفق الكمومي بظاهرة اللايقين الكمومي، لكن من الأبسط أن نتعرض إليها في إطار الاحتمالات، التي يمكن حسابها بدقة باستخدام معادلات فيزياء الكم. تخبرنا المعادلات باحتمال إيجاد جسيم ما كالإلكترون أو البروتون في أي مكان بعينه. فإن كانت ثمة تجربة تقيس موضع جسيم ما، فإننا نعرف مكانه في تلك اللحظة. لكن بمجرد أن نتوقف عن النظر إلى الجسيم، فإننا لا نعرف مكانه. وتخبرنا قواعد الكم بأن من المحتمل إلى حد كبير أن يكون الجسيم في البداية في موضع قريب من الموضع الذي رأيناه فيه، لكن بمرور الوقت تتزايد احتمالية أن يكون الجسيم في مكان مختلف تماما؛ بل قد يكون حتى، من حيث المبدأ، على الجانب الآخر من الكون، وإن كانت احتمالية ذلك ضئيلة إلى أقصى حد. وحين ننظر ثانية (أي نأخذ قياسا آخر)، نجد الجسيم في موضع جديد. لكن جوهر ميكانيكا الكم يقول إن الجسيم لا يتحرك عبر المكان من موقع إلى آخر. فهو في البداية هنا، ثم بعد ذلك يكون هناك، من دون أن يعبر المسافة بين الموضعين. وما نظن أنها مسارات الجسيمات عبر الفضاء هي في واقع الأمر خطوط ذات احتمالية عالية، وكأننا نأخذ قياسات كل جزء من الثانية لكي نمنعها من أن تهيم في أركان الكون المترامية.
2
تخيل بروتونا على مسار يحمله إلى جدار منيع لا سبيل إلى النفاذ منه. أغلب الظن أنه إما سيمتص أو سيرتد عن الجدار. لكن حين يكون على مسافة قريبة جدا من الجدار، يكون ثمة احتمالية ضئيلة أنه سيظهر في اللحظة التالية على الجانب الآخر من الجدار، وكأنه مر عبره من خلال نفق. يظهر هنا الرابط بين هذا ومبدأ اللايقين الكمومي؛ لأن موضع الجسيم في أي لحظة من الزمن يكون غير محدد، وهو ما تصفه حرفيا معادلات دقيقة. قد يكون الجسيم عند النقطة (أ)، أو قد يكون في أي موضع آخر بين عدة مواضع بعيدة بعض الشيء عن النقطة (أ). وإن كانت النقطة (أ) تقع بجوار الحاجز في لحظة ما، فثمة احتمال قابل للقياس الكمي أن الجسيم في اللحظة التالية سيكون على الجانب الآخر من الحاجز. ولا يمكننا التأكد من أن الحاجز سيوقف حركة الجسيم. لكن ما هو أهم أن الجسيم لا يمكن أن يكون محل يقين. فمبدأ اللايقين الكمومي هذا ليس ناشئا عن عجزنا البشري عن قياس الأشياء بالدقة الكافية؛ بل هو سمة من سمات الكون نفسه.
وقد اختبر هذا بالتجارب، لكن أفضل مثال على نشاط النفق الكمومي يأتينا من الشمس. يعرف علماء الفلك كتلة الشمس من دراسات مدارات الكواكب، وبواسطة هذه المعلومات يكون من السهل حساب مدى الحرارة التي ينبغي أن يكون عليها قلب الشمس لكي تتمكن من الصمود أمام الضغط الداخلي الناشئ عن وزنها. والطاقة التي تحافظ على حرارتها تأتي من اندماج نووي، يتم في الأساس عن طريق دمج البروتونات (أنوية الهيدروجين) لإنتاج جسيمات ألفا (أنوية الهيليوم)، مع «فقدان» بعض من كتلتها في أثناء ذلك وإطلاقها في شكل طاقة. لكن ثمة عقبة - أو بدا أن ثمة عقبة حين طرحت هذه الفكرة للنقاش أول مرة بين علماء الفيزياء في مطلع عشرينيات القرن العشرين. وتحديثا للقصة بالمصطلحات الحديثة، فإن هذه العملية تبدأ حين يقترب بروتونان أحدهما من الآخر إلى حد كبير ويندمجان معا. يستحث هذه العملية تأثير قوة جذب قوية (يطلق عليها علماء الفيزياء اسما يخلو من أي خيال، وهو «القوة القوية») تجذبهما أحدهما إلى الآخر. لكن هذه القوة القوية تتسم بمدى قصير للغاية؛ لذا ينبغي أن تكون البروتونات على مقربة شديدة بعضها من بعض قبل حدوث هذه العملية. تكمن المشكلة في أن كل بروتون يحمل شحنة كهربائية موجبة؛ ومن ثم يحدث بينهما تنافر. ودفع كل منهما في اتجاه الآخر أشبه بمحاولة دفع القطبين الشماليين لقضيبين مغناطيسيين أحدهما إلى الآخر. وكلما زادت سرعة حركة البروتونين، استطاعا الاقتراب أكثر أحدهما من الآخر في تصادم مباشر وجها لوجه قبل أن يباعد بينهما التنافر، وتعتمد سرعة حركتهما على درجة الحرارة. ودرجة حرارة قلب الشمس وفقا لحسابات علماء الفلك أدنى كثيرا من أن تتيح للبروتونين الاقتراب أحدهما من الآخر بما يكفي لسريان مفعول القوة القوية وقهر التنافر. إذن كيف تستمر الشمس في السطوع؟
لا بد أنك خمنت أن سطوع الشمس يرجع إلى ظاهرة النفق الكمومي أو المرور النفقي. في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كان عالم الفيزياء الروسي المولد، جورج جاموف، يطبق قوانين ميكانيكا الكم المكتشفة حديثا على الفيزياء النووية، وأدرك أهمية النفق الكمومي في التفاعلات النووية. وبتطبيق هذه القوانين على الظروف القائمة في قلب الشمس، تبين أن درجة الحرارة في قلب الشمس مناسبة تماما للبروتونات بحيث يقترب بعضها من بعض، بما يسمح لها بالمرور في نفق كمومي عبر الحاجز الفاصل بينها. وهكذا فإن العبور النفقي الكمومي هو ما يسمح باستمرار الاندماج النووي في قلب الشمس.
وأفضل تمثيل لذلك يكون بدحرجة كرة صعودا عبر الجزء الخارجي من جبل تعلوه فوهة بركان. إذا كانت الكرة تتحرك بسرعة كافية، فستصل إلى قمة الحافة وستتدحرج وينتهي بها الحال داخل الفوهة. أما إن كانت تتحرك أبطأ مما ينبغي، فستقطع جزءا من المسافة صعودا إلى المنحدر ثم تنحدر إلى أسفل عائدة عبر الجزء الخارجي من الجبل. لكن النفق الكمومي يعني أن الكرة إن قطعت شوطا كافيا على الجزء الخارجي من الجبل صعودا، يمكن أن تظهر فجأة على الجانب الآخر من الحافة وتنحدر إلى داخل الفوهة. واختيار مصطلح «العبور النفقي» ليس موفقا؛ ذلك أن الجسيم لا يتحرك فعليا عبر الحاجز؛ بل ينتقل في الحال من أحد جانبي الحاجز إلى الجانب الآخر. وهكذا يمكن للضوء أن يسافر بأسرع من الضوء. «تبرز مسألة السفر عبر الزمن في الواجهة بين اثنتين من أكثر نظرياتنا الفيزيائية نجاحا وإن كانتا غير متوافقتين؛ وهما نظرية أينشتاين عن النسبية العامة، ونظرية ميكانيكا الكم. تصف نظرية أينشتاين العالم في إطار المجرات والنجوم الواسع جدا، في حين تعد نظرية ميكانيكا الكم وصفا ممتازا للعالم على مستوى الذرات والجزيئات المحدود للغاية.»
مارتن رينجباور، جامعة إنسبروك
تجربة المناشير الزجاجية لنيوتن
ألامي
ثمة شيء إضافي علينا أن نستوعبه من فيزياء الكم أولا. على المستوى الكمومي، لا يصح فعليا الحديث عن «الجسيمات» و«الموجات» باعتبارهما شيئين منفصلين. فكل جسيم كمومي يمكن معاملته باعتباره موجة أيضا، وكل موجة كمومية يمكن أن تعامل معاملة الجسيم. إنما هي مسميات وتصنيفات نستخدمها لإخفاء جهلنا بما يحدث فعلا، لكن بيت القصيد أن الحسابات الخاصة بأشياء كالأنفاق الكمومية تقدم الإجابات نفسها، بغض النظر عن الصورة الذهنية التي تفضلها.
3
وهذا أمر مهم؛ لأن الضوء (وأعني به أي نوع من الإشعاع الكهرومغناطيسي) ليس مجرد موجة فحسب، بل يمكن اعتباره دفقا من جسيمات، تسمى الفوتونات. وهذا من شأنه أن يسهل علينا أن نفهم كيف يمكن للضوء أن يشق نفقا عبر أحد الحواجز. وسألتزم بالسيناريو الأبسط، وإن كان بإمكاننا فهم هذه الظاهرة في إطار الموجات أيضا.
كان ثمة فريقان مختلفان يدرسان ظاهرة العبور النفقي الكمومي للفوتونات في تسعينيات القرن العشرين، حين أتى كل فريق منهما على اكتشاف مدهش. هناك عدة طرائق مختلفة لصنع حواجز تمر عبرها الفوتونات في أنفاق، لكن الطريقة المفضلة لدي تنطوي على اكتشاف لإسحاق نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي، واستخدمها علماء الفيزياء لاحقا بعد مضي ثلاثة قرون من اكتشافها. أثار اهتمام نيوتن الطريقة التي يمكن بها تحليل شعاع ضوء من خلال منشور زجاجي مثلثي الشكل لإنتاج طيف ضوئي من ألوان قوس قزح، وفي إحدى تجاربه البالغة الأهمية، أوضح أن بالإمكان استخدام منشور آخر لإعادة تجميع طيف قوس قزح في شعاع واحد من الضوء الأبيض. وكان هذا دليلا على أن الضوء الأبيض هو مزيج من جميع ألوان قوس قزح، وأن الألوان لم تضف إلى الضوء بفعل الزجاج بينما يمر عبره، وهو الأمر الذي كان الناس يعتقدون في صحته حتى مجيء نيوتن. اشتملت تلك التجارب على وضع مناشير زجاجية بعضها بالقرب من بعض بحيث تكون جوانبها المسطحة موازية بعضها لبعض، مع وجود فرجة بسيطة بينها، ولاحظ نيوتن ظاهرة مثيرة للفضول. لقد لاحظ أن شعاعا من الضوء (والذي يمكن أن نراه الآن باعتباره دفقا من الفوتونات) يمر عبر أحد جوانب المنشور المثلثي بزاوية معينة، وحين يصل إلى الجانب الآخر من المنشور، فإنه ينعكس بدلا من أن يخرج من الزجاج ببساطة، ثم يبرز من الجانب الثالث للمنشور المثلث الشكل. ولهذا الانعكاس الداخلي الكثير من أوجه الاستفادة العملية في أشياء كالمجهر الثنائي العينين ومنظار الأفق، لكن ما يهم هنا هو أن الجانب الثاني من المنشور في هذه الظروف يعد حاجزا منيعا ترتد عنه الفوتونات. لكن ليس الحال هكذا دائما! فقد كان الاكتشاف المذهل الذي أتى عليه نيوتن أنه لو كان ثمة منشور آخر بجوار السطح العاكس ومحاذيا له مع وجود فرجة ضئيلة بينهما، فإن بعضا من الضوء يمر إلى المنشور الثاني ويستمر في طريقه. وقد وضعه ذلك في حيرة شديدة.
4
وبعد ثلاثمائة عام، أصبح واضحا أن الفوتونات في هذه الظروف تشق نفقا عبر الفرجة من أحد المنشورين إلى الآخر. وبما أن العبور النفقي عملية لحظية، فهذا يعني أن الضوء «يسافر» عبر الفرجة بأسرع من الضوء. وهذا هو ما قاسته التجارب في واقع الأمر في تسعينيات القرن الماضي.
تنطوي طريقة القياس المطبقة على بعض التكنولوجيا المعقدة، لكن المفهوم بسيط بحيث يمكن شرحه. تسافر الفوتونات المنطلقة من مصدر ما عبر فراغ لمسافة معلومة حتى تصل إلى حاجز، يمكنك أن تتخيله في صورة مرآتين موضوعتين إحداهما وراء الأخرى، مع وجود فرجة بينهما معلوم حجمها. تشق بعض الفوتونات نفقا للمرور عبر الحاجز، بدلا من أن تنعكس، و«تخرج» من فورها من الجانب الآخر (وكأنها تخرج من المرآة الثانية)، ثم تسافر مسافة معلومة عبر الفراغ وحتى أحد أجهزة الكشف. وعلى سبيل التبسيط، تخيل أن المراحل الثلاث للرحلة كلها ذات طول واحد. بالنسبة إلى مرحلتين من الرحلة، يسافر أحد الفوتونات بسرعة الضوء، التي يرمز لها بالرمز
في معادلة أينشتاين. أما بالنسبة إلى المرحلة الوسطى ، فلا يستغرق الفوتون أي وقت على الإطلاق. وهكذا يسافر الضوء عبر ثلاث وحدات من المسافة في الوقت الذي يستغرقه في العادة ليقطع وحدتين منها. لقد قطع الرحلة بأكملها في ضعف سرعة الضوء بمرة ونصف
1.5c
وبهذا يكون قد عاد في الزمن إلى الوراء بمقدار جزء ضئيل للغاية من الثانية.
كانت ثمة فتاة تدعى برايت
بأسرع من البرق تأتي مسرعة؛
انطلقت ذات يوم
بصورة نسبية
وعادت في الليلة السالفة.
مجلة «بانش»، 19 ديسمبر 1923
في تسعينيات القرن المنصرم، أجرى رايموند تشياو وزملاؤه تجارب على هذه الشاكلة بجامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، قاسوا خلالها الضوء وهو يسافر بضعف سرعته بمقدار
1.7c ، إلا أنهم لم يجدوا في ذلك ما يمكن الاسترشاد به لمعرفة طريقة عملية للسفر عبر الزمن، أو حتى إرسال رسائل إلى الماضي، على غرار أشعات بينفورد التاكيونية الخيالية. تكمن المشكلة في أنه عند وصول شعاع من الفوتونات إلى حاجز ما، يستحيل تحديد أي من هذه الفوتونات سيشق نفقا لعبور الحاجز وأيها لن يفعل. فأي رسالة فعلية تحمل الكثير من الفوتونات، وستضطرب هذه الفوتونات وتتداخل في طريقها خلال التجربة.
لكن الفريق الآخر الذي أجرى تجارب مشابهة مستقلا، وكان يرأسه جونتر نيمتز من جامعة كولونيا، برهن على إمكانية نقل المعلومات إلى الماضي بأسرع من الضوء. ففي عام 1994، وفي تجارب استخدمت إشعاع الموجات الميكروية (كما ذكرت آنفا، لا فرق بين وصف الأشياء كموجات أو وصفها كجسيمات)، أعد الفريق تسجيلا لافتتاحية السيمفونية الأربعين لموتسارت وأرسلوه لاسلكيا في تجربة مرور نفقي قبل أن يعيدوا تسجيلها ثانية على الجانب الآخر. وتبين أنه قد انتقل بسرعة تعادل ضعف سرعة الضوء بمقدار
4.7c . وكانت النتيجة قطعة موسيقية منخفضة الدقة نوعا ما، إلا إنها كانت لا تزال قابلة للتمييز، انتقلت عبر التجربة بأكثر من سرعة الضوء بأربعة أضعاف. لا شك أنها كانت تحتوي على معلومات، وإن لم تكن بنفس القدر الذي تحمله النسخة العالية الدقة. وقد سافرت عبر الزمن إلى الماضي.
سبب هذا الأمر حالة ذعر واستنكار حين قام نيمتز بتشغيل التسجيل في اجتماع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكما وصف الأمر في كتابه مع أستريد هايبل:
5
كان الحضور «عاجزين عن الكلام للحظة؛ إذ استمعوا إلى موسيقى أسرع من الضوء؛ أي إلى «إشارة» [التأكيد من وضع المؤلفين]، لكنهم وجدوا صعوبة في تقبل ذلك.» ومنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، أصبحت التجارب أكثر تعقيدا وتستخدم الآن فوتونا واحدا فقط، لكن دائما ما تنتهي إلى النتيجة نفسها. وكما يوضح نيمتز: «عملية العبور النفقي هي جزء من ميكانيكا الكم ولا يمكن وصفه باستخدام نظرية النسبية الخاصة.»
تكمن العقبة، بالنسبة إلى الراغبين في العمل في مجال الإشارات، في أن الفواصل الزمنية التي تنطوي عليها هذه الإشارات محدودة للغاية. فقد وصل تسجيل موسيقى موتسارت إلى الجانب الأبعد من التجربة قبل موعده المفترض، لكن الفارق كان أقل بكثير من طرفة عين أو نبضة قلب. يشير نيمتز أيضا إلى مشكلة أخرى. للإشارات مدة محددة. في التجارب، يمكن أن تصل بداية الإشارة في مخرج التجربة قبل أن تكون قد وصلت إلى المدخل - لكن على نهاية الإشارة اللحاق بها حتى يمكن قراءة الرسالة. والأمر المثير للاهتمام حقا هو التوسع في نطاق التجربة حتى تصل الإشارة بأكملها قبل إرسالها. ربما يبدو هذا كحلم العالم المجنون الذي يضرب به المثل. وقد قدم لنا أحد العلماء، الذي لم يكن مجنونا لكنه كان يتمتع بمخيلة خصبة، إشارة تتعلق بكيفية القيام بذلك في قصة نشرت قبل نصف قرن من التجارب التي أجراها تشياو ونيمتز. كان هذا العالم هو إسحاق أسيموف، واشتملت قصته على خواص مركب كيميائي خيالي يدعى الثيوتيمولين.
إسحاق أسيموف
موندادوري بورتوفوليو/جيتي
ولد أسيموف في روسيا إما في أواخر عام 1919 أو في أوائل عام 1920، لكنه انتقل مع أسرته إلى الولايات المتحدة في عام 1923، وفقدت سجلات ميلاده الأصلية؛ فاختار أن يحتفل بمولده يوم الثاني من شهر يناير. بدأ أسيموف كتابة القصص القصيرة عام 1939. وبعد مسيرة تعليمية قطعتها الخدمة العسكرية، عكف أسيموف، في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين على إعداد رسالة دكتوراه في جامعة كولومبيا، وكانت الرسالة تشتمل على تجارب باستخدام الكاتيكول، وهو مادة تتكون طبيعيا وتشكل بلورات بيضاء خفيفة تتحلل في الماء بسرعة كبيرة. تذكر أسيموف لاحقا أنه وبينما كان يضيف تلك البلورات إلى الماء ذات يوم، خطر له أن تلك البلورات لو تحللت بأسرع مما هي عليه، فإنها ستتحلل قبل أن تلامس الماء. وعلى سبيل الاستراحة من إنهاء رسالة الدكتوراه قبل مناقشتها، كتب أسيموف ورقة علمية ساخرة بعنوان «خواص الذوبان المزمن للثيوتيمولين المعاد تصعيده»
6
تدور حول هذه المادة الخيالية التي كانت تفعل ذلك تماما؛ إذ كانت تتحلل في الماء «قبل» إضافته إلى البلورات بمدة مقدارها 1,12 ثانية. وكان من البديهي أن يعرض ما كتبه على جون دبليو كامبل، محرر مجلة «أستوندينج» كما كان اسمها حينها. أبدى كامبل سعادته وترحيبه بنشر هذه الورقة، لكن أسيموف كان قلقا من أن ممتحنيه قد يعترضون على مثل هذا العبث؛ لذا اتفق على أن تنشر تحت اسم مستعار. ولكن في واقع الأمر، نشرت الورقة في عدد المجلة لشهر مارس من عام 1948 باسمه. وكما اعترف أسيموف لاحقا، كان كامبل يعرف أكثر. فلم يشعر أحد بالغضب أو الإهانة، وحصل أسيموف على درجة الدكتوراه، وذاع صيت «أسيموف» على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية وكذا عند محبي الخيال العلمي.
فيما يلي فقرة رئيسية في «المقال» تسلط الضوء على أهمية هذا المركب:
إن حقيقة أن المركب الكيميائي قد تحلل قبل إضافة الماء جعلت من الطبيعي محاولة سحب الماء بعد التحلل وقبل إضافته. ولحسن حظ قانون حفظ الكتلة والطاقة، لم ينجح هذا قط؛ لأن عملية التحلل لم تحدث إلا عند إضافة الماء في النهاية. والسؤال الذي يطرح نفسه في الحال بالطبع هو كيف يمكن لمركب الثيوتيمولين أن «يعرف» مسبقا إن كان الماء سيضاف في النهاية أم لا.
من الواضح أن الأمر هنا يتطلب نوعا من أنواع التواصل العكسي في الزمن.
لكن كانت هذه مجرد بداية فقط لملحمة مركب الثيوتيمولين. فقد ظهر «مقال» آخر في العام 1953 وأدرج كلاهما في المجموعة القصصية بعنوان «تريليون واحد فقط» (عام 1957)، حيث تعرضت لهما لأول مرة . لكن القصة ذات الصلة هنا هي قصته الثالثة عن مركب الثيوتيمولين بعنوان «الثيوتيمولين وعصر الفضاء». يصف أسيموف هذه المرة «بطارية اتصال طويل الأمد»، وهي مجموعة من الأجهزة يتصل بعضها ببعض، ومن خلال إضافة الماء لتحليل الثيوتيمولين في إحدى الحجيرات، تفعل إضافة الماء في الحجيرات التالية في سلسلة تتكون من 77 ألف جهاز «كرونومتر داخلي»، بحيث تتحلل عينة من الثيوتيمولين في نهاية الخط قبل يوم من إضافة الماء في الحجيرة الأولى. ويؤدي هذا إلى تعقيدات حين يحاول الباحثون خداع الآلة عن طريق عدم إضافة الماء إطلاقا، لكن في كل حالة كانت تقع حادثة عارضة أو كارثة طبيعية (؟) (بلغت ذروتها في شكل إعصار)، ما يؤدي إلى دخول الماء إلى النظام. وفي قصة أخيرة له بعنوان «ثيوتيمولين إلى النجوم» المنشورة عام 1973 وتدور أحداثها في المستقبل البعيد، «يوضح» أن الماء إذا «لم» يضف إلى جهاز يقوم على أساس عينة متحللة من الثيوتيمولين، فإنه سيسافر في المستقبل بحثا عن الماء.
يمكنك أن ترى تداعيات هذا السيناريو الخيالي على التجارب التي أجراها تشياو ونيمتز. إن بنية مركبة من الحواجز متعددة الطبقات، كالمرايا الموضوع بعضها وراء بعض التي ذكرتها آنفا، لن تكون مختلفة تماما عن سلسلة أجهزة «الكرونومتر الداخلي» لدى أسيموف والبالغ عددها 77 ألف جهاز، ومن ثم ستضاعف تلك الحواجز العنصر المسئول عن العبور النفقي الفوتوني في السفر عبر الزمن. غير أن هذا ليس اقتراحا عمليا. لكن ليس هناك في قوانين الفيزياء ما يمكن أن يمنع ذلك، وكما يلخص كل من نيمتز وهايبل، فمن الحقائق المعروفة «أن هناك مساحات قابلة للتحقق منها ... لا يوجد بها زمن رغم إمكانية السفر عبرها.»
