منهج الأشاعرة في العقيدة - الكبير
منهج الأشاعرة في العقيدة - الكبير
प्रकाशक
دار منابر الفكر
शैलियों
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن العالم البشري كله يشهد في هذا العصر من الاضطراب والضياع والفوضى، وسواد المستقبل، وتجهم المصير ما يرعب القلوب، ويزلزل الأفكار، فهو أشبه ما يكون بسفينة مهترئة تتقاذفها أمواجٌ متلاطمةٌ في غمرات بحر لُجِّيٍّ لا تجد مِن اجتيازها مناصًا، ولا من سطوته خلاصًا.
وقد أمسك بزمامها أمم كافرة عملاقة (تستعمل قوة العفاريت بعقول الأطفال) - كما قال (جود) -، ويحفزها التنافس الضاري إلى مزيد من الصراع والتهور والاندفاع، وتأتي أمم الكفر الأقل شأنًا، فتحاول أن تثِبَ وَثَبَاتٍ كبرى؛ لتصل إلى مستوى الصراع مع العمالقة المسيطرين، وتبحث لنفسها عن موضع قدم في هذه السفينة الهائجة، وأصبح التفكير في هذا الواقع الأسوَد والمصير الكالح هو الشغل الشاغل للمفكرين والمتعقِّلين في الغرب وغيره، بل أصبح بفعل التدفق الإعلامي الهائل من الهموم اليومية لرجل الشارع - كما يسمونه -، إذ ما؟
1 / 3
من نشرة أخبار يسمعها، أو صحيفة يطالعها، إلا ويجد فيها النذر الصارخة بهذا المصير، فأخبار الحروب والفتن، والانفجارات والانهيارات، والزلازل والانقلابات، والجفاف والفيضانات، والكوارث والانتحارات ... إلخ، أصبحت من كثرة ما ترددت في ذهنه مثل أخبار الرياضة وأحوال الطقس!.
ومع سباق التسلح الرهيب، والتنافس في نشر أسلحة الفتك المبيد، أحس الناس حقيقةً بالهلع الذي يقضّ المضاجع، وهرع الفلاسفة والمفكرون إلى التنقيب عن حلٍّ للمعضلة الإنسانية الكبرى، وتلمسوا أي مخرج للانعتاق من الظلمة الكثيفة التي غطت وجه الأرض وردمت الإنسان في المفاوز المهلكة، والأحراج الشائكة.
ووصل الأمر بكثيرٍ منهم إلى الاقتناع المطلق بأن خلاص هذا العالم - إن قدر له الخلاص - لن يكون من داخله، وأن السفينة الهاوية إلى أعماق المحيط لن ينتشلها من هو قابعٌ في داخلها.
ومع هذا لم يظهر - مع الأسف الشديد - ما يدل على أوبةٍ صادقةٍ إلى الله، واستجابةٍ لدينه الحق الوحيد الذي مازال غضًّا طريًّا في مسمع الدنيا ومرآها.
بل دفعت عوامل أخرى - ولا مجال هنا لتفصيلها، ولبيان ذنبنا نحن المسلمين فيها - إلى أن قامت كل أمة من الأمم تشحذ همتها، وتقدح زناد فكرها، وتستلهم من عتيق حضارتها وماضي أسلافها، فمع إفلاس المذاهب الوضعية الحديثة ارتد الناس قرونًا إلى الوراء، وبدأوا يستعرضون الذاكرة البشرية على ما فيها من قَتَمٍ وغبشٍ وإسفاف، لعل؟
1 / 4
في متاهات الماضي ما يقيهم شر غوائل المستقبل، ولعل في خبايا القرون الخوالي كوة صغيرة ينفذ منها اللاهثون العصريون إلى بر الأمان.
لقد كانت أوروبا القرن التاسع عشر تدين بالعقلانية، والإطلاق بعقلانية لا تتردد في تفسير أي شيء، وإطلاق لا يستثني من قواعده الصارمة شيئًا، فلما صدمتها السنن الربانية الثابتة، وعصفت بها التحولات الخطيرة حتى أشرفت على الهاوية، عادت إلى مذاهب (اللامعقول) (١)، التي يرفض أن يضبطه شيء، والنسبية التي تأبى كل أحكام العموم والإطلاق، حتى أن مذهبًا إطلاقيًّا حتمًا - كالشيوعية - تراجع من الحلم بالسيطرة على معظم العالم في الستينيات يصبح في نهاية الثمانينيات رأسمالية حمراء.
