The Great News
النبأ العظيم
प्रकाशक
دار القلم للنشر والتوزيع
संस्करण संख्या
طبعة مزيدة ومحققة ١٤٢٦هـ
प्रकाशन वर्ष
٢٠٠٥م
शैलियों
ـ[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم]ـ
المؤلف: محمد بن عبد الله دراز (المتوفى: ١٣٧٧هـ)
اعتنى به: أحمد مصطفى فضلية
قدم له: أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني
الناشر: دار القلم للنشر والتوزيع
الطبعة: طبعة مزيدة ومحققة ١٤٢٦هـ- ٢٠٠٥م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]
_________
(تنبيه): الكتاب مرتبط بنسخة مصورة مخالفة في الترقيم، وهي الطبعة التي اعتنى بها وخرج أحاديثها عبد الحميد الدخاخني (دار طيبة للنشر والتوزيع)
अज्ञात पृष्ठ
مقدمات
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم كتاب النبأ العظيم [[بقلم: أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني]]
الأستاذ الدكتور/ محمد عبد لله دراز، أحد أعلام الأزهر بوجه خاص، وعلماء الإسلام بوجه عام، في القرن الماضي.
هو عالم فذ، وداع ملهم، جمع بين العلم والعمل، وكان قلمه في مجال الكلمة يقوم بمهمات جيش عرمرم في مجال الجهاد، تثبيتًا للحق، ونصرة للدين على الصعيدين: القومي والدولي.
وقد عاش حياته، منذ أن كان طالبًا للعلم في المرحلة الثانوية الأزهرية، مدافعًا عن الإسلام في كل الميادين بما آتاه الله من قلب صاف وعقل وقَّاد، ولسان زرب، وعلم واسع، فدبج المقالات، وكتب الكتب، وأذاع الأحاديث، وشارك في الكثير من المؤتمرات العالمية، وتصدى لكل ما كان يثار في حياته عن الإسلام، وما أعجزته فرية على الإسلام ردها، ولا شبهة ظالمة نقدها، ولا مشكلة عويصة فندها.
وظل على هذه الحال حتى آخر لحظة من حياته الحافلة بالنضال المر، والكفاح الشاق، حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها غريبًا عن وطنه، وهو يمثل الأزهر في مؤتمر دولي عام، في لاهور عام (١٣٧٧هـ، ١٩٥٨م) .
وبعد أن عاد جثمانه الطاهر إلى أرض الكنانة مصر -رعاها الله- على متن طائرة، شيعت جنازته بعد أن صلي عليه في "الجامع الأزهر"، وكان في مقدمة مشيعيه علماء الأزهر، ومعاهده وكلياته، وعارفو فضله من الشعب المصري، وكبار الشخصيات من
1 / 5
مصر، ومن العالم الإسلامي.
وإن أنسَ فلا أنسى جلال الموكب المهيب لمشيعي جنازته، حتى يخيل إليك أن كل فرد في القاهرة ليشترك في تشييعه، وتعطلت حركة المرور من الأزهر إلى أرض المدفن، وحين وصول أوائل مشيعيه إلى أرض المدفن كان آخرهم يبدأ سيره من ساحة الجامع الأزهر متجهًا إلى أرض المدفن.
وبعد دفنه نعاه الشيخ محمود شلتوت -شيخ الأزهر الأسبق- بكلمة، كان مما جاء فيها كما وعتها الذاكرة عنه سماعًا مباشرًا: "لقد مات مشعل النور، الذي أطفأ مشاعل الجهل". رحمهما الله جميعًا، ورحم معهما صالحي المؤمنين.
وللشيخ دراز كتب كثيرة كلها في نصرة الإسلام، وبيان محاسنه ومزاياه في كل مناحي الحياة وأصول العلم والمعرفة وفروعها.
وكتابه "النبأ العظيم" واحد مما دبجه قلمه القدير وأفرزته قريحته الصافية. وهو موقوف على بيان وجوه جديدة من وجوه "الإعجاز القرآني البياني واللغوي والعقلي". وما ورد في هذا الكتاب من إعجاز القرآن، وإثبات أنه كلام الله لو لم يكن في موضوع الإعجاز كتاب غيره، لا سابق عليه، ولا لاحق له، لكان كتابه كافيًا في هذا المجال الحيوي، ولقامت به الحجة لله قوية على منكري سماوية القرآن من قدامى ومحدَثين، فقد أثبت ﵀ أن هذا القرآن يستحيل عقلًا وعلمًا وواقعًا أن يكون له مصدر غير الله ﷿.
هذا الفرع بدأ به الشيخ محمد عبد الله دراز ﵀ فصول كتابه، وكتب فيه ما يزيد على المائة صفحة مواجهًا بهذه الحقيقة القوى المدركة عند الإنسان، مسلمًا أو غير مسلم، ممن له عقل وفهم، ولا شيء غير العقل والفهم.