يثير هذا من جديد مسألة ما إن كانت «خطوط العالم» لمخروط الضوء المستقبلي مجمدة في الزمكان كتلك الخطوط الخاصة بالمخروط الضوئي الماضي، لكن وقبل أن أسهب في الحديث عن تلك التداعيات، أريد أن أتناول مجددا إمكانية قلب مخاريط الزمكان الضوئية حتى يصبح الوقت بعدا مكانيا. قد لا يكون هذا شيئا يمكن أن نقوم به في مختبر هنا على كوكب الأرض؛ لكن لربما يمكن للكون أن يفعلها نيابة عنا.
هوامش
التصور الخامس: الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية
العالمية
«يبدأ كل شيء كحلم يقظة لأحدهم.»
لاري نيفن
عادة ما يقدم علماء الفيزياء الرياضية أفضل أعمالهم وهم في سن صغيرة نسبيا، كما حدث مع أينشتاين ونظرية النسبية الخاصة. كذلك كان أول من طبق معادلات نظرية النسبية العامة على السفر عبر الزمن في السابعة والعشرين من عمره فقط حينها، وكان عمر النظرية نفسها أقل من عمره؛ إذ كان عمرها 22 عاما فحسب. نشر ويليام جاكوب فان ستوكوم حلوله لمعادلات أينشتاين في العام 1937؛ لكننا لن نعرف أبدا كيف كانت عبقريته ستتطور؛ ذلك أنه التحق بسلاح الجو الملكي وقتل وهو يلقي بقاذفة لانكستر فوق أوروبا التي كانت محتلة من النازيين في عام 1944.
لم تتعامل حلول فان ستوكوم للمعادلات مع أي شيء واقعي ولو من بعيد. فهي تصف ما يحدث للزمكان بالقرب من أسطوانة غبار ذات طول لا نهائي تدور حول محورها. وطبقا للمعادلات، فإن أي شخص (أو أي جسم) يدور حول هذه الأسطوانة في مسار حلقي محدد سيعود إلى حيث انطلق قبل أن يغادره. وقد اعتبر هذا من غرائب رياضيات نظرية النسبية، لكن مثل هذه الغرائب دائما ما تثير فضول علماء الرياضيات، وفي هذه الحالة كان الشخص الذي أثير فضوله هو كورت جودل، أحد أعظم علماء الرياضيات على مر العصور. ولد جودل في عام 1906 فيما يعرف الآن بجمهورية التشيك، إلا أن المآل انتهى به في الولايات المتحدة الأمريكية. «السفر عبر الزمن ممكن لكن لن يتمكن أحد أبدا من قتل ذاته الماضية.»
كورت جودل
في عام 1931، أذهل جودل عالم الرياضيات بورقة بحثية أوضحت أن علم الحساب علم غير كامل. فقد أثبت أنه لو وضع أي نظام قواعد لوصف عمليات حسابية بسيطة، فلا بد أن يكون ثمة عبارات أو مسائل حسابية لا يمكن أن نثبت صحتها أو خطأها باستخدام قواعد ذلك النظام. هذه هي «مبرهنة عدم الاكتمال لجودل». وهي غير مهمة في الحياة اليومية. فمجموع 2 + 2 لا يزال يساوي 4. لكن قد يكون ثمة شيء في الرياضيات لا يمكن إثبات صحته ولا خطئه.
الأمر هنا أشبه بعض الشيء بعبارة «هذه الجملة خاطئة». إن كانت الجملة صحيحة، فلا بد أن العبارة خاطئة؛ وإن كانت الجملة خاطئة، فلا بد أن العبارة صحيحة. لا توجد إجابة للسؤال «هل الجملة صحيحة أم خاطئة؟». وهذا لا يمنعنا من استخدام اللغة، مثلما لا تمنعنا مبرهنة عدم الاكتمال من استخدام الحساب. لكن بالنسبة إلى رجل بإمكانه إثبات أن علم الحساب غير كامل، كانت نظرية النسبية العامة لعبة طفولية، وكان عمل جودل التالي أكثر روعة.
في عام 1949، حين لم تكن فكرة الكون المتمدد غير مقبولة بعد، وكان الناس (وأقصد هنا علماء الكونيات) في حيرة من أمرهم: لماذا لا تقوم الجاذبية بجذب أجزاء الكون كله معا وجعله ينهار، اقترح جودل إمكانية منع انهيار الكون إذا كان الكون بأكمله يدور. ما كان الكون ليحتاج إلى مركز فريد ليدور حوله، مثلما لا يملك الكون المتمدد مركزا فريدا يتمدد منه. في الكون المتمدد، وأينما كنت، يكون من الواضح ظاهريا أن التمدد متمركز عليك؛ أما في كون جودل، فأنت ترى الكون يدور حولك أينما وجهت بصرك. لكن هناك المزيد، حسبما اكتشف جودل حين حل المعادلات المناسبة.
حين تدور الأجسام الضخمة، فإنها تسحب الزمكان معها، مثلما تسحب الملعقة العسل السائل عند تقليبه بها في الوعاء. والكون الدوار يسحب معه الزمكان بالطريقة نفسها التي تحدث في أسطوانة غبار دوارة ذات طول لا نهائي. يمكنك أن تتخيل ذلك مكافئا لقلب مكعب في ثلاثة أبعاد. ويفضل أنصار النظرية النسبية الحديث عن قلب «مخروط الضوء»، لكن الأمر سيان بالنسبة إلينا. فإن قلبته بعيدا بما يكفي، يصبح ما كان القمة جانبا من جوانب المخروط، وما كان أحد الجوانب يصبح هو القمة. بالمثل، عند قلب الزمكان الرباعي الأبعاد، ينتهج أحد أبعاد المكان سلوكا كسلوك الزمن، ويصبح الزمن أحد أبعاد المكان. والسفر في هذا الاتجاه هو سفر عبر الزمن. «يبدو الأمر وكأن الكرة الأرضية الدوارة كانت مغموسة في العسل. حين تدور ، فإنها تجر العسل معها. وعلى النحو ذاته، تسحب الأرض الزمكان معها.»
فرانسيس إيفريت
في كون جودل، يمكنك الانطلاق من نقطة في الزمكان والسفر حول الكون في مسار مغلق عبر ما يبدو بعدا مكانيا، لكنه يعيدك إلى المكان والزمان نفسيهما اللذين انطلقت منهما. ويطلق على هذا حلقة مغلقة شبيهة بالزمن (أو منحنى مغلق شبيه بالزمن). واختيار طريق (أو مسار بلغة الفيزيائيين) مناسب يمكن حتى أن يعيدك إلى الماضي. لكنها ستكون رحلة طويلة عبر ما قد نطلق عليه الفراغ الزائف؛ لأن الزمن، طبقا لساعتك، لا يزال يمر بينما تتحرك. تذكر المسافر المتفائل عبر الزمن في تصوري الثالث الذي انطلق في اتجاه الزمن في الزمكان. الموقف هنا ليس بهذا السوء، لكن قد يستغرق الأمر آلاف السنين طبقا لساعات سفينتك الفضائية قبل أن تعود إلى الزمن الذي بدأت فيه الرحلة.
ومن أجل إحداث حلقة مغلقة شبيهة بالزمن، سيتعين على الكون أن يدور مرة واحدة كل 70 مليار عام. فلو كان الكون يدور بهذه السرعة، فإن أقصر حلقة مغلقة ستكون بطول 100 مليار سنة ضوئية. وهكذا يمكن حتى لشعاع من الضوء أن يستغرق 100 مليار سنة ليدور حول الكون ويعود إلى النقطة نفسها التي بدأ منها في الزمكان. وعمر الكون أقل قليلا من 14 مليار سنة، وعلى أي حال، فإن الدراسات التي أجريت على أشياء مثل إشعاع الخلفية الكوني لا تشير إلى حدوث أي دوران. لكن الشيء المهم بشأن حل جودل لمعادلات أينشتاين أنه يؤكد أن النظرية العامة لا تحظر السفر عبر الزمن. و«أي شيء ليس محظورا هو شيء إلزامي.» «خلاصة القول إن السفر عبر الزمن متاح في قوانين الفيزياء.»
براين جرين
ليست هذه نهاية قصة الأسطوانات الدوارة والحلقات المغلقة الشبيهة بالزمن. ففي عام 1973، أدرك فرانك تيبلر - وهو باحث في جامعة ماريلاند - إمكانية تنفيذ الحيلة نفسها بكتلة أقل بكثير من كتلة الكون بأكمله، شريطة أن تكون المادة قيد التجربة مضغوطة بما يكفي وتدور بسرعة كبيرة جدا بالفعل. وقد ناقشت هذه الأفكار لأول مرة مع تيبلر حين كنت أعمل في مجلة «نيو ساينتست» وتابعت هذه القصة من ذلك الحين. ظهر مخطط لآلة زمنية عملية وفاعلة في شكل مطبوع في عام 1974 في دورية «فيزيكال ريفيو دي»
1
تحت عنوان «الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية». واقتبس كاتب الخيال العلمي لاري نيفن العنوان من ورقة تيبلر البحثية ووضعه عنوانا لقصة قصيرة، ويمكن أن تجد هذه القصة في مجموعة عنوانها «المتسلسلة المتقاربة»؛
2
وتعني عبارة «انتهاك السببية العالمية» هنا «السفر عبر بالزمن».
لم يسلم تيبلر بصحة أي شيء اعتباطا حين انطلق في استكشاف الاحتمالات، بل استنبط كل شيء من المبادئ الأولى. فقام بحل المعادلات بنفسه ليتأكد من أن النظرية العامة تسمح بوجود حلقة مغلقة شبيهة بالزمن، ما يعني أن المسافر يسافر بالزمن إلى الماضي لجزء من الرحلة. ثم تحقق من إمكانية توافر الظروف التي تسمح بمثل هذه الرحلات في مناطق محلية داخل حدود الكون، دون أن يتخلل ذلك إدخال أجسام ذات طول لا نهائي أو الكون بأكمله. وكانت الإجابة «نعم». حينها فقط بحث في مدى إمكانية تخليق مثل هذه الظروف - من حيث المبدأ على الأقل - اصطناعيا. بعبارة أخرى، إنشاء آلة زمن فاعلة وناجعة. وجاءت الإجابة ب «نعم» مرة أخرى.
فرانك تيبلر
الصورة الرسمية لجامعة تولين
والسمة الأساسية هنا هي ذلك الدوران. لكن آلة زمن من هذا النوع (سواء أكانت طبيعية أم اصطناعية) تنطوي أيضا على شيء يدعى المتفردة المجردة، أو على وجه التحديد، متفردة مجردة دوارة. والمتفردة هي ما يكمن في قلب الثقب الأسود (سنتحدث أكثر عن الثقوب السوداء في تصوري التالي)، حيث انسحقت المادة من الوجود بفعل الجاذبية. والمتفردة المجردة هي متفردة لا تختبئ بداخل ثقب أسود، وقد تنكشف مثل هذه الأجسام للعالم الخارجي لفترة وجيزة حين تنفجر الثقوب السوداء، أو حين تنهار الأجسام الضخمة السريعة الدوران. وتلك «الفترة الوجيزة» هي كل ما تحتاج إليه من وقت.
في موضع بعيد عن المتفردة - حيث يكون مجال الجاذبية ضعيفا - يتصرف الماضي والمستقبل بالطريقة المعتادة عند الزمكان المنبسط. لكن كلما اقتربت من المتفردة الدوارة، انقلب الزمكان في اتجاه دوران الجسم المركزي. سيبدو كل شيء طبيعيا بالنسبة إلى أي أحد في تلك المنطقة من نسيج الزمكان؛ فسيمر الوقت كالمعتاد، وستظل قوانين نظرية النسبية سارية. لكن بالنسبة إلى شخص يشاهد كل هذا من مكان بعيد في الزمكان المنبسط، تكون الأدوار التي يلعبها الزمان والمكان بالقرب من الجسم الدوار مشوشة. فالزمن يدور حول الجسم المركزي. ويمكن للمسافر أن يتحرك من الزمكان المنبسط إلى المنطقة المتأثرة، ثم عبر مسار يشكل بالنسبة إلى المراقب من بعيد دائرة حول المكان، وذلك دون أن يتحرك في الزمن أبدا! سيكون المسافر موجودا في كل مكان عبر المسار في الوقت نفسه. ولو أراد، يمكن له أن يتبع مسارا في منحنى حلزوني معتدل حول محور الزمن، متحركا بذلك في الزمن إلى الماضي؛ سيظل المسافر يعود إلى المكان نفسه الذي بدأ منه، لكن في أوقات أسبق وأسبق. بعد ذلك يمكن له أن يتحرك بعيدا عن الجسم الدوار في اتجاه الزمكان المنبسط الطبيعي، ولكن في الماضي.
وبحسب تعبير تيبلر «يمكن للمسافر أن يبدأ رحلته في المناطق ذات الجاذبية الضعيفة - ربما بالقرب من الأرض - ثم يذهب إلى منطقة المخروط الضوئي المقلوب ثم في اتجاه الزمن السالب، ثم يعود إلى منطقة الجذب الضعيف ... وإذا ما قطع مسافة كافية في اتجاه الزمن السالب فيما لا يزال في منطقة الجذب القوي، يمكن له أن يعود إلى الأرض قبل أن يغادرها؛ ومن ثم يمكن أن يذهب إلى أبعد ما يريد في ماضي الأرض. هذه حالة من الحالات الحقيقية للسفر عبر الزمن.»
ثمة ميزة إضافية في إنشاء آلة زمن تستند إلى نظرية تيبلر، وقد أشرت إليها بالفعل. لا يحتاج وجود المتفردة المجردة إلا وهلة؛ لأن الحلقات المغلقة الشبيهة بالزمن المرتبطة بالمتفردة تقطع الطريق كله في تلك الوهلة من الزمن الخارجي إلى المستقبل، منذ اللحظة التي تنشأ فيها الآلة. لكن هذا يطرح تساؤلا: أنى لنا أن ننشئ جهازا كهذا من الأساس؟
لعل الطريقة الأنجح والأفضل لذلك أن نجد جسما دوارا مضغوطا للغاية نشأ طبيعيا في الكون ، ونسرع حركته نحو النقطة التي تتكون فيها حلقة مغلقة. وأكثر الأجسام المعروفة كثافة واكتنازا تسمى النجوم النيوترونية، التي يكدس كل نجم منها كتلة أكبر من كتلة الشمس بقليل في جسم بحجم جبل إيفرست تقريبا. وتظهر الكثير من تلك النجوم إلى أجهزة الرصد لدينا؛ لأنها تطلق موجات راديوية، تنبعث كضوء فنار، فتومض أمام الأرض في كل مرة يدور فيها النجم. تعرف هذه النجوم باسم النجوم النابضة أو النباضات، ويدور بعضها بسرعة كبيرة جدا، تصل إلى مئات الدورات في الثانية الواحدة. وهذه السرعة قريبة على نحو مثير جدا من السرعة التي يمكن أن تنشأ عندها آلة زمن. ويقدر تيبلر أن الطبيعة لو كونت أسطوانة دوارة هائلة طولها 100 كيلومتر وعرضها 10 أو 20 كيلومترا، ولها كتلة تضاهي كتلة الشمس وتدور حول نفسها مرتين كل ملي ثانية، فإن متفردا مجردا سيتشكل في مركزها، يرافقه حلقات مغلقة شبيهة بالزمن مرتبطة به. وسرعة الدوران لا تعادل سوى ثلاثة أضعاف أسرع النجوم النابضة المعروفة. إذا كان بإمكانك أخذ عشرة نجوم نيوترونية وربط أقطابها معا وتدويرها بسرعة كافية، فستحصل على آلة زمن تتبع نظرية تيبلر.
سيكون هذا إنجازا هندسيا رائعا إلى حد كبير. أولا عليك أن تجد عشرة نجوم نيوترونية، ثم عليك سحبها إلى الموقع ذاته في الفراغ ثم لصقها معا من الأطراف، وفي الأخير عليك أن تجعلها تدور بسرعة تسمح لحافة الأسطوانة التي صنعتها بالتحرك في دائرة بسرعة تعادل نصف سرعة الضوء. سيكون قدر الطاقة المرتبطة بهذا الدوران هو نفس قدر طاقة الكتلة الساكنة للأسطوانة ( ). وعن ذلك يقول تيبلر: «هذه طاقة ضخمة للغاية حتى إن قوة الطرد المصاحبة لها يمكنها تدمير الجسم الدوار.» وفي حين تحاول الأسطوانة تدمير نفسها من الجانب، تحاول أيضا أن تنهار طوليا؛ وذلك بسبب قوة جذب النجوم النيوترونية العشرة التي تجذبها معا داخل ثقب أسود. والأمل الوحيد هنا هو وجود قوة طاقة لها من القوة ما يكفي للإمساك بالأسطوانة والقبض عليها بشدة.
المفاجأة أن قوة كهذه قد تكون موجودة. فهي خاصية لظاهرة غريبة تنبأ بها علم الكونيات، تدعى الوتر الكوني. والوتر الكوني - إن كان له وجود - هو بقايا مادية من نوع ما تخلفت من الانفجار العظيم، تشكل خيوطا تمتد عبر الكون، أو حلقات مغلقة كالشرائط المطاطية، إلا أن عرضها أقل بكثير من عرض الذرة. ولعل أفضل طريقة لتخيل الوتر الكوني هو تخيله كأنبوب متناهي الصغر (فيما يتعلق بقطره) يمتلئ بطاقة على حالة كالتي كان الكون عليها حين ولد. لا يمكن لهذه الأوتار أن يكون لها نهايات مفتوحة، وإلا تسربت منها الطاقة. لذا لا بد لها إما أن تشكل حلقات مغلقة، أو أن تمتد عبر الكون بأكمله. ورغم أن قطر الوتر أقل بكثير من قطر النواة الذرية، فإنه يحوي قدرا هائلا من الطاقة، حتى إن قطعة من ذلك الوتر يبلغ طولها مترا (في شكل حلقة) يمكن أن تزن نفس وزن كوكب الأرض.
ومن بين خصائصه المثيرة الأخرى، نجد أن الوتر الكوني يختبر توترا سلبيا؛ بمعنى أنك لو قمت بمط قطعة منه، فستتمدد أكثر بدلا من أن تحاول الرجوع إلى شكلها الأصلي. يقدم هذا وسيلة مفيدة لمساعدة آلة تيبلر زمنية من الصمود طويلا بما يكفي لتتشكل حلقة مغلقة؛ شريطة أن تتمكن من أن تحوز قطعة من وتر كوني. والفترة التي ستصمد فيها الآلة طويلا بما يكفي ليست طويلة على الإطلاق: تذكر أن المتفردة تتشكل لوهلة خاطفة فحسب.
هذه قصة مألوفة. إن تيبلر يخبرنا بأن السفر عبر الزمن ممكن بالفعل من حيث المبدأ، إلا أن الصعوبات العملية المرتبطة بإنشاء آلة الزمن هي صعوبات ضخمة. لكن هب أن الطبيعة فعلت ذلك لأجلنا؟ فالطبيعة في النهاية تمتلك وفرة من النجوم النيوترونية السريعة الدوران ووفرة من الوقت أيضا. فالنباضات الملي ثانية تدور بسرعة كبيرة جدا؛ لأنها تجذب المادة من نجم مرافق قريب منها، مما يزيد من سرعتها مثل متزلج الجليد الذي يدور حول نفسه ويضم ذراعيه لزيادة سرعة الدوران. وهناك ما يربو على 3 آلاف نجم نابض ملي ثانية. والكثير منها يوجد في شكل عناقيد كروية، وهي مجموعات شبه دائرية من النجوم لا يتجاوز قطرها بضع عشرات من السنين الضوئية، ويحتوي كل عنقود منها على ما يقارب مليون نجم. وتعتبر هذه الظروف مثالية لتشكيل نجوم ثنائية؛ فمن بين كل خمس نجوم نابضة في العناقيد الكروية هناك أربعة منها نباضات ملي ثانية، والعنقود المعروف باسم الطوقان 47 يملك وحده 25 نجما منها.
ونباضات الملي ثانية تكاد تكون آلات زمنية طبيعية، حتى إنه من الصعب مقاومة تخمين أن بعضها ربما انتقل إلى الخطوة التالية. وإن تمكن أحفادنا من اكتشافها وفك شفرتها في المجرة في عمومها، فالأرجح أنهم سيجدون آلة زمن لا أن يصنعوا واحدة.
إن وجدت صعوبة في قبول هذا الحديث عن سحب نسيج الزمكان وقلبه على محمل الجد، فلتعد التفكير ثانية. فقد قيس تأثير ذلك بالفعل، وإن كان على نطاق أصغر بكثير مما ستحتاج إليه لبناء آلة زمن. الأمر يحدث مع أي كتلة دوارة، مهما كانت صغيرة. لكنها كبيرة بما يكفي لرصدها بالنسبة إلى الأجسام الصغيرة التي تدور حول الأرض. في ستينيات القرن العشرين، أدرك باحثون يعملون في جامعة ستانفورد أن هذا السحب للزمكان لو حدث كما تنبأت نظرية أينشتاين العامة، فإنها ستظهر في صورة تأثير على سلوك الجيروسكوبات أو المدوارات الدوارة في مدارها حول الأرض. فوفقا للنظرية، سيؤدي السحب الذي تتسبب به الأرض أثناء دورانها للزمكان إلى تمايل المدوارات - أو دورانه - بعض الشيء. والتأثير المتوقع ضئيل للغاية؛ لكن فريق جامعة ستانفورد أمضى نحو 50 عاما في إنجاز مشروع لقياسه. فصنعوا مدوارات متوازنة تماما، في شكل كرات من الكوارتز شبه كاملة الاستدارة بحجم كرات البنج بونج ومغطاة بالنيوبيوم الفائق التوصيل لإنتاج حقل مغناطيسي، ما أتاح إمكانية مراقبة دورانها؛ إذ كانت تدور بسرعة 5 آلاف لفة في الدقيقة.
قامت مجموعة من الأجهزة برصد حركة المدوارات وهي تدور بحرية في ظروف من انعدام الوزن بداخل سفينة الفضاء، وذلك لقياس مداورتها. وقد عرف المشروع حين بدأ باسم «تجربة ستانفورد للمدوارات المنعدمة الوزن»، لكن مع إطلاق تلك المدوارات، أصبحت تعرف رسميا أكثر باسم «مسبار الجاذبية ب» (كانت تجربة مسبار الجاذبية أ هي التجربة الأسبق، وقد ناقشناها في تصوري الثاني). دار مسبار الجاذبية ب حول الأرض من القطب إلى القطب طيلة سبعة عشر شهرا بدأت من يوم العشرين من شهر أبريل عام 2004. رصدت الأجهزة على متن السفينة الفضائية حركة أربعة مدوارات، وقارنت تناسق محاور دورانها مع اتجاه يشير إلى نجم دليل. وعلى المدار القطبي للمسبار، أخذ «تباطؤ الإطار المرجعي» الناتج عن دوران الأرض يدفع المدوارات شيئا فشيئا بين الشرق والغرب.
