The Refined in Comparative Jurisprudence
المهذب في علم أصول الفقه المقارن
शैलियों
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ
(تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)
المؤلف: د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة الأولى: ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
عدد الأجزاء: ٥
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
تنبيه:
توجد بالنسخة الورقية للكتاب أخطاء وتصحيفات في الآيات القرآنية فاقت الحصر قمت بتصويبها بحمد الله وتوفيقه، وأرجو ممن له صلة بدار نشر هذا الكتاب أن يتكرم بمراسلتهم لتصويب الآيات الكريمة.
وفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
المقدمة / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكرًا
يوافي نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، ﷾ لا أحصي
ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، مبدع البدائع، وشارع الشرائع.
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة أرجو أن يكفر
بها عنا سيئات أعمالنا، ويرفع بها درجاتنا، وينجينا بها من صغير
الموبقات وكبيرها.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الأنبياء
والمرسلين، العبد المرتضى، والنبي المجتبى، والرسول المصطفى،
المرسل بالبراهين الساطعة، والآيات الدامغة، والبينات الواضحة
صلى اللَّه عليه، وعلى آله وسلم تسليما كثيرًا، ورضي اللَّه عن
صحبه الهداة الأعلام الذين بذلوا النفس والنفيس، لإعلاء كلمة اللَّه.
أما بعد: فإن أقوى المهمات بعد الإيمان بالله: طلب العلم،
حيث إن العلم ميراث النبوة كما قال ﷺ: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ".
وقوله ﷺ: "العلماء ورثة الأنبياء "، ومما يؤكد ذلك أنه سبحانه
قد جعل العلماء في درجة الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه، فقال
سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مهه، فإنه هنا قد جعل
ولاية الإنذار والدعوة للفقهاء، وهذه درجة الأنبياء قد تركوها ميراثا
للعلماء.
والعلم علمان: " علم التوحيد "، و" علم الفقه ".
أما علم التوحيد فالأصل فيه التمسك بما جاء في الكتاب والسُّنَّة
المقدمة / 7
ومجانبة الهوى والبدع، كما كان عليه الصحابة ﵃
والتابعون والسلف الصالح.
أما علم الفقه: فهو الخير الكثير، وهو الحكمة التي ذكرها الله
تعالى بقوله: (من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا)،
وروي عن ابن عباس ﵄ أنه قال: " الحكمة: معرفة
الأحكام من الحلال والحرام ".
فدرجة العلم هي النهاية في القوة والخيرية، وهو ما أراده الرسول
ﷺ بقوله: " من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين "، وقوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".
لذلك تجد الصحابة ﵃ قد حرصوا على طلب
العلم لما علموا درجته العليا ومنزلته الكبرى، وقصصهم في طلبه
والحرص عليه لا تخفى على ذي لب، لا سيما حرص ابن عباس
وابن عمر وغيرهما.
وعلم الفقه - وهو: معرفة الحلال والحرام من الأحكام -
لا يمكن إلا بعد معرفة أدلة الأحكام، ومعرفة أدلة الأحكام وما يتعلق
بها هو علم أصول الفقه، فيكون علم أصول الفقه هو أصل لذلك
الخير الموجود في الفقه.
فبفضله - أي: علم أصول الفقه - يتعلم الفقيه المناهج والأسس
والطرق التي يستطيع عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث
المتجددة.
وبفضله - أيضًا - يعرف المكلَّف العلَل والحِكَم التي من أجلها
شرعت الأحكام الشرعية؛ ليعبد اللَّه تعالى على بصيرة.
المقدمة / 8
وبفضله - أيضًا - يستطيع طالب العلم تخريج المسائل والفروع
على قواعد إمامه.
وبفضله - أيضًا - يستطيع الداعية إلى اللَّه تعالئ: أن يدعو إلى الله
وإلى دينه بناء على أسس ومناهج وطرق يستطيع بها أن يقنع الآخرين.
وبفضله - أيضًا - يستطيع أن يبين لأعداء الإسلام: أن الإسلام
صالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يوجد أي حادثة إلا ولها حكم
شرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أن
الإسلام قاصر وعاجز عن حل القضايا المتجددة، قاتل اللَّه من قال
ذلك، ولعن من نصر هذا القول وأبعده من رحمته.