وبتبني اللامعقول، والنسبية؛ انتكست أوروبا من جديد، وأعلنت - وهي في قمة السيادة الحضارية - إفلاسها وانهيارها، واختبأ روائيوها وشعراؤها وعامة أبطال فكرها وفنّها في أقبية الجاهلية اليونانية الهالكة، يحتمون بظلامها وظلالها من لظى الأفكار المادية المهترئة، والشعارات المجدبة، وسعير التطبيقات الرعناء لآراء وضعها في القرن الماضي جهلاء ارْتَدُوا زِيّ الحكماء.
_________
(١) أو (اللاعقلي)، ومن مذاهبه: الروحية (برجسون)، والوجودية (سارتر)، والعبثية (ألبير كامو)، واتجاهات أخرى كالرمزية والسوريالية، وكثير من المدارس النفسية والاجتماعية.
1 / 5
ومع عودة سيدة الحضارة العجوز وانتكاستها عادت الأمم التابعة تلهث في الطريق نفسه.
فانتفضت الصين على (ماو)، وحطمت تماثيله على يد الجماهير الكادحة التي كانت تصرخ منذ سنوات ليست بالكثيرة: (ماو ماو! رب الكادحين)، وعانت بلهفة وشوق إلى (كونفشيوس) الدفين منذ آلاف السنين في أعماق الذاكرة الصينية.
وبدأت الهند في ترميم أصنامها العتيقة بعد أن أصبحت تستقبل من الغربيين اللاهثين بحثًا عن (بوذا)، و(كرشنا) أكثر مما تستقبل من الإرساليين الكنسيين الطامعين في إدخال الهنود إلى دين (بولس) (١) وبابواته.
وتفوقت اليابان على أمريكا في كثير من مجالات التكنولوجيا - أو نافستها - في حين أنه ما يزال الإمبراطور منسوبًا إلى سلالة الآلهة، وكأن اليابانيين قد اقتنعوا - أمام عودة الغرب الحائرة - بأن التقدم التكنولوجي لا يزيد هذا النسب الإلهي إلا عراقةً ورسوخًا.
وظهرت في أمريكا الجنوبية واستراليا دعاوى عريضة بأن لها حضارات ماضية، وأمجادًا وطنيةً غابرة.
ومهما قيل عن عدم مطابقتها للحقيقة؛ فالغرض المهم هو: أنها
_________
(١) المؤسس للدين المعروف حاليًا باسم (المسيحية)، واسمه الأصلي (شاؤل) اليهودي، وهو النموذج الذي احتذا حذوه عبد الله بن سبأ اليهودي لإفساد الإسلام، فأسس دين التشيع وفروعه. انظر مقدمة منهاج السنة.
1 / 6
إعلانٌ للعودة وللتوقف عن السير وراء الضائعين في الغرب المفلس.
لقد أخذت كل أمة من الأمم تبحث في مجاهل تاريخها عن فيلسوفٍ قديم، أو شاعرٍ غابر، أو مصلحٍ سالف؛ لتقدمه للبشرية على أنه منقذ جديد، وأن في (إلهاماته) ما ينير الطريق لإنسان القرن العشرين الحائر المضطرب، وأصبحت الميادين الكبرى في عواصم هذه الأمم معابد عصرية تتوسطها تماثيل أولئك الغابرين.
وهكذا برزت ظاهرة إنسانية كبرى هي ظاهرة (العودة إلى الماضي)، التي هي تعبيرٌ صارخٌ عن عدم الثقة في الحاضر، والتي لا تعدو في مقاييسنا الإسلامية أن تكون عرضًا من أعراض الخسران الأكبر، والإفلاس الماحق لقوم كفروا بالله ورسله ﴿ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: (٦٦)].
