وكانت أعصابه هادئة الآن، لكن معدته كانت قد بدأت تضطرب من أثر المطبات؛ فرغم أن الطريق مضى على شقه ورصفه أقل من عامين إلا أن الرصف أصيب بالتلف في أكثر من موضع. وفكر الطبيب أن شق الطريق لم يكن بالأمر الصعب؛ فقد كانت الصحراء منبسطة كالسهل إلا في مكان أو اثنين. وكانت السيارة تقترب الآن من أحد هذه الأماكن الوعرة، وهو شبه نفق وسط جبل تبدو عليه آثار عمل حديث؛ فلم يكن هناك شك في أن الأيدي والآلات هي التي شقت هذه النفق وسط الجبل، كان السفحان قريبين جدا بصخورهما الحمراء. وسارت السيارة ببطء في النفق، فاصطبغ الجو كله باللون الأحمر، وعاد السائق ينحني على المقود في توجس، وتطلع الركاب من النوافذ في رهبة إلى الصخور الضخمة المعلقة على السفح على بعد ذراع كأنها موشكة على السقوط بين لحظة وأخرى.
وكان الطبيب يتأمل السفح والقمة في فضول وترقب كأنه يتوقع أن تبرز رءوس ملونة تصرخ وتهجم عليهم كالجراد، وتمطرهم بالسهام المسممة كما يحدث في الأفلام، أو ينطلق الرصاص فجأة من كل مكان يصوبه أعداء مجهولون يتربصون. ولم يخطر للطبيب أنه يحلم أو يتخيل؛ فقد كان يعرف أن شيئا مثل هذا يحدث في الناحية الأخرى من الصحراء عبر البحر. وربما في هذه اللحظة بالذات كان هناك جبل مثل هذا الجبل، له صخور وتجاويف وكهوف يختفي فيها القتلة. وربما كان هناك جندي يجلس على حافته، ومن خلفه يتسلل عدة رجال أنصاف عراة يحملون الخناجر ولا يعرفون شيئا غير القتل، ويهجمون على الجندي في صمت وتنهال عليه الطعنات، ويتدحرج على التراب ودماؤه تترك خطا أحمر من خلفه، سرعان ما يتجمد ملتحما بالتراب ويتدحرج بسرعة، والغبار يرتفع فوقه حتى يستقر في القاع. وفي أعلى يستمر القتال الوحشي، ثم يتوقف بعد أن يتحقق النصر، ويبدأ التعمير، وتشق الطرق، وتبنى المصانع، وتقام دور السينما، وتؤلف أغاني الحب وتذاع من الراديو. ولن يسمعها الجندي القتيل، ولن يرى شيئا من هذا كله؛ فهو لن يبارح مكانه أبدا في الصحراء.
وفي الصحراء كان يركب السيارة متضجرا من الحر والملل، وكانت ساعته تقول إن السيارة قطعت نصف المسافة. وكان يفكر أنه كان يجب أن يحضر معه راديو صغيرا يتسلى به. وفي القاهرة كانوا يأكلون الجلاس ويشربون أكواب المانجو المثلجة ويتفرجون على التليفزيون. ومن جديد مروا بسيارة نقل انتحت جانبا من الطريق وتكوم سائقها على ظهرها وراح في النوم، وأمامه كان يجلس شابان أنيقان. وكان أحدهما يعتقد أن الطريق الذي يمتد أمامهما وسط الرمال يذكره بطريق الإسكندرية، وكان ذلك رأي الثاني أيضا الذي وقعت له حوادث عجيبة في ذلك الطريق عندما كان يعبره بسيارة صغيرة اسمها كيكي. وإلى جوار الطبيب انكمش راكب ضئيل الجسم فوق مقعده الذي يعلو غطاء عجلة السيارة وتضاءل في مكانه، وكان غارقا في التفكير كأنه يحسب حسبة حياته، ولا بد أن أفكاره لم تكن مشجعة. وليس هذا بغريب؛ فعندما يكون المرء وسط الصحراء والعرق يتصبب على وجهه والطريق أمامه لا تبدو له نهاية، وعضلات فخذيه تؤلمه، وأعصابه بدأت تئن، وهو يتقلب في مكانه بحثا عن ناحية يمكن أن يرتاح عليها - وأيضا عندما يكون قد تجاوز الأربعين - عندئذ لا يمكن أن تكون أفكاره وردية، وفي هذه اللحظة يتمثل له الموت نهاية لكل شيء.