وبفضله - أيضًا - يستطيع أن يفسر الشخص القرآن، ويشرح
الأحاديث، خيث إنه لا يمكنه معرفة دلالة النصوص، وكونها دلَّت
بالمنطوق أو المفهوم، أو الإشارة، أو العبارة، أو الاقتضاء، أو
الإيماء إلا بمعرفة أصول الفقه.
وبفضله - أيضًا - يعرف من يريد كتابة أي بحث من البحوث
العلمية كيفية كتابة ذلك البحث؛ حيث إن علم أصول الفقه قد جمع
بين النقل والعقل، فمن تعمق فيه: عرف طريقة إيراد المسألة،
وتصويرها؛ والاستدلال عليها، وطريقة الاعتراض، والجواب،
والمناقشة بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها في
غير هذا العلم.
فالمتعلم لهذا العلم - وهو أصول الفقه - والمدقق فيه يدرك من
المنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لا
يحصى.
المقدمة / 9
فيكون هذا العلم أجل العلوم قدرًا، وأعظمها نفعًا، وأعمها
فائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفًا، وأميزها ذكرًا، وذلك لما
يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد.
ومع هذا النفع، وعلو المرتبة والرفعة، والأهمية لهذا العلم قد
ترك تعلمه كثير من طلاب العلم؛ لأسباب كثيرة، وقد يكون من
أهمها: عدم معرفتهم لهذا الفضل والنفع العظيم لهذا العلم.
ومنها: عدم فهمهم لهذا العلم، بسبب صعوبة عباراته، وقلة
تطبيقاته، وأمثلته الفرعية.
ومنها: عدم إدراكهم للغرض والقصد الذي من أجله يُدرَس هذا
العلم.
فسألني بعض طلاب العلم أن أضع كتابًا أجمع فيه جميع مسائل
أصول الفقه مع شرحها، وبيانها، والاهتمام بتصويرها بالأمثلة
بأسلوب عصري مفهوم، دون تعصب لمذهب أو رأي معين،
فأجبتهم على ذلك، امتثالًا لأمر اللَّه تعالى بالتبيين للناس، وكشف
الشبه والإلباس، ونظرًا لشوقي لتحصيل الفضائل والتجنب عن
الرذائل، ورغبة في الأجر، والمثوبة.
ومما جعلني أقوم بهذا المصنف - أيضًا - ما يلي:
أولًا: تيسير وتسهيل علم أصول الفقه لهؤلاء الطلاب، ولغيرهم
بأسلوب عصري مفهوم.
ثانيًا: تكثير طرق الخير ونشره، لأنه كلما كثر التأليف كثرت
طرق تعلمه.
ثالثًا: تكثير المتعلمين والطالبين، فإن لكل جديد لذة.
المقدمة / 10
رابعًا: التشبه بالسلف الصالح، وهم الراسخون بالعلم؛ حيث
روى ابن عمر ﵄ أن النبي ﷺ قال: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد اللَّه وحده لا شريك له، واجعل رزقي تحت ظل رمحي، واجعل الذل والصغار على من خالف
أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ".
فلهذه الأسباب ولغيرها قمت بتأليف هذا الكتاب، وجعلته ميسرًا
جامعًا، نقَّحت وهذَّبت فيه كثيرًا من كلام علماء الأصول في كتبهم.
وجعلته في سبعة أبواب هي كما يلي:
الباب الأول: في المقدمات.
الباب الثاني: في الحكم الشرعي والتكليف به.
الباب الثالث: في أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الرابع: في الألفاظ ودلالتها على الأحكام.
الباب الخامس: في القياس.
الباب السادس: في الاجتهاد والتقليد.
الباب السابع: في التعارض والجمع والترجيح.
وقد تكلمت في هذا الكتاب سالكًا المنهج الآتي:
أولًا: جمعت كل مسائل أصول الفقه، فلم أترك أيَّ مسألة فيها
فائدة لطالب العلم إلا وذكرتها في هذا الكتاب.
ثانيا: هذَّبت هذه المسائل ورتبتها ونظمتها ونقحتها وانتقيتها
فجعلت هذا الكتاب يتكون من سبعة أبواب، وكل باب يتكون من
عدة فصول، وكل فصل يتكون من عدة مباحث، وكل مبحث
المقدمة / 11
يتكون من عدة مطالب، وكل مطلب يتكون من عدة مسائل، وكل
مسألة تتكون من عدة نقاط؛ تسهيلًا لطالب العلم؛ حيث إنه لا
فائدة من كتاب لم يرتب وينظم.