ومع بروز هذه الظاهرة - عالميًّا - بدأ التيار التغريبي العلماني في العالم الإسلامي يتردد، بل ينحسر ويندحر، وبدأت جَمْع جُمَّة من القطيع السائر خلفه تتوقف وترعوي، وانكسرت حدة الانبهار بالغرب الكافر لدى عددٍ لا يستهان به، وتنادوا - لا سيما الشباب منهم - بالعودة لماضينا الذي ليس ماضي سائر الأمم بأولى منه.
وفي وسط طريق العودة التقى هذا الرافد العالمي العصري بالرافد الأصلي الذي ظل في غمرات القرون مستقيمًا، لم يشذّ مستعليًا، ولم ينبهر، أَلَا وهو بقايا الخير في هذه الأمة من رجال ما تزعزع يقينهم لحظةً واحدةً في أنه لا يَصلُح هذا العالم إلا بهذه الأمة، وأنه لا يصلح آخرُ
1 / 7
هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وبدأ هذان الرافدان في تشكيل نهرٍ لا بد أن يصبح في يوم من الأيام تيارًا، ومن ثم يجتاح ما على هذه الأرض من الشرور والأدران والأوثان، كما وعد الله وبشَّرَ رسول الله ﷺ.
لكن الشيطان الذي تعهد بإضلال بني آدم إلى يوم يبعثون، وأعوانه بل أقرانه الذين ما فتئ الشيطان يتعلم منهم فنون المكر والتآمر، عمدوا إلى إحباط هذا الأمل العظيم من طريقين:
الأولى: تضخيم هذه العودة الإسلامية البريئة - بل الساذجة في كثير من مظاهرها - وتسميتها (يقظة العملاق)، و(قوة الغد)، و(صحوة الإسلام)، ونحو ذلك مما هو إغراءٌ صارخٌ للقوى العالمية ووكلائها المحليين باستئصال هذه النبتات الغضة في مهدها، مع أن الحقيقة أنه حتى هذه اللحظة ما تزال ظاهرة العودة في العالم الإسلامي متأخرة عمليًّا عمَّا وصلت إليه في البلاد الأخرى، حيث وصلت هناك إلى دفة الحكم أو قاربت!!.
إن الإعلام الغربي لا يستكثر على (الدالاي لاما) المطالبة بدولة بوذية مستقلة عن الصين، بل لم يستكثر على الهندوس المتعصبين أن يحكموا الهند، وإنما يستكثر على أمة الإسلام العظيمة الممتدة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي أن يكون في بعض جامعاتها شباب متدينون، ويستغرب وجود جامعات غير مختلطة، أو جامعيات غير متبرجات، مع أن ذلك لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الانتشار السكاني الهائل للأمة.
1 / 8
يستكثرون ذلك ويستغربونه، ويتابعهم عليه في بلاد الإسلام من يتابعهم، مع أن الأصل في الأمة الإسلامية ألا تنحرف ولا تنبهر، مع أن الأصل في المسلم إذا انحرف وعصى أن يتوب ويستقيم.
إن الأصنام العصرية الكبرى تعرضت لنسف تماثيل (لينين)، و(ستالين)، وتماثيل (ماو)، وتماثيل (شاوسكو) بمباركة الغرب إلا صنمًا واحدًا يحرسه الإعلام الغربي أكثر مما يحرس تماثيل المسيح ﵇، ذلك هو صنم (أتاتورك)!!.
تمامًا مثلما ضاقت باريس (عاصمة النور والحرية عند كثير من المخدوعين) بغطاء رأس فتاة مسلمة من بين ألوف الأزياء والموضات!!.
ومثلما ضاقت دولة الحياد والكرامة الإنسانية و.. (سويسرا)!!.
في نظر الغرب لا ضير في عودة الملايين إلى أسفار (فيدا)، وتعاليم (بوذا)، أما عودة بعض أمة الإسلام إلى نور القرآن وهدي محمد ﷺ فهي وحدها نذير الشؤم، وداعية الويل والثبور، وعظائم الأمور!!.
وليس أعجب حالًا من هؤلاء إلا من يصدقهم ويجاريهم من أبناء جلدتنا المستغربين، أو من يأخذه الغرور بقولهم من التائبين العائدين.
نعم إن إفلاس المذاهب الأرضية في العالم الإسلامي وسقوط ممثليها أصبح حقيقة ثابتة وقد جرى ذلك وفق سنة إلهية ثابتة.
