فقال عبد الوهاب: لا أبدا، إنما البنت بنت أخيه، وهو معجب بأدبها وخلقها، ومسألة الجمال لا تهمه.
فقال يسري: وما الجمال؟ وما العيب أن تكون زوجتك غنية وغير جميلة؟ ما أكثر الجميلات اللواتي سيكن زوجاتك بأموالها. الفلوس يا حبيبي، الفلوس هي كل شيء، إذا كان معك فلوس فمعك الجمال الذي تريد والمجد والعز والأبهة، والله فلسفتك عميقة يا عبد الوهاب، تزوج يا بني على بركة الله.
وقال صبحي: العقبى لك يا يسري.
فقال يسري: ومن أين آتي بفرصة كفرصة سي عبده؟ إنه غني ويستطيع أن يتزوج الغنية.
وقال صبحي: فرصتك أنت أكبر، أقاربك جميعهم أغنياء، ما عليك إلا أن تضع يدك في وسطهم تخرج بواحدة غنية، وما دمت ترى أن الجمال لا أهمية له فالمسألة أصبحت غاية في السهولة.
وصمت يسري وفكر وأطال التفكير، وانشغل الصاحبان، وران عليهم صمت زاده عمقا الظلام المخيم على القاهرة، فالنور يخرج إلى الشارع متخفيا في حذر، تذوده ألوان زرقاء قاتمة طلي بها زجاج النوافذ والسيارات تمضي واهنة تتحسس طريقها بالعلم لا بالرؤية، فمصابيحها هي أيضا زرقاء داكنة تكاد لا تفيد شيئا إلا أن تنبه المارة أنها تمر. وكان الرفاق قد بلغوا ميدان الأوبرا وليس من دليل أنهم بلغوا إلا أنهم يعرفون أنه هو، فهو هادئ ساكن، شأنه شأن ضاحية في طرف من المدينة قصي، فلا لم يكن ميدان الأوبرا - قلب القاهرة النابض - نابضا في هذه الأيام، إنما هو متسع من الأرض يرين عليه ما يرين على العالم والنفوس من إظلام، وصمت مقبض، وخوف راعد، وجهل للمستقبل، وضيق بالحاضر، وشوق إلى الماضي.
كان بار سبيت فاير شأنه شأن الميدان أجمعه، فهو من الخارج صامت كالح، ينبعث منه بصيص من الضوء يتلصص طريقه إلى الخارج، ولكن ما إن دلف إليه الرفاق الثلاثة حتى وجدوا الحياة تمور في داخله عربيدة تنتقم من الصمت في الخارج، ووجدوا الضياء باهرا ينتقم من الظلام في العالم، والعقول غائبة والأجسام حاضرة تثبت وجودها في إصرار ، في كل نأمة منها، في كل إشارة يشير بها جندي من الجنود المحاربين أو تشير بها فتاة من فتيات البار. أجسام بلا عقول، وضحك بلا تفكير، وحديث بلا منطق إلا الرغبة، حديث أجسام تهتبل من إجازة الساعات فرصة لا يدري أصحابها إن كانت تعود أو لا تعود، أو متى تعود إن هي عادت؟ هم الجنود العائدون من القتل أذاقوه عدوهم ونجوا منه بأعاجيب، ولم تكن عودتهم لأهلهم وذويهم، بل إنهم يجهلون من أمر هؤلاء كل أمرهم، فمن زوج ترك زوجته الشابة، ومن ابن ترك أمه العجوز، لا يدري الزوج كيف تحيا زوجته، ولا يدري الابن أتحيا أمه أم هي فارقت الحياة. عادوا يريدون أن ينسوا الموت جميعه، سواء منه ما جرعوه لعدوهم أو ما تعرضوا هم له وأفلتوا لا يدرون كيف، ويرعبهم أنهم يعلمون أنهم ملاقوه ثانية وثالثة وعشرا. ثم يعجز تفكيرهم، كيف يفلتون من الموت القادم؟ كيف؟ إنهم يريدون أن يحجبوا تفكيرهم عن هذا الطريق، ويريدون أن ينسوا أوطانهم وما فيها، فينكبوا على الخمر، يريدون أن يسكروا ويريدون النساء اللواتي تعرض عليهم، ولا يهمهم في غمرة خوفهم من الماضي والمستقبل أنهم في أرض غير أرضهم، وبين قوم غير قومهم، فقد أصبحوا يرون كل مكان ينزلون فيه مكانهم هم أصحابه بقوتهم وبسلاحهم، وبالحق الذي يفرضونه لأنفسهم على غير المحاربين.
دخل الرفاق الثلاثة البار، ووقفوا بجانب الباب بعض الحين ينفضون المكان بأعينهم، متنقلين في دهشة وبعض خوف بين النساء واحدة بعد الأخرى، فإذا هن جميعا مشغولات عنهم. فراحوا ينقلون أبصارهم مرة أخرى بين المناضد عساهم يجدون واحدة خالية، حتى إذا يئسوا من هذه أيضا تقدمهم يسري في تؤدة وأدب جم إلى البار، واعتلى كرسيا ووقف صاحباه إلى جانبه، وقال عبد الوهاب: ثلاثة ويسكي.
وجاءهم الشراب، فراحوا يشربون وهم سكوت مفكرين خائفين، الصخب من حولهم منصب في قلوبهم رعبا.
وكان إلى جانب يسري من الناحية الأخرى جندي طويل القامة عريض المنكبين، له ذراعان مفتولتان، كل عرق فيهما يمور بالقوة العارمة، وكان أحمر الوجه احمرارا صارخا، لا عن خجل وإنما عن طبيعة زادتها الخمر وضوحا، فهو كالذبيحة بين يدي الجزار يكاد رائيه يظن أن الدماء لن تلبث أن تنبجس من خديه في عنف وانهمار. وكان الجندي يلف ذراعا له حول خصر فتاة لا تكاد تتماسك بين ذراعيه، حتى لخيل ليسري أنها تسيل وتسيل وتوشك أن تصبح مادة بلا قوام، تحتاج إلى وعاء يقيم من أودها أو يبقي على مادتها، وكانت ذراع الجندي الأخرى على البار تمسك بكأس ترفعها بين الحين والحين إلى فمه أو إلى فم فتاته، ولعله كان يخيل إليه من شدة السكر أنه يسقيها وهو يسقي نفسه، أو يخيل إليه أنه يسقي نفسه بينما هو يسقيها.
अज्ञात पृष्ठ