الذكر والأماني صنوان، لزا في قرن. غير أن باعث الذكر التعلق بما مضى، وباعث الأماني الرغبة فيما يستقبل، ومن أجل ذلك كانت الأماني أقرب إلى خاطر اليافع وأحب إليه من الذكر؛ لأن عيشه مقتبل، ولم يزعجه - مما تقع به الحوادث الكارثة - ما يخفض من غلواء طموحه وتعلقه برغائبه. أما الشيخ الهرم فقد لقي من الطارقات ما تركه فقير الأماني غني الذكر، والأماني إذا استثيرت كانت كالنار يتبع شبوبها خمودها، وإنما يستثيرها الطموح.
إن كل أصناف النعيم الزائل تثير الذكر الغر فينبعث اللسان بالكلم الرقيق، فهو تارة يناجي الزمان الخالي وينشد فيه لذاته، وتارة يتوجع من فقدانها، وتارة يسألها الرجوع إلى ما عهد منها، ألا يجول بخلدك إذا قرأت قول ابن زريق:
بالله يا منزل القصر الذي درست
آياته وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه؟
أن تلك الليالي وذلك الزمان الذي عمرته لذاته، قد صار جزءا من نفسه وشيئا من حبة قلبه، فهو لا يستطيع أن يكون بمنأى عنه، وليس هو براغب في ذلك، ولكنه لو رغب ما وجد إلى رغبته سبيلا، وكيف يمل صحبته وهو خلاصة حياته وأحق شيء منها أن يفدى من سلطان النسيان.
على أن الذكرى لا تكون إلا بعد سطوة من سطوات النسيان، فإذا كان النعيم الخالي حاضر الذكرى في ذهن المرء، لم تكن ذكراه خليقة أن تدعى ذكرى، وفي مثل ما نعني يقول الشريف الرضي:
وقال تذكر هذا بعد فرقتنا
فقلت ما كنت أنساه لأذكره
अज्ञात पृष्ठ