Thalathia Al-Burda
ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
प्रकाशक
دار الكتب القطرية
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٠٠
प्रकाशक स्थान
الدوحة
शैलियों
اهداء
عرفانا بالجميل أهدى هذا الجهد المتواضع إلى روح من حثني ووجهني إلى العلم إلى من أخذ بيدي إلى افاق النور والمعرفة إلى من أعطاني ووهبني من عقله سبل البحث الدائب في كتب العلم..
إلى نفس الطاهرة التي ردت إلى بارئها منذ سنوات طوال، ولكنها لا تزال تظللني بحنان الأبوة، وتفئ على بالحب والعطف.
إلى روح المرحوم:
الشيخ عبد الرحمن بن حمد ال ثاني
حسن حسين
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
محتويات ثلاثية البردة
* الاهداء ٣
* فهرس الموضوعات ٥
* مقدمة ٧
البردة لغويا ٩
مفهوم المعارضة الأدبية ١١
* الفصل الأول: كعب بن زهير ومدح الرسول (ص) ١٧
كعب وقصة اسلامه ١٩
أضواء على لامية كعب في مدح الرسول ٢٤
شرح القصيدة ٢٩
* الفصل الثاني: البوصيري وبردته ٤٧
الامام البوصيري وقصيدة البردة ٥٠
شرح البردة ٥٤
* الفصل الثالث: أمير الشعراء ونهج البردة ٨٧
الشاعر والقصيدة ٩٦
شرح نهج البردة ٩٨
* الفصل الرابع: موازنة بين الأغراض الشعرية
* الفصل الرابع: القصائد الثلاث ١٣٩- ١٣٠
المقدمة الغزلية- الوصف والحكمة- في مدح الرسول والمسلمين- مولد الرسول ﷺ - معجزات الرسول ﷺ - طلب الأمان- الجهاد في سبيل الله- الشريعة الإسلامية- المقارنة بين الحضارات- الخلفاء الراشدون- المناجاة وعرض الحاجات.
1 / 5
* النصوص الكاملة للقصائد الثلاث ١٧٣
بردة كعب بن زهير.
بردة الامام البوصيري.
نهج البردة لأحمد شوقي.
* المراجع ١٩١
هذا والله المستعان
1 / 6
مقدمة
برزت قصائد عدة في أدب النبوة مدحا وتعظيما لرسول الله ﷺ ولعل أبرز تلك القصائد (ثلاثية البردة) وهي بردة كعب بن زهير، وبردة الإمام البوصيري، ونهج البردة لأحمد شوقي، وكلها تنطلق من التعظيم والتكريم لبردة الرسول صلوات الله عليه وسلامه، التي خلعها على أول هؤلاء الشعراء..
ومن ثم رأيت أن يكون البحث في أربعة فصول مهدت لها بالحديث عن معنى (البردة) في اللغة، ومفهوم المعارضة الأدبية.
وجعلت الفصل الأول للشاعر المخضرم كعب بن زهير ومدحه للرسول- ﷺ وتناولت في الفصل الثاني الإمام البوصيري وقصيدته الميمية (البردة)، وخصصت الفصل الثالث لأمير الشعراء أحمد شوقي وقصيدته (نهج البردة)، أما الفصل الرابع والأخير فقد عرضت فيه موازنة أدبية بين قصائد الشعراء الثلاثة من حيث الأغراض أو الموضوعات الأساسية التي تناولها كل منهم في قصيدته، ووضحت خلال ذلك بعض وجهات النظر حول طرق التناول لتلك الموضوعات، ورأيت في نهاية البحث أن أقدم للقارئ الكريم النصوص الكاملة للقصائد الثلاث لعله يطالع هذه الأعمال العظيمة لهؤلاء الشعراء الكبار، ويحلق معهم في افاق نورانية مع مدح سيد الأنام محمد بن عبد الله ﵊.
وليغفر لي القارئ الكريم ما أراني قد قصرت فيه، فانى طالب علم وعلى بداية الطريق ...
والله المستعان
الدوحة في يوم الأحد ٢٧ من رجب ١٤٠٦ هـ
1 / 7
تمهيد
لقد تناول كثير من الشعراء موضوع مدح الرسول ﷺ ورددت الألسنة مدائحهم وبخاصة في حلقات الذكر كلما حلت مناسبة دينية وما أكثرها.
