ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا.»
جيمس جويس: «صورة الفنان في شبابه»
مقدمة يوسف إدريس للطبعة الأولى
ليست مجرد قصة
أعترف بأني شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعك عن الموهبة، والكتابة موهبة كل إنسان، مثلها مثل الكلام، ولكن قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلقوا من الكلام فنا، وتمييز الذهب من القشرة في حاجة إلى صائغ، والمواهب كالمعادن في حاجة إلى ميتاليرجيست ليفند ويقيم، ولست هذا الصائغ أو أخصائي المعادن، ولكني أحس بالموهبة مثل إحساسي بالخطر أو الأمل أو الضيق. ولقد عرفت صاحب هذا الكتاب منذ أكثر من عشر سنوات، دقيق الجسم، دقيق ملامح الوجه، أحيانا أحس به كالطائر الذي يضع منظارا. ومنذ عرفت صنع الله وهو أصيل، لم أشهده مرة متلبسا بخاطر ليس من صنعه أو بفكرة لم يشق في تحصيلها، وأسماء كثيرة أطلقتها عليه، أول ما عرفته سميته داستايوفسكي أو كما تعودنا تسميته دوستيوفسكي؛ فقد كان يكتب بطريقة منسابة فياضة تحس أن وراءها نبعا لا ينضب، وكانت الشخصية المحببة إليه أيامها هي خليل بك، وهو نموذج بشري التقطته موهبة صنع الله كما يلتقط طائر النورس من طيرانه العالي ظهر السمكة وينقض عليها. وخلق صنع الله من خليل بك شخصية يمكن أن يكتب عنها عشرات الكتب دون أن يفرغ محتواها. كان أيامها في العشرينيات، ولكن قصصه كانت تقترب من الأربعينيات الناضجة. كان متدفقا غزيرا بحيث إني أحس بالأسف الشديد كلما تذكرت موهبته في ذلك الحين. إذا كان النبات في حاجة إلى رعاية خاصة، والزهور النادرة في حاجة إلى بيوت من زجاج وتكييف هواء، والحيوان أيضا، في المزارع الحديثة نرعاه وندقق في اختيار طعامه، وتوفير الراحة له ليدر اللبن، فما بالك بأرقى ما وصلت إليه في تطورها الحياة، كل أنواع الحياة، الإنسان الفنان؟ وصنع الله أيامها لم يكن يطمح في رعاية أكثر من أن ينضح النشر بعض ما يعج به درج مكتبه، وعملا، ولا شيء غير هذا، ولكننا بنفس الإسراف العبيط الذي نبعثر به الأشياء، ما أكثر ما بعثرنا من المواهب! وهكذا كتب على دوستيوفسكي صنع الله إبراهيم ألا يرى النور، وأن تضيع مسوداته وكتابته وتهدر، وأن يتوقف عن الكتابة فترة طويلة، وخلال غيابه كنت دائم السؤال عنه خائفا أن يعود الشاب ولا يعود الفنان. وفعلا عاد الشاب وقابلته، وسألته إن كان قد كتب، وفي خجل من نوع خاص أعطاني هذه الرواية القصيرة التي قرأتها، بل والتهمتها في جلسة واحدة، جلسة كنت خلالها كثيرا ما أسخط على الكاتب، وكثيرا ما أفتقد صنع الله الأول، وكثيرا ما أحس أنه يريد وكأنما بصبر أيوب أن يؤلم القارئ ويؤذيه، ولكني حين انتهيت أحسست أني لست فقط أمام فنان عاد، ولكني أمام موهبة جديدة، وكأنما ولدت في الغيبة. والغريب أنه بالقدر الذي كانت تبدو فيه موهبته الأولى أكبر من سنه بكثير، تكاد تكون ضعف سنه، هذه المرة وجدت الشاب الذي أوشك على الثلاثين يكتب بروح ابن عشرين، دافئ التجربة طازج