وعند أي طبيب يكون الموت شيئا مألوفا، ولو أنه يبعث على التفكير أحيانا. وهذا ما حدث بالأمس؛ فعندما كان يتجول في أنحاء مستشفى الواحات وهو ضيق بالذباب والغبار، كان يفكر في أن الموت هو مصير كل منا، وأي مريض لا يضيره أن يموت اليوم قبل غد، ما دام ذلك سيحدث بالتأكيد في يوم ما. وكانت هذه الفكرة بسيطة ومغرية، وكان معناها أن ينهي هذه المهمة الثقيلة بسرعة ليلحق بحجرة المحافظة المكيفة الهواء.
وكان هذا أمرا سهلا. وفي الأعوام الأخيرة لم يكن بذي بال على الإطلاق؛ فيكفي أن تجعل داخلك باردا لا يهتز وألا تعبأ لكي يبدو كل شيء يسير ويمر ببساطة. كانت الأرض قذرة لم تفلح جرادل المياه التي صبت فوقها على عجل في إزالة قذارتها. وكان الممرضون يرتدون أردية بيضاء ناصعة، لكنه كان يعرف أنهم سيخلعونها عندما يوليهم ظهره. وكانت الملاءات تغطي الأسرة نظيفة، ولكنه كان يستطيع أن يتصور ما يختفي تحتها. لكن ذلك لم يكن بذي أهمية؛ فيكفي أن كل شيء يبدو على ما يرام وأنه يستطيع أن ينصرف على الفور.
وكان المرضى يرقدون فوق أسرتهم في ملابسهم المتماثلة التي تقارب لون وجوههم صفارا، وكانوا يتابعونه بنظراتهم، ولولا عيونهم هذه لخالهم جثثا خالية من الحياة، ومن نظراتهم أدرك أنه لا يجب أن يعطي أحدهم فرصة وإلا لما انتهى. ولهذا التزم جانب الممر الرئيسي وسط الأسرة وتحاشى أن تلتقي عيناه بأحد منهم، فكان يدير ظهره لهم، ويرفع عينيه إلى السقف، ويضع يديه في جيوبه، ويحني رأسه إلى الأمام ليتأمل شيئا ما على البلاط العاري. لكنه كان دائما يشعر بالعيون مسلطة عليه، قوية مسيطرة تشده رغما عنه، وتجبره على أن يتحول إليها ويواجهها مبهوتا. كانت فجوات واسعة غائرة لكن شيئا غريبا كان يتجمع في أعماقها، شيئا يشد ويأسر ويكبل، شيئا قديما مألوفا لا يمكن تجاهله. •••
استرخى الطبيب في مقعد السيارة، ومضى يتطلع من النافذة المواجهة التي جلس السائق أمام لوحها الأيسر. كان يعرف أن الثعبان يمتد من الخلف؛ فمن أمام لم يكن هناك شيء. ولم يكن يبدو من الطريق أكثر من عدة خطوات؛ فقد كانت الصحراء تخفيه في عناية ولا تكشف عنه إلا جزءا جزءا، وكان الطريق يصعد أحيانا فلا يرى منه إلا خطوة واحدة. ويضغط السائق على نفيره محذرا، وعندما يتلاشى المرتفع ينبسط الطريق خاليا تماما. ويوشك الطبيب أن يبتسم من الخدعة التي تتكرر دون توقف، وتجوز على السائق في كل مرة. أما من الخلف فقد كان الثعبان يلتوي بوضوح تاركا ذيله بعيدا بعد الواحة. أما الرأس فكان يزحف إلى الأمام بسرعة محمومة، يشرئب بعنقه في شوق ولهفة ليرى ماذا بعد، وتبدو الجبال فجأة وكأنها تسد الطريق. ويتساءل الطبيب لحظة أين سيمضي السائق وكيف سيفلت، لكن رأس الثعبان لا يلبث أن يشق طريقه بمعجزة في مكان ما بجوار الجبال.