غير أن هذا لم يكن التأكيد الأول لتأثير تباطؤ الإطار المرجعي. ففي عام 2004، قاس إجنازيو سيوفوليني بجامعة روما وزملاء له تباطؤ الإطار المرجعي عن طريق تتبع مدارات الأقمار الصناعية المعروفة باسم «لاجيوس 1» و«لاجيوس 2». كان هذان القمران الصناعيان عواكس بسيطة، أطلقت في العامين 1976 و1992، واستخدمت في الأساس لرصد حركة سطح الأرض. تتكون هذه الأقمار الصناعية من كرات نحاسية بسيطة مغطاة بالألومنيوم يبلغ قطرها 60 سنتيمترا وكتلتها 400 كيلوجرام و11 كيلوجراما على التوالي. وكل منها مغطى بعدد 426 عاكسا؛ لذا يبدوان وكأنهما كرتا جولف ضخمتان. كان هدف مهام لاجيوس هو إرسال نبضات ليزرية من الأقمار الصناعية لقياس المسافة بين نقاط على سطح الأرض ما يقدم - بين أشياء أخرى - قياسا مباشرا لحركة القارات المرتبطة بالصفائح التكتونية («الانجراف القاري»). لكن سيوفوليني أدرك أن بالإمكان استخدام تلك الأقمار بطريقة أخرى. فعن طريق الرصد الدقيق للاتجاه الذي دارت فيه المستويات المدارية للأقمار الصناعية، بمساعدة أشعة الليزر، قاس الفريق تأثير تباطؤ الإطار المرجعي بدقة تصل إلى 10
.
3
لكن وكما أشاروا، لا يعني هذا أن مسبار الجاذبية ب كان مضيعة للوقت. فقد قال سيوفوليني «علي أن أثني على فريق مسبار الجاذبية ب لما توصلوا إليه من نتائج؛ لأن تجربة هذا المسبار صعبة وجميلة للغاية.»
هذا يعني وجود تجربتين صعبتين وجميلتين تؤكد كل منهما على نحو مستقل عن الأخرى أن عملية الدوران تقلب الزمكان. إن معادلات أينشتاين على حق (لا عجب في هذا)، ويمكن لآلة زمن واحدة على الأقل أن توجد إما بفعل الطبيعة أو بفعل هندسة غاية في التقدم. لكن هذا ليس كل ما في الأمر. فمعادلات أينشتاين تضع في الاعتبار أيضا إمكانية وجود نوع ثان من آلات الزمن.
هوامش
التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
«تنشأ الثقوب السوداء من زمان منثن ومكان منثن. لا شيء آخر، أيا ما كان.»
كيب إس ثورن، كتاب «علم البينجميات»
يشتمل النوع الثاني من آلات السفر عبر الزمن على أكثر الأجسام تطرفا في الكون، وهي الثقوب السوداء. معظم التصورات الوصفية للثقوب السوداء تصورها كثقوب في الفضاء؛ بوابات هلاك تقدم رحلة بلا رجعة نحو الانقراض. وتقترح بعض السيناريوهات الأكثر تعقيدا بعض الشيء أن هذه الثقوب تعمل بمثابة أنفاق عبر الفضاء، ما يسمح للمسافرين البواسل بالتحايل على حاجز سرعة الضوء، وذلك من خلال سلك طريق مختصر عبر «الفضاء الفائق». لكن نظرية أينشتاين هي نظرية عن الزمان والمكان، ولا عجب أنها تقدم - من حيث المبدأ - طريقة للسفر عبرهما كليهما.
والثقب الأسود، في أبسط أشكاله، هو منطقة من الفراغ تشتد فيها قوة الجاذبية لدرجة أن لا شيء يمكن له أن يهرب منها - ولا حتى الضوء - ومن هنا جاءت التسمية. إن قوة جذب الثقب الأسود قوية جدا؛ حتى إن الضوء الذي يخرج منه يفقد كل ما لديه من طاقة. وترتبط قوة الجذب الشديدة بالطبع بانثناء شديد في نسيج الزمكان. ويحدث هذا حين ينضغط قدر كاف من المادة في مساحة صغيرة بما يكفي من الفراغ. وبالنسبة إلى نوعية الثقوب السوداء التي نتحدث عنها هنا، قد يكون مقدار الكتلة التي ينطوي عليها الأمر أكبر، تعادل نحو عشرة أضعاف كتلة الشمس، مضغوطة في حيز عرضه بضعة كيلومترات.
1
ثمة منطقة لا عودة حول الثقب الأسود تدعى أفق الحدث، وأي شيء يسقط في هذا الأفق لا يمكن أن يخرج ثانية أبدا. لكن بداخل ذلك الأفق لا يوجد شيء سوى نقطة من الكثافة اللانهائية في مركزه؛ أي متفردة.
لكن في تطور تاريخي غريب وغير متوقع، بحث أنصار النسبية في واقع الأمر فيما يعرف الآن بالثقوب الدودية في الزمكان، وذلك قبل فترة طويلة للغاية من إقدام أحد على أخذ فكرة الثقوب السوداء الفيزيائية على محمل الجد. ففي مطلع عام 1916 - أي قبل أقل من عام من نشر أينشتاين لنظرية النسبية - وجد الألماني كارل شفارتسشيلد حلا لمعادلات أينشتاين يصف ما نطلق عليه اليوم ثقبا أسود، وسرعان ما أشار العالم النمساوي لودفيج فلام إلى أن الحل الذي توصل إليه شفارتسشيلد لمعادلات أينشتاين يعمل أيضا بالعكس، ما يشير ضمنيا إلى احتمالية وجود ثقب دودي يربط بين منطقتين من نسيج الزمكان المنبسط، قد تكون هاتان المنطقتان كونين مختلفين أو جزأين مختلفين من الكون نفسه. واستمر التخمين والتنظير بشأن طبيعة الثقوب الدودية على فترات متقطعة طيلة عقود، كما وضع أينشتاين نفسه - بالاشتراك مع زميله ناثان روزين - وصفا رياضيا حاسما لمثل هذا الطريق المختصر عبر الفضاء، الذي صار يعرف باسم جسر أينشتاين-روزين. لكن بالرغم من أن الرياضيات تضع في الاعتبار وجود مثل هذه الجسور، فإن أنصار النسبية برهنوا في وقت مبكر للغاية على أن ثقوب شفارتسشيلد الدودية لا توفر طريقة للانتقال من أحد أجزاء الكون إلى جزء آخر.
تكمن المشكلة الأولى في أن المسافر عبر الفضاء سيكون عليه أن يتحرك بأسرع من الضوء في مرحلة ما من الرحلة من أجل اجتياز جسر أينشتاين-روزين من طرفه إلى طرفه الآخر. ثمة مشكلة أخرى أيضا مع هذا النوع من الثقوب الدودية، وهي أنه غير مستقر. فهذا النفق المفتوح (والذي يطلق عليه في بعض الأحيان «حلق») يوجد فقط لجزء ضئيل للغاية من الثانية قبل أن ينغلق بسرعة. ولا يوجد الثقب الدودي نفسه طويلا بما يكفي لعبور الضوء من أحد طرفيه إلى طرفه الآخر.
لكن ليست هذه نهاية القصة. إن ثقب شفارتسشيلد الأسود البسيط ليس له شحنة كهربائية كلية، ولا يدور كذلك. والمثير في الأمر أن إضافة شحنة كهربائية أو دوران إلى الثقب الأسود تغير طبيعة المتفردة، مما يفتح بوابة إلى أكوان أخرى، ويجعل الرحلة ممكنة عند السفر بسرعات أقل من سرعة الضوء. فالشحنة الكهربائية تمد الثقب الأسود بقوة ثانية، إضافة إلى قوة الجاذبية. ونظرا إلى أن الشحنات التي تحمل الإشارة نفسها تتنافر، تحاول هذه الشحنة تدمير الثقب الأسود. والدوران يؤتي الأثر نفسه إلى حد كبير. ففي كلتا الحالتين توجد قوة تقاوم الجاذبية.
في ستينيات القرن العشرين، أثبت روجر بينروز أنه وفقا لنظرية النسبية العامة، فإن أي شيء يسقط في ثقب أسود بسيط تكون من كتلة من مادة غير دوارة لا بد أن يسحب إلى داخل المتفردة وينسحق من الوجود، الأمر الذي لا يبشر بخير للراغبين في السفر عبر الزمن أو عبر المكان. لكن في الوقت نفسه تقريبا، وجد روي كير - وهو عالم رياضي نيوزيلندي - أن الأمور تختلف حال كان الثقب الأسود يدور. ستتشكل المتفردة، ولكن في شكل حلقة، كحبة سكاكر النعناع المثقوبة. يمكنك، من حيث المبدأ، أن تغوص في مثل هذا النوع من الثقوب السوداء وعبر الحلقة وتخرج في مكان وزمان آخرين. وإن اصطدمت بالحلقة فستنسحق من الوجود؛ لكن من يسقط عبر الحلقة سيعبر جسر أينشتاين-روزين وينتهي به المآل في جزء آخر من الزمكان. ولكن هذا سيكون بمثابة نفق ذي اتجاه واحد؛ إذ لا يمكنك العودة من حيث انطلقت. والالتفاف للعودة عبر النفق من شأنه أن يأخذك إلى منطقة أخرى من الزمكان. كان «حل كير» هذا هو المثال الرياضي الأول لآلة زمن، لكن أحدا لم يأخذه على محمل الجد في ذلك الوقت. «على مدار حياتي العلمية كلها الممتدة لأكثر من خمسة وأربعين عاما، كانت أكثر التجارب إثارة هي إدراكي أن حلا دقيقا لمعادلات أينشتاين في النسبية العامة - والذي اكتشفه عالم الرياضيات النيوزيلندي روي كير - يقدم التمثيل الدقيق تماما لأعداد لا توصف للثقوب السوداء الضخمة التي يعج بها الكون.»
إس تشاندراسخار، «الحقيقة والجمال: الجماليات والدوافع في العلوم»، مطبعة جامعة شيكاغو، 1987
أقنع العلماء البارزون أنفسهم من خلال الخيال العلمي - وربما بصورة حتمية - بإمكانية تفعيل السفر عبر الزمن وإنجاحه، وذلك من خلال حضارة متقدمة على المستوى التقني. كان رائد الفضاء الأمريكي كارل ساجان يعكف على كتابة رواية استخدم فيها جهازا يصنع ممرا عبر ثقب أسود يسمح لشخصيات روايته بالسفر من نقطة بالقرب من الأرض إلى نقطة بالقرب من نجم النسر الواقع. كان ساجان يعلم علم اليقين أنه يلوي قوانين الفيزياء، ولكنه أراد أن يكون العلم في روايته دقيقا قدر الإمكان؛ لذا سأل كيب ثورن بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا - وهو خبير في النسبية - كيف يمكن إدخال بعض ترهات العلم الزائف في حبكة القصة ليجعلها تبدو معقولة ومستساغة ظاهريا. وحين اطلع ثورن على المعادلات بعناية (أو بالأحرى حين أوكل إلى اثنين من طلبة الدكتوراه لديه، وهما مايكل موريس وأولفي يورتسيفر، مهمة الإتيان ببعض التفاصيل عن السلوك الفيزيائي للثقوب الدودية) أدرك أن بالإمكان جعل جسر أينشتاين-روزين مستقرا باستخدام الفيزياء الغريبة (لكن ليست المحظورة)، وسأشرح ذلك بعد قليل. حقق كل من موريس ويورتسيفر تقدما بالبدء من الطرف الرياضي للمشكلة، على غرار الطريقة التي استخدمها تيبلر في دراسة آلات الزمن الدوارة. فبدلا من التفكير في الكيفية التي يمكن أن تتشكل بها الثقوب السوداء ثم التحقق رياضيا مما إن كانت تلك الثقوب السوداء يمكنها أن تشكل جسور أينشتاين-روزين، استخدما معادلات النظرية العامة بهدف «إنشاء» هندسة للزمكان تتوافق مع الشرط الذي وضعه ساجان للثقب الدودي حتى يمكن للكائنات البشرية عبوره وسلوكه ماديا. ثم بعد ذلك اتجها للبحث في الفيزياء، ليريا إن كان ثمة طريقة يمكن لقوانين الفيزياء المعروفة العمل من خلالها لإنتاج الشكل الهندسي المطلوب. وقد كان. سر ساجان كثيرا، وظهر نفق الزمكان في الرواية، وهي رواية «اتصال» (كونتاكت)، التي نشرت في عام 1985، وفي الفيلم الذي أنتج لاحقا بطولة جودي فوستر. لكن كان هذا لا يزال يقدم باعتباره طريقا مختصرا عبر الفضاء.
ويبدو أن ثورن لم يدرك مباشرة أن الحيلة التي وجدها فريقه فتحت الباب أيضا أمام إمكانية السفر عبر الزمن. لكن في شهر ديسمبر من عام 1986، ذهب ثورن مع مايك موريس لحضور اجتماع علمي في شيكاغو، حيث أشار أحد المشاركين الآخرين على موريس على نحو عرضي بأن الثقوب الدودية يمكن استخدامها أيضا في السفر عكسيا عبر الزمن. وقد روى ثورن قصة ما حدث آنذاك في كتابه «الثقوب السوداء والتواء الزمن». فقد أدرك أن أي ثقب دودي طبيعي المنشأ سيربط على الأرجح بين زمنين مختلفين. وبمجرد أن أجاز ثورن فكرة السفر عبر الزمن وأيدها - وهو من الرواد المشهود لهم في مجال دراسة نظرية النسبية العامة - بدأ فيزيائيون آخرون في إدخال مزيد من التطوير عليها.
جودي فوستر في فيلم «اتصال» (كونتاكت)
جيتي
خلاصة كل هذا العمل أنه في حين يكون من الصعب إدراك كيف يمكن لأي حضارة تشييد آلة زمن من ثقب دودي من نقطة الصفر، يكون من الأسهل كثيرا تخيل إمكانية تطويع ثقب دودي طبيعي المنشأ ليلائم متطلبات السفر عبر الزمن لدى أي حضارة متقدمة بما يكفي. وعبارة «متقدمة بما يكفي» هنا تعني القدرة على السفر عبر الفضاء بالوسائل التقليدية، وتحديد مواقع الثقوب السوداء وتطويعها بالسهولة التي نطوع بها سطح الأرض في مشروعات مثل نفق المانش.
استخدم فريق ثورن معادلات النظرية العامة لمعرفة نوعيات المادة والطاقة التي يمكن أن تبقي ثقبا دوديا مفتوحا. وينبغي عدم الاندهاش مما اكتشفوه. فالجاذبية تجذب أجزاء المادة معا، ما ينشئ متفردات ويضغط حلق الثقب الدودي مغلقا إياه. ولكي يبقى الثقب الدودي مفتوحا، ينبغي أن يمرر عبره شكل من أشكال مادة غريبة غير مألوفة، أو مجال ما، ينتج ضغطا سالبا ومن ثم يكون له مقاومة للجاذبية. قد تظن أن هذا يجعل من إنشاء ثقوب دودية يمكن السفر عبرها واجتيازها أمرا مستحيلا. فالضغط السالب أشبه بنفخ بالون ورؤيته وهو ينكمش ويفرغ منه الهواء. فهل من المؤكد حقا أن مادة كهذه لا يمكن أن توجد في الكون الحقيقي؟ لكن ربما تكون موجودة بالفعل. «إن كنت شديد التفاؤل، فالفكرة الأساسية أنك إذا ما تلاعبت بفتحات الثقب الدودي، فلا يمكنك أن تجعله طريقا مختصرا من نقطة إلى أخرى في الفضاء، بل طريقا مختصرا من لحظة إلى أخرى في الزمن.»
براين جرين
وجد السبيل إلى هذا النوع من مقاومة الجاذبية منذ زمن طويل على يد الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير في عام 1948. عمل كازيمير في مختبرات الأبحاث لعملاق الكهرباء فيليبس، حيث توصل إلى اقتراح لما صار يعرف بعد ذلك بتأثير كازيمير. من الطرق البسيطة لفهم تأثير كازيمير تمثيلها بلوحين معدنيين متوازيين، متقاربين جدا أحدهما من الآخر وبينهما فراغ. لكن فيزياء الكم تخبرنا بأن الفراغ - أو المساحة الفارغة - ليس خاويا بالفعل. بل يعج بالنشاط، إلى جانب الجسيمات الكهرومغناطيسية، أو الفوتونات، من بين أشياء أخرى، التي تظهر من العدم لبرهة قصيرة جدا قبل أن تختفي ثانية. تسمى هذه الفوتونات بالفوتونات «الافتراضية»، لكنها موجودة بالفعل. كل هذا يعود إلى ظاهرة اللايقين الكمومي، التي تخبرنا بأننا لا يمكن أبدا أن نكون واثقين كل الثقة مما إذا كانت الفوتونات موجودة بالفعل أم لا.
ترتبط الفوتونات على اختلاف مستوياتها من الطاقة بموجات كهرومغناطيسية ذات أطوال موجية المختلفة، بحيث تتوافق الأطوال الموجية الأقصر مع مستويات الطاقة الأعلى؛ لذا فإن من الطرق الأخرى لتخيل ذلك تصور أن الفراغ يعج ببحر من الموجات الكهرومغناطيسية الدائمة التغير. وفي أعماق الفراغ، توجد كل الأطوال الموجية في هذا البحر. لكن بين لوحين معدنيين موصلين للكهرباء، لا يمكن للموجات الكهرومغناطيسية إلا أن تشكل أنماطا مستقرة بعينها، حتى حين لا تكون الألواح مزودة بشحنة كهربية. والموجات النشطة بين اللوحين المعدنيين تشبه في سلوكها الموجات الموجودة على وتر جيتار منقور عليه. فوتر الجيتار المنقور لا يمكن أن يهتز إلا بطرق معينة، ليخرج نغمات بعينها؛ تلك النغمات التي تتوافق فيها اهتزازات الوتر مع طوله. تلك هي النغمات الأساسية لوتر بعينه، وموجاته التوافقية. بالمثل، ثمة أطوال موجية معينة لإشعاع ما هي التي يمكن أن تتوافق مع الفرجة بين اللوحين المعدنيين من تجربة كازيمير. ولا يمكن لأي فوتون يتلاءم مع طول موجي أكبر من الفرجة بين اللوحين المعدنيين أن يتناسب مع تلك الفرجة. لذا فإن في كل سنتيمتر مكعب من الفراغ بين اللوحين المعدنيين تنشط فوتونات افتراضية أقل من الفوتونات الموجودة خارج الفراغ بين اللوحين، ومن ثم يشعر اللوحان وكأن قوة تدفعهما أحدهما نحو الآخر. هذا التأثير حقيقي. فقد قاست التجارب مدى قوة كازيمير بين لوحين معدنيين باستخدام ألواح مسطحة ومقوسة مصنوعة من أنواع مختلفة من المواد لنطاق من الفرجات بين الألواح يتراوح بين 1.4 نانومتر إلى 15 نانومترا (حيث النانومتر الواحد يساوي واحدا على مليار من المتر)، وتتفق النتائج مع تنبؤ كازيمير تماما.
في عام 1987، نشر كل من موريس وثورن ورقة بحثية تسلط الضوء على إمكانية استخدام شكل مختلف من هذا التأثير للإبقاء على ثقب دودي مفتوحا (على النطاق المجهري على الأقل)، وأشارا إلى أن حتى مجالا كهربائيا أو مغناطيسيا عاديا يتخلل ثقبا دوديا «يكون قاب قوسين أو أدنى من أن يكون مجالا دخيلا؛ فإن كان توتره أكبر بشكل متناهي الصغر ... فمن شأنه أن يلبي احتياجاتنا اللازمة إلى إنشاء ثقب دودي». وخلصا إلى أنه «ينبغي ألا نفترض دون تفكير استحالة وجود المادة الغريبة اللازمة لحلق ثقب دودي قابل للسفر عبره».
ثمة طريقة أخرى ممكنة لإبقاء نفق زمني مفتوحا؛ وذلك باستخدام الوتر الكوني الذي استعان به تيبلر ليبقي آلته الزمنية الدوارة الافتراضية صامدة في مواجهة السحب الداخلي للجاذبية. وأحد الخيارات لتنفيذ ذلك سيتمثل في أخذ ثقب دودي مجهري طبيعي المنشأ وتمديده حتى الوصول إلى الحجم المطلوب باستخدام الوتر الكوني. حينها سيكون ثمة ثقبان أسودان عند الطرفين المتقابلين لثقب دودي عبر الفراغ الفائق. ويمكن للثقبين ألا يوجدا فقط في أماكن مختلفة، بل في أزمنة مختلفة أيضا، أو حتى في المكان نفسه ولكن في أزمنة مختلفة. اقفز في ثقب من الثقبين وستخرج فجأة من الآخر في وقت مختلف، إما في الماضي أو في المستقبل. اقفز عائدا إلى الثقب الذي خرجت منه وستعود إلى النقطة التي انطلقت منها في المكان والزمان.
أشار الباحثان بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أيضا إلى معاناة معظم الفيزيائيين من فشل في التخيل حين يتعلق الأمر بدراسة المعادلات التي تصف المادة والطاقة في ظل ظروف أكثر تطرفا بكثير من تلك التي نواجهها هنا على الأرض. ففي برنامج دراسي للمبتدئين في النظرية العامة درس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عام 1985، لم يخبر الطلاب بأي شيء محدد حول الثقوب الدودية، لكنهم تعلموا استكشاف المعنى الفيزيائي للمعادلات، المعروف بمقاييس الزمكان. وفي اختبارهم، وضع لهم سؤال قادهم خطوة بخطوة عبر الوصف الرياضي للمقياس الموافق لثقب دودي. وعن ذلك قال موريس وثورن: «كان من المذهل أن ترى كيف كانت مخيلة الطلاب مقيدة وضيقة. لقد تمكن معظمهم من فك شفرة الخصائص التفصيلية للمقاييس، لكن قلة قليلة منهم فحسب هي من تمكنت فعليا من إدراك أنها تمثل ثقبا دوديا قابلا للسفر عبره.» غير أن ثورن وطالبيه هنا يعيبون على غيرهم في شيء هم أنفسهم قد وقعوا فيه؛ ذلك أنهم لم يدركوا أن المقاييس التي كانوا يعملون عليها بطلب من ساجان تشير ضمنيا إلى السفر عبر الزمن إلا حين لفت أحدهم انتباههم إلى ذلك.
وقد وصف ميتشيو كاكو آلة الزمن التي يمكن تصنيعها على يد مجتمع متقدم تكنولوجيا بما يكفي بلغة ستسر محبي مسلسل «دكتور هو» وإتش جي ويلز: [إنها] تتكون من حجيرتين، تحتوي كل واحدة على لوحين معدنيين متوازيين. تقوم المجالات الكهربائية الكثيفة الناشئة بين كل زوج من الألواح (أكبر من أي شيء ممكن في ظل تكنولوجيا اليوم) بتمزيق نسيج الزمكان، ما يحدث ثقبا في الفضاء يربط بين الحجيرتين.
بالاستفادة من نظرية أينشتاين عن النسبية الخاصة التي تنص على أن الوقت يمر بطيئا على جسم متحرك، يمكن لنا إذن أخذ إحدى الحجيرتين في رحلة طويلة وسريعة والعودة بها. سيمر الوقت ببطء أكثر على الحجيرة المسافرة عبر الزمن؛ لذا ستعود إلى نقطة انطلاقها مع وجود فارق زمني بين طرفي الثقب الدودي. وكما أشرت، يمكن تطبيق الحيلة نفسها على زوج من الثقوب السوداء متصلين بثقب دودي، وإن كان من الأصعب كثيرا تخيل كيف ستشرع في أخذ ثقب أسود ذي كتلة تساوي عشرة أضعاف كتلة الشمس في رحلة بسرعة، لنقل إنها تبلغ نصف سرعة الضوء والعودة به ثانية. ربما كان من الأيسر استخدام مقصورات كازيمير - كما وصف كاكو - ثم توسيع الثقب الدودي بالوتر الكوني إلى الحد اللازم.
