आधुनिक कविता की क्रांति
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
शैलियों
ونسأل الآن سؤالا ربما طاف بذهن القارئ: ما هو مستقبل الشعر الحديث؟ والحق أن الجواب على مثل هذا السؤال شيء عسير إن لم يكن أقرب إلى المستحيل. فلا يدري أحد حين تنشب ثورة إلى أين ستنتهي. وقد يقول إن ثورة الشعر الحديث قد أوشكت أن تبلغ نهايتها إن لم تكن قد بلغتها بالفعل، وإن الشعر الجديد قد أوشك أن يستنفد طاقاته، ولا بد أن يبحث الشعراء والنقاد عن مخرج جديد.
ولكن كيف يبدو هذا المخرج وعلى يد أي عبقري أو مجموعة من العباقرة سيتم؟ هل سيبتعد عن الموجات الصاخبة والشعارات الصارخة والمدارس المتحمسة والبيانات المزهوة بكل جديد، أم سيظل يدور تلك الدورة المحتومة التي كتبت على كل نشاط يبذله الإنسان؟
لقد غاص الشعراء في عالم الباطن، واغترفوا من كنوزه ورموزه وأحلامه وأساطيره، وساروا في رحلة طويلة بدؤها من الرومانتيكية إلى الرمزية إلى السيريالية إلى عديد من «المودات» التي لا تكاد تلمع حتى تخبو. فهل سئموا هذه الرحلة المضنية في العالم السفلي للذات، وهل بدءوا يوجهون الأبصار إلى عالم الجسد والواقع والأرض والظواهر التي ترى وتلمس، وتحس وتشم؟ هل سيكفون عن تمزيق الواقع والإغراب في اللغة؟ وهل يزهدون في صوامعهم الزجاجية الملونة التي طالما لجئوا إليها؟ قد نقول: إن محنة العالم ورعب الحروب وأخطاء العلماء وتعاسة الجماهير تهزهم وتقلقهم وتدفعهم إلى محاولة إنقاذ العالم النقي البريء من المصير المخيف الذي ينتظره. ولكن ألم يفعل الشعراء الحقيقيون ذلك في مختلف العصور وبمختلف اللغات والأساليب؟ وقد نقول: إنهم يبحثون الآن مع نقادهم ومنظريهم الأكاديميين عن موجة جديدة، معقولة أو غير معقولة، يطلقون بها صواريخ ملونة تجذب أنظار الناس التي يبدو أنها شغلت عنهم بتعاسة الحروب المتصلة، وسخف الأبطال الزائفين، وشقاء البحث عن لقمة العيش، وملل الكفاح والتعب والانتظار الطويل للسلام والحرية الموعودة. ولكن هل فعلوا دائما غير هذا؟ وهل أجدت قصائد الشعراء أو لوحات الرسامين أو ألحان الموسيقيين في ترويض الوحش الكامن في الإنسان؟ هل استطاعت أن توقف الرصاص أو تغلق السجون أو تخفف التعذيب والشقاء المتصل على مدى العصور؟
لا أحد يدري كما قلت. وترك الأسئلة مفتوحة لا يعني أن نتشاءم أو نستسلم للحزن، فهذا شيء لا بد أن نرفضه ونقاومه دائما وبكل ما نستطيع من وسائل (ومنها الشعر). ولكنه يعني أننا لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبل الشعر ولا بمستقبل غيره من الفنون، وكل ما نستطيعه أو ما يجب أن نفعله هو أن نعرف حالته الحاضرة، و«نفهم» كيف وصل إلى ما هو عليه.
إن المدارس الجديدة تلتئم ويلتف حولها المتحمسون حينا ثم ينفضون كل إلى سبيله. والسؤال القديم - الذي لا نكف نحن الشرقيين عادة عن توجيهه!- هل هناك جديد تحت الشمس؟ وهل ترك لنا القدماء ما نقوله؟ يمكن أن يجاب عليه بنعم ليس هناك جديد! كما يجاب عليه: بل هناك ما لا نهاية له كل يوم بل كل لحظة مما يمكن أن يجرب ويقال، وبخاصة بالنسبة لنا نحن العرب الذين نريد أن نحافظ على التراث ونتجاوزه في آن واحد، ونصمد في مواجهة الحاضر بكل نكباته ونصر على ميلاد مستقبل جديد مهما كان الثمن. (وما أكثر ما يستطيع الشاعر العربي الجديد أن يقول ويضيف في هذا المجال! وما أعظم وأجمل ما قاله وأضافه بالفعل!)
