فقال رتشارد للسلطان: «أتوسل إليك يا أخي الكريم أن تفعل ذلك، وإن يكن الإذن قد صدر بفظاظة وخشونة. والآن هلم بنا إلى عمل أجل من هذا؛ انفخوا في الأبواق، واهتفوا يا أبناء الإنجليز؛ إجلالا لبطل إنجلترا!»
فدقت الطبول ونفخ في الأبواق، وضربت الصنوج في الحال، وعلت الأصوات بالهتاف المتواصل، وهو طريقة التهليل الإنجليزية التي ألفوها دهورا، وذلك وسط صياح الأعراب المجلجل الذي لا يسير على ترتيب، كما ترن أنغام الأرغن وسط عويل العواصف، وأخيرا ساد الصمت بين الحاشدين.
وواصل قلب الأسد حديثه وقال: «أي فارس النمر الشجاع، لقد بينت لنا أن الأتيوبي قد يبدل جلدا غير جلده، والنمر الأرقط سمات غير سماته، وذلك رغم أن الكهنة لا يعرفون من المستحيلات إلا ما جاء في الكتاب المقدس، ولكني أريد أن أحدثك حديثا آخر حينما أسير بك إلى حضرة السيدات وهن خير حكم وخير من يجازي أعمال الفروسية.»
فانحنى فارس النمر انحناء القبول. «وأنت أيها الأمير صلاح الدين سوف تمثل لديهن كذلك، وإني أؤكد لك أن ملكتنا لن تحسب أنها على الرحب إلا إذا تهيأت لها الفرصة لتشكر مضيفها المليك لاستقبالها هذا الاستقبال الفاخر.»
فطأطأ صلاح الدين رأسه برشاقة ولكنه رفض الدعوة.
وقال: «إنما يجب أن أعنى بالرجل الجريح، إن الطبيب لا يترك مريضه إلا كما يترك البطل ساحة الوغى، حتى وإن دعي إلى مخدع كمخادع الفردوس. وفوق هذا، أيها الملك رتشارد، لتعلمن أن دم الشرق لا يتدفق هادئا في حضرة الجمال كدم أبناء بلادكم، ولقد قيل: «إن عيني المرأة كظباة السيف، فمن ذا الذي يستطيع أن يحدق فيهما؟» من أراد ألا يحترق، فليتجنب أن يسير على النار الحامية. إن عقلاء الرجال لا ينشرون الكتان أمام اللهيب المتقد، ويقول الحكماء: «من أضاع كنزا، فليس من الحكمة أن يتطلع إلى الخلف كي يملأ منه ناظريه».»
ونعتقد أن رتشارد قدر هذه الدوافع الرقيقة التي انبعثت عن خلق يختلف عن خلقه، ولم يلح في مطلبه بعد ذلك.
وهم السلطان بالرحيل وهو يقول: «أملي أن تقبلوا جميعا دعوتي إياكم إلى الطعام في منتصف النهار تحت الخيمة السوداء المصنوعة من جلد الجمل، وهي خيمة زعيم من زعماء كردستان.»
وأذيعت هذه الدعوة بين المسيحيين، وشملت كل من كان له من المكانة ما يكفيه لأن يجلس على مائدة أعدت للأمراء.
وقال رتشارد: «أنصتوا! إن المزاهر تعلن أن ملكتنا ووصيفاتها خارجات من رواقهن، وانظر إلى العمائم ترها وقد غاصت في الأرض كأن ملكا من ملائكة الهلاك قد ضرب فوقها. لقد انكبوا جميعا على وجوههم كأن نظرة واحدة من عين العربي تطفئ بريق خدود السيدات! هيا بنا إلى السرادق، وسيروا برجلنا الظافر إلى هناك منتصرا. والله إني لأشفق على هذا السلطان النبيل الذي لا يعرف عن الحب إلا كما يعرف من هم أدنأ منه طبعا!»
अज्ञात पृष्ठ