وبهذا الميل إلى الصراحة في القول سار دي فو بكالستا إلى الملك حيث أقرت - كما اعتزمت - إقرارا صريحا بالخدعة التي أغري بها فارس النمر التعس على أن يهجر مقر واجبه؛ وبذا برأت السيدة أديث، وكانت تعلم أنها لن تقصر في تبرئة نفسها، وألقت بالعبء كله على عاتق الملكة سيدتها، وكانت تعرف حق المعرفة أن حظها في هذا المزاح بالفارس سوف يكون في عيني قلب الأسد أشد ما هو جدير بالعفو. وحقا لقد كان رتشارد زوجا متيما، بل خاضعا لزوجه ذليلا لها. وقد طال الأمد مذ انفجر غاضبا أول الأمر، ولم يعد الآن يميل إلى اللوم الشديد في أمر لا سبيل إلى تقويمه. وكانت السيدة كالستا الخبيثة قد تعودت منذ نعومة أظفارها أن تسبر غور دسائس البلاط، وترقب ما قد يدل على إرادة المليك، فخفت كالطائر مسرعة تحمل أمر الملك إلى زوجه بأن تتأهب لزيارة مباغتة منه، وزادت على هذا الأمر رفيقة الملكة في مخدعها تعليقا من عندها، يقوم على ملاحظاتها الخاصة، أرادت أن تبين به أن رتشارد لم يقصد إلا إلى أن يظهر ببعض الشدة، كي يحمل زوجه المليكة على أن تقر بندمها على مزاحها، ثم يحبوها هي وكل من له يد في الأمر بعفوه الكريم.
وسرى هذا النبأ عن الملكة كثيرا فقالت: «هل هذا كل ما في الأمر أيتها المرأة؛ صدقيني إن رتشارد قائد عظيم، لكنه سوف يتعسر عليه أن يراوغنا في هذا الشأن، وهو في هذا ينطبق عليه قول رعاة «البرانيس» المألوف في وطني «ناڨار»: «ما أكثر من أتى طلبا لصوف الأغنام وعاد بغنمه مجزوزا.»
وبعدما ألمت الملكة برنجاريا بكل ما حدثتها به كالستا من خبر، ارتدت فاخر الثياب، ولبثت هادئة الخاطر، مستقرة النفس، ترقب قدوم رتشارد الجسور.
ولما أن قدم الملك ألفى نفسه وهو في موقف الأمير الذي يدخل إقليما أساء أهله إليه (إلى الأمير)، وهو على ثقة من أن عمله سوف لا يعدو توقيع الملامة وتلقي الخضوع، فإذا به يجد أهل الإقليم - على غير ما كان ينتظر - في أشد حال من المناوأة والعصيان؛ فلقد كانت برنجاريا تعرف حق المعرفة سحر جمالها، ومبلغ حب رتشارد لها، وتحس بالثقة في أنها تستطيع أن تتفق معه على ما يرضيها بعد ما انقشعت عنه ثائرة الغضب المخوفة الأولى دون أن يصدر عنه أذى أو ضرر، وما كان أبعدها عن أن تستمع إلى ما اعتزم الملك من عذل حق عليها لرعونتها في مسلكها، فقد أخذت تلتمس المعاذير عما اتهمت به، بل وتدفع عنه على أنه مزاح لا ضرر منه، وقد أنكرت - وكانت صيغة الإنكار جميلة حقا - أنها بعثت بنكتبانس كي يغري بالفارس إلى أبعد من حافة الجبل الذي وقف حارسا على قمته، وحقا لقد صدقت فيما قالت؛ إذ إنها لم ترد بالسير كنث أن يدخل فسطاطها؛ ولئن كانت الملكة في سياقها لدفعها ذلقة فصيحة، فلقد كانت أفصح وأذلق في اتهامها لرتشارد بالقسوة لضنه عليها بمنحة حقيرة يمنحها إياها، وتلك هي حياة فارس بائس، ساقه إلى خطر القانون العسكري مزاح غير مقصود، ثم بكت ونشجت وبالغت في وصفها لعناد الملك في هذا الأمر، وقالت إن صرامته تهددها بالشقاء في حياتها، كلما فكرت في أنها كانت - على غير قصد منها - الباعث الأول على هذه المأساة، فلسوف ينتابها في أحلامها مرأى الفريسة الصريعة، ولسوف يقف إلى جوار سريرها شبحه بعينه ويحرمها النوم، وما تعرف لهذا من سبب، ولكن هذا هو ما يحدث في غالب الأحيان. ولن تستهدف لهذا الشقاء النفسي إلا من قسوة رجل، بينما هو يزعم أنه يموت هوى في أدنى إشارة منها، لا يتخلى عن نقمته على ذلك الرجل المسكين مهما نجم عن ذلك من شقاء لها.