ثالثًا: لا أقتصر بذكر المسألة فقط، بل أقوم بشرحها وتصوير
المراد منها، وبيان الجزئية التي اختلف العلماء حولها.
رابعًا: أذكر المذاهب في المسألة، بادئًا بالمذهب الراجح عندي،
وذكر الأدلة على ذلك، وأذكر ما وجه إلى كل دليل من اعتراضات
- إن وجدت - ثم أجيب عن كل اعتراض بعد ذكره مباشرة، ثم
أذكر المذاهب الأخرى، مع أدلة كل مذهب، وأجيب عن كل دليل
بعد ذكره مباشرة.
خامسًا: إذا انتهيت من ذكر المذاهب في المسألة الواحدة، أذكر
نوع الخلاف فيها: هل هو خلاف لفظي، أو معنوي؟
فإن كان لفظيًا أبين دليل ذلك، وإن كان معنويًا أبين دليل ذلك،
مع ذكر بعض الآثار لهذا الخلاف، وإن كان الخلاف قد اختلف فيه
فقال بعض العلماء: إنه لفظي، وقال آخرون: إنه معنوي، أذكر
القولين، مع دليل كل منهما، ثم أبين ما هو الراجح عندي، مع
الجواب عن القول المرجوح.
سادسًا: أُعرِّف المصطلحات الأصولية تعريفًا لغويًا، وتعريفًا
اصطلاحيًا، ذاكرًا في ذلك أقرب التعريفات إلى الصواب.
سابعًا: أذكر أهم الأدلة للمذهب المختار، وإذا وجدت بعض
الاعتراضات على بعض الأدلة: أذكر أقواها، ثم أذكر أهم الأجوبة
عن كل اعتراض وأقواها، وكذلك أذكر أهم وأقوى أدلة المذهب
المخالف، وأهم الأجوبة عنها.
المقدمة / 12
ثامنًا: قمت بالتحقق من نسبة الأقوال والمذاهب والآراء.
تاسعًا: أستدل على إثبات القواعد الأصولية بإجماع الصحابة،
فإن لم أجد: أستدل بالنصوص من الكتاب والسُّنَّة - هذا غالبًا،
وفي بعض القواعد الأصولية أستدل بالنص قبل إجماع الصحابة -
فإن لم أجد إجماعا ولا نصًا: فإني أستدل بمعقول النصوص، فإن
لم أجد: فإني أستدل بالقياس، فإن لم أجد: فإني أستدل بالأدلة
الصحيحة الأخرى عندي دون تعصب لمذهب معين.
عاشرًا: قد أطلت بشرح وبيان بعض المسائل والقواعد، والأدلة؟
نظرًا لأهميتها، وحاجة الطلاب إلى بيانها.
حادي عشر: ترجمت كلام علماء السلف في أصول الفقه
وجعلته في هذا الكتاب بأسلوب عصري مفهوم.
ثاني عشر: رجعت في وضع هذا الكتاب إلى أهم كتب أصول
الفقه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، سواء كانت
قديمة أم حديثة.
ثالث عشر: قد نهجت في هذا الكتاب بالمنهج الوسط، دون
التطويل الممل، أو الاقتصار المجحف المخل.
هذا وقد سميته: " المهذَّب في علم أصول الفقه المقارن - تحرير
لمسائله، ودراستها دراسة نظرية تطبيقية ".
حيث إني قد هذبت فيه مسائل أصول الفقه، وانتقيتها، وخلصتها
من كل ما علق بها مما لا يفيد طالب العلم، وعالجتها معالجة تذهب
صعوبتها من نفوس الطلاب إن شاء اللَّه، بحيث يستطيع كل طالب
فهمها بيسر وسهولة، وهذا هو أصل التهذيب، وهو - كما ورد في
المقدمة / 13
لسان العرب -: تنقية الحنظل من شحمه، ومعالجة حبه حتى
تذهب مرارته، ويطيب لآكله.
أرجو أن يكون كما سميته.
وأخيرًا: فإن هذا هو جهد من هو معرض للخطأ والصواب:
فإن وفقت فمن اللَّه تعالى، وإن كانت الأخرى فمن نفسي ومن
الشيطان، وأستغفر اللَّه.
