ولم يكد القزمان يستمعان إلى هذا الأمر، حتى همس كل منهما للآخر في وسوسة متقطعة، واطفآ مصباحيهما بغير توان، وخلفا الفارس في ظلام دامس ثم قفلا راجعين، ولما انقطع وقع أقدامهما خيم على المعبد صمت شامل هو أشد ما يكون التئاما وحلوكة ظلام.
ولما انجلى هذان المخلوقان الشقيان، أحس الفارس ببعض الترويح عن النفس، وهما بمظهرهما ومسلكهما ولسانهما لم يتركا له مجالا للشك في أنهما يمتان بصلة إلى تلك الطائفة الوضيعة من الكائنات، التي سيقت بتشويه الخلق وضعف الخلق إلى هذه المكانة الأليمة، وأصبحت من ذيول الأسر الرفيعة، التي يجعل أبناؤها من ظاهرها وضعتها بواعث للمرح والسرور؛ ولو كان الفارس الاسكتلندي في عصر غير عصره لكان من المحتمل أن يسر غاية السرور من جنون هذه الصورة الإنسانية الوضيعة، ولكنه لم يكن يعلوه - في أية ناحية من النواحي - على زمانه، في الفكر أو في الطبائع، ولذا فإن هذين المخلوقين الشقيين بمظهريهما وإشاراتهما ولغتهما قد قطعا عليه سلسلة من المشاعر العميقة الجليلة، كانت قائمة في نفسه؛ ولشد ما كان ابتهاجه عندما اختفيا عن مرآه.
وبعدما انجليا ببضع دقائق، انفتح الباب، الذي ولج منه من قبل في تؤدة وتوان، ولبث منفرجا، وقد ظهر من خلفه نور خافت يشع من مصباح لدى عتبته، وتجلى في هذا الضياء المتقطع، الذي يتراوح بين الظلمة والنور، شبح أسود مسترخ لدى المدخل بعيدا عن حدود المعبد، ولما دنا الفارس منه، عرف أن الناسك ما برح مستلقيا على الهيئة المتواضعة عينها التي اتخذها من أول الأمر، والتي لا ريب أنه لبث عليها ما بقي ضيفه في المعبد.
ولما سمع الناسك الفارس وهو يدنو منه قال: «لقد انتهى كل شيء، وآن لأشقى من أذنب فوق الأرض أن يئوب من هذا المكان مع رجل يحق له أن يعتقد الآن أنه أنبل وأسعد بني الإنسان جميعا. أمسك المصباح واهدني الطريق في هذا المهبط، فليس لي أن أكشف عن بصري حتى أبتعد عن هذا المكان المقدس.»
فصدع الفارس الاسكتلندي بالأمر في صمت وسكون، وقد أخرسه إحساس بالنشوة والتسامي مما رأى، فخمد في نفسه حتى روح التطلع إلى ما يتحوطه، ثم أخذ يشق طريقه بدقة بالغة خلال المسالك الخفية العديدة، وعلى الدرج الذي تسلقاه من قبل، حتى ألفى نفسه وصاحبه في الغرفة الخارجة من كهف الناسك.
و«يئوب المجرم الآثم إلى جبه، ويستأخر العقوبة من يوم نحس إلى يوم آخر، حتى ينفذ فيه قضاء ربه، ويجزيه الله العادل بما قدمت يداه.»
بهذه الكلمات تفوه الناسك، ثم طرح عن عينيه الحجاب الذي تقنع به، ونظر إليه وفي نفسه آهة حارة مكبوحة، ولم يكد يرد الحجاب إلى السرداب الذي كان قد طلب إلى الاسكتلندي أن يأتي له به منه، حتى سارع ووجه إلى زميله الخطاب في حزم وقال: «اذهب عني، اذهب عني، إلى الراحة والسكون؛ إن في وسعك أن تنام، ومن حقك أن تنام، أما أنا فليس ذلك في وسعي أو من حقي.»
فانسل الفارس إلى الغرفة الداخلية احتراما لهذه الكلمات التي نطق بها الناسك في اضطراب شديد، ولكنه أدار ببصره إلى الوراء وهو يخرج من الغار الخارجي، فألفى الناسك يجرد عن كتفيه العباءة المهلهلة في عجلة المخبول؛ وقبل أن يغلق الباب الضعيف الذي يفصل ما بين حجرتي الكهف، سمع ألهوبا يفرقع وتائبا يئن من كفارة أليمة فرضها على نفسه فرضا. وفكر الفارس في نفسه ماذا عسى يا ترى أن تكون هذه الخطيئة الدنسة، وما هذا الندم الشديد على ذنب لا تمحوه ولا تخفف عنه هذه الكفارة القاسية، فشعر برعدة باردة تدب في أطرافه ثم سبح لله خاشعا متورعا، وارتمى على سريره الخشن - بعد أن رمق بعينيه الرجل المسلم الذي لم يزل في سباته - وسرعان ما غط في نعاسه كالطفل، منهوكا من أثر المشاهد المختلفة التي تراءت له في يومه هذا وليله. ولما استيقظ في الصباح اجتمع بالناسك يشاوره في مهام الأمور، وأسفر الحديث عن عزمه على أن يبقى بالكهف يومين آخرين، كان خلالهما شديد المحافظة على إقامة الصلاة، كما يليق بالحاج، ولكنه لم يعد إلى المعبد الذي شاهد به تلك العجائب.
الفصل السادس
أما هذا المشهد فعدل، وفي البوق فانفخ،
अज्ञात पृष्ठ