ولكن رجوع المسلمين إلى الإسلام ما يزال في أول بشائره، وأمامه عقبات كبرى ذاتية وخارجية، كما أن له سنته الإلهية الأخرى
1 / 9
التي ما لم نرعها ونسير بمقتضاها فلن نصل أبدًا.
الثاني: استنفار أفاعي (الطابور الخامس) من قطاع الطريق إلى الله الذين عملوا منذ عهد عبد الله بن سبأ، والجعد بن درهم، وبِشر المريسي، والنظَّام (١) ... إلخ لنسف القلعة الإسلامية من داخلها، وإجهاض كل محاولة لرفع هذه الأمة إلى القمة التي أراد الله أن تكون عليها.
فأما العدو الخارجي؛ فللحديث عنه مواضعه الأخرى، وما عداؤه لنا، واستعداؤه علينا بجديد، وما هو بالذي يحسب له كل هذا الحساب لو كنا في أنفسنا أمة تعيش وتسير كما أمر الله، فالله تعا لى يقول: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٢٠]. ونحن قد فقدنا الخصلتين كلتيهما إلا من رحم الله.
وأما قطَّاع الطريق؛ فهم لَعَمْرُ الله آفة هذه الأمة قديمًا وحديثًا، وهم (حصان طروادة) الذي ما دخلت إلينا الأفكار الغربية قديمها وحديثها إلا من خلاله وبآثاره.
ولن نستعرض تاريخهم القديم، وهل في الإمكان استعراض المحيط الزاخر؟ ولكننا نشير بإجمال إلى دورهم في ركوب موجة التوبة الجماعية التي نسميها - ولو على سبيل التفاؤل - (الصحوة الإسلامية)!!.
_________
(١) ذكر الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء «١٠) / (٥٤٢» أنه كان برهميًّا، فأراد أن يبرهم الإسلام عن طريق الاعتزال، كم أراد عبد الله بن سبأ أن يهوِّده عن طريق التشيع!!.
1 / 10
لقد أراد كل كمين من هذه السبل المتفرقة التي نهى الله عن اتباعها أن يستغل بواكير هذه الصحوة، ويستغفل شبابها الغض، فيلقي عليهم ثوب بدعته، ويقنعهم بقناع مذهبه حتى تصبح الأمة العائدة - وهي التي أراد الله لها، ونريد لها أن تكون أمةً واحدةً على المنهج الأبلج النقي - - تصبح شيعًا وأحزابًا، كما كان حالها أيام الزحف التتري أو الصليبي.
فأحدهم (صوفي) لا يعرف من التدين إلا الطبل والمزمار، والحضرة والتواجد ... يندس في الصفوف العائدة رافعًا راية التصوف - أو خرقته -، ساعيًا بأقصى جهده إلى تصويف المسيرة كلها.
وذاك رافضيٌّ خبيثٌ يتقمَّص شخصية الدجال تحت عمامة المجدد، ويلوح للجموع الباحثة عن الطريق: أن تعالوا إلى الإسلام، وما غايته إلا ترفيض القافلة بأجمعها.
وذلك مستشرق عربي! غذَّاه المستشرقون الغربيون بما استطاعت عقولهم الضحلة أن تلتقطه من فتات أفكار الفرق البائدة، وأظهروا أمامه التباكي على تراثها الإسلامي المفقود، وكنوزه الضائعة، واستحثوه أن يشتغل بالتنقيب عنها ونشرها (١)، فجاء المخدوع أو المتآمر ينبش رميم الباطنية والحلولية، وينفض الغبار عن هرطقة الفلاسفة والمعتزلة، ويحقق كتب البدع والفرقة، تحت ستار إحياء التراث والتحقيق العلمي
_________
(١) انظر على سبيل المثال تقديم المستشرق (ألفرد جيوم) لكتاب المعتزلة لزهدي جار الله، وكلام المستشرق (اربري) في مقدمة كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليفة. أما جهد (ماسينيون) و(نيكسون) لإحياء الفكر الصوفي، وما بذله تلامذتهم الشرقيون، فلا تحتاج إلى تمثيل.