وأيضًا: أنا لا أدعي أني أصبت في كل ما كتبت؛ لأني أقطع
ويقطع غيري بأن أي مصنِّف وكاتب مهما بلغ من القدرة والجهد الذي
بذله فيما كتب لا بد أن يكون في عمله نقص، وذلك لأن النقص
والخطأ والسهو من طبيعة البشر، حيث إن الكمال لله وحده
لا شريك له.
ولكن يكفيني أني لم أقصد بهذا المصنَّف إلا نفع طلاب العلم
وإعانتهم على فهم مسائل أصول الفقه.
وأسأله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، وقارئه والناظر فيه،
وجميع المسلمين بمنِّه وكرمه، وأن يجعل عملنا في هذا المؤلَّف وفي
غيره صالحًا لوجهه خالصًا، ويجعل سعينَا مقرِّبًا إليه، مبلِّغًا إلى
رضوانه، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
أ. د / عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
الأستاذ بقسم أصول الفقه، بكلية الشريعة بالرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
المقدمة / 14
الباب الأول في المقدمات
ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه.
الفصل الثاني: مقدمة في المصطلحات التي يحتاج
إليها دارس علم أصول الفقه.
1 / 5
الفصل الأول في مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف أصول الفقه.
المبحث الثاني: الفرق بين أصول الفقه والفقه.
المبحث الثالث: الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية.
المبحث الرابع: في موضوع أصول الفقه.
المبحث الخامس: في حكم تعلم أصول الفقه.
المبحث السادس: في فوائد علم أصول الفقه.
المبحث السابع: الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها.
المبحث الثامن: هل يقدم تعلم أصول الفقه أو تعلم الفقه؟
المبحث التاسع: بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه.
المبحث العاشر: نشأة علم أصول الفقه.
المبحث الحادي عشر: طرق التأليف في علم أصول الفقه، وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة.
1 / 7
المبحث الأول في تعريف أصول الفقه
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف أصول.
المطلب الثاني: تعريف الفقه.
المطلب الثالث: تعريف أصول الفقه.
1 / 9
المطلب الأول في تعريف الأصول
أولا - تعريف الأصول لغة:
الأصول: جمع أصل، والأصل في اللغة يطلق على إطلاقات
كثيرة، من أهمها:
الإطلاق الأول: أنه يطلق على ما يبتني عليه غيره، ذهب إلى ذلك
كثير من الأصوليين، كأبي الخطاب، وأبي الحسين البصري،
والإيجي، والشوكاني.
وهو الصحيح عندي، لأمور ثلاثة:
أولها: أن الأصل - في حقيقته اللغوية - هو: أسفل الشيء،
وأساسه، ولا شك أن أسفل الشيء، وأساسه هو الذي يعتمد عليه
في البناء.
ثانيها: شموله وعمومه لكل ما ذكره العلماء من تعريفات.
ثالثها: أنه موافق لتعريف الأصل في الاصطلاح؛ حيث إنه
الدليل، والدليل يعتمد عليه الحكم، ويبنى عليه؛ إذ لا حكم بلا
دليل يعتمد عليه.
الإطلاق الثاني: أن الأصل: ما منه الشيء، ذهب إلى ذلك تاج
الدين الأرموي، وصفي الدين الهندي.
1 / 11
الإطلاق الثالث: الأصل: ما يتفرع عنه غيره، وهو مذهب
القفال الشاشي.
الإطلاق الرابع: الأصل هو: المحتاج إليه، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وسراج الدين الأرموي.
الإطلاق الخامس: الأصل هو: ما يستند ذلك الشيء إليه، وهو
ما ذهب إليه الآمدي.
وهذه التعريفات - عند التحقيق - لا تعارض بينها؛ حيث إن
بعض العلماء عرفوا الأصل بتعريف عام وشامل كالإطلاق الأول،
والبعض الآخر عرَّفوا الأصل بتعريف خاص وبمعنى جزئي، فمن
الممكن أن تدخل الجزئيات ضمن التعريفات ذات المعنى الشمولي؛ الهدف هو: تعريف الأصل بمعناه الشامل الذي تدخل فيه كل
الجزئيات، لذلك رجحت الإطلاق الأول للأصل، وهو: أن
الأصل: ما يبتني عليه غيره.