وحظيت القصائد الثلاث التي نظمها الشعراء كعب بن زهير والإمام البوصيري وأحمد شوقي بمكانة طيبة بين قصائد المدح لسيد المرسلين ﵊، وقد جمع بين هذه القصائد خط فكري يكاد يكون واحدا انطلق من التسمية التي صارت علما عليها، فقد عرفت قصيدة كعب بالبردة، ومن بعده كانت بردة البوصيري، ثم جاءت نهج البردة لأمير الشعراء تيمنا ببردة الرسول ﵊.
البردة لغويا:
ورد في المعاجم اللغوية أن البردة كساء مخطط يلتحف به «١» .
بل هي قطعة طولية من القماش الصوفي السميك الذي يستعمله الناس لستر أجسامهم أثناء النهار كما تتخذ غطاء في أثناء الليل وكانت البردة معروفة عند البدو ومن أشهرها برود اليمن «٢» .
وكان هذا النوع من اللباس معروفا في الأندلس ويبدو أن البرد معروف عند فلاحي مصر «٣» .
عن أنس بن مالك قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله ﷺ يلبسه (الحبرة) .
بل هي الحبرة بكسر الحاء وفتح الباء: وهي ضرب من نوع برود اليمن تتخذ من كتان أو قطن محبرة، أي مزينة «التحبير هو التزيين والتحسين» ..
_________
(١) المعجم الوسيط.
(٢) الملابس عند العرب.
(٣) الملابس عند العرب ص ٥٥.
1 / 9
عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة قالت: هل تدرون ما البردة؟
قال سهل: نعم.. هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها الرسول ﷺ محتاجا إليها.
والشملة هي البردة وأن ما يميز الشملة من البردة هو حياكة شيء إضافي في أطرافها (أي بعض الزينة في حاشية البرود) «١» .
وعن أنس بن مالك «أن النبي ﷺ كان شاكيا فخرج وهو يتكئ على أسامة بن زيد وعليه ثوب قطري قد توشح به فصلى بهم وذلك نوع من البرود» .
_________
(١) مختصر الشمائل المحمدية ص ٤٧.
1 / 10
مفهوم المعارضة الأدبية
يقصد بالمعارضة الأدبية النسيج على غرار عمل أدبي اخر، وقد عرفت المعارضة الأدبية قديما حينما بدأ كتاب وأدباء أوروبا بتقليد غيرهم من الكتاب والنقاد وبخاصة الكلاسيكيين (اليونان والرومان) وكانت جودة العمل وقيمته الأدبية تقاس بمدى مطابقته لأعمال أولئك الكتاب، أما على الساحة الأدبية العربية فقد برزت المعارضات وظهرت منذ العصر الجاهلي وقد فسرت بعدة مفاهيم، فمن قائل بأنها احتذاء شاعر بشاعر اخر، ومن قائل أن المعارضة هي أن فلانا سار حيال فلان وعارض فلان كتاب أو قصيدة أو قصة فلان.
والمعارض محب لعمل الاخر ومعجب به ومعترف ببراعة صاحبه، وهذا الاعجاب لا يتقيد بفترة زمنية محددة أو بشخصية دون شخصية «١» .
ونجد هنا اعتراف أمير الشعراء أحمد شوقي باعجابه وتقديره للإمام البوصيري حيث يقول:
المادحون وأرباب الهوى تبع ... لصاحب البردة الفيحاء ذى القدم
ويقول:
الله يشهد أنى لا اعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم
وهناك أمثلة كثيرة في أدبنا العربي للمعارضات الأدبية. ولم تكن المعارضة بدافع الضعف، وإنما لاظهار القدرات من خلال التنويع والوقوف على أجود الأعمال الأدبية. كما أصبح شعر المعارضة ذا قيمة أدبية لثقافة الشاعر وما يحيط به من تيارات وروافد أخرى للوقوف على الحياة الاجتماعية التي عاشها تطورها خلال تلك الحقبة الزمنية؛ والذي يتتبع شعر المعارضة، في أدبنا العربي يجد أنه كان متجليا في جميع العصور الأدبية وقد رصد بعض النقاد حركة المعارضة الشعرية تاريخيا كوتأكدوا من ذلك وبالتالي قسموها إلى الفترات التاريخية التالية: -
_________
(١) المعرضات في الشعر العربي.