1 / 11
النزيه ... وما الغرض إلا تمزيق طريق العودة، وتشتيته ذات اليمين وذات الشمال، وإذكاء القروح الميتة في كبد الأمة الجريحة، وأقلّ ما فيه صرف النظر عن الكنوز الحقيقية التي ليست مجرد تراث!! بل هي منبع الحياة الفكرية، ومعالم على طريق المنهج القويم. وجاءت سبل وطوائف أخرى ... وتكدست في المكتبة الإسلامية.
وفي أخطر ركن فيها - وهو ركن العقيدة - صحائف سود، لا أعني سواد مدادها ولكن سواد فكرها، واستشرت ظلمات بدعتها حتى ظهرت على صفحات المجلات والجرائد، فأخرجوها من دوائر المتخصصين إلى متناول العوام المساكين.
وهذه الكتب والمقالات قد تبدو للناظر أول وهلة وكأنها هي مجرد امتداد للفرق المنحرفة القديمة، ولا دافع لها إلا التعصب لتلك الفرق والمذاهب، والواقع أن وراء تلك الأكمة ما وراءها، وأن هذه النظرة إن صدقت على بعضهم لا تصدق على كلهم، فهي لا تهدف للتعصب للماضي بقدر ما هي تخطط وتبرمج للمستقبل، مستغلةً سذاجة غالب شباب الصحوة كما أسلفنا.
ومن الأدلة على ذلك: ما يفتعله أصحاب هذا الاتجاه البدعي المقنع حين ينشرون أفكارهم وكتبهم على الملأ، ويحثون الشباب على قراءتها، ثم لا يفوتهم أن يقرنوا ذلك بالتباكي على ما تعيشه أمة الإسلام من تفرق وتمزق، وأنها ما تزال تبحث مسألة (أين الله)، ومسألة (القرآن مخلوق أم قديم)، و(قضايا الفلاسفة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة ... إلخ).
1 / 12
في حين أن العدو يحتل أراضيها ويهدد كيانها، ولا يفرق بين أحدٍ منها، فهلا انصرف المسلمون لمحاربة الشيوعية، ومقاومة الخطط الصهيونية، وتركوا هذه الخلافات!!.
يتباكون على هذا، وهم يقدمون للشباب مؤلفات كلها تفلسف وتجهم واعتزال وتصوف وتشعر ... الخ.
وأشهد أن بعضهم - إن لم أقل كثيرًا منهم - قد كتب الكثير من المؤلفات في الطعن على السلف، والنيل من عقيدتهم، والدعوة الصريحة إلى البدعة التي هي أصل الانقسام والفُرقة، وما كتب حرفًا واحدًا قط عن الشيوعية والصهيونية، بل إن واقع حاله يدل على أن تضليل - أو تكفير - أئمة عقيدة السلف أولى عنده وأهم من محاربة الشيوعية أو الصهيونية.
وأخطر من هؤلاء: طائفة من القطاع هالها كساد سوقها، وتكدس مصنفاتها البدعية، فعمدت إلى أسلوب أمكر وأخبث، وهو انتحال مذهب السلف الصالح ظاهرًا، وادعاء أنه ومذهبها سواء، وزعمت أنها بذلك تخدم مصلحة الإسلام، وتسعى لجمع المسلمين، فبعثروا المعالم والمعايير أمام الشباب الحائر، فلم يعد يدري كيف يسير.
هذا الأسلوب بدأه الرافضة منذ مطلع القرن العشرين بما أسموه (التقريب بين المذاهب الإسلامية)، ثم تبعتهم الفرق البدعية الأخرى تحت شعار (توحيد الصفوف)، فقدموا للشباب الذهب مع البهرج والحجارة والنحاس، وقالوا: لا بد من صهر الجميع في بوتقة واحدة، ولا عليك إن اخترت منها ما شئت، فالكل يسمى معدنًا.