وصحبت كل هذه الفصاحة النسوية المتدفقة لغة الدموع والحسرات، وكان في حديث الملكة من النغم والحركات ما يدل على أن استياءها لم ينشأ عن كبر أو نزق، وإنما عن شعور انثلم حينما أدركت أن نفوذها على زوجها أضعف مما كانت تظن.
وكان رتشارد الملك الصالح شديد الحيرة والارتباك، وعبثا حاول أن يتفاهم وامرأة أعجزتها غيرتها على محبته عن الإصغاء للحديث, ولم يستطع الملك أن يعمد إلى ما له من نفوذ شرعي يسيطر به على سيدة لها هذا الجمال، وهي في شدة الحزن الذي ليس له ما يبرره، فتراجع إلى حدود الدفاع، وحاول متلطفا أن يعذلها على ريبتها، ويخفف من غلوائها، ويذكرها أن لا حاجة بها إلى ذكر الماضي بالندم أو بالخوف الشديد، ما دام السير كنث ما برح على قيد الحياة وما به من سوء، فقد خلعه الملك على الطبيب النطاسي العربي، وهو رجل - من دون الرجال لا ريب - عرف كيف يحفظ له حياته، ولكن هذه الكلمة الأخيرة كانت أشد كلمات الملك على نفسها وقعا، فتجددت للملكة أحزانها حينما ذكرت أن عربيا طبيبا قد نال هذا العطاء الذي طلبته هي إلى زوجها جاثية على ركبتيها، ورأسها حاسر، ولكن بغير جدوى. وما إن فرغت من هذه التهمة الأخيرة حتى نفد صبر الملك، وقال في نغمة الجد: «أي برنجاريا، اعلمي أن هذا الطبيب قد أنقذ لي حياتي، فإن كان لحياتي في عينيك وزن فلن تضني عليه بجزاء خير من هذا الجزاء الوحيد، الذي استطعت أن أحمله على قبوله.»
وسرت الملكة لبلوغها بر السلامة بعد غضبها ودلالها.
فقالت: «حبيبي رتشارد، لم لم تأت لي بهذا الحكيم، حتى تستطيع ملكة إنجلترا أن تبين له قدره في عينها، وقد أنقذ من الخبو مصباح الفروسية، وفخار إنجلترا، ونور حياة برنجاريا الضعيفة، وأملها ورجاءها؟»
وهكذا انتهى النزاع الزوجي، ولكن الملك والملكة كليهما ارتأيا أن العدالة تتطلب بعض العقاب، واتفقا على صب اللوم بأسره على عاملهما نكتبانس، وكانت الملكة إذ ذاك قد ملت نكات القزم المسكين، فأصدرت مع الملك حكما عليه وعلى حليلته الملكة جنفرا بإبعادهما عن البلاط. وما كان للقزم التعس أن ينجو من الضرب بالسياط، لولا أن الملكة قد أكدت أنه قد نال عقوبته الشخصية من قبل، وكذلك أصدر صاحبا الجلالة إرادتهما بأنه لما كان لا بد من بعث رسول إلى صلاح الدين في وقت قريب لإخطاره باعتزام المجمع على مواصلة العداء بعد انتهاء الهدنة مباشرة. ولما كان رتشارد يفكر في إرسال هدية قيمة للسلطان اعترافا بالجميل الكبير الذي ناله على يدي الحكيم، فإن ذينك الشخصين البائسين ينبغي أن ينضما إلى الهدية طرفتين تصلحان للإهداء من مليك إلى مليك، لما لهما من ظاهر غاية في الغرابة، وعقل موزع شتيت.»
وكان على رتشارد ذلك اليوم أن يكابد مقابلة نسوية أخرى، ولكنه تقدم إليها قليل الاكتراث غير آبه، وذلك لأن أديث وإن كانت جميلة يحلها قريبها الملك محلا رفيعا، بل ولئن كانت قد عانت فعلا من جراء شكوكه الجائرة ذلك الأذى الذي تظاهرت برنجاريا بالشكاية منه، إلا أنها لم تكن لرتشارد زوجا ولا حظية، فكان يخشى عتابها - على ما في عتابها من حق - أقل مما كان يخشى عتاب الملكة، رغم ما فيه من جد وشذوذ. وبعدما طلب الملك أن يتحدث إليها منفردة، سيق إلى غرفتها المتاخمة لحجرة الملكة، وما برح جاريتاها القبطيتان جاثيتين على الركب في أقصى زاوية طوال المقابلة. وكان يستر هذه الفتاة الكريمة النسب حجاب أسود رقيق، تتدلى ثناياه الكثيفة على قدها الفاتن الممشوق، ولم تتحل بأية زينة مما يتجمل به السيدات، وما إن دخل عليها رتشارد حتى نهضت وانحنت إجلالا، ثم عادت إلى مقعدها بعدما أشار إليها بذلك. ولما جلس إلى جوارها لزمت الصمت، ولم تنبس ببنت شفة، حتى يبدأها الحديث بما يريد.
अज्ञात पृष्ठ