1 / 6
وسوف يلمس القارئ بنفسه كيف قذف الشيخ دراز بهذه "الحقيقة" في العقول والقلوب، وقطع كل الأعذار أمام المشككين، ومن ادعوا جهلًا وحماقةً وعنادًا، أن القرآن "بشري المصدر" كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبًا.
إن مهمة الدعاة -ومنهم الرسل- أن يبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، وأن يقيموا الحجة، لكن على الناس؛ ليؤمن من يؤمن على بينة، ويكفر من يكفر وهو شاهد على نفسه بالعناد والمكابرة، وهذا هو الذي قام به أستاذنا محمد عبد الله دراز بالنسبة لـ"سماوية القرآن"، فقد جلاها أمام العقل والقلب حتى لكأن من ينكرها ينكر نفسه وهو في هذا الموقف. وكفى بمن ينكر وجود نفسه رعونة وجهلًا وحماقةً وتخريفًا.
وبعد فراغه من إثبات هذه الحقيقة بكل وسائل القوة والإقناع، أخذ يتحدث عن مواضع حافلة بدلائل الإعجاز، منها ما يعم القرآن كله، ومنها مواقف فردة فذة، فأقنع وأمتع، وطلع على الباحثين في الإعجاز القرآني من حيث لا يعهدون ولا يعرفون.
ومن ذلك ما وسم به الأسلوب القرآني المعجز كله من هذه الخصائص البيانية المعجزة، التي لم تعرف في كلام سواه:
- خطاب العامة وخطاب الخاصة.
- القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى.
- البيان والإجمال.
يقصد الشيخ أن القرآن بجمع بين الأغراض التي هي عند الناس على طرفي نقيض، لكنك ترى القرآن يجمع بينها في تآلف وتآزر فيخاطب الخاصة بخطاب العامة، والعامة بخطاب الخاصة، ويقنع العقل ويمتع العاطفة في عبارة واحدة، ويجمل ويبين، ويوجز مع الوفاء بحق المعنى، وهذا غير معهود في كلام البشر مهما كان نصيبه من الفصاحة
1 / 7
والبلاغة والروعة.
ثم تراه يثبت بكل جدارة أن من سمات الإعجاز في النظم القرآني بأنه كله "إيجاز" لا إطناب فيه ولا مساواة؛ كما يقول جمهور البلاغيين والنقاد والأدباء واللغويين.
وفي تقرير هذه الحقيقة "الجديدة" يقول شيخنا الجليل:
"القرآن إيجاز كله، يستوي في ذلك مواضع الإطناب والإيجاز والمساواة التي أطبق علماء البلاغة على تقسيم الكلام إليها.
وأن ما من عبارة في القرآن توسم بالإطناب، أو الإيجاز أو المساواة إلا وهي في حاجة إلى بسط أكثر مما هي عليه".
وهذا الرأي ينفرد به أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز وحده بين سلف الأمة وخلفها، وقد ساق نماذج كثيرة على توضيح هذا الرأي.
ثم ينتقل إلى بيان وجه جديد من وجوه الإعجاز القرآني وهو "الإيقاع الصوتي" ويضع بين يدي القراء تجارب سهلة يمكن أن يقوم بها كل سامع للقرآن وهو يتلى.
وهذه التجارب -كما عرضها الشيخ الملهم- أن تستمع للقرآن وهو يتلى، وبينك وبين من يتلو القرآن تلاوة جيدة مسافة مكانية، بحيث لا تسمع إلا الصوت يتردد في الفضاء، دون أن تميز بين الكلمات مفردة، ولا التراكيب، وإنما تسمع ذبذبات الصوت مجملة.
يقول الشيخ: إنك إذا فعلت ذلك سمعت إيقاعًا صوتيًّا عجيبًا غريبًا، يترك آثارًا في وجدان السامع لا عهد له به، ولا يمكن صدور هذا الإيقاع الصوتي الذي يسميه
1 / 8
الشيخ دراز بـ"القشرة السطحية" لا يمكن حدوثه عن كلام آخر من غير القرآن.
فهذا -إذن- وجه جديد يعرضه شيخنا في كتابه الرائع "النبأ العظيم" أو "نظرات جديدة في القرآن الكريم".
ويمكن إجراء هذه التجارب الآن بالاستماع إلى القرآن من "الحاكي" أو المسجل بالشروط التي وصفها الشيخ ﵀.
ومن النقاط الجديرة بالاهتمام التي لا تراها إلا في "النبأ العظيم"، ما شاع في كتب التفسير واللغة من وجود حروف أو أدوات أو كلمات زائدة في النظم القرآني.
فقد رفض الشيخ -وهو محق- التسليم بوجود أي حرف أو أداة أو كلمة زائدة في القرآن ليس لها معنًى تؤديه.
وضرب لذلك مثلًا بقوله تعالى في سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي لمثل الله، وذكر أن فيها مذهبين:
الأول: القول بأنها زائدة لا معنى لها، وأن الأصل أن يقال: "ليس مثله شيئًا"؛ لأن الكاف بمعنى "مثل"، فلو سلمنا بأنها غير زائدة لكان المعنى: "ليس مثل مثله شيئًا"، ويكون في هذا إثبات المثلية لله، وهذا ينافي عقيدة التوحيد.