لا تزال ثمة مشكلة علينا وضعها في الاعتبار فيما يتعلق بالثقوب الدودية . تشير الحسابات الرياضية إلى أن محاولة سفينة فضاء المرور عبر النفق من شأنها أن توصد النفق تماما. وتتنبأ نظرية النسبية العامة بأن جسما متسارعا سيصنع تموجات في نسيج الزمكان تعرف باسم موجات الجاذبية أو الموجات الثقالية؛ وقد تم رصد هذه الموجات الآن من الثقوب السوداء المتصادمة؛ لذا نعرف الآن أنها حقيقية.
2
يمكن تكبير الإشعاع الثقالي - الذي يتحرك أمام سفينة الفضاء بسرعة الضوء - فيما يقترب من المتفردة الموجودة بداخل الثقب الأسود، ما يحدث انثناء في نسيج الزمكان ويوصد الباب أمام سفينة الفضاء القادمة.
لكن فريق ثورن وجد حلا لذلك، تناقشه إحدى الشخصيات في رواية ساجان:
ثمة نفق داخلي في حل كير لمعادلات أينشتاين للمجال، لكنه غير مستقر. وأقل اضطراب فيه من شأنه أن يوصده ويحول النفق إلى متفردة فيزيائية لا يمكن لأي شيء أن يمر عبره. وقد حاولت تخيل حضارة متفوقة من شأنها أن تتحكم في البنية الداخلية لنجم متهاو بهدف الإبقاء على النفق الداخلي مستقرا. لكن هذا أمر في غاية الصعوبة. فسوف يتعين على تلك الحضارة مراقبة النفق والعمل على استقراره إلى الأبد.
يمكن لتلك الحيلة أن تسري من خلال التغذية الراجعة السلبية، التي يحدث فيها أي اضطراب اضطرابا آخر يلغي الأول. وهذا هو نقيض تأثير التغذية الراجعة الإيجابية المألوف، الذي يتسبب في صوت الطنين الذي يخرج من مكبرات الصوت إذا ما وصل ميكروفون بتلك المكبرات عبر مضخم صوت ووضع هذا الميكروفون أمامها. فحينئذ تدخل الضوضاء الخارجة من مكبرات الصوت إلى الميكروفون، فتتضخم، وتخرج من مكبرات الصوت أعلى مما كانت عليه من قبل، فيلتقطها الميكروفون ويضخمها ... وهكذا. لكن إذا حللت تلك الضوضاء الخارجة من مكبرات الصوت بواسطة جهاز كمبيوتر يصدر موجة صوتية لها الخصائص المضادة تماما، فإن كلتا الموجتين تلغي إحداهما الأخرى، لينتج عن ذلك صمت. يمكن تنفيذ هذه الحيلة بسهولة، وهي تستخدم على نحو روتيني في سماعات الرأس العازلة تماما للضوضاء، التي قد تملك واحدة منها. لذا ليس من المستبعد أن نتخيل «الحضارة المتفوقة» التي يتحدث عنها ساجان تنشئ نظام إرسال واستقبال لموجات الجاذبية يقبع في حلق ثقب دودي ويستطيع تسجيل الاضطرابات التي يسببها مرور سفينة الفضاء عبر الثقب الدودي، ثم يقوم هذا النظام «بإعادة إصدار» مجموعة من موجات الجاذبية من شأنها إلغاء تلك الاضطرابات تماما، قبل أن تتمكن من تدمير النفق.
لكن بغض النظر عن الطريقة التي سيجري بها الأمر، فإن التأثيرات الناجمة عن إنشاء ثقب دودي قابل للسفر عبره يمكن أن تكون مثيرة. على سبيل المثال، إن كانت الفوهة الثابتة للثقب تبلغ من العمر 100 عام، فقد لا تعاصر الفوهة المتحركة سوى عام واحد فقط. فإذا ما بدأت التجربة في عام 2030، فإنها ستنتهي في عام 2130 بالنسبة إلى الفوهة الثابتة على الأرض، إلا أنها ستنتهي في عام 2031 بالنسبة إلى الفوهة المسافرة عبر الزمن. والمسافر الذي يدخل إلى الفوهة الثابتة في العام 2130 سيخرج من الفوهة المتحركة في عام 2031، رغم أن الفوهتين الآن متجاورتان في الفضاء. وهذا الفارق الزمني ثابت الآن. وما دامت الفوهتان في مكانيهما، فسيكون بالإمكان دائما القفز إلى الماضي مسافة 99 عاما أو القفز إلى المستقبل مسافة 99 عاما باستخدام هذا النفق الزمني. ويمكنك ضبط مدة الفارق الزمني بأي شكل تريد، باستخدام تأثير التمدد الزمني، لكن لا يمكنك أبدا العودة إلى الماضي إلى وقت أسبق من اللحظة التي انتهيت فيها من إنشاء آلة الزمن. «من الاعتراضات التي كثيرا ما أثيرت بخصوص السفر بالزمن إلى الماضي، أننا لم نلتق أحدا من المستقبل. فلو كان من الممكن زيارة الماضي، فقد نتوقع أن أحفادنا - ربما بعد آلاف السنين من الآن - سيبتكرون آلة زمن وسيعودون ليشاهدونا أو حتى ليحدثونا عن أنفسهم ... ولحسن الحظ أن هذا الاعتراض يسهل الرد عليه في حالة الثقوب الدودية كآلات للسفر عبر الزمن. فعلى الرغم من إمكانية استخدام الثقوب الدودية للسفر عبر الزمن جيئة وذهابا، فمن غير الممكن استخدام أحدها للانتقال إلى زمن يسبق إنشاء الثقب الدودي. فإذا أنشأنا ثقبا دوديا الآن ... فلن يمكنك استخدامه للعودة ومشاهدة الديناصورات. فقط إذا كان الثقب الدودي موجودا بالفعل في الطبيعة - أو إذا أنشئ على يد حضارة فضائية منذ زمن بعيد - يمكننا حينها زيارة عصور ما قبل الوقت الراهن. لذا، إذا أنشئت أول آلة زمن من ثقب دودي في العام 3000، فلا يمكن أن يكون هناك أي مسافر عبر الزمن من عام 2000.»
بول ديفيز، «كيف تصنع آلة زمن»، بينجوين، 2001
يجدر بنا هنا أن نوضح أن كل هذا نشر من قبل علماء بارزين في دوريات مرموقة مثل «فيزيكال ريفيو ليترز».
3
والتكنولوجيا التي يتطلبها هذا الأمر رائعة بلا شك؛ إذ تقتضي أخذ ما يساوي في كتلته كتلة ثقب أسود في رحلة عبر الفضاء بسرعة تعادل جزءا معتبرا من سرعة الضوء. لكن تذكر القول المأثور الشهير لآرثر سي كلارك: «لا يمكن إطلاقا التمييز بين السحر والتكنولوجيا المتقدمة كفاية.»
وبمناسبة الحديث عن السفر عبر الزمن، ثمة فكرة ذات صلة لا تنطوي على أي سفر عكسي عبر الزمن، لكنها تستخدم الأفكار نفسها التي تستخدمها الثقوب الدودية إلى حد كبير. في عام 1994، اقترح ميجيل ألكوبيير، وهو فيزيائي مكسيكي يعمل في جامعة كارديف، طريقة تتسق ومعادلات أينشتاين لتمديد وضغط نسيج الزمكان في شكل موجة من شأنها أن تجعل الفضاء الكائن أمام جسم ما (كسفينة فضاء مثلا) يتقلص فيما يتمدد الفضاء خلفه. وبداخل الموجة، تحمل سفينة الفضاء في «فقاعة ملتوية» من الفضاء المنبسط، فتتزلج على الموجة بسرعة أكبر من سرعة الضوء بالنسبة إلى أي مراقب من خارج الفقاعة. ويعد «محرك ألكوبيير المعوج» هذا هو أقرب شيء إلى محرك الالتواء الأثير في قصص الخيال العلمي، مثل «ستار تريك»، توصلت إليه الفيزياء، لكن الطاقات الداخلة هنا ستكون شبه مساوية لتلك الداخلة في إنشاء ثقب أسود قابل للمرور عبره، وستكون هناك المشكلة نفسها المتمثلة في منع الفقاعة من الانغلاق.
لكن حتى لو كانت آلات الزمن المبنية على ثقوب سوداء كبيرة بما يكفي لنعبر خلالها ليس لها وجود، يمكن للسفر عبر الزمن أن يكون ذا أهمية كونية بالمعنى الحرفي للكلمة. وبعيدا تماما عن الثقوب السوداء الكبيرة التي سنكون في حاجة إليها لإنشاء آلة زمن ناجعة، تنص المعادلات على أن الكون قد يكون مليئا بثقوب سوداء متناهية الصغر؛ إذ يكون كل منها أصغر بكثير من الذرة. وقد تشكل هذه الثقوب السوداء بنية نسيج «الفضاء الفارغ» نفسه. ونظرا إلى ضآلتها الشديدة، لا يمكن لشيء مادي أبدا أن يسقط في مثل هذه الثقوب السوداء «المجهرية»؛ فإن كان فمك أصغر من إلكترون، فلن يكون لديك سوى أشياء قليلة جدا لتتغذى عليها. لكن إن كانت النظرية على حق، فقد توفر هذه الثقوب الدودية المجهرية شبكة اتصالات في الفراغ الفائق تربط كل نقطة في المكان والزمان بكل نقطة أخرى فيهما.
يمكن لهذا أن يكون مفيدا للغاية؛ لأن أحد ألغاز الكون العميقة يكمن في كيفية معرفة كل جزء ضئيل منه بقوانين الفيزياء. لننظر إلى الإلكترون كمثال. لكل الإلكترونات الكتلة نفسها تماما، والشحنة الكهربية نفسها. وهذا ينطبق على الإلكترونات هنا على الأرض، وتظهر الدراسات على طيف الضوء الآتي من النجوم البعيدة أنه يسري كذلك على الإلكترونات الموجودة في المجرات التي تقع على بعد مليارات السنين الضوئية منا، على الجانب الآخر من الكون. لكن كيف «تعرف» كل هذه الإلكترونات الشحنة الكهربية والكتلة اللتين ينبغي أن تحظى بهما؟ إن لم يكن هناك إشارة تستطيع السفر أسرع من الضوء، فكيف تتصل الإلكترونات الموجودة هنا على الأرض وتلك الموجودة في المجرات البعيدة بعضها ببعض وتتأكد جميعها أن لها الخصائص والسمات نفسها؟
قد تكمن الإجابة في تلك الكموم الهائلة من الثقوب السوداء المجهرية والوصلات الدقيقة بين الثقوب الدودية عبر الفراغ الفائق. لا يمكن لشيء مادي أن يسافر عبر ثقب دودي مجهري؛ لكن قد يمكن للمعلومات (قوانين الفيزياء) أن تتسرب من خلال الثقوب الدودية، فتنتشر على الفور في كل جزء من أجزاء الكون وكل نقطة في الزمن لضمان أن كل الإلكترونات وكل الذرات وكل شيء تتكون منه وتنشئه يتبع القوانين الفيزيائية نفسها.
وإليك أقصى درجات الإطناب والتكرار. قد يكون الأمر أننا نحظى بقوانين فيزياء عالمية فقط لأن السفر عبر الزمن ممكن في واقع الأمر. وفي تلك الحالة، لن يكون من المدهش أن قوانين الفيزياء تسمح بالسفر بالزمن. لكن هل يعني «السفر» عبر الزمن أن بإمكاننا تغيير الطريقة التي يمضي بها الزمن؟ ليس بالضرورة.
هوامش
التصور السابع: كل شيء سيوجد موجود بالفعل
«الزمن الحاضر والزمن الماضي/كلاهما ربما حاضر في المستقبل/والماضي ربما يحتوي المستقبل.»
تي إس إليوت، «الرباعيات الأربع»
لم تبدأ فكرة أن المستقبل ثابت كالماضي - ومن ثم يشكل الزمكان الرباعي الأبعاد كتلة مصمتة وغير قابلة للتغيير - مع هيرمان مينكوفسكي وتطبيق المفاهيم الهندسية على نظرية النسبية الخاصة، ولم تظهر حتى مع إتش جي ويلز. فقد استخدم أكثر من فيلسوف من فلاسفة القرن التاسع عشر مصطلح «وحدة بنائية» في هذا السياق، إلا أن استخداما واضحا ومحددا بصفة خاصة لهذا المصطلح ورد في كتاب فرانسيس هيربرت برادلي بعنوان «مبادئ المنطق» الذي نشر في عام 1883. في هذا الكتاب وصفنا هيربرت بأننا ركاب على متن مركب يسافر عبر نهر الزمن، وعلى ضفة هذا النهر يقف صف من المنازل المتلاصقة، كل منها يحمل رقما (ربما اختار هذا الوصف ليحاكي ترقيم القرون). وفيما ننزلق عبر النهر مرورا بالمنزل رقم 19، ثم رقم 20، ثم رقم 21، وهكذا، «يمتد صف الماضي والمستقبل الثابت في وحدة واحدة أمامنا وخلفنا.»
ما فعله مينكوفسكي هو أنه وضع هذا النوع من التفلسف التأملي على أساس رياضي آمن. ففي سياق الحديث نفسه الذي أشار فيه إلى اتحاد المكان والزمان في وحدة واحدة، قدم مينكوفسكي فكرة خطوط العالم. وبعد أن أوضح كيف أن أي «نقطة عالمية» في نسيج الزمكان يمكن أن تتمثل بأربعة أرقام في «نظام قيم يتكون من القيم أ، ب، ج، د»، وبعد أن وصف «مسار» أي نقطة بأنه «منحنى في العالم، أو خط عالمي»، مضى مينكوفسكي يقول: «في رأيي أن القوانين الفيزيائية يمكن أن تجد أمثل تعبير عنها في وصفها بأنها علاقات بين خطوط العالم هذه.» وقد أصبحت تلك الفكرة عنصرا رئيسا في نظرية النسبية العامة، وبعد فترة وجيزة من إثبات صحة أحد تنبؤات تلك النظرية من خلال ملاحظات عن انحناء الضوء وراء الشمس ، أشار أحد المساهمين في مجلة «نيتشر» إلى أحد تداعيات ذلك:
1
لنفترض أن ماضي الكون ومستقبله مصوران في فضاء رباعي الأبعاد، وظاهران لأي كائن لديه وعي البعد الرابع. إذا كانت ثمة حركة لفضائنا الثلاثي الأبعاد بالنسبة إلى البعد الرابع، فإن كل التغيرات التي نشهدها وننسبها إلى تدفق الزمن ستعزى ببساطة إلى هذه الحركة؛ إلى وجود المستقبل كله وكذلك الماضي في البعد الرابع.
من المثير أيضا أنه في النسخة التي نشرت في حلقات مسلسلة في مجلة «ذا نيو ريفيو» من رواية ويلز القصيرة «آلة الزمن»، التي صدرت قبيل صدور الكتاب مباشرة، لكنها حذفت من النسخة الشائعة، يخبر المسافر عبر الزمن رفاقه على العشاء في بداية القصة قائلا:
بالنسبة إلى مراقب عالم بكل شيء لن يكون ثمة ماض سحيق - فترة من الزمن سقطت من الوجود - ولا مستقبل مبهم للأشياء لم يتكشف بعد ... فالحاضر والماضي والمستقبل بلا معنى لمثل هذا المراقب ... فسيرى - إن جاز التعبير - «كونا جامدا» يملأ المكان والزمان ... وإذا كان «الماضي» يعني شيئا، فسيعني النظر في اتجاه بعينه، في حين يعني «المستقبل» النظر في الاتجاه المعاكس.
تشرح فكرة الكون كوحدة زمكانية رباعية الأبعاد (
block universe ) ما كتبه أينشتاين في عام 1955، بعد وفاة صديقه ميشيل بيسو وقبل شهر واحد فقط من وفاته هو نفسه، في خطاب منه إلى أبناء بيسو:
وها هو الآن قد سبقني ببرهة قصيرة إلى توديع هذا العالم الغريب. ليس في هذا دلالة على شيء. فالاختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إلينا، نحن المؤمنين بالفيزياء، ما هو إلا محض وهم، حتى وإن كان وهما عنيدا يصر على الاستمرار.
2 «لا تخبرنا معادلات الفيزياء أي الأحداث يجري الآن؛ فهي أشبه بخريطة لا تحتوي على الرمز الذي يحدد موقعك فيها. واللحظة الراهنة لا وجود لها في هذه المعادلات؛ ومن ثم لا وجود أيضا لتدفق الزمن فيها.»
كريج كاليندر، مجلة «ساينتيفيك أميريكان»، يونيو 2010
سارع كتاب الخيال العلمي إلى التقاط فكرة الكون كوحدة زمكانية رباعية الأبعاد وخطوط العالم. وكان روبرت هاينلاين أحد أولئك الذين عادوا مرارا إلى موضوع إشكاليات السفر عبر الزمن واحتمالاته. ففي قصة بعنوان «خط الحياة» نشرت في مجلة «أستوندينج» في شهر أغسطس من عام 1939، ذكر هاينلاين جهازا يرسل إشارة عبر خط العالم لشخص ما ثم يجعلها ترتد عند نهاية الخط؛ ويكشف التأخير الذي يسبق عودة صدى تلك الإشارة متى سيموت ذلك الشخص. لكن نادرا ما تنطوي تلك القصص على أي علم حقيقي، وفي هذا المثال يهتم هاينلاين بتداعيات ذلك على شركات التأمين على الحياة أكثر من اهتمامه بشرح الجانب العلمي الخاص بآلية عمل ذلك الجهاز. وجاء الاستثناء لغياب التناول العلمي في مثل هذه القصص حين اتجه علماء حقيقيون، مثل جريجوري بينفورد، إلى الخيال العلمي، ونتناول في هذا الإطار رواية من تأليف العالم الفلكي البارز فريد هويل بعنوان «الأول من أكتوبر متأخر للغاية»، والتي تقدم حلا واضحا وعلميا بحق لأكبر ألغاز فكرة الكون الكتلة: إذا كانت كل النقاط عبر أحد خطوط العالم ثابتة وتقع على مستوى واحد في الكون الذي يمثل وحدة زمكانية، فلماذا ندرك «لحظة راهنة» خاصة تتحرك بمحاذاة اتجاه الزمن؟
نشرت رواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية» في عام 1966، وقد قرأتها قبيل التحاقي مباشرة بمعهد علم الفلك النظري
3
بكمبريدج بعد عام واحد من نشرها. والسفر عبر الزمن في هذه الرواية من نوعية غريبة، حيث تقع مناطق مختلفة من الأرض في أزمنة مختلفة. فإنجلترا في العام 1966، وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر، وفي فرنسا توافق الأحداث عام 1917، واليونان في عصر الحضارة الكلاسيكية. لكن في هذه المرة يكون العلم الكامن وراء هذه القصة مثيرا للفضول أكثر من القصة نفسها.
وبصفتي واحدا من محبي أدب الخيال الممتزج بالعلم الحقيقي، أذهلتني الملاحظة التمهيدية للكتاب التي قال فيها هويل: «المناقشات حول مدلول الزمن ومعنى الوعي مزمع لها أن تكون جادة للغاية.» ورغم أنني كنت أصغر أعضاء المعهد وأقلهم شأنا، وكان هويل هو مديره المؤسس وشخصية جديرة بالإعجاب والاحترام، كان هناك اختلاط بين الجميع في استراحة تناول القهوة، وبعد بضعة أسابيع قصدت الرجل العظيم وأنا أشعر بالتوتر وأخبرته عن مدى إعجابي بكتابه وسألته إن كان قد تعمد حقا أن يؤخذ الجانب العلمي فيها على محمل الجد. كان هذا سؤالا غبيا؛ إذ كان الرجل قد ذكر ذلك في الكتاب، لكنه كان لطيفا بما يكفي ليجيب بالإثبات، وفي تلك اللحظة تملكتني مشاعر الخجل والتردد وانصرفت دون أن أحاول الاستمرار في الحديث أكثر من ذلك. لكني على الأقل أعرف أن لدي الآن مبرراتي في تقديم أفكار هويل إليك باعتبارها علما جادا.
يخبرنا هويل (بصوت إحدى شخصياته، لكنني لن أعبأ بالإشارة إلى هذه الملحوظة من الآن فصاعدا) بأن الصورة الذهنية للزمن باعتباره دفقا متواصلا ما هي إلا «وهم غريب وعبثي». ففي عالم الفيزيائيين الرباعي الأبعاد للزمكان، لا يكون مدار الأرض حول الشمس دائريا، بل حلزونيا
4
في أربعة أبعاد حول الخط العالمي للشمس: «ليس من الوارد على الإطلاق انتقاء نقطة معينة على هذا المسار الحلزوني والقول إن تلك النقطة بالذات هي الموضع الحالي لكوكب الأرض.» فكل شيء كان من قبل أو سيكون فيما بعد موجود دائما، وإدراكنا الواعي وحده هو ما يعطينا إحساسا بالماضي ويوهمنا بمرور الزمن. وقد توصل هويل إلى صورة ذهنية علقت بذهني في عام 1966، وظلت محفورة به منذ ذلك الحين. فقد تصور المعلومات الفيزيائية عن الأحداث التي تجري في الزمكان وكأنها جميعا موضوعة في مجموعة ضخمة من «كوات خزانة رسائل»، مجموعة لا نهائية من صناديق صغيرة تحمل ترقيما مسلسلا، يحمل كل منها مجموعة رسائل تصف محتويات كوات أخرى. وسيجد أي مخلوق كوني باستطاعته الاطلاع على محتويات أي من تلك الصناديق أن الرسائل في أي كوة من هذه الكوات ستكون دائما دقيقة إلى حد كبير في وصفها لمحتويات كوات تقع أدنى الترتيب الهرمي للكوات، إلا أنها ستكون مبهمة ومتناقضة حين تصف محتويات كوات تقع أعلى الترتيب. والتسلسل الرقمي هو بالطبع خط زمني، تكون فيه الأرقام الأقل أسبق في الزمن والأرقام الأعلى تقع في وقت متأخر منه، وكل صندوق يمثل «لحظة راهنة».
فريد هويل
إكسبريس نيوزبيبرز/جيتي
سنطلق كلمة الحاضر على الكوة الخاصة التي يتصادف أنك تطلع عليها الآن. أما الكوات السالفة والتي تجد فيها عبارات صحيحة إلى حد كبير، فسنطلق عليها الماضي. والكوات اللاحقة التي لا تحوي الكثير من العبارات الصحيحة سنطلق عليها المستقبل ... العالم الحقيقي أشبه بهذا كثيرا.
يقترح هويل بعد ذلك أن نتخيل شعاعا من الضوء يتراقص حول مجموعة الكوات، فيضيء الأولى ثم يضيء أخرى.
