عندئذ انبرى آدمي إلى رحبة المناقشة وصاح بملء فيه: أنا جمال السفاح! أقر وأعترف أني كما قال ذو البهاء البعل أرجنتوس: أداة بيد المال الذي خلقه، وكنت بقوته أفعل وبإرادته أتحرك، ولولا المال الذي وضعت نفسي وجيشي تحت أمره لما استطعت أن أميت لبنان المتمرد جوعا، فالمجد والتسبيح لإله المال.
فقال أرجنتوس: شكرا لشهادتك الناصعة في حينها يا جمال يا بطل الأبطال.
فانبرى هأجوج زميل مأجوج وقال: كفى سفسطة يا هؤلاء! تعزون للمال عقلا وإرادة وسلطانا، وما هو إلا نتيجة عمل الإنسان، فإذا الإنسان متسلط على ماله يتصرف به كما يشاء.
فقال أرجنتوس: مهلا أرك! إن مال الإنسان متسلط على الإنسان. لما صار المال ينوب عن نتيجة العمل أو يمثل العمل، رأى الإنسان أنه في وسعه أن يقتني بماله ما يشتهي؛ فأحب المال وعشقه، شغف به وألهه، وصار يتفانى في سبيل جمعه وادخاره، شعر أن في يده قوة تخضع له من لم يكن ذا مال.
فقاطعه يأجوج قائلا: إذن جعلت المال حصانك المطهم يمتطيه فارسه الإنسان. - بل جعلت الإنسان حصانا يمتطيه المال ويكزه في خاصرتيه حتى يدميهما؛ فهناك عابد للمال طامع به، يتفانى في سبيل جمعه بكل وسيلة، يضحي لأجله براحته وقوته وذمته وشرفه، ثم يضن به على الرحمة والصدقة، ويقتر على نفسه حرصا عليه، ولا يكف عن الحرص والجهد والتقتير والبخل إلى أن يموت ويفنى، والمال هو الحي الباقي. وهناك كافر بالمال سفيه يبدد ما جمعه منه غيره إنفاقا على شهواته وملذاته الجسدية التي تتلف جسده ونفسه معا، إلى أن يهجره إلهه هذا نقمة عليه، حتى متى عضه ناب الفقر هرع إلى هيكل المال متضرعا مستغيثا تائبا، ولكن هذا الإله حقود قاس لا يقبل توبة التائبين، وهناك مسترزق لم يكن يعلم صولة المال، ولكنه في يوم عصيب احتاج إلى غوثه، فلجأ إلى هيكله متوسلا إلى كاهنه الذي يمجده أن يقرضه رأس مال يستعين به على إدارة عمله، يقترض بربا، ولا يلبث هذا الغبي أن يرزح تحت عبء الدين، فيشقى في الجهاد لتسديد رأس المال والربا معا، وعبثا يسعى ويجاهد؛ لأن ذلك الكاهن المتعبد للمال يتسلط عليه بقوة المال، ويمتص دمه ويرتوي بعرق جبينه.