1 / 13
وإن مما يدمي القلب أن كثيرًا من شباب الصحوة خدعته هذه الدعاوى الزائفة، وعصبت عينيه عن رؤية الحق الصراح، فتطوعوا بخدمة قطاع الطريق الماكرين، حتى أن بعض المراكز الإسلامية في الغرب وغيره أصبحت أوكارًا للرافضة وغيرها، وانتعشت البدع والشركيات حتى صرح بعض سدنة الأضرحة أن إقبال الشباب عليهم في زيادة مستمرة، وأن المريدين أخذت أعدادهم في السنوات الأخيرة تتضاعف، وكلما سمعت أو رأيت شيئًا من هذه الظواهر المرعبة أسأل نفسي بحق: هذه الصحوة الإسلامية التي نبتهج ببشائرها، ونتطلع إلى بواكيرها، أهي صحوة فعلًا، أم هي - عياذًا بالله - انتكاسة جديدة إلى موروثات الوثنية الإغريقية، والصوفية الهندية؟.
أم أن الخمرة المسكرة الوحيدة في نظر بعضنا، هي خمرة الافتتان بالغرب وأفكاره ونظمه، ومن صحا منها فلا عليه أن يسكر بخمرة الوجد والفناء، أو نبيذ البدع والأهواء، فلا يصحو إلى يوم يُبعَثون؟!.
وأسأل نفسي أيضًا: لماذا يرفض شباب الإسلام الفكرة الواحدة نفسها إن كان سندها - مثلًا -: (ماركس) عن (هيجل) عن (أرسطو)، ويعدها كفرًا وإلحادًا، ويقبلها ويتعصب لها - بذاتها - إذا كان سندها: الرازي عن ابن سينا عن أرسطو؟!.
أم أن عداوتنا أصبحت كعداوة الثور للون الأحمر فقط، فنعادي الباطل؛ لأنه منقولٌ عن الغرب وأذنابه، لا لأنه باطل يجب معاداته أينما وجد في واقع أنفسنا، أو في صفحات تاريخنا، أو موروثات مجتمعاتنا ومذاهبنا.
1 / 14
واسم (الإسلام) يطلق على:
(١) - المنتحلون لمذهب السلف اسمًا، والمخالفون له سلوكًا وفهمًا.
(٢) - عموم الاسم لكل مسلم لم ينتسب لعقيدة بدعية، وظلَّ على الإيمان المجمل الصحيح، أو أيًّا كان تخصصه العلمي؛ فقيهًا، محدثًا، لغويًّا، مؤرخًا، شاعرًا، بل العامي من المسلمين يطلق عليه ذلك.
وأما كلمة (أهل السنة والجماعة) فهو مصطلحٌ عزيز، وشعارٌ عظيم، وكيف لا وهو يعبر عن حقيقة الإسلام الصافية النقية التي لا شائبة فيها ولا زيغ، وهو منارٌ وعَلَمٌ على الفرقة الناجية من أمة الإجابة، تلك الفرقة التي تمسكت بما كان عليه ﷺ وأصحابه، وصبرت عليه، وجاهدت في سبيله، فكانوا كما قال بعض السلف: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في سائر الملل).
والتفرق والاختلاف من البلاء الذي لم يرفعه الله عن هذه الأمة منذ أن قتلت خليفتها الثالث عثمان بن عفان ﵁ ظلمًا وعدوانًا، كما أشار حديث حذيفة في الفتن التي تموج موج البحر (١).
فهو في حقيقته عقوبة جرى بها القدر المحكم، تحقيقًا لقوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: (٦٥)].
_________
(١) أخرجه مسلم «٤٤) (١».
1 / 15
على ما فسرتها به الأحاديث الصحيحة (١)، ولله في ذلك الحكمة البالغة، وما أصاب المسلمين عامة من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، وليس بخارج عن سنة الله أن يبتليهم بما لم يبتل به أمم الكفر، أو يذيقهم من البأس ما لم يذقها.
وليس عجيبًا في سنة الله أن يأتي عصر يقلّ فيه أهل السنة والجماعة ويستضعفون، ويعلو فيه أهل البدعة والفرقة ويسيطرون، فهذا أيضًا من الابتلاء - ابتلاء التمحيص والرفع - الذي هو سنة الله في الأنبياء من قبل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١].
﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣].
ولكن العجب المستنكر أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدّعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة!.
أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة وتلبيس أهل الضلالة والفرقة، فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء - دون نكير ولا اعتراض -.
_________
(١) وهي أحاديث كثيرة، جمعها الحافظ ابن كثير ﵀، انظر الطبعة المحققة من تفسيره (٣/ ٢٦٤ - ٢٧٢).
