आधुनिक कविता की क्रांति
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
शैलियों
تلك هي بعض عناصر البناء الذي سيرسي بودلير دعائمه في نظريته في الشعر وفي عدد من قصائده، وسيبدع رامبو ومالارميه وأتباعهما شعرهم على أساسه، وأحب أن أؤكد منذ البداية أنني لم أرسم هذه الصورة حبا في الغرابة أو ولعا بالشذوذ، ولست أريد أن أدعو إليها أو أحبذ تقليدها. وأنا لا أنفي هذا لسبب ذاتي فحسب؛ فالواقع أنني لا أميل إلى كثير من النماذج التي يقدمها هذا الكتاب، وقد أستريح بطبعي لقصيدة من شعر امرئ القيس أو المعري أو الأندلسيين أو البارودي وشوقي وناجي أكثر مما أستريح لقصيدة من السياب أو البياتي أو عبد الصبور أو خليل حاوي أو أدونيس. وقد أجد نفسي في أبيات لسافو أو بندار أو جوته أو هولدرلين أكثر مما أجدها في أبيات لرامبو أو إلوار أو كرولوف أو أنجارتي. ومع ذلك فإن الذوق الفردي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين الشعر الحديث، وواجبنا في كل الأحوال أن نعرف هذا الشعر ونفهمه وندرسه ونتتبع أصوله ونضعه في سياق تراثه. أما أن نتأثر به أو لا نتأثر فشيء آخر؛ ذلك لأن لكل لغة طبيعتها وتاريخها وحياتها الخاصة.
والمهم أن «نعرف» هذا الشعر الغربي كما أكدت في مواضع أخرى من الكتاب بمثل ما نعرف غيره من فروع العلم والفن الحديث، حتى يمكننا أن نعاصر العالم الذي نعيش فيه ونعرف مكاننا منه ودورنا فيه. وطبيعي أننا لن نضيف إليه شيئا حتى نفهمه قبل ذلك ونعرفه ونعاصره.
هذه كلمة لا بد منها حتى لا يصيبني رذاذ ذلك الشعار الرخيص السخيف الذي يحلو لكثير من الناس ترديده في هذه الأيام عن «عقدة الخواجة» أو «الغزو الفكري» وما إلى ذلك من الصيغ البليدة التي تحاول تبرير الكسل والتخلف والجمود. •••
سيلاحظ القارئ أن الكتاب يرتكز في مجموعه على ثلاثة شعراء جرت العادة في كتب الأدب على وصفهم بأنهم أقطاب المدرسة الرمزية. وسيدهشه أن كلمة «الرمزية» لن تصادفه في الكتاب كله سوى مرات معدودة لن تزيد على أصابع اليد الواحدة. فقد آثر الكاتب أن يتجنب هذا الاصطلاح الشائع الغامض ويستعيض عنه بتحليل النصوص نفسها ودراسة الظواهر الفنية التي أدت إلى هذه التسمية. والواقع أن الكلام عن المدارس والحركات الأدبية، كما يقول الناقد الكبير س. م. بورا،
1
شيء محفوف بالمخاطر . فأنفاس الإلهام تهب عنيفة كالرياح وتستعصي على القياس، وشخصيات الشعراء أعمق وأعقد من أن تصنف في هذه الفئة أو تلك، ولغتهم أغنى من أن تتخذ مثالا لقاعدة أو مذهب بعينه. هذا شيء لا بد من قوله، بل الصياح به إن أمكن بصوت يصم الآذان لنقادنا المولعين بترتيب الأدباء والشعراء في برامج ومدارس وأدراج، وهم لا يدرون أنهم في الحقيقة إنما يضعون عليهم شواهد قبور ويحشرونهم في توابيت وأكفان.