اعتراض على ذلك:
اعترض بعضهم قائلًا: إنه معروف أن الوالد أصل للولد، ولكن
لا يقال: " الولد بني على الوالد "، بل الذي يقال: " إنه فرعه "،
ولو كان الأصل يطلق لغة على ما يبنى عليه غيره لما امتنع ذلك.
جوابه:
نقول في الجواب عنه: إنه لا مانع لغة من أن يقال: إن الولد بني
على الوالد إذا لاحظنا المعنى وهو: أن الولد أساسه الوالد، وهو
أصله.
1 / 12
ثانيًا - تعريف الأصول اصطلاحا:
الأصل في الاصطلاح يطلق على معان، من أهمها:
أولها: أن الأصل: الدليل. كقولنا: " الأصل في التيمم:
الكتاب، والأصل في المسح على الخفين: السُّنَّة " أي: دليل ثبوت
التيمم من الكتاب، ودليل ثبوت المسح من السُّنَّة.
وهو: المراد من الأصل في علم أصول الفقه عندي؛ لمناسبته
وموافقته لما قلناه من أن الأصل لغة يطلق على ما يبتني عليه غيره،
فالدليل يبنى عليه الحكم، فأصول الفقه: أدلته.
والدليل عام وشامل لجميع الأدلة المتفق عليها، والأدلة المختلف
فيها، والقواعد الأصولية مثل: " العبرة بعموم اللفظ "، و" أن
الأمر المطلق للوجوب "، و" النهي المطلق للتحريم ".
اعتراض على ذلك:
قال بعضهم: لا نُسَلِّمُ أنه يطلق على القواعد الأصولية أدلة،
لذلك قال: أحسن عبارة في تعريف الأصل في الاصطلاح هي:
"ما يبتني عليه غيره "، حتى تدخل الأدلة والقواعد، حيث تبنى على
هذه الأدلة وتلك القواعد الأحكام، فيكون تعريفه اصطلاحًا هو
تعريفه لغة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا داعي لهذا التكلُّف، لأنه
يطلق على القواعد أدلة، وهذا ما ثبت بالاستقراء والتتبع لكتب
الفقه؛ حيث إن الفقهاء يستدلون بالقواعد الأصولية، ويسمون تلك
القواعد أدلة.
1 / 13
ثانيها: يطلق الأصل ويراد به القاعدة الكلية المستمرة بقولهم:
"تحمل العاقلة للدية خلاف الأصل "، و" الأصل أن النص مقدم
على الظاهر "، و" الأصل: أن العموم يعمل بعمومه حتى يرد ما
يخصصه ".
ثالثها: يطلق الأصل ويراد به الرجحان كقولهم: " الأصل في
الكلام الحقيقة " أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي، دون
المعنى المجازي.
رابعها: يطلق الأصل ويراد به المستصحب كقولهم: " الأصل في
الأشياء الإباحة "، أي: نستصحب الإباحة الثابتة في الأشياء حتى
يأتي ما يحرم، وقولهم: " الأصل في الإنسان البراءة " أي: أن
الإنسان بريء حتى تثبت إدانته بدليل.
1 / 14
المطلب الثاني في تعريف الفقه
أولًا - تعريف الفقه لغة:
عرف الفقه لغة بعدَّة تعريفات، من أهمها:
الأول: الفقه هو: الفهم مطلقًا.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والباجي، وابن
عقيل، والإسنوي، وصفي الدين الهندي، والشوكاني.
وهو الصحيح عندي؛ لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوص
الشرعية أن لفظ " الفقه " ورد بمعنى الفهم من ذلك: قوله تعالى:
(فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا) أي: لا يكادون
يفهمون.
ومن ذلك قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)
أي: يفهموا قولي.
ومنه قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول) أي:
ما نفهم كثيرًا من قولك، ومنه قوله ﵊: " نضَّر
الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما وعاها، فرب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه ".
وقلنا: الفهم مطلقًا أي: سواء كان عالِمًا أو لا، وسواء فهم
1 / 15
الغرض من خطاب الشخص، أو فعله، أو إشارته، أو إيمائه، أو
غير ذلك.
الثاني: أن الفقه لغة هو: العلم، أي: إذا كان الشخص عالماَ
بأشياء لا يعلمها غيره من الناس فهو الفقيه، وإن لم يفهم ما يعلمه،
ذهب إلى ذلك ابن فارس في " المجمل "، وإمام الحرمين في
"البرهان "، وأبو يعلى في " العدة "، والكيا الهراسي.