الثاني: فريق يدافع عن وجود "الكاف" وينفي عنها الاتمامات التي توجه إليها.
ولم يرتضِ شيخنا لا هذا ولا ذاك، فلم يسلم بأن "الكاف" زائدة أصلًا، ولم يسلم بأن هذه "الكاف" متهمة يحسن الدفاع عنها، بل أثبت لهذه "الكاف" مزايا بيانية ولمحات "عقدية" ما كانت لتفاد إلا من ورود "الكاف". وسف يمتِّع القارئ نفسه، ويقنع عقله، وينير قلبه حين يطالع ما كتبه الشيخ دراز في هذا المقام.
1 / 9
ومما ينبغي أن نلفت ذهن القارئ إليه مهارة الشيخ دراز وثقوب عقله، وحدة ذكائه في إبراز أخفى وأدق أسرار البيان القرآني المعجز في آية من كتاب الله كنموذج يجب أن يحتذى في دراسة النظم القرآني.
تلك هي الآية التي نزلت في شأن اليهود: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] .
هذه الآية قال الشيخ: إنه اختارها؛ لأنها ليست من الآيات التي يهتم بها البيانيون في استخراج الوجوه والصور البلاغية منها، مما فيه تشبيه رائق، أو مجاز آسر، أو كناية لطيفة، أو تمثيل أخاذ، وإنما هي آية من "عُرْض القرآن"، ومع ذلك استخرج ما فيها من دقائق النظم، وأسرار البيان، وحكمة المعنى ما لا يملك القارئ معه إلا أن يقول بعد الإطلاع عليه:
"الله أكبر، الله أكبر"
وهذا منهج مستمر في دراسة القرآن، تَرَسَّم فيه الشيخ دراز خطى الإمام عبد القاهر الجرجاني ومنهجه التحليلي الممتع المقنع في كتابيه: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
وبعد.. فإن هذا الكتاب فتح جديد فتحه الله على يد الشيخ محمد عبد الله دراز، الذي كافأه الله على جهاده في سبيله لهدايته إلى الحق والدفاع عنه، كما قال في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ...﴾ [العنكبوت: ٦٩] .
وفي الختام نتقدم بجزيل الشكر وخالص الدعاء للقائمين على "دار القلم" على اهتمام بتراث الشيخ دراز، وهو أحد معالم نهضة إسلامية نأمل أن تؤتي ثمارها، مع دعائنا بالتوفيق والسداد لفضيلة الشيخ الشاب/ أحمد فضلية، على رعايته المشكورة
1 / 10
لإعادة نشر تراث الدكتور/ دراز، ونشر ما لم ينشر من قبل، نشكره ونسأل الله أن يسدد خطاه في كل أمره، وفي رعاية مشروع نشر فكر العمالقة من علماء الأمة، من ألفه إلى يائه، وأن يجعل ذلك ذخرًا له ولنا وللأمة أجمع.
وكلمة أخيرة نقولها عن أستاذ "الجيل" بحق الشيخ الدكتور الإمام محمد عبد الله دراز: "أنه لو لم ينجب الأزهر الشريف عالمًا سواه في القرن الماضي لكفاه هذا الإنجاب". رحمنا الله وإياه في العالمين.
القاهرة في: ربيع الأول ١٤٢٦هـ
إبريل ٢٠٠٥م.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني
عفا الله عنه
1 / 11
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق مع الكاتب والكتاب [[بقلم: أحمد مصطفى فضلية]]
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله ﷺ الذي خصه الله بجوامع الكلم، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد ...
فهذا شرف عظيم، أن تعهد إليَّ "دار القلم" -حفظها الله للإسلام- في أن أكتب عن هذا الكتاب الذي تعددت طبعاته، وحاز الرضا والقبول. فهناك كتب تقرؤها مرة واحدة، وهناك كتب تعود إليها أكثر من مرة، وهناك كتب تشبه الجنة ... بمعنى أنك لا تدخلها مرة إلا وتبغي الخلود فيها، وإذا أُخرجتَ منها وددت العودة إليها، بل إنك تحس وأنت تقرأ أن هناك معانٍ جديدة تكشف عن نفسها كلما مضيت في القراءة. كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي عن الكتاب:
"كلما أخلقته جددني".
ومن هذه الكتب هذا الكتاب [النبأ العظيم.. نظرات جديدة في القرآن الكريم] وهو كتاب صغر حجمًا وغزر علمًا، فجاء جليل القدر، عظيم النفع، طيب الثمر. عميق الأثر، وهو أعجوبة الأعاجيب في الدراسة والتأليف. كتبه الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز ﵀ الذي كتب الله له التوفيق والسداد فيما كتب وحاضر وأذاع عن الإسلام ودعوته، ببركة إخلاصه وتفانيه في خدمة مصدري الإسلام: القرآن والسنة.