غير أن هذا لا يمنع من القول بوجود خصائص مشتركة، تميز الشعراء الأوروبيين الذين كتبوا بعد سنة 1890م عن الجيل الذي سبقهم والجيل اللاحق لهم، بحيث نستطيع أن نسلم بأن هناك تغييرا قد تم، وأن الشعراء المحدثين يشتركون في صفات تجعلهم أشبه بأعضاء أسرة واحدة تشغلهم هموم واحدة أو متقاربة، وإن كان من الضروري أن نؤكد مرة أخرى أن هذه الصفات لم تأت عن قصد ولم تكن نتيجة برامج متفق عليها، وإنما هي أوصاف تطلقها عليها الأجيال اللاحقة عندما تلاحظ أنهم يمثلون خصائص عصر بعينه ويتحدون في نسيج بناء فني مشترك.
وإذا أردنا أن نتوخى التبسيط واستخدمنا كلمة «الرمزية» جريا على الاصطلاح المعروف فلا بد من التمييز فيها بين حركتين أو موجتين متتابعتين. بدأت الحركة الثانية بفريق من الشعراء بلغوا قمة نضجهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ثم استنفد الآن طاقته بعد موت أكبر ممثليه وأصبح جزءا من التاريخ، من هؤلاء الشعراء بول فاليري ورينيه ماريا رلكه وستيفان جورجه وألكسندر بلوك ووليم بتلرييتس ...
والواقع أن الكتاب لم يكتب عن هؤلاء، وإن كان يذكر بعضهم ذكرا عابرا ويثبت في المختارات قصائد من شعرهم، بل إنه لم يكتب في الحقيقة عن شعراء بعينهم وإنما أريد به أن يكون مدخلا لفهم الشعر الحديث بوجه عام وإلقاء الضوء على العوامل التي تتحكم في بنائه؛ ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يعنى بالحركة الأولى التي يعد الشعراء المذكورون امتدادا لها، ألا وهي حركة الشعراء الذين يسميهم تاريخ الأدب تارة بالشعراء «الرمزيين» وتارة أخرى بشعراء الانحلال أو الانحطاط أو الشعراء الملعونين (كما سماهم واحد منهم وهو بول فيرلين في معرض الدفاع عنهم). وكل هذه الأسماء والأوصاف كما قلت غامضة تستوجب الحذر في استخدامها، ولذلك ابتعدت عنها الصفحات التالية بقدر الإمكان وحاولت أن تتفرغ لفهم الشعر نفسه وتحليله، ابتداء من الإرهاصات التي آذنت بتكوينه في صورته الحديثة عند الرومانتيكيين، مارة ببودلير الذي كان أول من احتفل بالرموز ومهد الطريق لتقدير قيمتها الكبيرة في بنائه، إلى فيرلين الذي استخدمها بفطرته الغنائية البسيطة العذبة، وإن ظل أثره محدودا على أشكال الشعر الحديث ونظرياته ومثله، إلى رامبو الذي سار ببعض أفكار بودلير وإدجار ألن بو إلى غايتها الحاسمة وخاض بها بحار تجربة شعرية فريدة صاخبة، إلى مالارميه الذي يعتبر خاتمة هذه الحركة وتاجها وذروتها، بحيث لا تذكر «الرمزية» إلا ويذكر معها اسم مالارميه وجهوده في خلق «الشعر المحض» وإرسائه على أسس فلسفية أو ميتافيزيقية. وهؤلاء الشعراء يكادون يتفقون في نظرة واحدة إلى الحياة ونظرية موحدة في الشعر على الرغم من الاختلاف بين تجاربهم ومدى تأثيرهم في بلادهم أو خارجها وارتباط الأجيال اللاحقة بهذه النظريات أو خروجها عليها إلى نظريات مستقلة وتجارب متميزة.
ومع أن التعميم شيء خطير فقد نستطيع أن نجمل خصائص هذه «الحركة» في مجموعة من الملاحظات التمهيدية التي سيزيدها الكتاب توضيحا وتفصيلا: (1)
अज्ञात पृष्ठ