وتطرق الأم وبوادر دمعات تبدو في عينيها وتفيض، وتجاهد لسانها كل جهد لتقول: ما تراه يا ابني.
وما تكاد تقول هذا حتى يقول حامد محاولا أن يبعث إلى نفسها بقية من أمل: على كل حال المسألة لم تتأكد بعد. - ربنا يعمل ما فيه الخير يا ابني. - أين دولت؟ - ذهبت عند خالتك وصفية لتساعدها في خياطة بعض الملابس. - خالتي؟ منذ متى كانت وصفية خالتي؟ - ماذا جرى يا حامد؟ كلامي لم يعد يعجبك، طول عمرك تنادي وصفية بيا خالتي. - كلام فارغ! ولماذا تذهب إليها دولت؟ ألم تجد إلا دولت لتساعدها؟ - وماله يا ابني؟ - النهاية، الغداء جاهز؟ - جاهز يا ابني، دقيقة واحدة حتى أعده لك.
ويدخل حامد إلى حجرته، وما تلبث دولت أن تجيء. فتاة تخطو نحو شبابها الأول، سمحة الملامح، بريئة الوجه، ملفوفة القوم، ريانة العود غضة، ساذجة النظرات ساجية، ذات عينين سوداوين، فيهما حلاوة الشباب الباكر المتطلع إلى المستقبل في تعجل لا ريث فيه ولا مهل، رشيقة الحركة عن طبيعة مواتية في غير كلفة ولا افتعال. وكان وجهها في إشراقه أشبه بالمرآة الصافية لا يخفي نأمة عن نفسها إلا بدت آثارها عليه في وضوح أبين من الكلام. ذات شعر كث غزير ناعم، ولكنها كانت تقيد كثرته العارمة في ضفيرة كبيرة تلفها في إحكام، ثم تغطيه بوشاح تربط عقدته خلف ذقنها، فيزيد ذقنها وضوحا وجمالا. لم يكن في وجه دولت من عيب إلا هذه الأرنبة النافرة في أنفها، ولعل بعض الناس يرون فيها جمالا، أو بلورة لجمال دولت. وقد كانت دولت تحب أخاها حبا عارما، فيه إجلال يستره أن يبين، فقد كان يمثل أمامها العلم والمال والسيطرة، وهي أمور تفقدها جميعا فقدانا تاما. وقد كان كذلك يمثل أمامها حياتها التي تحياها، فقد كانت بغيره خليقة أن تضيع في الزحام وهي بلا سلاح إلا هذه الصبابة الضئيلة التي تصيبها أمها كل شعر كمعاش لأبيها. وهكذا كانت دولت تجد في أخيها كل شيء تفقده كما كانت تجد فيه نفسه كل شيء تملكه.
دلفت دولت إلى البهو فوجدت أمها تضع الأطباق على المائدة، فهمست وكأنها تخفي جرما: هل جاء حامد؟
فأجابتها أمها في صوت متردد بين الهمس والجهر: من زمان.
وعادت دولت تسأل هامسة: أسأل عني؟ - نعم. - وماذا قلت له؟ - الله! ألا ينتهي هذا التحقيق؟ وماذا يمكن أن أقول؟! قلت المكان الذي ذهبت إليه. - هل غضب؟ - وما شأنك أنت ما دمت أنا التي أمرتك أن تذهبي؟ ادخلي هاتي الأكل، بلا مسخرة.
وامتثلت دولت لأمر أمها، وأقبلت الأسرة تأكل صامتة أفواهها، صاخبة عقولها، يضج في داخل كل منهم زحام من الآمال والمخاوف والظنون. فأما رب الأسرة فمفكر في هذا الباب الجديد الذي أومأ إليه صديقه بالديوان العام، يكبر الأمل في نفسه حتى ليكاد يصبح حقيقة مجسمة يعيشها بكاملها، فهو يتخيل نفسه في لندن ذاتها، ويمتد به الخيال ويمتد حتى ليرى نفسه أستاذا في الجامعة يرتدي روبها ويحاضر طلبتها في سمته المترفع ويده في جيبه. وبلا وعي يضع يده في جيبه فتهوى إلى الفضاء، فقد ارتدى الجلباب، ولم يكن للجلباب جيب، فيصحو وقد اضمحل الأمل وذوى حتى ليكاد يضرب عنه صفحا، مكتفيا بأن يصبح مدرسا في المدارس الثانوية. ولكن لماذا يضيع الفرصة؟ ولا يزال بآماله يتأرجح بينها حائرا راغبا حينا في الأمل الكبير من الدكتوراه، راغبا عنه حينا آخر خشية أن يخذله الديوان، وهو مع تفكيره العميق يطحن الأكل طحنا غير شاعر بما يأكل، وإنما هو يحرك فكيه حركة وانية واثقة، وعيناه في شرود، وذهنه يتجول بين لندن والمدارس الثانوية بالقاهرة.
وأما أمه فمفكرة هي أيضا في هذه المشكلة الجديدة التي أضافها ابنها إلى مشكلة زواج دولت، فهي تفكر فيما سيئول إليه حالهما إن سافر ابنها، وكيف تدبر أمرها بالمعاش الضئيل الذي تركه لها زوجها. وحين تضيق بها السبل يذهب بها التفكير إلى ما قد يستدعيه الحال عندئذ من أن تعمل، ثم ما يلبث أن يردها عن هذا التفكير علمها بكبر سنها وجهلها بالعمل خارج بيتها جهلا تاما. وما تلبث أن تدير بذهنها فكرة أخرى، لماذا لا تعمل دولت؟ وتنظر إلى دولت فتجدها ذاهلة هي الأخرى تقلب النظر بين أمها وأخيها وقد ران عليهما هذا الصمت المطبق.
كانت دولت حائرة لا تدري ماذا تقول، فهي إن نظرت إلى أخيها طالعتها منه هذه النظرة الذاهلة تنبعث من عينيه العميقتين وقد ازدادت ملامح وجهه الدقيقة صرامة وقوة. ثم ما تلبث أن تجد أساريره قد استرخت هونا ولكن إلى حين، فما هي إلا خلجة عين حتى تعود إليه الصرامة والإصرار. وهي إن نظرت إلى وجه أمها الذي كسته الأيام ترهلا وطيبة، والذي عرفت فيه الرضا المذعن والاستسلام الهادئ وجدته وقد غشيته كآبة وتفكير، فهي ذاهلة عما حولها، لا تكاد تحس بأحد ولا بشيء. ويصخب عقل دولت حائرا بين الظنون والتخمين، فهي تفكر في أمر وتكاد تؤكد أنه سبب هذا الصمت الذاهل الحيران، ثم ما تلبث أن تنفيه لتفكر في سبب آخر ما يلبث أن يتداعى كسابقه، وهي حائرة لا تدري ماذا تقول أو تفعل إلا أن تلوك الطعام كما يفعل أخوها وكما تفعل أمها، غير دارية من أمرهما أمرا. ولا يزال ثلاثتهم في شرودهم هذا الذاهل حتى ينتهوا من طعامهم صامتين. ويقوم حامد إلى حجرته شأنه كل يوم، وإن كان في يومه هذا قد عزم على أن يستبدل بالنوم كتابة مذكرة بحالته لتقدم إلى مراقبة البعثات.
وتذهب الأم إلى الشباك تطل منه على الحارة، بينما تقوم دولت بتنظيف المائدة.
अज्ञात पृष्ठ