1 / 16
فهذا - حسب التشبيه المأثور في حال أهل السنة بين أهل الإسلام - مثلما لو ادعى عدوٌ للإسلام أن أهل الإسلام بين أهل الأديان قليلٌ؛ كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ورتب على هذا أنهم شذَّاذ لا اعتداد بخلافهم، ولا اعتبار لدينهم الذي خالفوا به سائر أمم الأرض.
فهذا ادعاءٌ لا يستحق كبير اهتمام، ولا يبعث كثير عجب، ولكن لو ادعى هذا العدو أن اليهود والنصارى هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه الأنبياء جميعًا، وأنهم هم الأمة المصطفاة التي أورثها الله الكتاب، وأن المسلمين هم المخالفون لمنهج الأنبياء، وهم أولى أن يسموا بكل اسم سمي به أعداء الأنبياء ومخالفوهم، وسمَّاهم هذا العدو (المشركين أو الصابئين) (١)، أو نحو ذلك.
فهذا ما لا يملك أي مسلم يعرف حقيقة دينه أن يسكت عليه؛ لأنه قَلْبٌ للحقائق، ومكابرةٌ للعقول، ولو شاع مثل هذا الادعاء وسكت عليه المسلمون أو أقروه - كلهم أو بعضهم - حتى أصبح مصطلح (المشركين) أو (الصابئين) يعنيهم عند الإطلاق، ومصطلح (المسلمين) يعني اليهود أو النصارى أو المشركين ... لكان هذا خرقًا فظيعًا عما استقرت عليه الأفهام، وأجمعت عليه العقول، وتعارف عليه التاريخ المتواتر.
والمؤلم حقًّا أن هذا الذي لا يصدقه العقل بالنسبة للإسلام مع الملل قد أصبح - إلى حد ما - حقيقةً واقعةً بالنسبة لأهل السنة والجماعة مع الفرق!.
_________
(١) كما كانت قريش تسمي النبي ﷺ والمؤمنين معه (الصباة).
1 / 17
وقد يكون سبب ذلك أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول (أهل السنة والجماعة)، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثم كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة، لا أعني خسارة الأتباع، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج.
وقد ركَّب الله تعالى في نفوس بني آدم كافة من معرفة العدل ما ينكرون به أن يتقمص اللص شخص الحارس، وأن ينتحل الفاجر شخصية التقي، وأن يدعي الشيطان حقيقة المَلَك.
وعن هذا عبَّر شاعر المعرَّة بقوله:
فوا عجبًا يدّعي الفضل ناقص ** ووا أسفا كم يُظهر النقص فاضل
إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ ** وعيّر قسًّا بالفهاهة باقل
وقال السهى: يا شمسُ أنتِ خفية ** وقال الدجى: يا صبح لونك حائل
وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهة ** وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ** ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
إن الله ﷾ أخبرنا عن أصحاب جهنم أنهم يقولون: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: (١).]. فنفهم من هذا: أن الكفار لا سمع لهم ولا عقل، وأن المؤمنين أهل السنة والجماعة هم أصحاب السمع الصحيح، والعقل الكامل؛ من جهة أنهم يتلقون عن القرآن
1 / 18
والسنة الصحيحة، ويستخدمون قوة العقل، وملكة الفهم للتمييز بين الحق والباطل، وأن أصحاب البدع أصحاب فساد في السمع وخلل في العقل.
ومن فساد السمع التلقي عن الدجالين والكهان والمشعوذين، أو الفلاسفة والملاحدة والصابئين، والاستشهاد بالروايات الموضوعة والواهية.
ومن فساد العقل عندهم: تحريف معاني النصوص الصحيحة، والتأويلات الباطلة، وضرب الوحي بعضه ببعض من أجل تغيير البدعة التي لا أصل لها فيه.
فللمعرفة إذن مصدران لا ثالث لهما:
(١) - إما الوحي، والعقل السليم، والفطرة المستقيمة، كلٌّ منها يصدق الآخر، وهذا من نصيب أهل السنة والجماعة دون سائر الفرق والملل.
