فأجاب الفارس وقال: «إني من بلاد غير هذه البلاد، ومن قوم غير هؤلاء الذين يزهون - كما تقول - بما لا يستطيعون، أو بما لا يتقنون إذا استطاعوا، ولكنني، أيها العربي الجسور، فيما قلت لك، كنت أحذو حذوهم في المزاح، وأظنني ما كنت في عينيك إلا رجلا دعيا وأنا أحدثك بحديث لا تستطيع أن تدركه، حتى حينما كنت أنطق عن صدق وسذاجة، ولذا فلندعها تذهب.»
وفي تلك الآونة بلغ صاحبانا مكان النخيل، وبدت العين فوارة يتألق ماؤها الغزير تحت ظليهما.
ويذكر القارئ أننا تحدثنا عن برهة سادت فيها الهدنة وسط القتال؛ وكذلك كان هذا الموضع الذي بلغاه مكانا جميلا وسط صحراء مجدبة، عزيزا على النفس كالهدنة، ولم يكن المكان ليستوقف النظر لو أنه كان في غير ذلك الموضع، ولكنه كان هنا محلا فريدا في فضاء لا يبلغ مداه البصر، يمد المسافر بالظل الظليل والماء النمير، وهما من نعم الله، لا يقدرهما المرء حق قدرهما إن توفرا، ولكنهما هنا قد أحالا العين وما جاورها جنة صغيرة من جنان الخلد. وقبل أن تبدأ أيام فلسطين المظلمة في التاريخ، امتدت يد محسنة كريمة إلى تلك العين فأقامت حولها سياجا، وفوقها سقيفة، كي لا تبتلعها الأرض، أو يغطيها التراب، الذي يثور في سحب متدافعة تنطلق في مسيرها، كلما هبت نسمة من ريح، فتغطي سطح الصحراء؛ أما السقيفة فكانت إذ ذاك محطمة؛ وقد تهشم جانب منها، ولكنها كانت مع ذلك تظلل العين وتحمي مياهها من وهج الشمس، حتى إن الماء ليبدو هادئا مطمئنا يسر العين والخاطر؛ لا يمسه شعاع من شمس، بينما كان كل ما حوله متألقا وهاجا. وانسل صاحبانا من تحت السقيفة فقابلا أول ما قابلا إناء من المرمر شائه الوجه، ولكنه يجذب النظر، لأنه يدل بهيئته تلك على أن المكان كان في قديم الزمان محطا، وأن يد الإنسان قد لعبت هناك ، وأن المرء كان - ولو إلى حد - يرعى لنفسه حقها من الراحة والإيواء؛ وكان المسافر العربي يلهث من الإعياء والعطش، فلما رأى تلك الأمارات، تذكر أن هناك غيره من الناس ممن تعرضوا لمثل ما تعرض له من مشاق فأووا حيث أوى، ولا شك في أنهم خلصوا بأنفسهم آمنين إلى حيث الخصب والنماء؛ وكان يتسرب من الإناء تيار خفيف من الماء، يكاد يحتجب عن الرائي، ويغذي تلك الأشجار القليلة التي كانت تحوط العين، وإذا ما غاص ذلك التيار تحت الثرى واختفى عن البصر، دل على وجوده بساط من سندس أخضر يسر الناظرين.
في هذا المكان اليانع حط المحاربان رحالهما، ثم أخذ كل منهما - على نهجه الخاص - يخلص جواده من عبء السرج والعنان وطرف الزمام، ويهيئ له السبيل إلى الشراب من الإناء، قبل أن يرتوي من العين التي كانت تتفجر تحت القباء، ثم خليا سبيل جواديهما، وكأنهما على يقين أنهما لن يبعدا عن هذا الماء الصافي وذلك العشب الأخضر لحاجتهما إليهما، ولما عهدا فيهما من طباع مستأنسة.
ثم جلس العربي والمسيحي فوق العشب، وأخرج كل منهما زاده الضئيل الذي كان يحمله ليتبلغ به، ولكنهما قبل أن يشرعا في تناول هذا الطعام الزهيد، تبادلا النظر بطلعة أثارها في نفسيهما ذلك الشجار الذي نشب بينهما منذ حين، وملأ قلبيهما شكا وريبة؛ وكان كل منهما يود لو يستطيع أن يسبر غور غريمه المروع، ويقدر خلقه ولو إلى حد، وقد اضطر كل منهما أن يقر بأنه لو سقط مغلوبا في ذلك النضال لكان ذلك بيد كريمة شريفة.