5
يحدث الإدراك حين يصطدم الضوء بصندوق بعينه، وسيكون ذلك الإدراك على وعي بالماضي والمستقبل تماما كوعينا به. ولأغراض روايته، يمضي هويل إلى اقتراح أنه قد يكون ثمة أكوام عديدة من الكوات، يناظر كل منها وعيا إنسانيا مختلفا: «ثمة مجموعة من تلك الكوات تطلق أنت عليها «أنت»، وأخرى أطلق عليها أنا «أنا» ... لا يمكن أن يكون هناك إلا إدراك واحد، وإن كان لا بد أن يكون هناك أكثر من مجموعة من الكوات». لكنني أريد أن أنطلق بالفكرة نحو اتجاه جديد، وأجعلها مواكبة لبعض من أحدث التصورات حول طبيعة الزمن.
لقد استلهمت رؤيتي المغايرة لهذا الموضوع من رواية «وولفبين» لفريد بول وسيريل كورنبلوث، التي ظهرت في كتاب للمرة الأولى في عام 1959 (وكانت قبل ذلك بعامين قد نشرت في حلقات مسلسلة في مجلة «جالاكسي») لكنني قرأتها في أواخر ستينيات القرن العشرين، عقب قراءتي لرواية هويل. يظهر في تلك القصة شكل من أشكال الذكاء الفضائي يملك معلومات مختزنة على سلسلة من الحواسيب اللوحية قابعة في كومة مختلطة. ونظرا إلى أن ذلك الذكاء يتمتع بما وصفه المؤلفان بأنه قدرة تنبؤية متواضعة، فإن أي حاسوب لوحي يلتقطه سيكون هو الحاسوب الذي يرغب في قراءته. وقد أوحى لي هذا (وكذا حقيقة أن زوجتي أيضا في ذلك الوقت كانت تعمل أمينة مكتبة) بنسخة من التشبيه الذي توصل إليه هويل، قائمة على فكرة المكتبة.
تخيل مكتبة توصف فيها أحداث كل سنة (أو كل أسبوع أو كل يوم أو أيا ما كان) في سلسلة من الكتب مرتبة بعناية في أرفف متراصة عبر جدرانها. وكما هو الحال مع كوات هويل، يحوي كل كتاب معلومات موثوقة حول محتويات الكتب الأدنى منه في التسلسل، ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لكن ليس بالضرورة أن تكون الكتب متراصة بعناية ونظام على الجدران. جرب أن تلقي بها في شكل كومة مختلطة بغير نظام على الأرض، وأيا كان الكتاب الذي ستلتقطه لتقرأه، ستجد أنه لا يزال يحوي معلومات موثوقة حول الكتب الأدنى منه في التسلسل ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لست في حاجة حتى لأن تتمتع بقدرة تنبؤية متواضعة. فحتى لو أزيلت كل الصفحات من الكتب وكانت متناثرة على الأرض، ستظل «القصص» صالحة للقراءة، بشرط أن تحمل كل صفحة رقما يشير إلى الكتاب الذي تنتمي إليه ورقما آخر يشير إلى موضعها في الكتاب. وكل صفحة من صفحات الكتب ستتوافق مع «لحظة راهنة». «في واقع الأمر، نحن نظن أن الوقت «يمر»، أو يتدفق أمامنا، لكن ماذا لو كنا نحن من نمضي إلى الأمام، من الماضي إلى المستقبل، في حالة اكتشاف دائم لكل ما هو جديد؟ سيكون الأمر أشبه قليلا بقراءة كتاب. إن محتوى الكتاب موجود دفعة واحدة بين دفتيه. لكنك لو أردت أن تقرأ القصة وتفهمها، ينبغي أن تبدأ بالصفحة الأولى، وتمضي قدما بالترتيب دائما. وهكذا سيصنع الكون كتابا غاية في الروعة، وسنكون نحن قراء غاية في الضآلة.»
أورسولا كيه لي جوين، رواية «النازحون»
لا يختلف هذا في واقع الأمر عن الطريقة التي تعمل بها ذاكرة الكمبيوتر. فحين أحفظ كتلة نصية ما، كهذا الفصل مثلا، فإنها لا توضع داخل جهاز الكمبيوتر في شكل مجموعة مرتبة من الأصفار والآحاد، بل تخزن في شكل كتل، قطعة هنا وقطعة هناك، في أي مساحات متاحة من الذاكرة. ويكون لكل كتلة علامة أو عنوان يحدد الموضع الذي تنتمي إليه تحديدا في السردية بأكملها. والمصادفة أنني أكتب كل فصل على حدة (ليس بالضرورة بالترتيب الذي تظهر به الفصول في النهاية) وأحفظها على نحو منفصل، وأراجع بعضها بين الحين والآخر، حتى أنتهي من الكتاب. ثم أجمعها في ملف واحد لأخرج الكتاب في صورته الكاملة. لكن حتى هذه المرحلة الأخيرة لا تقتضي أن يجمع الكمبيوتر الفصول معا في كتلة واحدة؛ إذ يعاد تصنيفها بحيث أرى سردية مستمرة لها بداية ومتن ونهاية حين أفتح الملف على شاشة الكمبيوتر أو حين أطبعها (وهو أمر نادر الحدوث).
بعد نحو ثلاثين عاما من قراءتي لرواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية» وكذا رواية «وولفبين»، التقيت شخصا أمهر مني كثيرا أرسى كل هذه الأفكار على أساس أكثر متانة. هذا الشخص هو جوليان باربور، ويمكنك أن تجد أفكاره في كتابه «نهاية الزمن» الذي نشر في عام 1999.
6
يتناول باربور لغز ما يطلق عليه «الإحساس البالغ القوة بأن للزمن اتجاها»، لكنني ناقشت أمر سهم الزمن في تصوري الثاني؛ لذا لن أخوض في التفاصيل هنا. وتتمثل استعارته المفضلة للتعبير عن أحد أشكال فكرة الكون كوحدة زمكانية في سلسلة من «لقطات ثلاثية الأبعاد»، قد تحتوي على ذكريات للقطات أخرى. وكما كتب في تسعينيات القرن العشرين، فقد أشار إلى أن بالإمكان إنتاج هذه اللقطات الثلاثية الأبعاد «إذا ما أخذ أشخاص مختلفون كثر لقطات عادية ثنائية الأبعاد لمشهد ما في اللحظة ذاتها»، واستخدام تلك اللقطات للخروج بصورة ثلاثية الأبعاد للعالم. وبعد عقدين من الزمن، أصبح هذا إجراء روتينيا، يحبه المعلنون بصفة خاصة؛ إذ يستخدمون مجموعة من الكاميرات يتصل بعضها ببعض لتصوير حركة شيء، كتصوير بجعة تطير، وذلك من أجل الخروج بصورة يمكن بالفعل النظر إليها من أبعاد ثلاثة. يقول باربور إن الفضاء هو «الصمغ» الذي يلصق هذه اللقطات معا. فالعالم يتكون من «لحظات راهنة» يلتصق بعضها ببعض على هذا النحو.
جوليان باربور
ديفيد باركر/ساينس فوتو لايبراري
لكن اللحظات الراهنة أعقد بكثير من مجرد كونها لقطات، ويفضل باربور مصطلح «كبسولة الزمن» لوصف حالة العالم فيما نطلق عليه أي لحظة في ظل افتقارنا إلى مصطلح أفضل. كل شيء بدءا من ملحوظة تذكيرية كتبت على قطعة من الورق إلى الأحفوريات في الطبقات الجيولوجية أو صور المجرات البعيدة التي سجلها تليسكوب هابل الفضائي يشكل سجلات حقيقية توجد في كبسولات زمنية ؛ إلا أن كل فرد منا يختبر كبسولته الزمنية الخاصة به، لا كبسولة شخص آخر. «كل هذه الوفرة المذهلة من الأدلة على الزمن والتاريخ مشفرة في شكل تكويني ثابت، في بنى لا تزال قائمة». وعلى حد وصف باربور، فإننا «نؤمن» بفكرة الزمن فقط؛ لأننا نختبر العالم في هيئة لقطة ثلاثية الأبعاد. «لا وجود للوقت. كل ما هو موجود هي أشياء تتغير». وشكل التغيير مشفر في تلك «الأشياء» الثابتة بالطريقة نفسها التي يمكن من خلالها نقل انطباع عن حركة في صورة واحدة، «على سبيل المثال [القارب البخاري] «آريال» في العاصفة في لوحة تيرنر.»
يطلق باربور اسم بلاتونيا على «أرض اللحظات الراهنة»، تيمنا بالفيلسوف أفلاطون، الذي وجه إلى أن الأشياء الحقيقية الوحيدة هي أشكال أو أفكار مثالية، لا نحظى إلا بلمحة غير كاملة عنها.
في كل مكان في بلاتونيا توجد لحظات من الزمن يؤلف فيها فاجنر مقطوعة «تريستان وإيزولدا» ويصلح فيها رواد الفضاء تليسكوب هابل الفضائي، وتبني الطيور الأعشاش، وأخبز أنا الخبز.
حتى الآن، لا تختلف هذه الصورة كثيرا عن صورة هويل، أو حتى عن الفكرة المألوفة الخاصة بالكون كوحدة زمكانية وخطوط العالم المستمرة. لكن كتاب باربور يأتي بنهاية إشكالية غير متوقعة، تتعلق بميكانيكا الكم مثل إشكالية سفر الضوء بأسرع من سرعة الضوء. في مؤتمر عقد في أكسفورد في عام 1980، ألقى عالم الفيزياء الكبير جون بيل خطابا وصف فيه طريقة غير مألوفة لتفسير التاريخ، تتسق مع قواعد ميكانيكا الكم.
7
فقد أشار إلى احتمالية وجود سجلات لتواريخ كثيرة، من دون أن يكون ثمة تواريخ بالفعل. على سبيل المثال، حقيقة أن لدينا أحفوريات للديناصورات هي حقيقة واقعة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن ثمة ديناصورات كانت موجودة بالفعل. في ذلك المؤتمر، قال بيل إن الاحتمالية ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد بالضرورة، حتى وإن كانت متسقة مع كل شيء نلاحظه. غير أن باربور، الذي كان أحد الحضور في المؤتمر، سلك الطريق المعاكس لذلك. تخبرنا الأفكار الكلاسيكية (في الفيزياء يعني هذا أي شيء - بما في ذلك نظرية النسبية العامة - قبل ظهور فيزياء الكم) بأن ثمة تاريخا مميزا واحدا هو ما أدى إلى الوقت الحاضر. كان طرح بيل أنه قد لا يكون ثمة ما يعرف بالتاريخ. أما فكرة باربور، فتذهب إلى أن تواريخ كثيرة مختلفة أدت إلى الوقت الحاضر. وهذا يشمل ما يعرف عادة بتفسير العوالم المتعددة لفيزياء الكم ومفهوم الأكوان المتوازية. ويدخل على الخط أيضا كوات فريد هويل، التي تقدم لنا طريقة أخرى للسفر عبر الزمن، وسأشرح جوهر هذه الطريقة الآن.
هوامش
التصور الثامن: السفر جانبيا عبر الزمن
«قد نجد في داخل كل ثقب أسود ينهار بذور كون جديد متمدد.»
مارتن ريس، فلكي ملكي
تنص فكرة الكون كوحدة زمكانية في أبسط أشكالها على أن كل شيء كان موجودا أو سيكون موجودا هو موجود «دائما». وتقول نسخة تفسير العوالم المتعددة منها إن أي «كون» وجد من قبل أو سيوجد فيما بعد هو موجود «دائما». وهذا يختلف جوهريا عن الطريقة التي يصل بها تفسير العوالم المتعددة إلى معظم الناس (خطأ)؛ إذ يمكنني شرح هذا بالاستعانة بمثال قطة شرودنجر التخيلي الشهير.
من السمات الأساسية لميكانيكا الكم أن نتاج الأحداث في المستوى الأولي للذرات والجسيمات يتحدد بفعل الاحتمالات. ويتبين هذا بوضوح في ظاهرة التحلل الإشعاعي. ففي عينة من مادة مشعة، سوف «يتحلل» نصف الذرات إلى شيء آخر في وقت محدد، يطلق عليه عمر النصف. لكن لا توجد طريقة للتنبؤ بالذرات التي ستتحلل ومتى ستتحلل. فقد تتحلل إحدى الذرات في الحال، وقد لا تتحلل أخرى لملايين السنين، لكن لكل مائة ذرة تبدأ بها سيتبقى 50 منها فقط بعد مرور عمر النصف الأول. ولا يمكن معرفة الحالة التي تكون عليها ذرة فردية إلا من خلال النظر إليها؛ أي مراقبتها بطريقة ما. «يفسر» هذا في إطار فكرة «الانهيار»، التي صارت لزمن طويل جدا الطريقة المعيارية للتفكير بشأن ميكانيكا الكم. كانت الفكرة أن كل ذرة توجد في «تراكب من الحالات»، فتكون متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، إلى أن «تنهار» وتصبح على تلك الحالة أو الأخرى. وقد ابتكر شرودنجر تجربة قطته الفكرية لتسليط الضوء على عبثية هذه الفكرة.
طلب منا شرودنجر أن نتخيل قطة في غرفة مغلقة بها الطعام والماء وكل وسائل الرفاهية المعتادة، إضافة إلى ما أطلق عليه «آلة شيطانية» مبنية على نظام كمومي. يمكن ضبط النظام بحيث تكون هناك احتمالية بنسبة 50 : 50 أن يكون النظام قد انهار وتحول إلى حالة أو أخرى. إن انهار النظام في أحد الاتجاهات، فهذا يعني أن شيئا لم يحدث للقطة. وإن انهار في الاتجاه الآخر، فقد حفز إطلاق سم قتل القطة. لكن ماذا كان الحال حين كان النظام في تراكب؟ أشار شرودنجر في عام 1935 إلى أن القطة حينها ستكون هي أيضا في حالة تراكب؛ إذ تكون ميتة وحية في الوقت ذاته.
لا شك أن هذا هراء، لكن على مدار عقود كان قلة من الناس قلقين إزاء ما كان يحدث فعليا ما دام أن بإمكانهم استخدام معادلات ميكانيكا الكم لحل مسائل الفيزياء. لكن شرودنجر نفسه توصل إلى فكرة أفضل، حين كان يعمل في دبلن، ونشر ورقة علمية بعنوان «هل هناك قفزات كمومية؟» وذلك في عام 1952. اقترح شرودنجر أنه لا يوجد انهيار في النظام؛ لأن كل الاحتمالات الكمومية حقيقية. في هذا المثال البسيط، يوجد كونان متماثلان تماما حتى مرحلة إجراء التجربة على القطة؛ إذ حينها يصبحان مختلفين لأن أحد الكونين يحوي قطة على قيد الحياة، بينما في الآخر توجد قطة ميتة. حين نفتح باب الحجرة لنعرف ما إن كانت القطة حية أم ميتة، فإننا بذلك لا نحدث أي انهيار، إنما نكتشف فقط في أي الكونين نعيش. لم تحظ ورقة شرودنجر العلمية بالكثير من الاهتمام، وبعد بضع سنوات حين توصل باحث أمريكي شاب إلى فكرة مشابهة، لم يكن قد سمع بها. كان اسم هذا الباحث هو هيو إيفريت، وفي رسالته للدكتوراه التي تقدم بها لجامعة برينستون في عام 1957 وصف العوالم المتعددة في نموذجه على أساس مبدأ الانقسام. في حالة قطة شرودنجر، يعني هذا أننا في سياق «التجربة» نبدأ بقطة واحدة في كون واحد ثم بعد ذلك ينقسم الكون إلى كونين؛ أحدهما فيه قطة حية، والآخر فيه قطة ميتة. ظلت هذه النسخة من فكرة العوالم المتعددة مهملة هي الأخرى طيلة سنوات، لا سيما بسبب كل هذا القدر من الانقسام الذي اشتملت عليه، لكن النسخة المغايرة من فكرة العوالم المتعددة هي ما وصلت إلى الغالبية. وهذا أمر باعث على الأسف؛ لأن نسخة شرودنجر أسهل بكثير في فهمها وتعلمها؛ إلا أن كلتا الرؤيتين ظهرتا في أدب الخيال العلمي قبل أن تخضعا للدراسة العلمية الجادة.
تعتبر قصة «السفر جانبيا عبر الزمن» لموراي لينستر - التي نشرت في مجلة «أستوندينج» في عام 1934 - قصة مثيرة للفضول بصفة خاصة؛ نظرا إلى وجود أوجه شبه، وأيضا أوجه اختلاف جوهرية بينها وبين رواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية». في القصة التي تدور أحداثها في عام خيالي هو العام 1935، تبدل أجزاء من سطح الأرض مكانها ليس مع نظرائها في الماضي أو المستقبل، بل مع نظراء لها من خطوط زمنية بديلة. فقد استقر الفايكنج في أجزاء من أمريكا الشمالية، وتسيطر روسيا القيصرية على كاليفورنيا، وفي أجزاء أخرى من القارة توجد مناطق فاز فيها الكونفدراليون بالحرب الأهلية الأمريكية، وغير ذلك. لكن على عكس قصة هويل، لا ينطوي أي من هذا على سفر عبر الزمن لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل؛ فكل شيء يحدث في اتجاه واحد أو «جانبيا» على حد وصف لينستر. ومؤخرا شكل هذا النوع من تفسير العوالم المتعددة لفكرة «الأكوان المتوازية عند شرودنجر» الأساس للمسلسل التلفزيوني «المتزحلقون» (سلايدرز)، والذي أذيع للمرة الأولى في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين.
ظهرت نسخة إيفريت لفكرة العوالم المتعددة التي تتناولها في إطار فكرة «الانقسام» أيضا في أعمال أدبية في ثلاثينيات القرن العشرين. فقد نشرت قصة بعنوان «فروع الزمن» تأليف ديفيد دانييلز في عدد شهر أغسطس من عام 1935 لمجلة «ووندر ستوريز»، وتطرح لغزا آخر للمسافرين عبر الزمن. يتأمل المسافر عبر الزمن في هذه القصة في عبثية محاولة تحسين الحاضر عن طريق تغيير الماضي:
ثمة أشياء مريعة حدثت في التاريخ كما تعلم. لكن لا جدوى من ذلك. فكر مثلا في الشهداء وما لاقوه من معاناة. بإمكاني العودة وتجنيبهم تلك المظالم. ولكنهم ... كانوا سيظلون يلاقون ما لاقوه من تعاسة وشقاء؛ لأن تلك الأشياء حدثت في هذا الخط العالمي.
بعبارة أخرى، الخط الزمني «المحسن» لم يفعل شيئا سوى أنه انشق عن الخط الزمني الأصلي للمسافر عبر الزمن، والذي لم يتغير بدوره. «بشكل ما، يعني السفر عبر الزمن أنك تسافر في الزمن وإلى أكوان أخرى في آن واحد. إذا عدت إلى الماضي، فسوف تلج إلى كون آخر. وبمجرد أن تصل إلى الماضي، فإنك بذلك تتخذ قرارا وسيكون ثمة انقسام. ولن يتأثر كوننا بما تفعل أثناء زيارتك للماضي.»
رونالد ماليت، جامعة كونيتيكت
لكن جائزة إدخال شيء يقارب ميكانيكا الكم الحقيقية إلى أدب الخيال العلمي تذهب إلى جاك ويليامسون، الذي ظهرت قصته «فيلق الزمن» لأول مرة في مجلة «أستوندينج» في شكل حلقات مسلسلة في صيف عام 1938، وبعد ذلك نشرت عدة مرات في شكل كتاب (وأصدقك القول، هذا هو الشيء الوحيد الجدير بالذكر بشأن هذه القصة). في القصة يوضح أحد أشخاصها قائلا:
باستبدال الجسيمات المادية بموجات الاحتمالية، لا تظل خطوط العالم للأجسام هي تلك المسارات الثابتة والبسيطة التي كانت عليها من قبل. فالخطوط الجيوديسية تتمتع بزيادة مطردة في الفروع المحتملة، وتخضع لأهواء اللاحتمية دون الذرية.
وفي عام 1975 ألقى الكاتب هاري هاريسون محاضرة
1
لفت خلالها الانتباه إلى هذا الأمر وفسر فكرة ويليامسون بلغة أبسط:
المستقبل في مفهوم نهر الزمن ثابت وغير قابل للتغيير. فإذا ما قررنا ونحن في طريقنا إلى العمل صباحا أن نستقل الحافلة بدلا من مترو الأنفاق ومتنا في حادث حافلة، فإن تلك الحادثة كانت مقدرة سلفا. لكن إن كان الوقت دائم التفرع، فسيكون هناك مستقبلان؛ أحدهما نلقى فيه حتفنا في الحادث والآخر نظل فيه على قيد الحياة حيث نكون قد استقللنا مترو الأنفاق.
وقد أصبح هذا مجازا شائعا فيما يعرف بأدب الخيال السائد مثل فيلم «أبواب منزلقة» - الذي نادرا ما يقر بفضل الخيال العلمي عليه.
يقدم فريد هويل مرة أخرى صورة رائعة. ففي نقطة ما في رواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية»، يقدم المنظر شرحا تفصيليا لما سيحدث لو جرى تزويد آلة لنهاية العالم بنظام كمومي بحيث إما يدمر العالم أو لا يدمر على نحو عشوائي بحت، فيما يعد النسخة الأكثر تطرفا لسيناريو قطة شرودنجر:
اعتقادي أننا سننجو لا محالة فيما يبدو؛ لأن ثمة انقساما؛ إذ سينقسم العالم إلى عالمين، إلى كومتين منفصلتين تماما من الكوات. في إحداها تمر نواة بعملية تحلل فتفجر القنبلة وتمحونا جميعا. لكن الكوات في هذه الحالة لن تحتوي على أي شيء آخر ذي صلة بالحياة على الأرض ... أما في المجموعة الأخرى، فستكون الأرض بمأمن وستستمر حياتنا.
لكن حتى في سياق قصة هويل، سيكون من الصواب بالقدر نفسه أن نستحضر نسخة شرودنجر من تفسير العوالم المتعددة. فعوضا عن وجود كومة واحدة تنقسم إلى اثنتين، توجد كومتان تحويان معلومات متماثلة في كل الكوات تصل إلى عدد معين، إلى الحد الذي تنفجر عنده القنبلة أو لا تنفجر. بعد ذلك تصبح إحدى الكومتين خاوية، لكن الكوات ذات الأرقام الأعلى في الكومة الأخرى لا تزال ممتلئة بالمعلومات. هل نحتاج فعلا إلى استحضار ضوء الإدراك الخافت الذي يتراقص حول كومتي الكوات؟ لا تقترح أحدث الأفكار بشأن ميكانيكا الكم ذلك، إذا ما حددنا محتويات الكوات - كما فعل هويل وإن كان بشكل عابر - بحالات كمومية للكون أو الأكوان. إن الفكرة الأساسية في رواية هويل هي أن كل الأزمنة المختلفة تمثل حالات كمومية صحيحة بالقدر نفسه؛ لكن ماذا لو أن كل «الزمكانات» المختلفة كانت حالات كمومية صحيحة؟
استكشف ديفيد دويتش، بجامعة أكسفورد، هذه الأفكار بالتفصيل. إن ما أشرت إليه باعتباره لقطات - أو كبسولات باربور الزمنية - يمكن أن يعد حالات كمومية فردية، كحالتي الموت أو الحياة بالنسبة إلى القطة ولكن على نطاق كوني. فلو كان هناك كون واحد فقط، فإن التشبيه سيكون بكومة واحدة من الكوات تمثل الحالات الكمومية للكون بينما «يمر» الزمن. لكن إن كان هناك عوالم عدة - أو إن كان هناك كون متعدد - فعلينا إذن أن نتخيل مجموعة من أكوام منفصلة، يمثل كل منها كونا منفصلا. غير أن هذا التشبيه قد يكون جامدا أكثر مما ينبغي. ففي تشبيه المكتبة الخاص بي، يمكن قراءة قصة الكون من كومة مختلطة من الصفحات على الأرض، والسبب وراء ذلك على حد تعبير دويتش أن:
أي لقطة من اللقطات إضافة إلى قوانين الفيزياء، لا تحدد ماهية بقية اللقطات فحسب، بل تحدد ترتيبها كذلك، وتحدد موضعها في تسلسل اللقطات. بصيغة أخرى، لكل لقطة «طابع زمني» مشفر في محتوياتها الفيزيائية.