(٢) - وإما الأساطير والأوهام والتخرصات والخيالات والوساوس، وهذه تسميها كل ملة منحرفة باسم تزعمه: فالكفار أصحاب النظريات الكونية والنفسية المخالفة للوحي يسمونها (حقائق علمية)، وهؤلاء كذبهم الله تعالى وهدم منهجهم بآيةٍ واحدةٍ من كتابه: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: ٥١].
والفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين المنتسبين للإسلام
1 / 19
يسمونها (البراهين) أو (القواطع العقلية)، وهؤلاء ساروا على المنهج الإبليسي في معارضة الوحي بالرأي: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: (١٢)].
والمشعوذون والدجالون وغلاة الصوفية المنتسبون للإسلام يسمونها (كشفًا وفيضًا ووجدًا وذوقًا ...). وهؤلاء اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما ورثوه من تعاليم هاروت وماروت، وسحرة الفراعنة، وكهان الهندوس، وأصحاب البدود (١)، كما كانوا يسمونهم.
هذا ونحن نقدم للقراء الكرام كتاب الأشعرية الكبير بعد نفاد الطبعة الأولى من الصغير، نرجو أن ينفع الله بها.
_________
(١) وهم البوذيون، فأصل الكلمة واحد (بوذا) أو (بذ) ومعناها: العارف.
1 / 20
أول واجب على المكلف
من البدهيات في التصور الإسلامي - وهو الذي عليه عقيدة السلف - أن أول ما بجب على المكلف: هو توحيد الله ﷿ وعبادته وحده، كما تضمنته كلمة التوحيد (شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذه المعاني انتظمتها روايات حديث معاذ ﵁ حين بعثه النبي ﷺ: إلى أهل الكتاب باليمن، وبيَّن له أول ما يدعوهم إليه؛ ففي رواية: (أن يوحدوا الله)، وفي أخرى: (عبادة الله)، وفي ثالثة: (أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) (١).
على أن أولية هذه القضية لا تختص بالابتداء بها قبل كل قضية، بل تعني ما هو أهم، وهو أنها أهم وآكد القضايا.
أما وجوده ﷾ وأنه خالق الكون؛ فأمر فطري ضروري مركوز في النفوس البشرية جيعها، وإن كابر فيه من كابر.
هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة.
أما الأشاعرة فإن مذهبهم هو عين مذهب المعتزلة المتابعين لأسلافهم من الفلاسفة المثبتين، الذين جعلوا غاية الإيمان ومحصِّله هو (العلم بحدوث العالم وقدم الصانع).
ولما كانت وسيلة هذا العلم عندهم هي العقل وحده فقد دخلوا في متاهة فلسفية، من جهة أن أول ما يتوقف عليه حصول هذا العلم
_________
(١) الروايات جميعها صحيحة. انظر الفتح «٣) / (٣٥٧)، ٣٦١) (١٣/ (٣٤٧».
1 / 21
بجب أن يكون هو أول واجب.
فذهب بعضهم إلى أن أول واجب هو النظر.
وذهب آخرون إلى أنه القصد إلى النظر.
وقال بعضهم: إنه إرادة النظر.
وقال بعضهم: إن أول واجب هو أول جزء من النظر.
وقال بعضهم: أول واجب هو اعتقاد وجوب النظر.
وقال بعضهم: بل الشك هو أول واجب؛ لأنه الذي يدفع للقصد إلى النظر.
إلى آخر ما قالوا من التكلف والتعمق فيما لا طائل فيه!!.
وأصل البلاء: هو إنكارهم للمعرفة الفطرية، بل تصريحهم بأن وجود الله تعالى غير معلوم بالاضطرار، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال.
وهذا ما قرره وصرح به القاضي المعتزلي عبد الجبار (١)، وتبعه القاضي الأشعري الباقلاني الذي قال ضمن ما يجب على كل أحدٍ اعتقاده، ولا يجوز الجهل به: «وأن يعلم أن أول ما فرض الله ﷿ على جميع العباد النظر في آياته ... لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار،
_________
(١) قال في كتابه (شرح الأصول الخمسة) الذي حققه الدكتور عبد الكريم عثمان (ص (٣٩» وهي الأولى من متن الكتاب: «إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر» اهـ.
1 / 22