38

वह सुगंध

تلك الرائحة: وقصص أخرى

शैलियों

جاءني صوت الراديو واضحا، فأدركت أن نافذتهم مفتوحة، وأنصت في ارتياح. كانت أم كلثوم في الغالب هي التي تغني، ولم أكن أعرف ماذا تقول، ولم يحدث أبدا أن تبينت كلمات أي أغنية، كما كنت أخلط دائما بين عبد الوهاب ومحمد أمين وفريد الأطرش، لم أكن أهتم إلا بالموسيقى.

فتحت عيني في بطء فوقعتا على النافذة. كانت السماء قريبة دانية، والنجوم تتحرك في خفة، وخفقت إحداها في اضطراب وضعف. وسكت الراديو فجأة، ثم سمعت حركة في الشقة المجاورة فأدركت أن أبو زكية قد عاد. وبدأ وابور الجاز يطن طنينا خافتا ثم انطفأ، وسمعت صوت ملعقة تصطدم بطبق، ثم جاء صوت المرأة متواصلا من مكان واحدا. كان صوتها هادئا يرن واضحا في هدأة الليل، وأغمضت عيني، كان ذلك يحدث كل مساء. وظللت أنصت للطنين الآتي من الشقة المجاورة، كنت أحب هذا الصوت أيضا؛ كنت أحب أن أنام وهو في أذني.

لكني لم أنم؛ فقد دوت فجأة صفارة طويلة متقطعة، وفتحت عيني على سعتهما، وأدركت أنها صفارة الإنذار، وأخذت أنصت لها في سرور ولذة. واستيقظت أختي فزعة، وسمعت صوت أبي ينادي علي وهو يتعثر في الظلام بعد أن أطفأ نور الصالة، فقلت له: «أنا هو يا بابا.» وجذبت أختي من يدها وأنا أقول: «متخافيش.» ثم هبطنا من فوق السرير واتجهنا إلى الباب الذي كان يبدو واضحا، ولمحت شبح أبي في الظلام فاتجهت نحوه. مد يده نحونا فاحتضننا، واستدار ناحية البلكونة، واقتربنا منها. كان الاضطراب يسود الحارة، وأنوار الشقق تطفأ على عجل، واستطعت أن أسمع في الظلام أصوات الناس الذين كانوا يهرعون على السلالم إلى المخابئ.

رفعت رأسي إلى أبي وسألته: «إحنا مش حنروح المخبأ؟»

شعرت به يبتسم، ورأيت صفاء عينيه في الظلام. أجاب: «مخبأ إيه؟ خلي اتكالك على الله.» ورفع رأسه إلى السماء وهو يشير بإصبعه مؤكدا، وتابعت حركة إصبعه بعيني. كانت هناك آلاف من النجوم على مقربة؛ فقد كانت شقتنا في آخر دور ولم يكن فوقنا إلا السطح.

سكتت الصفارة مرة واحدة، وساد الدنيا كلها سكون شامل، وكنت أسمع الحفيف الذي يحدثه الهواء بجلباب أبي.

سحبنا أبي من أيدينا إلى الداخل، وتحركنا في حذر حتى تبينا طريقنا إلى الحجرة الداخلية. جلسنا على السرير، وقام أبي إلى النافذة الصغيرة فأغلقها، ثم فكر قليلا وعاد ففتحها قائلا: «أحسن القزاز يقع.» سألته: «يقع إزاي؟» قال: «لو وقعت قنبلة جنبنا تعمل هزة توقعه.» قلت: «مين عارف؟ .. يمكن تقع علينا.» فأجاب بثقة: «لا. متخفش. مش حتقع.»

لم أكن خائفا، واقتربت من النافذة، ورفعت يدي قليلا إلى أعلى لأستند على حافتها؛ فلم يكن رأسي يعلو على الحافة إلا قليلا، وألقيت نظرة على نافذة أم زكية فوجدتها مظلمة، وتطلعت إلى السماء . كان كل شيء هادئا، وهتفت فجأة: «شوف يا بابا.» كانت الكشافات قد ظهرت في السماء، وأسرعت أختي بجانبي تريد أن ترى، ورفعها أبي من إبطيها لتتمكن من الفرجة. كانت الكشافات تدور في السماء بسرعة محمومة وهي تبحث في اضطراب، وتوقف اثنان منها على نقطة مضيئة، وقال أبي من فوقنا: «أهي مسكت طيارة.» ثم أضاف على الفور: «أخ! .. الطيارة هربت.»

تحرك الكشافان بسرعة من جديد ثم اختفت الكشافات كلها مرة واحدة. تساءلت: أين ذهبت؟ ودوى فجأة صوت انفجار خافت بعيد. شعرت بيد أبي تقبض على كتفي في عنف، واهتز جلبابه بجوار رأسي، وأدركت أن أختي هي التي تشده، وقال أبي: «تعالوا هنا أحسن.»

جذب بطانية من فوق السرير ثم انحنى على ركبتيه، وزحف إلى أسفل السرير، وبسط البطانية على البلاط، ثم دعانا إلى أن نلحق به. وسرعان ما كنا أنا وأختي تحت السرير بجواره، وكان يجلس على ركبتيه محنيا إلى الأمام حتى لا يصطدم بسقف السرير، وكمشنا إلى جواره وهو يحتضننا بذراعيه، وكنا نضحك أنا وأختي. أما هو فلم نكن نرى وجهه في الظلام، وسمعناه يقول: «دلوقت لو وقعت علينا قنبلة حنقع على اللي في المخبأ، ومش حيحصلنا حاجة، أما هم فحيبقوا عجينة.»

अज्ञात पृष्ठ