وبتوسيع نطاق التشبيه، قد يكون أول ما تميل إليه هو الاعتقاد بأن الكون المتعدد هو عبارة عن أكوام كثيرة كتلك الأكوام، تتجاور جميعا جنبا إلى جنب في نسق لا نهائي. لكن لا حاجة إلى أن تكون هذه الأكوام منفصلة. فيمكن لكل الصفحات التي تمثل كل الحالات الممكنة لكل الأكوان الممكنة أن تتجمع في كومة واحدة؛ لأن كل لقطة من لقطات دويتش لا تحتوي على طابع زمني فحسب، بل على طابع مكاني كذلك. ولو كان من الممكن النظر إلى الكومة من الخارج (وهو ما لا يمكن حدوثه)، لما كان هناك طريقة لتحديد أي اللقطات تنتمي لأي الأكوان، مثلما لا يمكنك تحديد الزمن الذي تنتمي إليه لقطة بعينها. يقول دويتش: «الأزمنة الأخرى هي مجرد حالات خاصة لأكوان أخرى.» «قد يتحقق حلم السفر عبر الزمن ذات يوم، وقد لا يتحقق. لكن إذا تحقق، ينبغي ألا يتطلب تغييرا جوهريا في رؤية العالم، على الأقل بالنسبة إلى أولئك الذين يشاركونني بصورة عامة رؤية العالم التي أعرضها في هذا الكتاب.»
ديفيد دويتش، كتاب «نسيج الواقع»، ألين لين، 1997
لكن على الرغم من أن الأكوان المتشابهة - أو الأزمنة المتشابهة - لن تكون بالضرورة قريبة بعضها من بعض بنفس درجة القرب بين الأشياء في حياتنا اليومية، سيكون هناك، بطريقة ما، تماثل بين الحالات الكمومية المتشابهة؛ لأنها ستكون قريبة بعضها من بعض فيما يطلق عليه الفيزيائيون «فضاء الطور». وبتشبيه مبسط للغاية، قد يكون هناك تشابه بين قط عتابي في حديقتي وقط عتابي في الهونولولو؛ لأن كليهما عتابي وكليهما قط؛ أي يحملان حمضا نوويا متشابها. وهذا يقدم بعض التبرير العلمي لموضوع العديد من قصص الخيال العلمي: أن العوالم المتوازية «القريبة» تشبه عالمنا، وأنك كلما ارتحلت جانبيا في الزمن أكثر، أصبح العالم أكثر اختلافا.
2
ويمكن أن نجد مثالا جيدا على هذا في رواية «الأرض الطويلة»، وهي سلسلة من القصص تعاون فيها تيري براتشيت مع ستيفن باكستر. في تلك القصص، يسافر الأبطال بين العوالم باستخدام جهاز رخيص يطلق عليه «السائر». لا بأس بهذا في الخيال العلمي، لكن كيف قد يكون من الممكن السفر جانبيا في الزمن إلى وقائع متوازية أو بديلة؟
ديفيد دويتش
روبرت واليس/جيتي
لسوء حظ الراغبين في السير عبر الزمن، فإن الواقع يقول إن هذا من المرجح أن ينطوي على أنفاق الثقوب السوداء التي ناقشتها في تصوري السادس. قد لا يكون هذا شيئا يمكن لنا تحقيقه اصطناعيا، وليس في المستقبل القريب بكل تأكيد. لكن هذا ليس سببا للانصراف عن الفكرة؛ لأنها قد تحدث طبيعيا كذلك، وطبقا للفيزيائي لي سمولين بمعهد بريمتر المرموق في كندا، فإن هذا قد يفسر أصل الكون.
تقوم هذه الفكرة على الفهم الحالي لكيفية نشأة الكون، كبذرة فائقة الكثافة من الطاقة نتجت عن تموج كمومي.
3
وتسببت عملية تعرف بالتضخم في تمدد هذه البذرة، ثم تبع ذلك وقوع الانفجار العظيم وظهور النجوم والكواكب والبشر.
وهذا التمدد في اتجاه بعيد عن حالة من الكثافة الفائقة هو الصورة المطابقة تماما - في سياق نظرية النسبية العامة - لانهيار المادة من أجل تكوين ثقب أسود. وتخبرنا تلك المعادلات بأن هذا الانهيار سيستمر في طريقه حتى الوصول إلى نقطة ذات كثافة لا نهائية - أي متفردة - لكن لا يعتقد أي من علماء الفيزياء أن هذا يحدث فعلا. فهم يعتقدون أن النظرية العامة تصبح عند حد ما غير كافية لوصف ما يحدث (تماما مثل نظرية نيوتن عن الجاذبية التي رغم كونها جيدة إلى حد ما، فإنها غير كافية لشرح كيفية انثناء الضوء بفعل الشمس)، وهنا تتولى قوانين ميكانيكا الكم المهمة، وإن كنا لا نملك بعد المعادلات التي تصف التحول الذي يحدث. إن قوانين الكم تلك - والتي تعمل بالعكس - هي ما تصف الانبثاق المبدئي لكوننا من حالته الفائقة الكثافة. التكهن البديهي لذلك هو أن المادة حين تنهار إلى متفردة (لكن ليس على نحو كامل)، يعكس التمدد عند نقطة ما. لكننا لا نرى ثقوبا سوداء تلتف وتنفجر عائدة بداخل الكون، إذن ما الذي يحدث؟ الاستنتاج هو أن الكتلة والطاقة اللذين يتوجهان نحو المتفردة يحول مسارهما إلى داخل ثقب دودي بحيث يخرجان في مكان آخر. وهذا يتسق تماما وقوانين النظرية العامة. وكما أوضحت في تصوري السابع، فإن هذا «المكان الآخر» قد يكون زمنا آخر. أو قد يكون، كما يبدو الآن، زمكانا مختلفا؛ أي كون آخر موجود بالفعل في الكون المتعدد. غير أن سمولين يبحث في احتمالية أخرى. في السيناريو الذي وضعه، سوف تمر المادة التي تتمدد بعيدا عن حالة الكثافة الفائقة بطورها الخاص من التضخم وتنمو لتصبح كونا قائما بذاته، له زمكانه الرباعي الأبعاد الخاص به.
4
لقد أنجب أحد الأكوان كونا آخر، وبما أننا نعرف الآن أن هناك وفرة من الثقوب السوداء في أرجاء الكون الذي نعيش فيه، فيبدو أن كوننا ماهر للغاية في إنتاج أكوان صغيرة.
ويتوقف معظم من يفكرون في هذا الأمر عند هذا الحد. لكن سمولين تساءل عن سبب خصوبة الكون بهذا الشكل. ويذهب في هذا الشأن إلى أن قوانين الفيزياء تسهل تشكيل الثقوب السوداء كثيرا، وأن آلية عمل الاندماج النووي والأنفاق الكمومية، على سبيل المثال، لو كانت مختلفة ولو قليلا، لما استطاعت النجوم المرور بالعمليات التي تنتج عنها الثقوب السوداء، وهناك أمثلة أخرى يمكنك أن تجدها في كتابه «حياة الكون». غير أن أحدا لا يعرف - ولا تخبرنا المعادلات كذلك - لماذا تحظى هذه المعاملات بالقيم التي تحظى بها. وعلى حد علمنا، فإن قوانين الفيزياء قد تكون مختلفة بعض الشيء - أو حتى مختلفة تماما - في أكوان أخرى ، وأن سلوك أشياء مثل النجوم سيختلف عن سلوك النجوم في كوننا. والنماذج الرياضية - أي تجارب المحاكاة - لهذه السيناريوهات منطقية تماما.
يخمن سمولين أن في كل مرة يولد فيها كون وليد من ثقب أسود، ستكون قوانين الفيزياء التي يعمل على أساسها هذا الكون مختلفة قليلا عن القوانين السارية في الكون الأب، بطريقة يشبهها سمولين بأبناء بيولوجيين يختلفون قليلا عن والديهم. في عالم البيولوجيا، يمثل هذا الاختلاف بالطبع الأساس الذي يعمل عليه الانتقاء الطبيعي، وهو القوة المحركة للتطور. ويرى سمولين أن هذا أكثر من مجرد تشبيه. فكون مثل كوننا، الذي يجيد إنتاج الثقوب السوداء، سيكون له الكثير من النسل، والسمات التي يرثها ذلك النسل ستنتشر على نطاق واسع عبر أرجاء الكون المتعدد؛ أما الكون الذي يصعب فيه خلق ثقوب سوداء، فسيخلف نسلا أقل، وستكون مثل هذه الأكوان نادرة. ويشير سمولين إلى أن كوننا هو نتاج عملية تطور من هذا النوع، وأنه نتج عن انهيار ثقب أسود في كون آخر. لكن تأثير كل هذا يظل قائما في سيناريوهات اللازمن لدى هويل ودويتش وباربور؛ لأن ما يهم هو الأحجام النسبية للأنواع المختلفة من الكون التي تنتشر عبر فضاء الطور. وفيما يتعلق بسيناريو اللازمن، يقول سمولين إنه «يمكن الدفع إذن بأن الانتقاء الطبيعي لا يخلق شيئا جديدا، وإنما يختار فقط من قائمة من الاحتمالات الموجودة دائما». من هذا المنظور، يتمتع الكون بالخصائص التي نراها؛ لأنه تطور ليصبح منتجا كفئا لأنواع بعينها من النجوم، أو لأنه يشغل منطقة مأهولة من فضاء الطور، وذلك وفق المنظور البديل. ومن قبيل الصدفة فحسب أن أحد الآثار الجانبية لكل هذا يتمثل في أن العملية قد أنتجت على الأقل كوكبا واحدا يصلح لأن يكون موطنا للحياة.
يحمل هذا بين طياته إشارة تحذير للمسافرين عبر الزمن. فحتى ولو كنت تملك جهاز «السائر» وبإمكانك الانزلاق جانبيا بسلاسة عبر الزمن إلى أرض أخرى، فقد لا تكرم تلك الأرض مقامك. فمجرد اختلاف طفيف في قوانين الفيزياء يمكن أن يكون له آثار بليغة على العمليات الكيميائية الحيوية التي تقوم عليها الحياة. على سبيل المثال، ترتبط جزيئات الحمض النووي بعضها ببعض بقوة تعرف باسم الرابطة الهيدروجينية. فإن كانت الرابطة الهيدروجينية أضعف في الكون المجاور، فسيبدأ الحمض النووي في الانحلال بمجرد وصولك إلى هناك. لكن إن كان هذا يقلل من إغراء مقترح السفر جانبيا عبر الزمن، يمكن للمتحمسين لفكرة السفر عبر الزمن أن يجدوا لأنفسهم العزاء في فكرة أنه إذا كان سمولين محقا، فإننا بذلك ندين بوجودنا ووجود الكون للسفر الجانبي عبر الزمن. هذا هو الجوهر الأساسي للزمن، ونقطة جيدة ليتوقف عندها النقاش، إلا لتهدئة أي شواغل قد تخالجك حول المفارقات التي تمثل المادة الخام للكثير من قصص الخيال العلمي.
هوامش
التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
«أعرف من أين أتيت أنا - لكن من أين أتيتم أنتم أيها الموتى الأحياء؟»
روبرت هاينلاين «- أنتم أيها الموتى الأحياء -»
1
تنطوي ما تسمى بمفارقات السفر عبر الزمن جميعها على السفر في الماضي لإحداث تغييرات تؤثر على الوقت الراهن. وتعد هذه أرضا خصبة لقصص الخيال، لكن إن كنا نعيش في كون واحد يمثل وحدة زمكانية، فليس بالإمكان «تغيير» الماضي، وإن كان من الممكن «التأثير» فيه. فخطوط العالم رسمت بالفعل، واللعنة، إن كانت هناك لعنة، قد حلت. وقد أدرك هذا في قصص الخيال العلمي منذ عام 1951 على الأقل، على يد كاتب قصص الخيال العلمي الأمريكي والتر كوبيليوس، الذي لم يحظ بالكثير من الشهرة والأهمية. في قصة بعنوان «إلى الوراء أيها الزمن» نشرت في مجلة «ساينس فيكشن كوارترلي» في مايو من ذلك العام، تختار إحدى الشخصيات أي حقب الماضي يريد زيارتها، ويسأل عامل آلة الزمن عن المفارقات. تقول الشخصية: «إن كان باستطاعتي اختيار أي حقبة، فإن هذا يعني أن بإمكاني تغيير المستقبل كيفما أشاء، ما يفترض معه أن بالإمكان أيضا تغيير الحاضر.» ويوضح العامل أن «قرارك في التحليل النهائي، يكون باختيار حقبة زمنية بعينها قد اتخذ بالفعل، والأشياء التي ستفعلها محددة سلفا». أو كما قال جيفري تشوسر في قصيدته «ترويلوس وكريسيد»: ... إن كان منذ الأزل
والرب يعرف أفعالنا وما تخفيه صدورنا،
فليس لنا إرادة حرة، مهما قرأنا من كتب.
لقد سبرت أغوار هذه الفكرة في الكثير من القصص، لكن النسخة التامة والواضحة منها نجدها لدى مايكل موركوك في روايته «ها هو ذا الإنسان». المسافر في هذه القصة شخص مضطرب ذو ميول مازوخية، وأمارات هوس ديني، يزور زمن المسيح من أجل أن يشهد الأحداث التي أدت إلى صلبه. في أثناء ذلك تدمر آلته الزمنية، وما يثير حيرته هو عدم وجود أي أثر للمسيح الذي يعرفه من الكتاب المقدس. وبينما كان الرجل هائما على وجهه، يسأل الناس عن القصص التي قرأها، ويؤلف مجموعة من الأتباع، ويدرك في النهاية أنه أصبح الرجل الذي يبحث عنه. ويتكشف كل شيء تماما كما في القصة التي يتذكرها، مما يقدم له تجربة مباشرة عن عملية الصلب، ويحفظ نسيج التاريخ.
هذه الرؤية لخط زمني واحد وثابت تسحب البساط أيضا من تحت أكثر الألغاز المألوفة حول السفر عبر الزمن، وهي «مفارقة الجد». تطرح المفارقة في صيغتها الأصلية سؤالا حول ما يحدث إذا ما عاد شخص إلى الماضي وقتل جده قبل أن يكون له أبناء. فإذا لم يولد للجد أبناء، فلن يكون هناك أحفاد، ولا قاتل، ومن ثم يعيش الجد. لكن في تلك الحالة ...
الرد الحاسم والمفضل لدي على هذه المفارقة يأتي من رواية ستيفن كينج «11 / 22 / 63»: «حسنا، لكن ماذا لو عدت بالزمن وقتلت جدك؟»
حدق بي متحيرا. «لماذا قد تفعل ذلك بحق السماء؟»
2
لكن الحقيقة الأوقع والأبسط هي أنك لا تستطيع العودة بالزمن في كون يمثل كتلة زمكانية واحدة لقتل جدك؛ لأنك لم تفعل. وحقيقة أنك موجود هنا متجمدة في الخط الزمني. لكن بإمكانك التأثير في الماضي، ما دام أن الماضي متسق مع التاريخ، كما في مثال رواية «ها هو ذا الإنسان». وهذا ما يفعله مارتي ماكفلاي تقريبا في أول قصة من سلسلة «العودة إلى المستقبل». فبعودته عبر الزمن، يحرص مارتي على أن يلتقي والداه ويتزوجا، ويولد هو. لا بأس بهذا حتى الآن. فمن المفترض أن يعني هذا أنه يعود إلى المستقبل الذي بدأ منه. لكن مارتي في أحداث القصة يغير المستقبل في واقع الأمر بتغييره الماضي، وبطرائق ليست بمنطقية فيما يتعلق بعلم السفر عبر الزمن، رغم أنها تساعد في وضع نهاية مسلية للفيلم. وسأتحدث أكثر عن هذا لاحقا. لكن ربما ما كان صناع الفيلم يتحسسون طريقهم نحوه هو نسخة من التواريخ البديلة التي أوجزتها قصة «لئلا يحل الظلام» التي ألفها إل سبراج دي كامب.
ينطلق البطل في هذه القصة (وهو جدير حقا بهذا الوصف مع تكشف الأحداث) من خطنا الزمني ويصل بطريقة غامضة إلى إيطاليا في القرن السادس، حيث يستخدم معرفته ليتفادى ما يعرف بالعصور المظلمة.
3
والتفسير المقدم في القصة لشرح كيفية تغيير التاريخ وتعديله مفاده أن ثمة نقاط ضعف في «نسيج التاريخ» يمكن من خلالها التنقل بانسيابية بين القرون، رغم أنه نسيج في غاية الصلابة في المجمل. ومن خلال مزج استعاراته بالحماس، يوضح الكاتب بعد ذلك أن التاريخ الجديد الذي شكلته أفعال البطل ينمو كغصن من «الجذع» الأساسي للتاريخ، الذي انسل بطلنا عبره. فنسختا التاريخ كلتاهما توجد من نقطة التفرع. لكن لا يوجد تفسير لكون «تاريخنا» هو الجذع الأساسي، ومن ثم فالتشبيه الأفضل للتاريخ هنا سيكون بشجيرة متعددة الفروع. غير أن هذا الانقسام يتخلص بالفعل من المفارقات. وهذا على عكس الانقسام الموازي في قصة «العودة إلى المستقبل».
يرجع ظهور التناقضات هنا إلى أن مارتي يعود بالفعل إلى المستقبل، لكن ليس إلى المستقبل الذي انطلق منه. لو أن كل ما فعله هو التأكد من التقاء والديه، لعاد ببساطة إلى المستقبل الذي انطلق منه. لكن تغيير مارتي للماضي في القصة ترتب عليه تغيير المستقبل أيضا. وإذا تقبلنا التفصيلة غير المنطقية تماما من أن والديه في هذه النسخة من التاريخ لديهما أطفال مماثلون تماما للأطفال الموجودين في خط مارتي الزمني الأصلي، فينبغي أن يكون هناك مارتي آخر (قد يكون أو قد لا يكون مسافرا عبر الزمن) موجود بالفعل حين يصل إلى منزلهم. عوضا عن ذلك، وعلى نحو أكثر معقولية، سيكون ثمة مجموعة مختلفة من الأطفال، وسيصل مارتي كشخص غريب عنهم تماما يزعم أنه أخوهم.
بذل صناع الفيلم محاولة غير مكتملة لمعالجة بعض هذه الإشكاليات في الفيلم الثاني من الثلاثية، بالإشارة إلى أكوان متوازية تنقسم بطريقة مشابهة للصورة التي وصفها دي كامب. غير أن هذا يثير المسألة التي أزعجت ديفيد دانييلز في قصة «فروع الزمن». في خط مارتي العالمي الذي نتبعه، ثمة نهاية سعيدة (أو بالأحرى نهاية درامية مشوقة تشير إلى الفيلم التالي). لكن حتى في إطار معايير القصة ذات الصلة بنا، يستمر كل شيء كما كان في السابق في الواقع البديل الكئيب الذي زاره. فكل ما فعله هو تبديل المسارات الزمنية.
يمكن التغطية على هذه التناقضات أو تجاهلها ببساطة، في مثل هذه القصص الهادفة إلى التسلية، ولكن ينبغي مواجهتها بكل قوة في أمثلة افتراضية بسيطة. تخيل مسافرا عبر الزمن يأخذ المطوية الأولى لأعمال شكسبير ويعود بها عبر الزمن ويعطيها لكاتب مسرحي طموح يدعى ويل، ليقوم بدوره بنسخها ويصبح مشهورا. من أين أتت القصص؛ تلك المعلومات التي تحتوي عليها المطوية الأولى؟ ستعد هذه مشكلة حقيقية إن كان كون واحد يمثل وحدة زمكانية واحدة، لكنها ستعد مسألة ثانوية وغير مهمة إذا كان لدينا انقسام، أو (وهو ما أراه أقرب كثيرا إلى الموقف الفعلي) كون متعدد من وقائع موازية. في أحد الخطوط الزمنية، يكتب شكسبير المسرحيات بالفعل ويضع المسافر عبر الزمن يديه على المطوية الأولى. لكنه حين يعود عبر الزمن، فإنه يتحرك أيضا بشكل جانبي نحو واقع بديل. وهناك، أعطى المسافر الكتاب إلى نسخة أخرى من شكسبير. ليس ثمة تناقض هنا! النقطة البالغة الأهمية هي أن «كل» السفر عبر الزمن ينطوي على سفر جانبي عبر الزمن، وليس فقط ما قد يطلق عليه السفر الخطي عبر الزمن.
4
ربما يستثنى من ذلك السفر الذي ينطوي على حلقات متسقة ذاتيا في الزمن.
كان روبرت هاينلاين هو صاحب أكثر المحاولات الأدبية المرضية لإنشاء مثل هذه الحلقات، وجاءت أبرز هذه المحاولات في قصتيه «بالجهد الذاتي »، و««-أنتم أيها الموتى الأحياء-»». ظهرت القصة الأولى في عدد شهر أكتوبر من مجلة «أستوندينج» لعام 1941، تحت اسم أنسون ماكدونالد؛ فقد كان هاينلاين، واسمه الأوسط أنسون، يكتب الكثير من الأعمال في تلك الفترة حتى إنه كان يضطر إلى استخدام اسم آخر لبعض من أعماله؛ حتى العدد ذاته من مجلة «أستوندينج» نشرت فيه قصة أخرى حملت اسمه الحقيقي.
يسافر بطل هذه القصة - واسمه بوب - إلى المستقبل عبر بوابة زمنية دائرية تظهر على نحو غامض في غرفته. وهناك يقابل عجوزا أشيب الشعر يخبره بأنه قد انتقل 30 ألف عام في المستقبل، ويوضح له أن البوابة تركها عرق فضائي لم يعد له وجود الآن (مقدما بذلك سببا دقيقا لعدم شرح الكاتب لكيفية عمل البوابة) وأن الجنس البشري قد آل إلى حالة من الانصياع من شأنها أن تمكن رجلا مثل بوب من أن يعيش ملكا في جنة ذكورية شوفينية تكتمل بوجود إماء. وباستخدام البوابة، يوطن بوب نفسه في زمن يسبق ذلك الذي عاش فيه راعيه العجوز، مسلحا بقاموس مكتوب بخط اليد في مفكرة كان قد وجدها، ليترجم بين الإنجليزية واللغة التي يستخدمها من هم الآن عبيده. وبعد سنوات، يستخدم بوب - الذي أصبح عجوزا الآن - بوابة الزمن لينظر إلى نفسه في الماضي، ويبدأ في تشغيل الأحداث التي أودعته في المستقبل. تكاد تكون هذه هي القصة الكاملة للحلقة الزمنية، لكن لا يبدو أن بإمكان هاينلاين تفادي وجود إحدى المفارقات. فبعد أن أمضى بوب سنوات في المستقبل، يبدأ قاموسه في الاهتراء؛ لذا ينسخه في مفكرة جديدة. ويصبح هذا هو الكتاب «الأصلي» الذي تجده ذاته الأولى فيما بعد، ما يقدم تفسيرا لأصل القاموس كجسم مادي. لكن (وفيها هنا من الاستدراك الكثير) لا يفسر هذا مصدر المعلومات الواردة في القاموس. من الذي وضع الترجمة الأصلية؟ ثم نعود إلى مفارقة المطوية الأولى/شكسبير لسيناريو الكون الأوحد. فالقصة في النهاية لا تشكل حلقة زمنية تامة. غير أن من الصعب إيجاد تدفق مشابه في المنطق المستخدم في قصة ««- أنتم أيها الموتى الأحياء -»».