1 / 11
١- المعارضة في الشعر الجاهلي.
٢- المعارضة في الشعر الإسلامي (صدر الإسلام) .
٣- المعارضة في عصر الدولة الأموية.
٤- المعارضة في عصر الدولة العباسية.
٥- المعارضة الأندلسية.
٦- المعارضة في العصر المملوكي.
٧- المعارضة في العصر الحديث «١» .
ومن هذا المفهوم المعنى المعارض نقول: إن شوقي في ميميته نهج طريق البوصيري أي سلكه وعارض ميميته الميمونة مقتفيا نفس الطريق
ملتزما بنفس الموضوعات التي طرقها البوصيري في القصيدة مترنما متغنيا بالرسول خلقا وخلقا ومترفقا بحال المسلمين سلوكا وعملا، ومتشفعا بسيد البشر من ذنبه تزلفا وضعفا وواصفا لأخلاق الرسول الكريم وعلو مقامه عند الله وعند البشر أجمعين تكبيرا وتعظيما.
وعندما نذكر (البردة)، نتذكر القصيدة العصماء للإمام البوصيري التي صاغها في مدح الرسول ﷺ ذاكرا مناقبه، من يوم مولده، ومتدرجا بها حتى بعثته الميمونة لتخرج البشرية من الظلمات إلى النور. وهذه البردة ما زالت تردد في كل بقاع العالم الإسلامي وما زالت تحتل المكان الأول بين المدائح النبوية وكل الأشعار التي خاض ناظموها هذا المجال شرفا لهم.
وحين نقول (نهج البردة) فاننا لسنا بحاجة إلى تفسير كلمة نهج إذ يتبادر للذهن مباشرة أن الشاعر قد سار فيها على طريق البردة «٢» .
فقد حظيت البردة بمكانة لم تصل إليها أي قصيدة سواها وبخاصة عند أهل التصوف وشطرت وخمست وسبعت، وإذا كان مقياس خلود العمل الأدبي هو
_________
(١) المعرضات في الشعر العربي.
(٢) هناك أيضا المنهج على وزن المذهب والمنهاج هو الطريق الواضح ونهج الطريق أي أبانه وأوضحه، ونهجه أيضا أي سلكه.
1 / 12
الاهتمام من الناس والانتشار فإن البردة نالت الخلود والشهرة في العالم الإسلامي واحتلت مكانة أدبية فريدة في الأدب العربي وفي الاداب العالمية فترجمت إلى عدة لغات كالفرنسية والألمانية والانجليزية بالاضافة إلى معرفة الفئات المسلمة لها في الهند وباكستان وإيران وغيرها، وتأثر الكثير من شعراء هذه الدول بقصيدة البردة والشعر الصوفي وبخاصة الشاعر محمد اقبال حيث نجد في قصائده الأولى تأثير الصوفية إذ يقول:
قد كان هذا الكون قبل وجودنا ... روضا وازهارا بغير شميم
والورد في الأكمام مجهول الشذى ... لا يرتجى ورد بغير نسيم
بل كانت الأيام قبل وجودنا ... ليلا لظالمها وللمظلوم
لما أطل محمد زكت الربا ... واخضر في البستان كل هشيم
واذاعت الفردوس مكنون الشذى ... فاذا الورى في نضرة ونعيم «١»
ويعتبر الشعراء المداحون لرسول الله ﷺ أن البردة كالدستور للشعر والشعراء فقد نسج على منوالها كثير من الشعراء وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه جديد في مدح خير البرية محمد بن عبد الله ﵊ إلا أنه لم يكن بالصورة التي كانت عليها بردة البوصيري وقد سارع كثير من الأدباء والنقاد إلى شرح البردة، كما لقيت هذه القصيدة من الاهتمام والدراسة والبحث والمقارنة والمعارضة والتنقيب في أغوارها للوصول إلى نفسية وروحانية الشاعر الشيء الكثير.