١- رجل القرآن:
لقد عاش محمد عبد الله دراز حياته مؤمنًا مفكرًا، وتعلم عن والده العلامة المحقق
1 / 13
الشيخ عبد الله دراز شغفه بكتاب الله، فأخذ عنه ضرورة التلاوة لستة أجزاء منه كل يوم، وما ترك هذه العبادة يومًا من الأيام، وما كنت تراه إلا قارئًا للقرآن، وقراءة عالم مفكر مثله لهذا الورد اليومي، لا بد أن تفتح عليه بما يضيء بصيرته، ويمده بأوفر الزاد وأشهاه ... "١.
لقد كانت حياة محمد عبد الله دراز مع القرآن حياة القلب المعلق به، والعقل الذي يستفتيه في كل ما يعنيه، وعلى ضوئه يأخذ سبيله مؤتمِرًا.. منتهِيًا؛ لإيمانه العميق بأن أحق ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق عليه المتسابقون.. مدارسة كتاب الله، ومداومة البحث فيه، والغوص عن لآلئه، والكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه وتجلية محاسنه، والدفاع عن ساحته ونفي الشكوك والريب عنه، فالقرآن بحر لا يدرك غوره، ولا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به.
هكذا كان إيمان الرجل القرآني الذي أدرك وأيقن منذ صباه المبكر أن الحياة في رحاب القرآن نعمة؛ نعمة تزيد العمر وتباركه وتزكيه وتقوي الإيمان وتنميه.
فها هو ذا يدعو ربه سبحانه في مقدمة هذا الكتاب أن يجعله من خيار وارثيه، الذين هم بهدايته مستمسكون، والذين هم على حراسته قائمون، والذين هم تحت رايته يوم القيامة يبعثون، في جند إمامنا الأعظم، ورسولنا الأكرم، محمد بن عبد الله ﷺ.
أجل؛ كان محمد عبد الله دراز اللسان الذي كان رطبًا بذكر الله وتلاوة القرآن والتدبر في آياته، فكان نغمًا عذبًا في كل أذن تسمع كلام الله، كان عالمًا قرآنيًّا يتفجر بالحكمة القرآنية والموعظة الحسنة التي تغلغلت في كل قلب، وطهرت كل روح.
وكتابه الفذ "النبأ العظيم" صدى هذا الروح المؤمن، الذي كان يسري في حنايا
_________
١ د. محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين.
1 / 14
قلبه الذي عمر بالقرآن، وثمرة ناضجة لهذا العقل المتوهج المتألق الذي استقبل آيات القرآن فأعطاها ما تستحق من تدبر، فجمع بين النقل الصحيح، والعقل الصريح، واغترف من التراث، ولم يغفل عن عصره فجمع بين الأصالة والمعاصرة، بفقه يتجدد به فهم الدين.. لتتجدد به حياة المسلمين لتكون من بعد أقل عابًا وأكثر صوابًا.
٢- من أعلام مدرسة القرآن:
مما سبق يتأكد لنا أن محمد بن عبد الله دراز من علماء المدرسة القرآنية التي واجهت الغرب المادي فحافظت على أصالة فكرنا وهوية ثقافتنا. فثمة تقارب في الفكر والروح والمنهج في التلقي عن القرآن جمع بين الدكتور دراز والإمام الشهيد حسن البنا "١٩٠٦م- ١٩٤٩م" والعلامة الفيلسوف محمد إقبال "١٨٧٧-١٩٣٨م" والإمام عبد الحميد بن باديس "١٨٨٩م- ١٩٤٠م" والعلامة المودودي "١٩٠٣م- ١٩٧٩م" ومالك بن نبي "١٩٠٥م- ١٩٧٣م" وغيرهم من أعلام مدرسة القرآن ﵃ ... ونحن نرى أن محمد عبد الله دراز كان في هذه المدرسة مثل أعلامها الكبار؛ متألقًا بصفاء عقله، وإيمان قلبه، ونشدانه الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وبه بعث الرسل والنبيون، فكانت غايته هي بعث الأمة المسلمة بعثًا قرآنيًّا يستوعب حضارة العصر، دون أن تحمل أوزارها السيئة وأوساخها وجراثيمها وتضحيتها بالدين والأخلاق.
إن كل صفحة كتبها محمد عبد الله دراز تعلن أنه تلميذ القرآن، وأن أستاذية القرآن هي التي جعلته يبصر الكون والتاريخ والحياة برؤية إيمانية جامعة تستوعب الأشياء، وتمنح عقله التوهج والتألق؛ لينفذ إلى ما وراء الأشياء ويفسر حركة الحياة تفسيرًا جامعًا للعوالم المنظورة والعوالم غير المنظورة١.
_________
١ بتصرف عن د. عبد الحليم عويس، سعيد النورسي رجل القرآن والتجديد، دار سوزلار للنشر والتوزيع.