نشرت تلك القصة لأول مرة في عدد شهر مارس لعام 1959 من مجلة «فانتازي آند ساينس فيكشن» بعد أن رفضتها مجلة «بلاي بوي» (وذلك وفقا لما ورد عن هاينلاين). والحلقات الزمنية المتداخلة لهذه القصة (التي أنصحك بقراءتها بشدة إن لم تكن قرأتها) أعقد من أن أستطيع الخوض فيها هنا، ولكن إيجازا تدور القصة حول شابة يافعة يغرر بها وينتج عن ذلك حملها بطفل، لكن في أثناء الولادة، التي كانت متعسرة، يكتشف أن «الفتاة» تملك أعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية على حد سواء، وبسبب ما تعرضت له الأخيرة من تلف على إثر الولادة، يجرى لها إعادة تعديل (إن كان هذا هو المصطلح الصحيح) لتصبح رجلا. ثم يختطف الطفل منها ولا تراه الأم أبدا بعد ذلك. ترتبط الأم - التي أصبحت الآن رجلا - لاحقا بعلاقة صداقة مع مسافر عبر الزمن يعرض «العودة به» عبر الزمن لمواجهة المعتدي، لكنه بالطبع يكون «هو» نفسه المعتدي. تتكشف الأحداث كما حدثت من قبل، ويختطف الطفل على يد المسافر عبر الزمن ويودع دارا للأيتام قبل تسعة عشر عاما من الولادة. يقوم المسافر عبر الزمن الآن بتجنيد الشاب - الذي صار يجسد الأم والأب في الآن نفسه - في مركز الخدمة العسكرية السرية للسفر عبر الزمن، ويودعه مكتب التجنيد العسكري الزمني لتلقي التدريب. ويأتي المنعطف الأخير في القصة حين يصبح المسافر عبر الزمن نسخة أكبر سنا من الشاب نفسه. فكل شخصية مهمة في القصة هي الشخص نفسه! وهكذا نترك البطل وهو يفكر: أعرف من أين أتيت «أنا» - لكن من «أين أتيتم جميعا أنتم أيها الموتى الأحياء؟»
روبرت هاينلاين
ديفيد داير-بينيت/ويكيميديا كريتيف كومونز «لا يمكن لشيء أن يسير على نحو خاطئ؛ لأن شيئا لم يسر على نحو خاطئ ... وقد كنت أعني أن «لا شيء سيسير على نحو خاطئ.» لا - بعدها توقفت عن محاولة صياغة ما قصدت؛ إذ أدركت أن السفر عبر الزمن إذا أصبح واسع الانتشار، فسيتحتم على القواعد النحوية للغة الإنجليزية أن تضيف مجموعة جديدة تماما من الأزمنة لوصف المواقف الانعكاسية؛ تصريفات أفعال من شأنها أن تجعل الأزمنة الأدبية في اللغة الفرنسية والأزمنة التاريخية في اللاتينية تبدو مبسطة.»
روبرت إيه هاينلاين، كتاب «الباب المفضي إلى الصيف»
هذا هو أقرب ما رأيت إلى قصة مثالية ومكتملة عن السفر عبر الزمن. غير أنها تظل خيالية، ولا تحوي شيئا من العلم الحقيقي. ولكن يمكن للعلم الحقيقي أن يصف مواقف تشبه إلى حد كبير موقف تلك الأم العزباء في قصة هاينلاين. لا يروق علماء الفيزياء التعامل مع الناس؛ لأن لكل منهم فكره الخاص ولا يمكن التنبؤ بأفعالهم؛ هب مثلا أن تلك النسخة الذكورية من الشخصية قررت ألا تغرر بشخصيته الأنثوية اليافعة. إن علماء الفيزياء يسعدون أكثر بكثير بالتعامل مع أشياء من قبيل الأجسام الكروية المكتملة الاستدارة، وابتكروا نسخة من مفارقة الجد تشتمل على كرات بلياردو تمر عبر حلقة زمنية، ويمكن حلها باستخدام قواعد ميكانيكا الكم.
تخيل نفقا زمنيا - كالذي وصفته في تصوري السادس - مقاما بحيث تكون كلتا فوهتيه قريبة إحداهما من الأخرى. وقد أجرى مجموعة من العلماء بقيادة كيب ثورن وإيجور نوفيكوف (وهو عالم كونيات روسي الأصل انتقل لاحقا إلى الدنمارك) - ويطلقون على أنفسهم اسم «الاتحاد» - دراسة تفصيلية للمعادلات التي تصف ما يحدث لجسم ما يسافر عبر نفق كهذا.
إن كانت الفوهتان متقاربتين في المكان، وفي الزمان كذلك، مع وجود فارق زمني ضئيل بينهما، فيمكن إطلاق كرة بلياردو في الفوهة المناسبة للنفق الزمني على النحو الذي يجعلها تخرج من الفوهة الأخرى (تلك التي لم تسافر عبرها) في الماضي، وتحظى بالوقت الكافي للسفر عبر المساحة الفاصلة بين الفوهتين لتصطدم بنفسها قبل أن تدخل النسخة الأولى منها إلى الفوهة الأخرى، مزيحة تلك النسخة الأولى من طريقها. وهكذا لا تسافر كرة البلياردو عبر الزمن مطلقا، ولا يحدث التصادم أبدا، وبذا تدخل النسخة الأولى من كرة البلياردو النفق الزمني ... وهكذا دواليك. ويعتبر هذا نظير مفارقة الجد لدى هؤلاء الفيزيائيين، والذي يشيرون إليه بأنه الحل غير المتسق ذاتيا للمشكلة، ويذهبون إلى حتمية رفضه؛ لأن الكون لا يمكن أن يسير على هذا النحو.
ولعل السبب وراء ثقتهم في مقبولية رفض الحل غير المتسق ذاتيا أنهم وجدوا أنه دائما ما يكون هناك حل واحد آخر على الأقل للمعادلات، يقدم صورة متسقة ذاتيا انطلاقا من الظروف المبدئية نفسها. فاتحاد العلماء لا يقبل إلا بالحلول المتسقة ذاتيا لإشكاليات السفر عبر الزمن فحسب، ويتجاهلون ما عداها من حلول.
ومن أمثلة الحلول المتسقة ذاتيا عندما تقترب الكرة من النفق الزمني وتتلقى ضربة سريعة خاطفة من كرة بلياردو مماثلة لها خرجت لتوها من إحدى فوهتي النفق الزمني، فتصطدم بالكرة الأولى وتدخلها إلى فوهة النفق الآخر. وعندما تخرج الكرة الأولى من فوهة النفق، تصطدم بالنسخة الأصغر سنا من نفسها، فتدخل نفسها إلى النفق؛ في فروق طفيفة مع قصة ««- أنتم أيها الموتى الأحياء -»». اكتشف ثورن ونوفيكوف وزملاؤهما أنه لا توجد مشكلات لكرات البلياردو من هذا النوع، والتي ليس لها حل واحد على الأقل متسق ذاتيا، ووجدوا أيضا أن لكل مشكلة من هذا النوع يمكن أن يخطر لهم «عدد لا نهائي» من الحلول المتسقة ذاتيا.
في أحد الأمثلة، لدينا كرة تسير بدقة في خط مستقيم بين فوهتي النفق الزمني. أيمكن هذا؟ هب أن الكرة حين تصل إلى منتصف الطريق بين الفوهتين تتلقى ضربة عنيفة من كرة سريعة الحركة تخرج من الفوهة الثابتة. تتلقى الكرة «الأصلية» ضربة قوية تطيح بها جانبا، وتسافر عبر النفق وتصبح هي الكرة «الثانية» - لكن أثناء الاصطدام تحيد وتعود إلى الطريق - أو المسار - نفسه تماما الذي كانت تسير عليه قبل التصادم. لا يزال الأمر يبدو بالنسبة إلى أي مراقب بعيد وكأن كرة واحدة مرت بسلاسة في خط مستقيم بين الفوهتين؛ يمكنك أن تتخيل (كما يمكن لاتحاد العلماء أن يحسب) أنماطا مشابهة تتضمن دورتين أو ثلاث دورات أو أكثر تقطعها الكرة عبر النفق الزمني. فالكرات جميعها تبدو من مسافة بعيدة وكأنها كرة واحدة تتدحرج بحرية وانسيابية في طريقها. يبدو أن هناك أكثر من طريقة مقبولة لوصف سلوك الكرة.
كل ذلك يعيد إلى أذهاننا الطريقة التي يعمل بها الكون على المستوى الكمومي. ثمة مجموعة من الوقائع، تماما كما في مثال قطة شرودنجر. إن كرة البلياردو تبدو طبيعية تماما قبل أن تقترب من النفق الزمني، ثم تتفاعل مع نظام النفق بطرائق مختلفة ومتعددة، فتشكل تراكبا من الحالات قبل أن تظهر عند الجانب الآخر من النفق، معاودة التصرف مجددا بطريقة طبيعية تماما. وما يطلق عليه ثورن «وفرة» من الحلول المتسقة ذاتيا للإشكالية ذاتها كان ليصبح أمرا مزعجا للغاية، لولا حقيقة أن المنظرين الكموميين قد أدركوا بالفعل كيفية التعامل مع مثل تلك الوقائع المتعددة.
كان ريتشارد فاينمان أول من وضع الأسلوب الذي يستخدمونه، وذلك في أربعينيات القرن العشرين، ويعرف بأسلوب «حاصل جمع التواريخ». في الفيزياء الكلاسيكية - أو فيزياء نيوتن - يعتبر الجسيم (أو كرة البلياردو) مسافرا عبر مسار أو خط عالمي فريد، أو «تاريخ» محدد. لكن ميكانيكا الكم لا تتعاطى إلا مع الاحتمالات كما رأينا، وتخبرنا - بدرجة عالية من الدقة - بمدى احتمالية أن يسافر جسيم من مكان إلى آخر. أما عن كيفية انتقال الجسيم من مكان إلى آخر - كما في مثال النفق الكمومي - فهذه مسألة مختلفة؛ إذ يمكن حساب الاحتمالية التي تخبرنا بالموضع التالي الذي يحتمل أن يظهر فيه الجسيم عن طريق جمع مساهمات الاحتمالات من كل المسارات الممكنة بين موضع البدء وموضع الانتهاء، لكن لا يخبرنا هذا أين كان الجسيم بين هذين الموضعين. يبدو الأمر وكأن الجسيم على وعي بكل المسارات الممكنة التي يمكن أن يسلكها (أي كل الوقائع الكمومية)، ويقرر إلى أين سيتجه على هذا الأساس. وبما أن كل مسار يعرف بأنه «تاريخ»، فإن هذا الأسلوب القائم على حساب سلوك الجسيمات من خلال جمع حاصل المساهمات من كل مسار، يعرف باسم «حاصل مجموع التواريخ».
عادة ما يعد كل هذا ساريا على المستوى الكمومي فحسب؛ أي على مستوى الذرات وما دونها. وتأثير ذلك على عالمنا اليومي لا يكاد يذكر؛ لذا يبدو سلوك كرات البلياردو الحقيقية وكأنها تتبع مسارات كلاسيكية لا أكثر. لكن وجود نفق زمني قابل للمرور عبره يخلق نوعا جديدا من اللايقين - في المنطقة بين فوهتي النفق - يعمل على نطاق أكبر بكثير. وقد وجد اتحاد العلماء أن نهج حاصل مجموع التواريخ صالح للعمل بامتياز في هذا الوضع الجديد؛ فهو يقدم حلولا لإشكاليات تتضمن كرات تسافر عبر أنفاق زمنية.
إذا بدأت بحالة أولية للكرة فيما تقترب من النفق الزمني من بعيد، فإن نهج حاصل مجموع التواريخ يقدم لك مجموعة مميزة من الاحتمالات تخبرك بالتوقيت والموضع المحتملين لظهور الكرة على الجانب الآخر من النفق، بعيدا عن المنطقة التي تحوي حلقات مغلقة شبيهة بالزمن. لا يخبرك هذا النهج كيف تنتقل الكرة من مكان إلى آخر مثلما لا تخبرك ميكانيكا الكم كيف يتحرك الإلكترون بداخل الذرة، أو كيف ينتقل الفوتون عبر الأنفاق الكمومية. لكنه يخبرك بدقة بقيمة احتمالية العثور على كرة البلياردو في مكان بعينه، وهي تتحرك في اتجاه بعينه، وذلك بعد التقائها بالنفق الزمني.
الأكثر من ذلك أن احتمالية انطلاق حركة الكرة عبر مسار كلاسيكي ما، وانتهاءها عبر مسار آخر مختلف، يتضح أنها تساوي صفرا. فالمراقب من بعد يرى أن الكرة قد انحرفت تماما بفعل التقائها بنفسها، وما لم تنظر عن كثب، فلن تلاحظ أي شيء غريب يحدث. يقول ثورن: «من هذا المنطلق، «تختار» الكرة، في كل تجربة، اتباع حل كلاسيكي واحد فقط؛ ويتم التنبؤ باحتمالية اتباع كل حل من الحلول على نحو فريد.»
5
وثمة ميزة إضافية. نحن فعليا لا نتجاهل الحلول غير المتسقة ذاتيا في نهج حاصل مجموع التواريخ. فتلك الحلول لا تزال موجودة، بجانب الاحتمالات، إلا أنها لا تسهم في الحاصل النهائي إلا بقدر ضئيل جدا؛ حتى إنها لا يكون لها تأثير حقيقي على نتيجة التجربة.
ثمة سمة أخرى أشد غرابة لكل هذا. فنظرا إلى أن كرة البلياردو، بطريقة ما، «تعي» كل المسارات الممكنة - كل التواريخ المستقبلية الممكنة - ومنفتحة عليها، فإن سلوكها في أي مكان على طول خط عالمها يعتمد إلى حد ما على المسارات المفتوحة أمامها في المستقبل. ونظرا إلى وجود عدة مسارات مختلفة يمكن لكرة كتلك أن تسلكها عبر نفق زمني ، بل إن المسارات المتاحة تكون أقل بكثير إن لم يكن ثمة نفق لتمر عبره، فإن هذا يعني أن سلوك الكرة سيختلف في حال وجود نفق زمني لتمر عبره عما سيكون في حال عدم وجود نفق زمني. وبرغم أنه سيكون من الصعوبة بمكان قياس مثل هذا التأثير فعليا، فإن هذا يعني، وفقا لثورن، أنه ينبغي أن يكون بالإمكان - مبدئيا - إجراء مجموعة من القياسات على سلوك كرات البلياردو «قبل» الإتيان على أي محاولة لإنشاء آلة زمنية كهذه، واستنتاج ما إن كان سيتم إجراء محاولة ناجحة في المستقبل لإنشاء نفق زمني يشتمل على حلقات مغلقة شبيهة بالزمن، بناء على نتائج هذه القياسات. قد يكون من الممكن، عن طريق التجربة، إثبات أن السفر عبر الزمن ممكن، من دون السفر فعليا عبر الزمن. فيقول ثورن إن هذه «سمة عامة إلى حد كبير من سمات ميكانيكا الكم فيما يتعلق بآلات الزمن.»
يعلق ثورن، في معرض تلخيصه لما قام به اتحاد العلماء، قائلا إن سلوك قوانين الفيزياء في وجود آلات زمن يبدو معقولا بما يكفي «ليسمح للفيزيائيين بمواصلة مغامرتهم الفكرية دون التعرض لاختلال شديد»، بالرغم مما يبدو من أن آلات الزمن تمنح الكون «سمات سيجدها معظم علماء الفيزياء بغيضة». فوفقا لقوانين الفيزياء، من الممكن إنشاء آلات زمن، ومن الممكن أيضا أن نسافر عبر الزمن دون انتهاك مبدأ السببية. وعلى حد تعبير نوفيكوف في مناقشة له حضرتها في جامعة ساسكس في عام 1989، «حال وجود حل غير متسق ذاتيا وآخر متسق ذاتيا للمشكلة، ستختار الطبيعة الاتساق الذاتي.» «حين يقول عالم بارز ولكنه متقدم في السن إن شيئا ما ممكن، فهو محق على نحو شبه مؤكد. وحين يقول إن شيئا ما مستحيل، فأغلب الظن أنه مخطئ.»
آرثر سي كلارك
تكاد تكون هذه الكلمات هي الأخيرة عن السفر عبر الزمن. لكنني أريد أن أتركك مع أغرب الآثار المترتبة على مفهوم الكون المتعدد.
في ورقة بحثية علمية نشرت في عام 1985، كتب ديفيد دويتش يقول: «كل القصص التي لا تخرق قوانين الفيزياء واقعية .»
6
وفي عام 2011، كرر الفكرة نفسها بصيغة مختلفة بعض الشيء في كتابه «بداية اللانهاية» فقال: «كثير من القصص ... تكاد تقترب إلى حقيقة ما في مكان ما في الكون المتعدد.»
7
والأمر يستحق التكرار؛ لأنه قصد ما قاله حرفيا. ففي الكون المتعدد المكون من لقطات كمومية، أو كبسولات زمنية، تسرد قصص جين أوستن، على سبيل المثال، أو قصص المفتش ريبوس في سلسلة إيان رانكين، أحداثا حقيقية في وقائع موازية لواقعنا؛ أما قصص الفانتازيا، مثل «سيد الخواتم» أو سلسلة قصص «عالم القرص» لتيري براتشيت، فلا تفعل ذلك. وفي مكان ما - وربما في كم لا نهائي من الأماكن غير المحددة - يوجد روائي يكتب قصة عن شخص يكتب كتابا حول جوهر الزمن. هنا تحضرني أليس في قصة «عبر المرآة» حين قالت: «كان جزءا من حلمي، بالطبع، لكنني آنذاك كنت جزءا من حلمه أيضا!»
قطعا حان الوقت للتوقف. «رباه، هذا يمضي بي إلى الوراء ... أو إلى الأمام. تلك هي مشكلة السفر عبر الزمن، لا يمكنك أبدا أن تتذكر.»
الطبيب الرابع، مسلسل «دكتور هو»، «رجال تارا الآليون» (ذا أندرويدز أوف تارا)
هوامش
خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
«أعرض فيما يلي وجهة نظري في واحدة من مفارقات السفر عبر الزمن، والتي نشرت للمرة الأولى في مجلة «إنترزون» في شهر أكتوبر من عام 1990، ثم كعنوان رئيس لمجموعتي المسماة باسمي. وتبدأ - بالطبع - في واقع مواز لواقعنا، تختلف فيه الأطر الزمنية للأحداث عن أطرها الحقيقية المعروفة.»
كان مكبر الصوت المكعب هو البداية. كان ريتشي جيفريز - واسمه في شهادة الميلاد «ريتشارد»، لكنه كان من الجيل الذي يطلق اسم ريتشي على كل من يسمى ريتشارد تيمنا بعازف الطبول في فريق «البيتلز»؛ إذ كانوا قد اقتحموا المشهد الغنائي حين كان هو في الثامنة من عمره - في انتظار تحسين ذلك الشيء اللعين طيلة عشرين عاما. كانت الأقراص المدمجة لا بأس بها تماما، لكنها كانت ضخمة الحجم ومن السهل تماما أن تتلف. وفي النهاية، كان ذلك هو الوسيط المثالي لمحب الموسيقى الجاد. تخيل الأعمال الكاملة لفريق البيتلز الأصلي، معاد إنتاجها رقميا ومخزنة في مكعب بحجم مكعب السكر. بالطبع كانت الموسيقى الجديدة لا بأس بها تماما، في مكانها. غير أنها كانت تفتقر إلى حيوية وروح موسيقى أعمال الروك الأصلية، ومع إعادة المعالجة الرقمية، يمكنك فعليا سماع سقوط دبوس في استوديوهات آبي رود. ووفقا لجورج، الذي كان الوحيد الباقي على قيد الحياة من رباعي فريق البيتلز، كانت هناك أشياء هنا لم يكن بإمكانهم سماعها على أشرطة التناظر الأصلية في استوديو التسجيل نفسه، وذلك في الستينيات. وطبقت التحسينات نفسها التي أدخلت على الكمبيوتر الذي قام بتنقية الصور الملتقطة على سطح القمر شارون على شيء عملي من أجل إحداث تغيير. وكان ذلك، بالنسبة إلى ريتشي، أفضل ما حققه برنامج الفضاء على الإطلاق.
كان الفضاء آنذاك قد أصبح شيئا قديما بالطبع. شيء من القرن الماضي. وكان أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا يتمركز في مجمله حول مسبار الزمن، حيث عمل ريتشي مهندسا للاتصالات. كانت وظيفة بساعات عمل معقولة، وأجر مجز. ولو كان بإمكانك تحمل البيروقراطية، فهي وظيفة مثالية؛ إذ كانت توفر له الكثير من الوقت لممارسة هوايته. لكن عند سن الثالثة والخمسين، كان ريتشي على وشك التقاعد، وكان يتوقع أن يمر الوقت عليه بطيئا متثاقلا. كان في حاجة إلى مشروع ينخرط فيه انخراطا كاملا. شيء ذي صلة بمجال الصوتيات؛ شيء يشبه العمل الذي جرى على أشرطة فريق البيتلز؛ لكن، من أين لمهندس يعمل مستقلا بمادة قديمة جديرة بالاهتمام غير مملوكة بالفعل لإحدى مجموعات شركات الاتصال اليابانية؟
كان جزء من المشكلة يكمن في تعريف ريتشي الضيق بعض الشيء لمصطلح «جديرة بالاهتمام». فبخلاف فريق البيتلز، كان ريتشي يعتقد جديا أنه لا يوجد سوى ثلاثة فنانين فحسب هم من يستحقون ما لديه من مهارات. وكان هؤلاء هم إلفيس، وبادي هولي، وبروس سبرينجستين. وكان هولي هو الوحيد بين الثلاثة، الذي تعاون فعليا مع جون لينون. تمثل هذا التعاون في ألبوم «دابل دايموند»، الذي كان بمثابة عودة للينون في نهاية السبعينيات، بعد أن جاء هولي إلى شقة داكوتا حاملا الجيتار على ظهره - كما زعم - وجر الناسك حرفيا مخرجا إياه من شرنقته. وتمثل كذلك في الجولة الموسيقية التي قاما بها في عام 1981، التي لم يحضرها ريتشي ثلاث مرات في الولايات المتحدة فحسب، بل ذهب وراءها أيضا إلى لندن من أجل حضور حفل استاد ويمبلي. كان هولي ولينون وجيري أليسون يعزفون على الطبول، وكلاوس فورمان على جيتار الباص؛ وكان أفضل حفل في حقبة الروك، حتى قبل أن ينضم إليهم أصدقاؤهم على المسرح. أضف إلى ذلك الشراكة في كتابة الأغاني التي ازدهرت حتى التسعينيات، حيث أسلوب هولي الأكثر عذوبة الذي خفف من خشونة لينون، في توليفة فاقت حتى أعمال لينون المبكرة مع مكارتني. وكان نتاج ذلك اسم «هولي-لينون»؛ تلك العلامة الموثوقة التي وضعت على أسطوانات حققت نجاحات فاقت أي فريق تأليف آخر.