كان الطريق خاليا إلا من المطبات. وكانت السيارة تنطلق بسرعة وخفة، وأرقام الكيلومترات تتتابع؛ فقد استطاع الطبيب أن يحل لغز هذه الأرقام ويعرف أيها يشير إلى ما تبقى من مسافة. وكانت المسافة الباقية على أسيوط لا تتجاوز الخمسين كيلو مترا، وران الصمت على السيارة، وأسند بعض الركاب رءوسهم إلى ظهور المقاعد المواجهة لهم واستغرقوا في النوم. وبلغ الضجر بالطبيب القمة؛ كانت عيناه مشدودتين إلى الأرض التي تتموج من النافذة، وعند كل انحناءة أو مرتفع كان يمني نفسه بأن تظهر بعدها منازل أسيوط ومبانيها، ولكنه يفاجأ برمال ومرتفعات جديدة. وبدا الطريق بلا نهاية، وازداد الكيلومتر طولا، وأصبح ينتهي بشق الأنفس، وظل رقم الأربعين ثابتا لفترة طويلة. وقرر الطبيب في النهاية أن يتجاهل هذه الأرقام ولا يتابعها ببصره وذهنه، وأن يفكر في شيء آخر يقطع به الوقت، وعندئذ ظهر الخط الداكن الطويل.
كان يمتد بعيدا في الأفق، ولكنه كان يقترب بسرعة. وفي البداية كان أشبه بسحابة كثيفة في السماء البعيدة، ثم ما لبث أن بدا أقرب إلى الأرض منه إلى السماء. واستدار الطبيب قليلا إلى الراكب الذي يجلس خلفه كأنما يسأله رأيه، وتبرع ذلك بالإجابة على الفور فقال وهو يتنهد في ارتياح: «أسيوط.»
كانت السيارة الآن لا تكاد تلمس الأرض. ومر به رقم الكيلومتر فوجده الثلاثين. وأخذ الخط الداكن يتضح لحظة بعد أخرى فيتحول لونه الغامض إلى خضرة كثيفة تقترب بسرعة، ورأس الثعبان يميل كل لحظة إلى اليمين واليسار مع دورات الطريق وهي تتجه إلى الخضرة في إصرار. وبدأ الركاب يفقدون استرخاءهم ويعتدلون في أماكنهم، متطلعين في اهتمام وارتياح إلى الحقول البعيدة. وكانت تلك هي اللحظة التي ظهرت فيها الألواح البيضاء الكبيرة التي صفت بشكل مائل بحذاء الحقول. وانحنى الطبيب إلى الأمام وهو يتابعها ببصره متسائلا عن أمرها. وتبين بعد لحظة مبان حجرية كبيرة كالمصاطب بعضها من عدة درجات مثل هرم سقارة المدرج، ولم يكن عددها كبيرا، وكانت متناسقة الأحجام متساوية الجوانب مصقولة الحواف، أو هكذا بدت من بعيد. وكان بعضها يحمل خطوطا وأشكالا ساذجة باللون الأحمر كتلك التي يرسمونها على بيوت الحجاج في القرى والأحياء الشعبية من المدن ويكتبون عليها بخط رديء: حج مبرور وذنب مغفور.
अज्ञात पृष्ठ