1 / 15
يؤكد هذا الأستاذ العلامة أنور الجندي ﵀ فيقول:
"إن مدار أبحاث الدكتور دراز كلها ترجع إلى أصل واحد؛ هو "القرآن"، وهي في محاولتها الاتصال بالفكر الحديث إنما تريد أن تكشف عن نظرة القرآن ومنهجه في كل ما تصل إليه: سواء في مجال الأخلاق أو مقارنات الأديان، أو الاقتصاد، أو القانون، فالقرآن هو المحور الذي يعتمد عليه الدكتور دراز ويدور حوله ويستقصي له ويستصفي كل ما يجد من العلوم الإسلامية.
وهو حين يقدم الإسلام للغرب يقدمه في أسلوب رائع وتعبير محكم من شأنه أن يلقى قبولًا في العقل الغربي الذي ألِف الأسلوب العلمي؛ بوسائطه ومصطلحاته.. وقوامه في هذا كله فهم عميق للقرآن، وتدبر عجيب له، وقدرة على تبليغ العبارة بأصفى لغة، وتقديم الأمثلة إلى العقل الغربي في تمكن عجيب"١.
من هنا فإن آثاره العظيمة والرائدة التي كتبها، وأضافت الجديد إلى المكتبة القرآنية؛ مثل: "النبأ العظيم - ومدخل إلى القرآن الكريم - ودستور الأخلاق في القرآن - وثيابك فطهر" وغيرها من المؤلفات، كتبها لتعمق إيماننا بأن شخصيتنا قرآنية محمدية، وأن القرآن كتاب الحياة والأحياء، وعلى عالم اليوم اللاهث في حروبه، الغارق في ذنوبه، التائه عن درب عزه وأمنه، أن يرهف السمع لآيات الوحي الإلهي المعصوم القرآن الكريم، فيهتدي بهداه، لا أن يشوه تعاليمه، أو يشكك في مصدره، أو يبث الشبهات المتهافتة حوله ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ٢.
٣- النبأ العظيم نموذجًا:
ويأتي كتاب "النبأ العظيم" مصباحًا يضيء السبيل القويم لدراسة القرآن الكريم، وهو برهان باهر على ربانية مصدره، ولمعة براقة من لمعات إعجازه البياني. وتفسير
_________
١ أنور الجندي، أعلام الدعوة والفكر، ص١٩، مكتبة الأنجلو المصرية.
٢ سورة التوبة: آية رقم "٣٢".
1 / 16
قيِّم له، ورشفة من رحيق ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس المشرقة بنور الله، وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة القرآنية، وترجمة معنوية نابعة من فيوضات هذا النبأ العظيم.
لهذا احتل الكتاب مكانة سامقة في الجامعات العربية والإسلامية. تحدث عنها أستاذنا الكبير الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه القيم "خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم" أرى ألا يحرم القارئ من مطالعته ها هنا ... يقول -حفظه الله: " ... أما أستاذنا الكبير الدكتور محمد عبد الله دراز ﵀ فقد أوسع تلاميذه في كليات أصول الدين واللغة العربية ودار العلوم تحليلًا وتشريحًا لدقائق القرآن البيانية على وجه رائق شفاف، تفجرت ينابيعه صافية من بيان الأستاذ، وكتاب "النبأ العظيم" على مكانته الرائعة لم يحوِ غير القليل مما فتح به الله على صاحبه، إذ كان في قاعة الدرس يتدفق بشتى المعاني البارعة التي لا تجد الكثير منها في النبأ العظيم.
ولعل بديهته القوية كانت تتيح له من الروائع ما يرتجله لساعته ارتجالًا. وكأنه أعد إعدادًا حتى إذا خلا بنفسه لتسجيله اكتفى بالبعض عن البعض مما قال.
وقد حفل "النبأ العظيم" بالحديث عن الجمال التوقيعي في توزيع الحركات والسكنات، والجمال التنسيقي في وصف الحروف وتآليفها على جهة ذات توافق وانسجام، كما أجاد الحديث عن خصائص الأسلوب القرآني في الفقرة التي تتناول شأنًا واحدًا، وفي السورة التي تتناول شئونًا شتى، ثم فيما بين سورة وسورة، وفي القرآن بنوع عام.
وقد بسط ذلك أتم بسط وأوفاه. ولم يفته أن يتحدث عن الإيجاز والإطناب في ضوء تعريف جديد متنقلًا إلى فنون من البيان كان جل اعتماده فيها على نفسه دون التقيد بما سبق من الآراء. وقد انتفع به طلابه على كثرتهم واختلاف معاهدهم انتفاعًا يتردد صداه قويًّا رائعًا في كثير مما يقال. فهو مجهود حي أتى ثمره وعلا جناه"١.
_________
١ د. محمد رجب البيومي، خطوات التفسير البياني ص٣٣٩، ط مجمع البحوث الإسلامية.
1 / 17
هذا؛ وقد حدثني شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد -حفظه الله- "أن جامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تقومان بتدريس الكتاب لطلبة الدراسات العليا بها".