وقد تأثر بهذه الروحانية كثير من الشعراء مثل أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته «نهج البردة»، كما حاول محمود سامي البارودي معارضة البوصيري في أربعمائة وسبعة وأربعين بيتا يقول في مطلعها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحد الغمام إلى حي بذى سلم
في بلدة مثل جوف العير لست أرى ... فيها سوى أمم تعنو إلى الصنم «٢»
_________
(١) ديوان محمد إقبال.
(٢) ديوان محمود سامي البارودي.
1 / 13
وعارض أبو بكر حجة الحمودي «١» وبذل جهدا مضنيا في معارضة البوصيري وكان ابن حجة شاعرا مسترسلا ومؤلفا، وشعره مملوء بأوجه البلاغة، وشهرته بدأت بمعارضته لقصيدة الإمام البوصيري (البردة) فيقول:
لي في ابتداء مد حكم يا عرب ذى سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
بالله سربى، فسربى طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم
أما عائشة الباعونية «٢» فقد حاولت معارضة البوصيري في قصيدة لها حيث تقول:
في حسن مطلع أقماري بذى سلم ... اصبحت في زمرة العشاق كالعم
أقول والدمع جار جار في مقلتي ... والجار جار يعذل فيه منهم
يا سعد ان أبصرت عيناك كاظمة ... وجئت سلعا فسل عن أهلها القدم
ولا يفوتنا أن نشير إلى تأثر البوصيري في بردته بابن الفارض «٣» في قصيدته التي يقول فيها:
هل نار ليلى بدت بذى سلم ... أم بارق لاح في الزوراء فالعلم
أرواح نعمان هلا نسمة حمرا ... وماء وجرة هلا نهلة بفم
_________
(١) هو أبو المحاسن تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي الأرزاري، ولد في حماة سنة ٧٦٧ هـ، وتنقل في طلب العلم بين الموصل ودمشق والقاهرة.
(٢) هي الشيخة أم عبد الوهاب بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الدين بن خليفة الباعونية الدمشقية، ولدت في دمشق وحفظت القران الكريم وكان عمرها ثمان سنوات، تلقت العلم على يد إسماعيل الخوارزمي، ثم رحلت إلى مصر وتلقت هناك حظا وافرا من العلوم، واجيزت بالأفتاء والتدريس، وقد كانت عالمة فاضلة وأدبية بارعة وشاعرة مجيدة.
(٣) ابن الفارض هو حفص بن عمر بن أبي الحسن الحموي الأصل المصري المولد والدار، سمى بسلطان العاشقين، من أسرة فقيرة، بدأ حياته الصوفية بالاعتكاف والتعبد في جبل المقدم، كان كثير العباده، أما الفن الشعري لابن الفارض فشعره عذب أنيق، والرمزية فيه، وتدور أغراض ابن الفارض على الحب الالهي الذي يقوم على الاتحاد أى الاعتقاد بأن جميع مظاهر الوجود متساوية في الشرف والقيامة لأنها في الحقيقة تمثل جوانب من الألوهية.
1 / 14
يا لائما لا في حبهم سفها ... كف الملام فلو أحببت لم تلم
وحرمة الوصل، واللوذ العتيق وبالعه ... د الوثيق، وما قد كان في القدم
طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا ... أفتى بسفك دمي في الحل والحرم
أيكم لم يسمع الشكورى وأيكم لم ... يحر جوابا وعم حال المشوق عمى «١»
_________
(١) تاريخ الأدب العربي.
1 / 15
الفصل الأول كعب بن زهير ومدح الرسول ﷺ
1 / 17
كعب بن زهير ومدح الرسول ﷺ*
كعب وقصة اسلامه:
يعد كعب بن زهير بن أبي سلمى رضى الله عنه واحدا من فحول الشعراء المخضرمين فهو من مضر، وأمه كبشه بنت عمار بن عدى، تزوجها زهير بن أبي سلمى، وكانت منازلهم بالحاجر من نجد، وزهير تزوجها على زوجته الأولى أم أوفى التي لم تكن يعيش لها ولد ولما تزوج كبشة أصابتها الغيره فطلقها ثم ندم بعد ذلك.
