من الحقائق التي هي أغلاط أيضا نظرية في علم الحساب، وهي أن ثلاثة رجال هم أبدا ثلاثة رجال، أعطهم عملا يعملونه، وسل علماء الاقتصاد هل هناك ربح ناتج من اشتراكهم في العمل، ومن تفرد كل واحد منهم بفرع من فروع العمل، فيقول علماء الاقتصاد: نعم، هناك ربح في أن يتقن كل واحد ما يتفرد به من فروع العمل، فثلاثة رجال في حين انفرادهم هم خمسة رجال أو ستة رجال في حين اشتراكهم في العمل وتفرغ كل منهم لفرع منه. ثم واجه بهذا القول علماء الحساب، يقولون لك: إن ثلاثة رجال هم أبدا ثلاثة رجال. ثم واجه بهذا القول العلامة راسكن يقل لك: إن ثلاثة رجال في حين اشتراكهم وتفرد كل واحد منهم بفرع من فروع العمل أقل من رجل واحد؛ لأن ما يخسره العامل من ذكائه وملكات عقله بسبب انفراده بفرع واحد من فروع العمل «مثل صنع رأس دبوس» أكثر مما يكسبه المتمول من المال ...
يقول علماء السياسة بصيانة حقوق الفئة الكبرى من الأمة من غير إضاعة حقوق الفئة الصغرى، ولكن إذا تضاءلت مصالح الفئة الكبرى ومصالح الفئة الصغرى ولم يكن حفظ مصالح الفئتين فهم يقولون بإضاعة الفئة الصغرى حفظا لحقوق الفئة الكبرى. هذا عدل وهو غير عدل، هذا صواب وهو غير صواب، هذا خطأ وهو ليس بخطأ ... ماذا تقدر أن تقول غير ذلك؟
الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة أنه يغيظني ضيق الفكر الذي يبديه كثير من الناس في النظر إلى الحقائق، هم يظنون أن الشيء إذا كان صوابا فليس به شيء من الخطأ، وسبب ذلك صلابة في الرأي خارجة من قلة اختبارهم أمور الحياة اختبار المفكر الباحث، ومثل هؤلاء أناس يقولون: إن الشيء إذا كان شرا فليس به شيء من الخير، وإنه إذا كان خيرا فليس به شيء من الشر. لكن أمور الحياة ليست كذلك، وكما أن السم - وهو شر - جزء من الدواء - وهو خير - كذلك أمور الحياة تمتزج الأضداد فيها، هذا مفتاح الحياة، ومن عرف الحياة كان أكبر من الحياة، فإن عرفانه الحياة يملأ صدره حزما وبصيرته صفاء.
المثل الأعلى
كلما بلغ الإنسان مبلغا من العلم زعم أنه وصل إلى الصميم من دائرة العرفان، حتى إذا تعداه البحث إلى ما هو ألصق بالحقيقة منه زعم في الثانية ما زعم في الأولى، ولا يزال يأخذ الجديد من الأمر مأخذ الأشرف؛ لأنه مما تكون له مهابة في النفس وحلاوة تعلو به عن حقيقة قدره، ولئن تكثرنا بما انتهينا إليه وانتهى إلينا من صنوف العلم وأبوابه فلا نزال نخبط منه في طريق عذراء ونركب مركبا غير ذلول، وإنما نعني ما يرجع منه إلى معنى الحياة وما ينبغي أن تكون عليه.
فأسأل النابغة القدير والحكيم الأديب عن مبلغ علمه وما وصل إليه من الحقائق، ثم اعرضها على غيرها تر أن منها ما يكذب بعضه بعضا، فتكاد تحسب أن الحق موصول بضده ومردود إليه، وأنه يختلف كما تختلف الغرائز، وتكاد تحسب أن الحق في الشرق غيره في الغرب، وأنه في الشمال غيره في الجنوب.
انظر إلى مسألة من تلك المسائل التي لاكها البحث ثم نبذها على غير جدوى، اللهم إلا صيحات تتبعها نزعات، ونزعات ترددها أفواه الباحثين وقلوبهم، تجد أنها قد مضى عليها الدهر وتوارثتها الأيام وتلقفتها العلماء، وهم مختلفون في أنحائها كما كانوا، والزمان على غير هذا الوضع.
ثم دع هذه وانظر إلى أخرى استقر الباحثون في أصولها وأخذوها مأخذ الحقيقة، وعاشوا بها زمانا حتى كان أناس غيرهم، فوجدوا فيها من الباطل ما لم يجده الأولون.
وانظر إلى أخرى كانت حقا معظما عند قوم، فصارت باطلا مخذولا عند آخرين، ثم عادت كما كانت في أول أمرها، تجد ما يمكن الشك من قلب الباحث ويضع أمر هذا الوجود موضع الريبة، لولا أننا نتهم أنفسنا بالتشبع إلى ما نتبجح به من مذاهب العلم ووسائل العرفان ووسائط التهذيب؛ لأن الفساد يكمن في خلالها، ثم يسطو على الرأي فيجعل السقيم صحيحا والصحيح سقيما.
وقد أصبح العالم بين الناس من لم ينته إليه من العرفان إلا ما كان نائبا عن النفس، وما تحتوي من عواطف وآمال وأغراض.
अज्ञात पृष्ठ