كما حدثني الأستاذ الدكتور عبد العزيز السيروان "من سوريا" في معرض الكتاب الدولي بمدينة الإسكندرية أن هذا الكتاب يدرس في الزوايا العلمية في سوريا ومحاضن التربية هناك.
ولأهمية الكتاب أيضًا أخبرني نجل الدكتور دراز السفير فتحي أن الأستاذ عبد الحميد الدخاخني قام بتدريس الكتاب بمعهد الدراسات الإسلامية بالإسكندرية، والمعاهد العلمية بالمملكة العربية السعودية.
وآخر ما علمت عن تدريس هذا الكتاب النافع، ما أخبرني به الداعية المربي والمؤلف النابه الأستاذ محمد حسين أن كتابات الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز تدرس لشباب الصحوة الإسلامية؛ نظرًا لمكانتها العلمية في التكوين العلمي وتأسيس الفهم الصحيح للإسلام.
وكثير من علماء الإسلام ودعاته يوصون مهرة المسلمين والباحثين خاصة بأهمية مؤلفات العلامة دراز، وعلى قمتها "النبأ العظيم"، من هؤلاء الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والداعية المجدد الشيخ محمد الغزالي، والدكتور عبد الحليم عويس، والكاتب الموسوعي أنور الجندي، والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد ... وغيرهم كثير.
ولهذه المكانة العظيمة لكتاب "النبأ العظيم" أستأذن القارئ أن أطوف به في بعض ما كتب عن هذا الكتاب.
وسيتأكد القارئ العزيز أن المكانة التي احتلها "النبأ العظيم" في عقول العلماء
1 / 18
والباحثين كان بها جديرًا.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة الكتاب السامقة في مجال الدراسات القرآنية، فلبى حاجة وسد فراغًا لا يسد مسده سواه.
٤- بين الرافعي ودراز:
تحدث شيخنا وأستاذنا الدكتور/ محمد رجب البيومي -حفظه الله- في كتابيه "البيان القرآني" و"النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" عن كتاب "إعجاز القرآن" لأديب العربية الأكبر في عصره مصطفى صادق الرافعي ﵀ وكتاب "النبأ العظيم" للعلامة المجدد الدكتور محمد عبد الله دراز ﵀ حديث الدارس المعجب المقدر لمكانة الرجلين، فقال -أعزه الله- ما نصه: "حين كتب الرافعي كتابه جاء بالروائع النادرة من ناحية التعبير البياني، أما الأفكار التي رصدها فأكثرها قد قيل، وزاد عليها الرافعي بما عرف عنه من براعة النظم البلاغي، ودقة التركيب اللغوي، ولطف التصوير الجمالي، على حين نرى الآفاق قد اتسعت أمام الدكتور دراز مشعة بأنوار مضيئة هي من شمسه الخاصة في مجال هذا الإعجاز"١.
"لقد أصدر الدكتور دراز "النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم"؛ ليتحدث عن القرآن حديث الفاقه الدارس الألمعي، فجاء كتابه آية الآيات في ميدان الدراسات القرآنية بما ملك من ناصية القول وقوة المنطق وجهارة الدليل، ولئن قال الزعيم الوطني سعد زغلول عن كتاب الرافعي في الإعجاز: "إنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم". فما أحرى النبأ العظيم بمثل هذا القول من زعيم كبير٢.
_________
١ النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ط مجمع البحوث الإسلامية، ج٥، ص١٨٤.
٢ البيان القرآني ص١٩١، ١٩٥، ٢٥٠، ٢٥٨، ط مجمع البحوث الإسلامية.
1 / 19
٥- الإعجاز اللغوي بين سيد قطب والدكتور دراز:
تناول صديقنا الأستاذ محمد أمين أبو شهبة في أطروحته للماجستير الإعجاز اللغوي وعلى أي وجه أداره الشيخ دراز؛ فقال: "أدار الدكتور دراز أمر الإعجاز اللغوي على فكرة تمثل المحور في دراسته للقضية، وهي فكرة مباينة أسلوب القرآن لسائر الأساليب، هذه الفكرة تسيطر على دراسته لقضية الإعجاز اللغوي ابتداءً من البناء الصوتي وانتهاءً إلى القرآن في جملته؛ فقد وجه الشيخ جهده إلى إبراز الخصائص التي باين بها القرآن بيان البشر، واعتمد في ذلك على النظر في منهج الإنسان في البيان، وطريقه في الإبانة عن معانيه. وكان طريقه إلى ذلك الإلمام بأساليب العرب، وتراثهم الأدبي، ثم الخبرة الطويلة بدراسات النفس الإنسانية، والتي مكنته من معرفة حدود النفس التي تتوقف عندها، والعيوب التي لا تقدر على تفاديها في بيانها بحكم إنسانيتها، ثم يخرج من ذلك إلى النظر في البيان القرآني، بعد أن أبرز من جوانب النقص في البيان الإنساني، ما يبرز جوانب الكمال في البيان القرآني"١.