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل كما قلت. فالثورات في عالم الفن تمضي في سبيلها ثم تنقلب إلى ضدها، وتنشأ ثورات أخرى باستمرار (الفن طائر خجول يأبى أن يرضى بالأقفاص. وطالما حبسوه في المعبد والكنيسة وقصر السلطان وديوان الحكم ومقر الحزب فعرف دائما كيف ينجو بنفسه). وليس معنى هذا أن ندين الثورة الجديدة في الشعر الحديث في أوروبا أو ثورة الشعر الوليدة في بلادنا، فليس من وظيفة الكاتب أن يحكم ويدين، بل من واجبه أن يفهم ويتعاطف. وماذا يمكن أن يتعلمه شاعرنا الجديد (حارس لغتنا وتراثنا وضميرنا، وأمل حاضرنا ومستقبلنا) من دروس نصف قرن قطعها الشعر الحديث في بلاد غير بلاده؟ لا شك أنه يستطيع أن يتعلم الكثير. يستطيع أن يتعلم أولا ألا يقلد هذا الشعر تقليدا أعمى، وألا يتجاهله مع ذلك أو يسدل دونه الأستار. ويستطيع أن يتعلم كيف يضع تراثه بين عينيه وفي حبات قلبه على أن يتعلم في نفس الوقت كيف يتجاوزه إلى مشكلات الحاضر وآمال المستقبل، ويستفيد من حكمه وأخطائه، ويميز كنوزه وروائعه من نفاياته وأعبائه، ويواجه عالم القلق الحديث بمزيد من جسارة اللغة وشجاعة الذات التي تصر على أن تحقق نفسها أو تموت.
إن الشعراء سوف يغنون دائما، كما سيولد الأطفال وتتفتح الأزهار وتغرد العصافير ويعذب المساكين في الأكواخ والحقول والسجون ومكاتب الوظيفة. وستنشأ المدارس الجديدة والشعارات الكبيرة، ويتصارع القديم والجديد، ويثرثر ذوو الأصوات العالية والشعارات التافهة والبدع الرخيصة. سوف تختلط الحكمة بالغباء، والحقيقة بالزيف. لا بأس من هذا كله ولا سبيل إلى تلافيه، ولكن المهم أن يتجاوب الشعراء مع الناس، فيمتعوهم بألحانهم الشجية أو يصدموهم بألحانهم المتنافرة، ويستجيبوا لشوقهم الخالد إلى الغناء وحنينهم الدائم للاستماع إلى الصوت الدافئ الصادق الأمين. المهم أن يدركوا دائما أن الشاعر، بالمعنى القديم الأصيل لهذه الكلمة،
1
هو صاحب رسالة، بل هو نبي يرفع صوته ليبشر أو ينذر، ويغير العالم كما يغير النفوس بقوة الكلمة وسحرها، حتى ولو قدر عليه في بعض الأحيان أن يضيع صوته في الصحراء.
لا يستطيع أحد ولا يجوز لأحد كما قلت أن يتنبأ بمستقبل الشعر الحديث. وكل ما نستطيعه هو أن «نعرف» حالته الحاضرة، «ونفهم» لماذا وكيف وصل إلى ما هو عليه، ونعايش الموقف العقلي والحضاري الذي أدى به إلى هذا المصير. وأنت حر أيها القارئ في أن تحب الشعر الذي يقدمه لك هذا الكتاب أو لا تحبه، وأن تقبل عليه أو تنفر منه. ولكن لا تنس أن يكون حبك له أو نفورك منه عن فهم ومعرفة. (1) لوحة تاريخية عن الوقائع البارزة في الشعر الحديث، وأهم أعلامه ودواوينه والبحوث المتصلة به
अज्ञात पृष्ठ