ونصب حساما ضخما، له يد على هيئة الصليب، جعل منه رمزا للخلاص، وسجد أمامه وأخذ يدعو الله بقلب خاشع، زاده خشوعا ذكرى الفيافي التي شق عبابها، والمخاطر التي نجا منها أثناء النهار؛ وسرعان ما غلب على صاحبينا النعاس، وقد رقد كل منهما على سرير من الحطب، منهوكا من تعب الرحيل وشدة الإعياء.
الفصل الرابع
لم يدر السير كنث الاسكتلندي كم لبث غارقا في سبات عميق، حينما أحس بضغط على صدره، فثاب إلى يقظته، وقد ظن ذلك الضغط أول الأمر أضغاث أحلام يصارع فيها خصما قويا، ثم تنبهت حواسه أخيرا، وكاد أن يسأل: «من هنا؟» حينما فتح عينيه فشهد شبح الناسك، وحشي المظهر، مفترس النظرات - كما وصفنا - ماثلا بجانبه، وقد ضغط بيمناه على صدره، وأمسك بيسراه مصباحا صغيرا من الفضة.
رفع الفارس عينيه مذهولا وهو مستلق على ظهره، فقال الناسك: «صه! إنني أريد أن أحدثك حديثا لا يسمعه هذا المسلم.»
وتكلم بالفرنسية ولم يلجأ إلى اللغة الفرنجية، وهي مزيج من لهجات الشرق والغرب كانت حتى ذلك الحين وسيلة التفاهم بينهما.
ثم استأنف الحديث وقال: «انهض وارتد عباءتك ولا تنبس ببنت شفة وخفف الوطأ واتبعني.»
فنهض السير كنث وامتشق حسامه.
ثم همس الناسك في أذنه وقال: «دع هذا، إنما نحن ذاهبون إلى حيث سلاح الروح يغنيك عن الشيء الكثير، وما هذه الأسلحة المادية إلا قصب وقشور هشة.»
فطرح الفارس حسامه إلى جوار سريره حيث كان من قبل، وتأهب لمرافقة مضيفه غريب الأطوار، ولم يتسلح بغير خنجره الذي لم يفارقه طوال مسيره في هذه البلاد المحفوفة بالأخطار.
وحينئذ تقدم الناسك إلى الأمام على مهل، والفارس يتبعه ، ومازالت تساوره الظنون، ويخشى أن يكون الشبح المظلم، الذي يتسلل أمامه كي يهديه الطريق، ما هو إلا من خلق الأحلام المزعجة، ثم مرا بالغرفة الخارجية، وكأنهما ظل يتحرك، فلم يزعجا الأمير المسلم - وقد ظل مستلقيا غارقا في سباته - وبلغا الصليب والمذبح في الغرفة الخارجية، وكان أمامهما مصباح ما فتئ يتحرق، وإلى جواره كتاب من كتب الدعوات الدينية، وعلى الأرض سوط أو ألهوب للتوبة مفتول من الحبال والأسلاك الدقيقة، خيوطه ملطخة بدم لم يجف، دليلا قاطعا على صرامة الناسك على نفسه في توبته؛ وهنا خر تيودوريك راكعا، وأشار إلى الفارس أن يتخذ لنفسه مكانا إلى جواره فوق الزناد المدبب، وكأنه إنما ألقي هناك كي يبلغ العسر أشده حينما يتأهب الراهب للتوجه إلى الله بالدعاء، ثم قرأ كثيرا من دعوات الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يترنم في صوت خافت، تمازجه نغمات الجد، بثلاثة من مزامير التوبة، وقد اختلط ترنيمه بالتأوه والدموع، وتهدج صوته بالبكاء المرير، وكان في ذلك شاهد على شدة تأثره بالشعر الديني الذي كان يرتله، وحينئذ دب في قلب الفارس الاسكتلندي إخلاص عميق من أثر هذه الحركات في تنسك الراهب، وأخذت ظنونه في مضيفه إذ ذاك تتحول وتتبدل، حتى أوشك أن يعتقد فيه القداسة من قسوته في التوبة، وإخلاصه في الصلاة؛ ولما هبا من صلاتهما وقف أمامه إجلالا له، كأنه طالب أمام أستاذ وقور، وقد أشار إلى ركن بعيد من أركان الكهف: «فتش في تلك الفجوة يا بني تجد حجابا. هاته هنا.»
अज्ञात पृष्ठ