ولكن الدكتور دراز لم يكتف بالقول بخلو القرآن من عيوب البيان البشري؛ لأنه لم يسلم به، ولكنه وضع يده على المزايا القرآنية فشرحها، ثم قدم لأكثرها من التطبيقات القرآنية، ما يبرزها ويفتح الطريق إلى بحثها ودراستها.
وهذه الخصائص البيانية لجانبي البناء البياني للقرآن.. تمثل -عند الشيخ- دعائم بنية القرآن الداخلية، الدالة على أنه من أصل إلهي. والوصول إلى خصائص عامة لبيان القرآن- أمر شاق وعسير؛ لأنه يتطلب فوق التذوق والتفكر دراسة ووعيًا لمنهج الإبانة الإنسانية، وخصائصه، ثم الانطلاق من ذلك إلى ساحة القرآن كله ليرى: أتلك خصيصة عامة، أم هي جزئية، نابعة من سياقها فحسب؟
_________
١ انظر رسالته للماجستير "محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية" ص٩٤، مودعة بمكتبة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود - جامعة الأزهر الشريف.
1 / 20
وقد ذكر المرحوم الشيخ سيد قطب١ أن جهد سلفنا قد توقف عند خصائص النصوص مفردة، وإدراك مواضع الجمال المتفرقة، وتعليل كل موضع منها تعليلًا منفردًا:
"أما مرحلة الخصائص العامة فلم يصلوا إليها أبدًا لا في الأدب، ولا في القرآن، وبذلك بقيت أهم مزايا القرآن مغفلة وخافية، وأصبح لا بد لدراسة التعبير في هذا الكتاب المعجز من منهج للدراسة جديد، ومن بحث عن الأصول العامة للجمال الفني، وتفسير الإعجاز الفني تفسيرًا يستمد من تلك السمات المتفردة في القرآن٢.
ويبدو أن الأستاذ سيد قطب ﵀ لم يقرأ كتاب الدكتور دراز، ولم يقف على جهده القيم في البحث في بعض الخصائص البيانية للقرآن، ولا يمكن أن يقرأ هذا الجهد دون إشارة، ويؤكد ذلك أن كتاب الدكتور دراز "النبأ العظيم" وإن ألف قبل "التصوير الفني" إلا أنه نشر بعده؛ إذ شغل الشيخ دراز في فرنسا بتحضيره لدرجة "الدكتوراه" ثم شغل بعد عودته بالأعمال التي نيطت به٣.
فقد بدأ الدكتور دراز في كتابه "النبأ العظيم" منذ عام ١٩٣٥م تقريبًا ثم سافر إلى فرنسا عام ١٩٣٦م، وعاد إلى مصر عام ١٩٤٧م، فظل مشغولًا بأعماله التي نيطت به على عجل، حتى نشر كتابه الفذ في مارس ١٩٥٧م كما ذكر هو في مقدمته، بينما نشر الأستاذ سيد قطب هذا البحث في مجلة المقتطف عام ١٩٣٩م، ثم أكمله وأضاف إليه بعد سنوات قليلة، كما ذكر هو في مقدمة "التصوير الفني" ص٩، وعلى الرغم من تأخر كتاب الدكتور دراز في النشر، فإنه ليس في كلامه ما
_________
١ سيد إبراهيم قطب: ولد في قرية "موشا" بمحافظة أسيوط ١٩٠٦، عاش أكثر حياته للدفاع عن الإسلام، ومحاربة خصومه، وهو مع ذلك أديب ناقد شاعر، من أبرز كتبه "في ظلال القرآن"، وأعدم في عام ١٩٦٥م.
٢ التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، ط دار المعارف، الطبعة العاشرة، ص٣٢.
٣ محمد أمين أبو شهبة، د. محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية ص٩٩.
1 / 21
يشير إلى أنه قرأ أو أفاد من "التصوير الفني"؛ فليس من الخصائص البيانية التي ذكر، ما يلمح إلى خصيصة "التصوير الفني في القرآن" وهي التي أقام الشيخ سيد قطب كتابه عليها. كما أن الدكتور دراز حيث تحدث عن البناء الصوتي للقرآن لم يقدم تطبيقًا واحدًا على حديثه، بينما أفاض الشيخ سيد قطب في التطبيق لهذا الجانب، ولو قرأه الشيخ لألمح إليه على الأقل١.
يقول أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي:
«وأنا أعرف أن الكاتب الشهيد: سيد قطب ﵀ قد كتب مؤلفه الرائع "التصوير الفني في القرآن" فأتى بمذهب جديد في اكتناه التعبير الفني، لم يسبق إليه سواه، ولكن كتاب "النبأ العظيم" لم يقتصر على التصوير الفني وحده باعتباره الأداة المفضلة للتعبير -كما ذهب الأستاذ سيد قطب- بل نظر إلى القرآن فكرة، وصورة، وتعبيرًا، وجدلًا، وبذلك يكون سالكًا منهجًا غير منهج التصوير الفني، وما من الرجلين إلا له مقام معلوم» ٢.