فقاطعه مأجوج قائلا: تعني أن الناس في دولة المال فريقان: فريق يشقى، وفريق ينعم على حساب شقاء ذاك؟
فقال أرجنتوس: بل الفريقان يشقيان معا؛ ذاك قلق على ماله، وهذا يبذل عرق جبينه في إناء ذاك حيث يتبلور مالا، وكلا المالين يقدمان في هيكل المصرف محرقة للإله. - ولكن إلى الآن لم نفهم كيف جاهد حصانك المطهم في حرب الفتح؛ فتح ملكوت الإنسان؟! - إن هذا الحصان يا عزيزي مأجوج مجاهد في حرب دائمة بلا انقطاع منذ عهد آدم إلى اليوم، وسيبقى مجاهدا حتى يهلك هو وفارسه معا، وقد اخترعت المصارف لتكون من جملة الهياكل التي يعبد فيها المال، وفيها يقدم العاملون والمتحايلون على استقطار عرق العاملين، قرابين جهادهم العنيف في جمع المال، وهناك يركعون ويسجدون لتماثيل المال ويصلون لإله المال؛ لكي تنمو ثرواتهم وتكثر متوالدة وتملأ الأرض! - تتوالد؟! - نعم، جعلت المال يولد ويلد مالا وينمو ويتكاثر، أليست المرابحة والمراباة مولودي رأس المال؟! ثم لا يلبث الربح أن يشب ويترعرع ويصير رأس مال كأبيه يلد أرباحا، وهكذا دواليك! - ولكنك قلت إن المال نتيجة العمل، هو عرق الجبين المتبلور مالا، فكيف يولد المال بلا عمل؟! - فأجاب: المال المولود من العمل يتغذى من دم العامل، وأما المال المولود من رأس المال فأغذيه من الهواء! - ويحك! إذن جعلت الهواء قوة مال في أيدي البشر، فأنت تقوي البشر! - نعم، لو كان الهواء قوة، ولكن ليس إلا هواء أو هوسا، وأهل المال يبنون فيه قصور ثرواتهم الشامخة الباذخة! وأي بناء يثبت في الهواء؟! - إذن؟ - إذن الإله الذي يتغذى هواء لا يكون أقنومه إلا الريح، فذوو المال يقبضون الريح. - لم أفهم: كيف يتغذى إله المال بالهواء؟!
حلما يا عزيزي وتعطفا بالإصغاء! استنبطت هياكل تقدم إليها قرابين الأموال، ومذابح تقدم لها ضحايا الجهل والعمل حيث تطبخ لتغذية إله المال.
فقال مأجوج ضاحكا هازئا: إني أشم رائحة زكية شهية في مطابخك يا أرجنتوس. - إنها لشهية جدا يا عزيزي! فأول مذبح هو مذبح الشركات المالية، تضحى فيها رءوس الأموال الكبيرة، وتطبخ طبخا ينضج في عمل كبير يشتغل فيه ألوف العاملين، هؤلاء يكدون ويكدحون ورءوس المال تجني عرق جبينهم أرباحا، والمساهمون كالعاملين يشقون في تغذية إله المال، وهذا الإله يضخم وينتفخ في هيكل الشركة، ولكن ما هو؟ هو إله هوائي أثيري، ليس إلا قيودا في دفاتر المصارف والأسهم والسندات، وأما نتاج العمل فالنزر اليسير منه يستهلكه هؤلاء بتقشف، وأولئك ببذخ وتهتك، والوافر منه مخزون لكي يستهلكه السوس والصدأ وعفونة البلى. - حقا ويقينا أني أشتم رائحة العفونة الكريهة من هذا المطبخ، وأرى السوس والدود والجراثيم تكثر وتملأ الأرض على حساب العمل ورأس المال. فعسى أن تكون رائحة المطبخ الآخر نكهة يا أرجنتوس! - أما المذبح الآخر الذي أغذي بقرابينه إله المال فهو يا عزيزي أعظم من ذاك وأفخم! والقدور فيه أشد غليانا، ومطبخه سوق الأوراق المالية. - الأوراق المالية! وماذا جرى بالتمثال الذهبي البديع الجميل الذي ابتدعته أولا للعابدين؟! - لما عظم هذا التمثال الذهبي واستنفد كل ذهب الأرض نصبته في قدس أقداس الخزائن الحديدية؛ حيث لا يصل إليه إلا كهنة المال، ويبقى محجوبا عن عباده؛ لأن حجبه عن الأعين يزيده قيمة ومهابة وسموا، ويذكي نار الشوق إليه، واصطنعت بدله من الورق أيقونات وصورا رامزة له، فعباد المال يسجدون الآن للورق بدل الذهب!
فقال مأجوج: تعني أنهم يسجدون للصور بدل التماثيل! ولكن موسى قال: لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء أو على الأرض، فأنت لم تكسر إلا حرفا واحدا من الناموس. - كسرت الحرف الآخر؛ إذ جعلت الصكوك وقيود الحسابات في الدفاتر تنوب عن عملة الورق، فأصبح البشر حافظي شريعة موسى حرفيا، لا يعبدون التمثال ولا الصورة؛ صورة البنكنوت، بل يعبدون حبرا على ورق الدفاتر فقط!
अज्ञात पृष्ठ