ثم أخرج من ثيابه رغيفا فجعل يأكله، فكدت أبكي فرحا من جرأة هذا الجريء، ثم قلت له: أصحيح أنك تحتقر الحياء؟ فقال: إني أريد أن أرفع عن النفوس حجابا من الحياء الكاذب فأجلوها مكشوفة الجسم، ولكني أجلوها في زي طفل صغير، والطفل إذا كشف جسمه ملأنا ضحكا ولم يملأنا غضبا، ثم رفع يديه وقال: أيتها الآذان العفيفة، إني لا أتلو عليك غير ما يحدثك به ذلك الهاتف الذي يهتف من أعماق الروح، فإذا أبت لك اللجاجة أن تنزلني منزلة الطبيب الذي يصلح سقم المريض فيعطيه من الصحة والعافية، ويأخذ من دراهمه فأنزليني منزلة الطبيب الذي يأخذ من صحة المريض ويعطيه أجرة إتلاف جثته. أليس هو خيرا من ذلك الطبيب الذي يتقاضى المريض أجرة إتلاف جسمه وجعله رمة بالية؟!
فتركته وجعلت أمشي، حتى رأيت فلانا الشاعر يلقي على تلاميذه درسا في مستقبل الشعر، فسمعته يقول: الشعر عند كثيرين من شعراء اليوم مثل إناء حلية يضعونه في بيوتهم زينة لها، أو كفاكهة الجص التي ليس لها نفع، ولكنه عند العبقريين إناء منفعة يستعملونه في الحوائج. أليس إناء الحاجة خيرا من إناء الحلية؟ وسكت قليلا ثم قال: ألم تسمع في قصص العجائز أن ساحرا أسر فتاة حسناء وحبسها في قصره وأعطاها مفاتيحه، ولكنه حرم عليها أن تقرب غرفة من غرفه، وأنها ترقبت غيابه؛ حتى إذا غاب عن القصر فتحت تلك الغرفة، فرأت فيها من بنات الملوك عددا كبيرا، وكان قد أحبهن ذلك الساحر فأسرهن واحدة فواحدة، ولما ملهن سحرهن وجعلهن في الغرفة، فعلمت الفتاة أنها لا محالة سائرة إلى حيث سرن ... إلى آخر هذه القصة. إنه ليجول في خاطري أن تلك الفتاة هي الشعر في هذا العصر، وأن ذلك الساحر هو غول التقليد والعجز والجبن الذي حرم على الشعراء أن يقربوا المعاني الكريمة التي سحرها وحبسها. انظر إلى الشعراء كيف يبغضون كل من كان حر الذهن حر الرأي، فإذا سلك بينهم طريقا عذراء قالوا: ما هو إلا خابط ليل قد أضل طريقه، قلت: صدقت. قال: ولكن الشعر حر يأبى أن لا يرى جوانب الحياة، وينظر في تلك الغرفة المحرمة ليرى ما بها من المعاني الكريمة الأبكار.
ثم مررت بالسيد عصفور يلقي على سامعيه درسا في فن الغناء، فسمعته يذكر للغناء تعريفا بليغا كان بودي أن أذكره، ولكن منع من ذلك أنه يقال ولا يكتب؛ لأن كله صياح.
ثم رأيت على قرب تماثيل عارية فقربت من بعضها، وكان تمثال عطارد، فقلت له: ما تستحي أن تخرج إلى الناس عاري الجسم؟ فقال: على رسلك، أما والله لقد كدتم تنسون أن الإنسان خلق عريانا، وصرتم تعيشون في ثيابكم بدل أن تعيشوا في أنفسكم، ولم يبق بينكم غير هذه التماثيل توقظكم رؤيتها من غفلة المدنية وذل العادة، وتخرج من قلبكم ذلك الجبن الذي مكنه الجهل منها، فكيف تستحون من رؤية أجسامكم وأنتم لا تستحون من مواقعة الرذائل؟ فقلت: أعوذ بالله، هذه بقية من بقايا الوثنية. فقال: يا قتلى المظاهر وأهل الرياء! إنما الحياء هو إباء المرء أن يعاقر الرذيلة، وأما ذلك الحياء الذي يمنع المرء عن التماس ما يفك عنه قيود العادة فهو مثل الحمرة التي تصبغ بها الهلوك وجهها لتخفي ما بقي من الحياء الصادق، وكان تمثال الزهرة قريبا منا، فلما سمعت حديثنا قالت: ليس الجمال ضعفا، ولكنه قوة للأمم تزيدها رغبة في الحياة، فتلتمس أسبابها وتستفز قواها رغبة في التمتع به، وإنما الضعف يتسرب إلى الأمم من رغبتها عن بعض أنواع الجمال، وليس التعلق بجمال الأجسام وجمال الفنون عائقا عن الرغبة في جمال الخلق وجمال العلم وجمال القوة، فإن أنواع الجمال مثل أصابع اليد يعين بعضها بعضا، وليس جمال المادة وجمال أشكالها بمخفوض الشأن إذا عد أنواع الجمال، فلولا جمالها لكانت الحياة حملا ثقيلا، فالجمال أجل نعمة أنزلها الله على الناس، ثم إن بين جمال الخلق وجمال الجسم صلة، والدليل على ذلك أن رؤية الجمال تهيج في القلب عواطف الرحمة والكرم والرفق.
إن لذتنا في الجمال تفك عنا أغلال العادة لنعيش معها، فلذة الجمال هي نشوة الحرية، ولكن جلال الجمال صحو من تلك النشوة. ثم تضاحكت وقالت: هيهات أن تأخذوا من الفكر الحر ولو أفقتم من غفلة العجز لعلمتم أن أغلاط كتاب الشرق التي سببها التقليد والجبن. كانت تقول ذلك وهي تسخر، فغضبت ورفعت هراوتي لأضربها بها فانتبهت من النوم فزعا من أجل ألم شديد في قدمي اليمنى، فعلمت أني ضربت بها الحائط وأنها كانت هراوتي التي رفعتها في الحلم لأضرب بها الزهرة ربة الجمال.
قتلى المظاهر
قال المتنبي:
خير الطيور على القصور وشرها
يأوي الخراب ويسكن الناووسا
وكذلك الصفات، أحسنها ما كان حلية النفس العظيمة، وأقبحها ما تخلقت به النفس الضئيلة، وكما أن الظلام مأوى الذنوب، كذلك النفس الضئيلة مأوى المظاهر؛ لأنها وسيلة العاجز وحيلة الضعيف، ومن انقطعت دون الفضل أسبابه مت إليها بأسباب أوهى من حبال الشمس، وهي خدعة يزيفها الناقد.
अज्ञात पृष्ठ