والمهم أن همَّ الرجلين كان واحدًا؛ وهو الوصول إلى الخصائص العامة للبيان القرآني، وإن ذكر كل واحد منهما غير ما ذكر الآخر، فقد انشغل المرحوم سيد قطب بخصيصة واحدة وهي أن "التصوير الفني قاعدة التعبير القرآني المتبعة في جميع أغراضه حتى التشريع، وهي الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في الأجزاء، ثم عكف على معنى التصوير، وأدواته، وألوان التناسق الفني محللًا، ومستشهدًا لما يقول".
بينما أقام الدكتور دراز بحثه على خصائص البناء الصوتي، ثم خصائص البناء
_________
١ المرجع السابق ص١٠٠.
٢ النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د. محمد رجب البيومي، ج٥، ص١٨٣.
1 / 22
المعنوي للقرآن في قطعة منه، وفي سورة سورة منه، وفيما بين سورة وسورة، ثم في جملته١.
٣- منهج الدكتور دراز في هذا الكتاب:
نهج الدكتور دراز في كتابه نهجًا فريدًا، فيقول: "راعيت في أكثر هذه البحوث شيئًا من التفصيل والتحليل، وشيئًا من التطبيق والتمثيل، فلم أكتفِ بالإشارة حيث تمكن العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العيان؛ راجيًا بذلك أن تنفتح لها عيون الغافلين، فيجدوا نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأن تنشرح بها صدور المؤمنين، فيزدادوا إيمانًا مع إيمانهم٢.
ويمكننا تحديد أهم مرتكزات منهج الشيخ في النقاط الآتية٣:
١- القدرة على الإفادة من تجارب السابقين واعتماده التذوق والتفكر في الدراسة.
٢- امتلاك الشيخ للنفس الحساسة الذواقة البصيرة، فقد كانت له قدرة فائقة على الإحساس والتذوق.
٣- امتلاكه أدوات الذوق والمعرفة والقدرة على التمييز بين الأنماط البيانية المختلفة.
٤- اعتماده فكرة البيانية في دراسة الإعجاز البياني والبحث عن الخصائص التي انفرد بها القرآن.
٥- النظر الطويل والتأمل العميق في تراث سلفنا، لا سيما في ميدان التفسير، وعلوم
_________
١ محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية - رسالة ماجستير - محمد أمين أبو شهبة ص١٠٠.
٢ مقدمة النبأ العظيم ١٣٠٤هـ - ١٩٣٣م.
٣ لمزيد من الإطلاع على منهج الشيخ في كتابه "النبأ العظيم" ننصح القارئ بالاطلاع على أطروحة الماجستير المقدمة من صديقنا الأستاذ الباحث النابه محمد أمين أبو شهبة: "الدكتور محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية".
1 / 23
القرآن وإعجازه، وإن اتضحت أنفاس علماء بعينهم فيما كتب. فقد سار على نهجهم، وارتوى من نبعهم، وإن ظلت له شخصيته التي برزت من خلال التطبيق.
٦- النظر في جميع عناصر السورة وضبط أجزائها.
٧- إشراك أهل العلم فيما كتب من موضوعات هذا الكتاب؛ انطلاقًا من أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها" و"العلم رحم بين أهله"، مصداق ذلك ما عثرت عليه ضمن أوراقه الخاصة، فقد كتب لصديقه الدكتور/ علي عبد الواحد وافي ما نصه "إلى أخي وصديقي الدكتور علي عبد الواحد وافي أقدم هذه الصفحات "٢٢٤ صفحة" من كتاب "النبأ العظيم" قبل أن يتم طبعه،؛ راجيًا أن ينال هذا القسم من عنايته، نظرة فاحصة تبرز ما عسى أن يكون فيه بحاجة إلى تكميل أو تعديل.
وفي انتظار ذلك أقدم له واجب الشكر السابق فضله ولاحقه١.
٤- خصائص ومميزات الكتاب:
وكتاب "النبأ العظيم" من دون كتب إعجاز القرآن، يتميز بعدة مميزات:
١- أسلوب علمي رصين، ومنهج مرتب الأفكار، وخطوات متئدة متصاعدة.
٢- بيان رائق، سلس العبارة، مشرق الديباجة.
٣- جاء الكتاب في حجم متوسط، لا يمل منه القارئ ولا يستطيله، رغم عمق الأفكار التي عالجها، والخطوات المتعددة التي سار الكتاب بها.
٤- مخاطبة أبناء هذا الجيل، الذين بعد عهدُهم بكتب السلف الصالح والعلماء السابقين بأسلوبهم المعروف، فجاء هذا الكتاب جامعًا بين ما أفاده من السابقين، وبين
_________
١ محمد عبد الله دراز - رسائل لها تاريخ - جمع وإعداد الشيخ أحمد مصطفى فضلية - دار القلم.
1 / 24