وهكذا كان يتكلم رتشارد غير مستح من تنازله من عليائه، بل لقد كساه جلالا حنوه واعترافه بالجميل، ولما واصل نفيل اللوم والعتاب على تعريض الملك ذاته الكريمة للخطر، فرض عليه الملك أن يلزم السكون.
وقال: «أرجوك الصمت وألا تذكر هذا الأمر بعد هذا؛ إنما فعلت ذلك كي أبين لهؤلاء السفلة الجهلة المتحاملين كيف يستطيعون أن يعاون بعضهم بعضا إذا ما هاجمنا أولئك الأدنياء الأنذال بحبالهم ونبالهم المسمومة.» ثم قال: «خذ هذا النوبي إلى مسكنك يا نفيل، لقد عدلت عن رأيي في أمره، وأسبغ عليه رعاية كافية، ولكن اسمع مني هذا في أذنك - تنبه كي لا يفر منك - إن مخبره خير من مظهره. أعطه الحرية كاملة كي لا يترك المعسكر. وأما أنتم أيها الأوغاد الإنجليز أكلة اللحوم ونهلة الخمر، فعودوا إلى أماكن حراستكم ثانية، واستوثقوا من زيادة الحذر في رقابتكم. لا تحسبوا أنكم الآن في بلادكم حيث الصراحة في المعاملة، وحيث يتكلم الرجل قبل أن يضرب، ويصافح قبل أن يحز الرقاب. إنما الخطر في بلادنا يسير صراحا وظباته مسنونة مسلولة يتحدى العدو الذي يريد به الهجوم، وأما هنا فخصمك يستنهدك وعلى يديه قفاز من الحرير لا من الحديد، ويحز رقبتك بريش اليمام، ويطعنك بطرف دبوس القس، أو يخنقك برباط ثياب الغيد. اذهبوا وافتحوا أعينكم وأغلقوا أفواهكم، وأقلوا من شرابكم، وأحدوا من أبصاركم، واشهدوا ما حواليكم، وإلا قصرت في إطعام بطونكم الكبيرة حتى يشكو الجوع أشد الاسكتلنديين صبرا.»
فخجل الحراس وخارت نفوسهم، ثم عادوا إلى أماكنهم، وبدأ نفيل يعتب على سيده مخاطرته بتهاونه في إهمال الحراس لواجبهم، وضربهم لغيرهم مثلا سيئا في أمر بالغ الخطر كسماحهم لرجل مريب كالشيخ أن يدنو حتى يصير من شخص الملك قاب قوسين. وهنا عارض الملك نفيل وقال: «لا تذكر هذا الأمر يا نفيل، أفكنت تريدني على أن أنتقم لنفسي من خطر زري كهذا بأشد من نقمتي على ضياع راية إنجلترا؟ لقد انتزعت وسرقها لص، أو اختطفها خائن ثم أسلمها، ولم ترق في سبيلها قطرة من دم. أي صاحبي الأسود، يقول السلطان المجيد إنك تدرك من الأمور خفيها، والآن لو استخدمت رجلا أشد منك حلوكة ، أو أي وسيط آخر أردت، كي تكشف لي عن اللص الذي ألحق بشرفي الإساءة، أعطيتك وزنك ذهبا، ماذا تقول في هذا؟ ها!»
وبدت على الرجل الأبكم الرغبة في الكلام، ولكنه تمتم بصوت خافض متقطع، صادر عن نفس حزينة كئيبة، ثم أطبق ذراعا فوق الأخرى، ونظر إلى الملك بعين فيها لمحة الأريب، ونكس رأسه إجابة على ما سئل.
فقال رتشارد جازعا متلهفا: «ماذا تقول! هل تأخذ على نفسك أن تكشف عن هذا الأمر؟»
فكرر العبد النوبي الإيماءة الأولى.
وقال الملك: «كيف لنا أن نتفاهم؟ هل تستطيع الكتابة أيها الرجل الكريم؟»
فنكس العبد رأسه ثانية إيجابا.
فقال الملك: «أعطوه ما يكتب به، لقد كانت أداة الكتابة أبدا في فسطاط أبي أقرب منالا منها في فسطاطي، ولكن إن بحثتم وجدتموها هنا أو هناك، اللهم إلا إن كان هذا الجو المحرق قد جفف المداد. والله يا نفيل إن هذا الرجل لجوهرة، بل لؤلؤة سوداء.»
فقال نفيل: «هل لا يأذن لي مولاي أن أقول ما أرى؟ والله يا سيدي ما أحسب هذا الأمر إلا صفقة خاسرة، وما أحسب هذا الرجل إلا ساحرا، والسحرة ينضمون إلى الخصوم الذين يريدون أن يدسوا لنا السم في الدسم، وأن يبثوا الشقاق في صفوف مجامعنا و...»
अज्ञात पृष्ठ