وكان الفارسان على طرفي نقيض في شخصيهما وملامحهما، وكلاهما يصلح مثالا دقيقا لأمته. كان الفرنجي رجلا قويا كالقوط الأقدمين في هيئته، شعره أحمر اللون أدكنه، بدا لما رفع خوذته عن رأسه مجعدا كثيفا غزيرا، وقد لفحت وجهه حرارة الشمس فصيرته أشد سمرة من بعض رقبته التي لم تتعرض للفحة الشمس، وما تنم عنه عيناه الزرقاوان المنفرجتان ولون شعره وشاربه الذي كان يظلل شفته العليا، ولم تكن له لحية على مثال النورمان، أنفه إغريقي جميل الصورة، وثغره واسع الانفراج يكشف عن أسنان ناصعة البياض، متينة جميلة الترتيب، له رأس صغير يرتكز فوق رقبته في أنفة وعظمة، لا يزيد عن الثلاثين في عمره، ولكنك إذا حسبت للعناء والجد حسابهما، علمت أنه قد ينقص عن ذلك ثلاث سنوات أو أربع، طويل القامة، قوي البنية كأنه من هواة الرياضة البدنية، يشبه أن يكون رجلا قد تقدمت به السن فلم يعد له سلطان على قوته، بعد أن كانت تلك القوة ممزوجة بالخفة والنشاط؛ خلع القفاز الحديدي فإذا يدان طويلتان بيضاوان في تناسق جميل، وإذا عظام معصميه قوية كبيرة، وذراعاه مفتولتا العضلات جميلتا التكوين، يتميز في كلامه وحركاته بعنف حربي واستهتار وصراحة في التعبير، في صوته رنة الآمر لا ذلة الخاضع، وكأنه تعود أن يعبر عن عواطفه بصوت مرتفع وبأس شديد كلما اقتضت الضرورة أن يفصح عنها.
أما الأمير العربي فكان على نقيض هذا الصليبي الغربي؛ قامته فوق متوسط الرجال، ولكنه كان أقصر من الفارس الأوروبي بما لا يقل عن ثلاث بوصات؛ إذ كان الأخير يقرب أن يكون عملاقا؛ أطرافه دقيقة، ويداه وذراعاه طويلة رقيقة، تتسق حجما وجسمه، وتتناسب وطلعته، ولكنها لا تدل لأول وهلة على القوة والليونة اللتين أظهرهما الأمير قبل ذلك بقليل؛ ولكنك إن أمعنت في النظر، رأيت ما بدا من أطرافه خفيفا لا يكسوه لحم، وكأنه لم يبق منه إلا عظام وعضل مفتول وعروق؛ رجل كأن الله قد أعده بهيئته هذه للعناء والإجهاد، ليس البتة بالفارس البدين تتعادل قوته وحجمه مع وزنه وقد أنهكه الإعياء؛ وكان هذا العربي بطبيعة الحال يشبه في طلعته إجمالا قبائل الشرق التي هو من أبنائها، وما كان أبعده عن تلك المبالغات التي كان يرددها المغنون في ذلك العهد في وصف فرسان العرب؛ وعن تلك الصورة الخيالية التي ما زال الفن الشقيق
2
يعرضها على اللوحات على أنها تمثل رأس العربي. كان دقيق الملامح، جميل التكوين، رقيقا، تعلوه سمرة شديدة من أثر شمس الشرق المحرقة، له لحية مرسلة سوداء متموجة الشعر، عني بتشذيب أطرافها، وأنف مستو مستقيم، وعينان حادتان، سوداوان براقتان؛ وأسنانه تنافس في جمالها وبياضها عاج الصحراء؛ وقصارى الوصف، كان العربي وهو يتمطى بجسمه فوق العشب، إذا قيس بمنازله القوي البنية، كمهنده البراق ذي الشكل الهلالي والحد الضيق الرقيق، اللامع الدمشقي الباتر، إذا قورن بالسيف الطويل القوطي الثقيل، الذي خلعه صاحبه وألقاه فوق الأديم. وكان الأمير في زهرة العمر، ولولا ضيق جبهته، ورقة ملامحه وحدتها - أو لعلها كانت كذلك من حيث تقدير الأوروبيين للجمال - لعد آية في الجمال.
كان المحارب الشرقي في معاملته جادا متعاليا شديد المراعاة للتقاليد، يدل بسلوكه من بعض النواحي على ما فطر عليه أولئك القوم - الذين عرفوا بحدة المزاج وحرارته - من حرص يستمسكون به كي يقوا أنفسهم ما جبلوا عليه من حدة الطبع، كما يدل على إحساسه بكرامة كانت تضطر صاحبها إلى أن يرتبط في مسلكه ببعض القيود.
अज्ञात पृष्ठ