لكنهما رحلا، ولن يقدر لنا أن نرى مثيلا لهما أبدا. فكل الأعمال بعد عام 1978 كانت مقيدة قانونيا كسائر أعمال البيتلز، وكانت على أي حال قد حظيت بمعالجة من قبل الاستوديوهات الكبرى في لايبزج. إلى جانب ذلك، كان الأمر أعقد مما كان يرغب فيه ريتشي. فقد كان ما يريده هو - أو ما كان في حاجة إليه - تحديا. شيء أقدم من ذلك. ربما أشرطة مفقودة منذ الخمسينيات. تحد حقيقي. •••
راح ريتشي يتخيل الحقبة التي يرغب في إعادة إنتاجها بواسطة التكنولوجيا الحديثة بتؤدة. واستطاع تحديدها بدقة. فقد وجد ضالته في الفترة الأولى التي عمل فيها هولي منفردا في عام 1959. كان ذلك بعد انفصاله الأول عن فريق «كريكتس» الغنائي، قبل إعادة تشكيله مرة أخرى. «جولة حفلات الرقص الشتوية» التي شملت مينيسوتا وويسكونسن وأيوا. في هذه الجولة غنى هولي كل شيء وأي شيء، حتى إنه كان يعزف على الطبول لفريق «ديون». فقط لو أن أحدا أخذ معه مسجل شرائط إلى إحدى تلك الحفلات، وترك الشرائط في كبسولة زمنية تفتح بعد خمسين عاما لاحقة. سيكون قد حان وقت اكتشافها الآن.
كان ريتشي مسترخيا أمام لوحة التحكم الخاصة به، وعيناه شبه مغلقتين، ثم اعتدل في جلسته فجأة، وصار منتبها تماما. «فقط لو» ...
مال ريتشي إلى الأمام، وأخذ يكتب على لوحة ما. «جيفريز. تسجيل خروج. سأتوجه إلى المنزل، لا أشعر أني بخير. سأرحل باكرا الليلة، على أمل أن أعاود المحاولة في الصباح.»
في منزله، فحص التواريخ الواردة في كتاب جون جولدروزن الضخم «بادي هولي، حياته وعصره». نشر ذلك الكتاب التذكاري بعد وفاة هولي المبكرة المأساوية في عام 1997، وهو في سن الحادية والستين (في إطار الواقع الموازي)، وتناول التاريخ الكامل لحقبة موسيقى الروك، وكان نتاج جهد تطوعي من الكاتب، بني على لقاءات مع الجميع بداية من نيكي سوليفان - الذي كان يعزف مع الرجل العظيم قبل الشهرة - وحتى تلاميذه في التسعينيات، الذين أعادوا أداء أغنية «دقة قلب» (هارتبيت). ولما كان هولي قد تعاون مع الجميع تقريبا، سواء بالعزف أو بتأليف الأغاني، خلال الفترة من عام 1957 وحتى عام 1997، فلم يكن مستغربا كثيرا أن جولدروزن قد سافر أكثر من 50 ألف ميل بغرض البحث وجمع المعلومات من أجل الكتاب وأمضى ثلاث سنوات في كتابته. لكن من بين نصف مليون كلمة في قاعدة البيانات، انحصر اهتمام ريتشي في ألفين منها فقط.
كان هولي قد غادر الجولة بعد حفل مورهيد بمينيسوتا يوم الثالث من فبراير عام 1959 وهو مصاب بنزلة برد شديدة أثرت على غنائه خلال العرضين. وبعد أن استقل الطائرة عائدا إلى نيويورك، ظل مختفيا عن أنظار العامة حتى الربيع، ثم ظهر بأول ألبوم له بعد انفصاله عن فريق «كريكتس»، وهو الألبوم الذي حقق ملايين المبيعات بعنوان «طرق الحب الحقيقي» (ترو لاف وايز). لذا كان حفل مورهيد خارج التقييم؛ إذ لم يرد ريتشي أشرطة لهولي يغني وهو مصاب بالبرد. لكن كل شيء كان يسير على نحو جيد - عدا الطقس - في الليلة السابقة في كلير ليك بويسكونسن. فبعد أن أمضى عدة أسابيع على الطريق، كان العرض قد بلغ ذروته من حيث قوة الأداء والحماسية. فقرر ريتشي أن ذلك هو التاريخ الذي عليه أن يقصده؛ فاتخذ الاحتياطات المناسبة للتدفئة وحماية نفسه من البرد؛ إذ ورد في رواية جولدروزن أن عازف الطبلة في فرقة هولي، تشارلي بانش، قد عانى لسعة الصقيع حين تعطلت حافلة الفريق وسط الجليد ذات ليلة في بداية الجولة.
بادي هولي
أرشيفات مايكل أوكس/جيتي
كان اختيار جهاز تسجيل مشكلة ثانوية. فقد كان ريتشي يملك عدة أجهزة قديمة، لكن لم يكن أي منها مناسبا لتلك الفترة. أضف إلى ذلك أن جهاز تسجيل من الخمسينيات قد يكون بدائيا أكثر مما ينبغي. فاستقر على جهاز من ماركة «يوهير» يعود إلى عام 1965. لم يكن لأحد سوى محترف أن يعرف أن هذا الجهاز أكثر تطورا بقليل من أحدث الأنواع عام 1959؛ وكم محترفا من المرجح أن يلتقيهم ريتشي في كلير ليك بويسكونسن في حفل روك في ليلة متجمدة من ليالي فبراير؟ كان إغراء وضع جهاز سوني كيوبيك في جيبه أكبر مما يمكنه تحمله، لكنه احترم الأشخاص الذين وضعوا قواعد المفارقة التاريخية. فإذا قبض عليه متلبسا لكن دون وجود أدلة مادية تدينه، فقد لا يواجه شيئا أسوأ من تقاعد مبكر بعض الشيء عما توقع. لكن إذا قبض عليه وهو يلقي بالمفارقات التاريخية في الماضي، فسيصبح الأمر قضية فيدرالية.
ولم تكن الملابس تمثل مشكلة. فقد كان بإمكانه الحصول عليها عند تنفيذ المشروع. كل ما سيكون في حاجة إليه إذن هو خمس دقائق تقريبا مع «الوحش» بمفرده؛ وهو أمر ليس صعبا للغاية بالنسبة إلى مهندس اتصالات. فلو أن كل شخص من المفترض أن يكون في مهمة المراقب حصل في الوقت ذاته على طلب تجاوز ليكون في مكان آخر، فمن سيدري بالأمر عدا المعالج المركزي؟ وبقليل من التعديل، يمكن للمعالج المركزي أن ينسى الأمر قبل حتى أن يحدث. وبما أن «خطأ» لم يشغل أي حيز في الوقت الحقيقي في المكان والزمان الراهنين، فقد كان كل ما عليه فقط هو أن يضبط جهاز التحكم عن بعد، ويسير عبر شعاع الضوء ويخرج على الجانب الآخر. غير أن الأمر سيتطلب تقريبا خمس ساعات من وقته الشخصي من أجل أن يسير عبر الشعاع، وسينطوي الأمر على فرصة لتسجيل أحد أعظم الحفلات الغنائية «المفقودة». وسيكون ذلك باستخدام شريط تناظري عتيق الطراز على آلة بدائية تعمل بواسطة بطارية. بعد ذلك يمكنه أن ينقيها رقميا، ويضعها في مكعب، وبالطبع ما كان له أن يعلم أحدا بالأمر. أليس كذلك؟
هيا، لتعبر ذلك الجسر حين تحين اللحظة. لقد صارت أمامه الآن فرصة لرؤية هولي وسماعه مباشرة مرة أخرى، وليس مجرد تسجيل غنائه فقط. قد لا يكون المكان هو ويمبلي في عام 1981، وقد يكون هو في الثالثة والخمسين من عمره وليس في الخامسة والعشرين، لكنه شعر ثانية بذلك الوخز الخفيف القديم في ظهره من مجرد التفكير في الأمر. غمغم في نفسه وهو يفكر قائلا: «لنفعلها يا ريتشي، الآن، وإلا سينتابني الخوف من الفشل، ولن أفعلها أبدا.» •••
لم يدلف إلى القاعة - قاعة سيرف بولروم - مبكرا فحسب، بل دلف إليها مجانا، وذلك بفضل سياسة المدير كارول أندرسون، التي تسمح «للآباء» بالدخول كضيوف شخصيين له، ليطمئنهم على أن الأطفال لن يتعرضوا لأي أذى وهم في كنفه وتحت رعايته. أما بالنسبة إلى آلة التسجيل، فقد اندهش أندرسون من اكتنازها ومن جودة الصوت الذي تعيد إنتاجه، كما كان سعيدا بالسماح لريتشي بتسجيل شريط «للأطفال». لا مشكلة تماما.
لكن ظهرت المشكلات لاحقا.
لا يمكن لأحد سوى محترف أن يكتشف أسبقية جهاز اليوهير لوقته. بحق الجحيم، كيف له أن يعرف أن الصبي كان محترفا؟ بالطبع، كان الصبي قد أصبح خبيرا في أروقة الاستوديوهات في الستينيات. لكنه كان الآن في الثانية والعشرين من عمره فقط، وترعرع في الجانب الفقير من تكساس، وله لكنة تقليدية ثقيلة. لم لم تخبرك السيرة الذاتية اللعينة لجولدروزن بأن هولي كان يتسكع في الاستوديوهات منذ كان في السابعة عشرة من عمره؟
ولم تكد تمر ثلاث أغنيات من الفقرة الغنائية الأولى حتى لاحظ ريتشي أن عازف الطبول ذا النظارات ينظر باتجاهه مرارا وتكرارا. وبحلول الوقت الذي عاد فيه هولي ليقود فرقته الخاصة، كان اهتمام الموسيقي واضحا بما يكفي ليمنع ريتشي من الانصهار وسط جمهور الشباب اليافع من حوله. دعا هولي ريتشي ليتقدم إلى وسط المسرح، حيث كان الشباب يفسحون المجال بكل ود وسرور لأي شخص كان محل اهتمام نجمهم المحبوب، وأنشدوا مقطعين من أغنية «ريف أون» في مكبر الصوت الذي يمسك به ريتشي، وفي نهاية الفقرة أعلن هولي للحشد أن عرض الليلة قد جرى تسجيله لمحطة إذاعية كبيرة من محطات نيويورك، وأنهم قد يتسنى لهم جميعا سماع أنفسهم عبر المذياع إذا كانوا محظوظين بحق. •••
لم يكن خبيرا في الصوتيات، بل شخصية هزلية كذلك. ولدى إصرار هولي، جذبت الفرقة ريتشي المتردد نحو مؤخرة المسرح ليشغل لهم التسجيلات الموسيقية التي سجلها. وأوضح لهم أن جهاز اليوهير هو أحدث الأجهزة في أوروبا. وأخبرهم بأنه يدير ورشة لتصليح أجهزة الراديو في وسط المدينة؛ وأن أخاه الأصغر الملتحق بالجيش في ألمانيا كان قد أرسل له هذا الجهاز بمناسبة عيد ميلاده.
بدوا مقتنعين بالقصة. وكانت المشكلة أن هولي أراد شراء الجهاز أيضا. أو على الأقل، أراد أن يحمل ريتشي على السماح له بالحصول على أشرطة التسجيل. فقد بدت جيدة فعلا، وبنفس جودة التسجيلات التي أجراها مع جيه إل في مرأب بوبي بيبلز في مدينة لوبوك. كانت رائعة. أيا كان ما حدث لبوبي العزيز؟
أيا كان ما حدث، علم ريتشي أن عليه أن يحكم قبضته على المسجل. فالأشرطة، وكذلك هو والجهاز، سيعيدهم «الوحش» في غضون ساعة من الآن. وإذا ترك هولي يحصل عليها، ويدسها داخل أعماق أمتعته، فستختفي ببساطة في الصباح. ولن يكون لها أثر. لكنه لا يجرؤ أن يسمح لأي أحد يتمتع بأي نوع من المعرفة الفنية المتخصصة بأن يتفحص جهازا لن يظهر إلا في المستقبل بعد ست سنوات من الآن.
أعلن مدير الجولة أن الحافلة مستعدة للمغادرة. وأراد هولي أن يسمع المزيد من التسجيلات. فاستدعى كارول أندرسون. سأله عن تلك الفكرة التي ناقشاها في وقت سابق، ألا تزال مطروحة؟ هز أندرسون كتفيه بالنفي. فقد أجرى بضع مكالمات هاتفية. يوجد شاب في مطار سيتي ميسون، يدعى روجر بيترسون، يمكنه أن يطير بثلاثة منهم إلى مورهيد، إن أرادوا الذهاب فعلا. لكن الليلة كانت قارسة البرودة؛ وظن أندرسون أن هولي قد غير رأيه، وأنه سيستقل الحافلة؟
لا. لا. لكنه غير رأيه ثانية. كان سيستمع إلى هذه التسجيلات ربما لنصف ساعة؛ وعلى أي حال، كان يظن أنه على وشك الإصابة بنزلة برد. فهل بإمكان السيد أندرسون فضلا أن يعيد إجراء المكالمات ويرتب كل شيء؟ ثم بعدها لربما أمكن السيد أندرسون أن يوصله إلى المطار؟ يمكن للحافلة أن تغادر الآن. دعهم يعانون مشقة رحلة 400 ميل. وفي غضون ساعتين، سيكون هو مضطجعا في فراش وثير دافئ.
قطب ريتشي جبينه محاولا أن يظل بعيدا عن الانتباه. كان ثمة خطب ما هنا. كان ذلك الفتى بلا شك محتالا لبقا. إنه مهذب كأي سيد جنوبي نبيل، لكن بطريقة ما انتفض الجميع حين همس يقول «ضفدع». لكن لم تكن تلك هي المشكلة. هز ريتشي رأسه محاولا تصفية ذهنه. فقد شعر بشيء غريب. ترى ماذا في الأمر؟ أوه أجل. «لم يكن ثمة ذكر لركوب طائرة في السيرة الذاتية، ليس حتى مساء الغد، حين انسحب هولي من الجولة». وبينما كان في حيرة أمره، لاحظ بالكاد المشاحنات التي نشبت بين عدد من مرافقي المغني، والتي حلت حين بقي اثنان عرفهما ريتشي من الحفل - أحدهما يحمل اسمه نفسه، ويدعى ريتشي فالينز، والرجل الضخم الذي يدعى بيج بوبر - مع هولي فيما أخذ الآخرون يتدافعون على الحافلة. «كان عليه أن يغادر المكان». لكن كيف؟ قام ريتشي بتشغيل التسجيلات لمزيد من الوقت، باحثا باستماتة عن مخرج قبل أن يعيده الوحش. وحين عاد أندرسون بالسيارة، شعر بارتياح شديد حتى إنه دفع بالتسجيلات ببساطة في يد هولي وأخبره أن بإمكانه الاحتفاظ بها، وراح فعليا يركض بأقصى سرعة لديه بعيدا عن الأنظار بالقرب من موقف السيارات. كان يراوده شعور سيئ بأنه لم يكن متواريا بالقدر الذي كان «المشروع» يتطلبه. بل كان ينتابه شعور سيئ حيال الأمر برمته. استند ريتشي إلى الجدار، ثم انهار على الأرض. شعر بشعور غريب «حقا».
ولم يكن ثمة أحد يلحظه حين تلاشى ببساطة مع جهاز اليوهير. •••
كان مكبر الصوت المكعب هو البداية لما حدث. ففيما كان ريتشي جيفريز يستمع إلى «الأعمال الكاملة للبيتلز» في استوديو منزله، راودته أحلام يقظة عن الفنانين العظام بحق الذين لم يحظوا مطلقا بمزايا التكنولوجيا وفوائدها. ومن بين مجموعة تذكارات الروك المعلقة على الجدار، وقعت عينه على الصورة الفوتوغرافية المكبرة والمؤطرة التي كانت في حجم ملصق إعلاني من جريدة «ميرور ريبورتر» تعود إلى عام 1959، وتصدر في كلير ليك بويسكونسن، وكانت تشير إلى وفاة ثلاثة من مطربي الروك آند رول في حادث تحطم طائرة بعد حفل في كلير ليك بويسكونسن. بادي هولي، الآن. كان بادي هولي بكل المقاييس يعرف ما عليه فعله بأي جهاز تسجيل. يا لها من خسارة. لكنه مات، وهذا هو تفسير الأمر كله.
بالطبع، كان ثمة أشخاص حوله لم يكونوا قد ماتوا، لكن من حسن الحظ أنهم لم يموتوا. أو ربما ماتوا، حسبما يعلم أي شخص. إنه لغز الروك الأبدي، الذي كان يقدم للصحفيين شيئا يتحدثون عنه كل عام أو نحو ذلك؛ أكان جون لينون لا يزال على قيد الحياة؟ كيف كان حاله هذا الشهر؛ جريتا جاربو البوب؟ أم هيوارد هيوز الروك؟ أيا كان الأمر، فقد استمرت إمبراطورية الأعمال التي أنشأتها زوجته يوكو لمدة طويلة بعد وفاتها، وقال المحامون إن لينون لا يزال على قيد الحياة، رغم أنه لم يقدم أي عروض منذ منتصف السبعينيات ولم ير علانية منذ جنازة يوكو في العام 1999.
فكر ريتشي وهو يرتشف الاسكوتش. لو أن أحدا مثل لينون قد صنع بضعة تسجيلات ولو في الثمانينيات، وكانت تلك التسجيلات بنصف جودة التسجيلات التي صنعها من قبل، لأمكن باستخدام التكنولوجيا الحديثة تعديلها لتبدو جيدة مثل ... مثل أي شيء صنعه كلابتون بكل تأكيد.
لكن كانت المشكلة أن لينون لم يسجل أي شيء في الثمانينيات. فقط لو أن أحدهم ذهب إليه في داكوتا، ربما في أواسط عام 1979، وتحدث معه قليلا. وعاد به إلى الأستوديو.
كان ريتشي مسترخيا أمام لوحة مزج الأصوات وعيناه شبه مغلقتين ، فاعتدل في جلسته فجأة، وصار منتبها تماما. «فقط لو» ...
قراءات إضافية
كتب لمؤلفين بارعين
Jim Al-Khalili,
Black Holes, Wormholes and Time Machines , Institute of Physics, Bristol, 1999
Tau Zero , new edition Gateway, 2006
Julian Barbour,
The End of Time , Weidenfeld & Nicolson, London, 1999
John Bell,
Speakable and Unspeakable in Quantum Mechanics , Cambridge University
Gregory Benford,
Timescape , Simon & Schuster, New York, 1980
Gregory Benford,
Cosm , Orbit, London, 1998
Ray Bradbury, 'A Sound of Thunder’, in
The Stories of Ray Bradbury , Knopf, New York, 1980
L. Sprague de Camp,
Lest Darkness Fall , Holt, New York, 1941
Arthur C. Clarke,
Childhood’s End , Ballantine, New York, 1953
Brian Clegg,
Light Years and Time Travel , Wiley, New York, 2001
The Runaway Universe , HarperCollins, London, 1978
About Time , Viking, London, 1995
David Deutsch,
The Fabric of Reality , Allen Lane, London, 1997
The Man in the High Castle , Gollancz, London, 1975
Counter-Clock World , Berkley Medallion, NewYork, 1967
Lewis Carroll Epstein,
Relativity Visualised , Insight Press, San Francisco, 1987
David Gerrold,
The Man Who Folded Himself , Faber, London, 1973
Richard Gott,
Time Travel in Einstein’s Universe , Houghton Mifflin, Boston, 2001
Joe Haldeman,
The Forever War , Orbit, London, 1976
Harry Harrison,
Technicolor Time Machine , Orbit, London, 1976
Robert A. Heinlein, 'By His Bootstraps’, in
The Astounding-Analog Reader Book One , edited by Harry Harrison and Brian Aldiss, Sphere, London, 1973
Robert A. Heinlein, '“-All You Zombies-”’, in
The Best of Robert Heinlein 1947-59 , Sphere, London, 1973
Nick Herbert,
Faster Than Light , Plume, New York, 1988
Fred Hoyle,
October the First is Too Late , Heinemann, London, 1966
Michio Kaku,
Hyperspace , Oxford University Press, NewYork, 1994
William Kaufmann,
The Cosmic Frontiers of General Relativity , Little, Brown, Boston, 1977
Michael Moorcock,
Behold the Man , Mayflower, London, 1970
Ward Moore,
Bring the Jubilee , Avon, New York, 1976
Time Machine Tales , Springer, London, 2017
Explorations of the Marvellous , Fontana, London, 1978
Günter Nimtz and Astrid Haibel,
Zero Time Space , Wiley-VCH, Weinheim, 2008
Larry Niven,
A World out of Time , Macdonald & Jane’s, London, 1977
Igor Novikov,
The River of Time , Cambridge University Press, 1998
Clifford Pickover,
Time: A Traveller’s Guide , Oxford University Press, 1999
Fred Pohl and Cyril Kornbluth,
Wolfbane , Ballantine, NewYork, 1959
Fred Pohl,
The Coming of the Quantum Cats , Bantam, NewYork, 1986
Christopher Priest,
The Space Machine , Faber, London, 1976
Keith Roberts,
, Hart-Davies, London, 1968
Carl Sagan,
Contact , Simon & Schuster, New York, 1951
Clifford Simak,
Time and Again , Simon & Schuster, NewYork, 1951
Lee Smolin,
The Life of the Cosmos , Weidenfeld & Nicolson, London, 1997
Kip Thorne,
Black Holes and Time Warps , Norton, New York, 1994
H.G. Wells,
The Time Machine , Penguin Classics, London, 2005 (first published 1895)
Clifford Will,
Was Einstein Right? , Basic Books, New York, 1986
Jack Williamson,
The Legion of Time , Sphere, London, 1977
John Wyndham (Lucas Parkes),
The Outward Urge ,
كتب لمؤلفين بارعين
مؤلفات غير أدبية
Timewarps , Sphere, London, 1979
In Search of the Edge of Time , Bantam, London, 1992
In Search of the Multiverse , Allen Lane, London, 2009
Time and the Universe (with Mary Gribbin), Hodder, London, 1997
Time Travel for Beginners (with Mary Gribbin), Hodder Children’s Books, London, 2008
Computing With Quantum Cats, Bantam, London, 2013
Einstein’s Masterwork , Icon, London, 2015
The Time Illusion , Kindle eBook, 2017
مؤلفات أدبية
1
The Sixth Winter (with Douglas Orgill), Bodley Head, London, 1979
Brother Esau (with Douglas Orgill), Bodley Head, London, 1982
Double
(with Marcus Chown), Gollancz, London, 1988
Father to the Man , Gollancz, London, 1989
Reunion (with Marcus Chown), Gollancz, London, 1991
Ragnarok (with David Compton), Gollancz, London, 1991
Innervisions , Penguin, London, 1993
Timeswitch , PS Publishing, Hornsea, 2009
The Alice Encounter , PS Publishing, Hornsea, 2011
Don’t Look Back (collection), Elsewhen Press, London, 2017
مؤلفات السير الذاتية
Not Fade Away: The Life and Music of Buddy Holly , Icon, London, 2009
هوامش
अज्ञात पृष्ठ