الإحساس، والحزن في نفسه طبقات، ولكنه حزن الصبا، الحزن الدافع إلى اللاحزن والأمل. وجدت العقل ذلك الذي كان يغلق على نفسه الطريق لا يريد أن يراه. وجدته هنا يرى أولا وينفعل أولا، ويقطر رؤاه وانفعالاته على الورق بلا أي محاولة لإخضاعها لفلسفة معينة أو نظريات. وجدته قد آمن هذه المرة بالإنسان كظاهرة أعظم من كل الظواهر، وأصبحت أشجان الإنسان الصغيرة أهم آلاف المرات من المعادلات مهما بدت رائعة الانضباط فوق الورق. وجدت الفنان الذي فيه قد ثار ثورتين، ثورة إلى الخارج، وثورة إلى داخل نفسه، يحطم قيودا كثيرة كانت تجعله لا يصل إلا لسطح عقله ووجدانه، وتمنعه أن يغوص في أعماقه ويغامر ويستكشف، عشر مرات قد يخرج بيده خاوية، ولكنه بالتأكيد ذات مرة سيخرج بحقيقة قد تكفيه عمرا بأكمله. هنا أصبح صنع الله قصير الجمل حادها، قصير النفس، يلتقطه بسرعة ويخرجه ليدخر قواه كلها للغوص وللمغامرة والاكتشاف. هنا أصبح صنع الله مرا، ليست مرارة حاقدة، ولكنها مرارة من يريد أن يتخلص، ويتخلص قراؤه، من كل شعور بالمرارة، صريحا في أهدافه القصيرة، صريحا إلى درجة اشمأزت نفسي فيها من بعض تعبيراته، ولكن مقابل صراحته القصيرة هذه، هناك خبث فني مخفي يخاطب، من وراء ظهر القارئ وعقله، والوجدان، أعمق طبقات الوجدان. هنا في هذه الرواية القصيرة لخص لي صنع الله، ليس فترة هامة من حياة بطل القصة، إنما فترة أهم من حياة جيل صنع الله، ذلك التلخيص الساحر المركز شديد المفعول. إنها ليست قصة، بل إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة قوية تكاد تثير الهلع. لم يعد لدى الفنان وقت لينمق ويصوغ الأحاسيس ببراعة تستدر الإعجاب. إنه هنا يريد أن يستدر انفعالات أقوى من الإعجاب به ككاتب، أو الإعجاب بقصته كموضوع. إن البطل هنا ليس الرجل، وليس الشاب، وليست الأحداث أو العصر. البطل هنا هو إحساس عام طاغ لا اسم له - إلى الآن على الأقل - وحتى حين حاول صنع الله بعنوان القصة، «تلك الرائحة» أن يسميه، هو فيما أعتقد قد فشل، بل إني لأجد نفسي الآن في حرج شديد وأنا أحاول أن أنتقي اسما لهذا الإحساس العام الذي نحته وخلقه صنع الله وأدخله دائرة الفن والأدب، ليس الإحساس بالغربة أو الاشمئزاز أو الضياع أو الثورة أو افتقاد الحنان أو الوجود، إنه إحساس مختلف، من المجحف لصنع الله وهذا العمل أن أحاول أن أعطيه اسما أو أثير مشكلة حوله؛ فإني أريدكم معي، أن تقرءوا القصة، وتخوضوا التجربة وتحسوه، ولتطلقوا عليه بعد هذا ما شئتم من أسماء.
إني لشديد الاعتزاز بصنع الله الفنان، وسعيد حقيقة وأنا أحس أنه قد آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية في كتاب كامل في قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية.
إن «تلك الرائحة» ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة، بداية فيها كل ميزات البداية، ولكنها تكاد تخلو من عيوب البدايات لأنها أيضا موهبة ناضجة.
يوسف إدريس
1966م
تلك الرائحة
अज्ञात पृष्ठ