الثالث: الفقه لغة هو: العلم والفهم معًا، يقال: فلان يفقه
الخير والشر، و" يفقه الكلام " أي: يعلمه ويفهمه، ذهب إلى
ذلك الغزالي في " المستصفى "، والآمدي فى " منتهى السول "،
وابن سيده في " المحكم ".
الجواب عنهما:
أقول - في الجواب عنهما -: إن هذين التعريفين يدخلان ضمن
التعريف الأول " حيث إن المراد بالفهم مطلقًا هو: معرفة الشيء،
ومعرفة الشيء بالقلب هو: العلم به.
الرابع: الفقه لغة هو: إدراك الأشياء الدقيقة.
ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، يقال:
" فقهت كلامك " أي: أدركت دقائقه، ويقال: " فلان فقيه في
الخير وفقيه في الشر " إذا كان يدقق النظر في ذلك، لكن لا يقال:
" فقهت أن السماء فوقي والأرض تحتي، وأن الماء رطب، والتراب
يابس ".
وكان الشعراء يُسمَّون في الجاهلية فقهاء " لإدراكهم المعاني الدقيقة
في أشعارهم، وتعبيرهم بها.
1 / 16
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا من تعريفات الفقه اصطلاحًا؟
وذلك لأنه لم يرد في كلام أهل اللغة.
وإذا كان هذا من تعريفات الفقه اصطلاحا، فإنه تعريف ضعيف؟
لأنه يفضي ويؤدي إلى أن من علم الأشياء الظاهرة مثل ما علم من
الدين بالضرورة، ككون الصلاة واجبة، والزنا حرام، ونحو ذلك
من الأحكام الفقهية لا يُسمى فقيهًا. وليس كذلك؛ حيث إن كل
عالم بالأحكام عامة عن طريق الاستنباط يُسمَّى فقيهًا - وسيأتي بيان
هذَا إن شاء اللَّه.
الخامس: الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه.
ذهب إلى ذلك أبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدين
الرازي في " المحصول ".
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا التعريف للفقه بعيد؛ لأمرين:
أولهما: أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة؛ حيث إنه نقل عنهم:
أن الفقه هو مطلق الفهم.
ثانيهما: أن ما قيل في هذا التعريف هو تقييد للمطلق،
وتخصيص للعام بدون مقيد، وبدون مخصص.
ثانيا - تعريف الفقه اصطلاحًا:
١ - الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: حفظ طائفة من مسائل
الأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وما استنبط
منهما، سواء كان قد حفظها مع أدلتها، أو مجردًا عنها.
1 / 17
أو تقول: إن الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: مجموع الأحكام
والمسائل التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون، أو أفتى
بها أهل الفتوى، أو توصل إليها أهل التخريج، وبعض ما يحتاج
إليه من مسائل الحساب التي ألحقت بالوصايا والمواريث.
فاسم الفقيه عند الفقهاء لا يختص بالمجتهد - كما هو عند
الأصوليين - بل يشمله ويشمل غيره من المشتغلين في هذه المسائل.
٢ - أما الفقه في اصطلاح الأصوليين فهو: " العلم بالأحكام
الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية ".
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " العلم " هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن.
أي: مطلق إدراك الحكم، سواء كان عن دليل قطعي، أو عن
دليل ظني راجح، فيكون المراد بالعلم هو: ما علمناه بالشرع إما
بيقين أو غالب الظن.
هذا هو القول الحق " لأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي،
ومنها ما هو ظني، فحمل الفقه على واحد منهما ليس بسديد.
والمقصود بالظن - هنا - هو ظن المجتهد الذي توفرت فيه شروط
الاجتهاد، وليس ظن كل أحد من العوام، أو طلاب العلم الذين
لم يبلغوا درجة الاجتهاد.
وبقولنا: إن العلم هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن،
نسلم من اعتراض أبي بكر الباقلاني المشهور وهو: أنه قال: إنكم
عرفتم الفقه بأنه " العلم بالأحكام.. "، والعلم معناه: الإدراك
الجازم المطابق للواقع عن دليل قطعي؛ الأحكام الفقهية لم تثبت
1 / 18