أما نسب والده فهو زهير بن ربيعة بن رباح، ويعد زهير من الشعراء الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء في الجاهلية (امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني) وقد أجمع النقاد على رأي عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيه بأنه كان لا يفاضل ويتجنب وحشى الكلام، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه، فكان كثير التنقيح والتهذيب حتى زعموا أنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، وينقحها في أربعة أشهر، ثم يعرضها على أصحابه في أربعة أشهر، وعاش حوالي تسعين عاما، وتوفى قبل مبعث الرسول ﷺ.
وتحدثوا فقالوا: أن زهيرا كان كثيرا ما يلتقي بأهل الكتاب ويسمع منهم ويتحدث إليهم ويفكر فيما دعى إليه منهم، لذا جاء تفكيره واضحا من خلال ما يذكره عن الفناء والبقاء حيث يقول:
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا
«وذات ليلة رأى زهير فيما يراه النائم أن أسباب السماء قدمت إليه، فلما هم أن ينالها نأت عنه، ثم أفاق من نومه، ولم يشك في أن لهذه الرؤيا دلالتها وتأويلها، فجمع بنيه الثلاثة (سالما وكعبا وبجيرا) وقال لهم: أنه كائن خبرا،
1 / 19
وأوصاهم أن يستقصرا هذا الخبر، وينتفعوا به وبما يحدث به من أخبار السماء «١» .
واتفق الرواة على أن الشعر لم يتصل في الجاهلية بأحد إلا في زهير، وفي الإسلام بجرير وكعب، فوالد كعب زهير كان شاعرا، وجده أبو سلمى كذلك، عمتاه (سلمى والخنساء) وخال أبيه بشامه بن الغدير، وابنا عمته (تماضر) الخنساء، وأخوها صخر، وابنا بنته سلمى العوثبان وقريض، وأخوه بجير، وولده عقبة (المضرب) وحفيده العوام بن عقبة، فكلهم شعراء، فكعب أحد الفحول المجيدين في الشعر ومقدم على أهل طبقته، وقال كعب الشعر وهو صغير، فكان أبوه زهير ينهاه ويضربه مخافة أن يقول ما لا فيه خير ولا منفعه، ويحكي أن زهير علم باستمراره في قول الشعر، فدعاه وضربه ضربا شديدا، ثم أطلق سراحه وسرحه في بهمة فانطلق يرتجز فخرج إليه زهير وهو غضبان فدعا بناقته فأردفه خلفه ثم راح يضرب ناقته وهو يريد أن يتعرّف على ما عند كعب ويعلم ما عنده ويطلع على شعره، وتأكد بعد ذلك زهير من استرسال كعب في الشعر فأذن له فقال له: قد أذنت لك يا بني، فنزل كعب إلى أهله قائلا:
أبيت فلا أهجو الصديق ومن ييع ... يعرض أبيه في المعاشر ينفق
وقد ولد كعب في الجاهلية ثم أسلم وامتد به العمر حتى زمن معاوية بن أبي سفيان.
وقد تأخر بجير وكعب عن الدخول في الإسلام، ولما زاد انتشار الإسلام تامر كعب ويجير ضد النبي ﷺ والمسلمين في المدينة المنورة، فانطلقا حتى بلغا (الابرق) .
قال بجير لأخيه كعب: اقم هنا حتى اتى هذا الرجل فأسمع منه واعلم علمه ثم أعود إليك، وأقام كعب وذهب بجير وبقى كعب ينتظر عودة أخيه بجير الذي امن برسالة السماء لأول وهلة رأى فيها الرسول ﵊ فأقام
_________
(١) طه حسين- تاريخ الادب.
1 / 20
مع صحابة الرسول الكريم حيث وجد الأمن والأمان والاستقرار، ويئس كعب من مقدم أخيه وطال انتظاره حتى استيقن أن أخاه بجيرا اتبع دين محمد ﵊، وأنه قد صبأ، فغاظه ذلك وساءه فأرسل إلى أخيه يؤنبه برسالة يقول فيها:
ألا أبلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
شربت مع المأمون كأس رؤية ... فانهلك المأمور منها وعلكا
خالفت أسباب الورى وتبعته ... على أي شيء ريب غيرك دلكا
فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل أما عثرت لعالكا
وتلقي بجير رسالة أخيه كعب ونقلها إلى الرسول ﷺ فأباح الرسول ﵊ دم كعب لتعرضه للدين وللنبي والمسلمين بالإساءة. وكان كعب كغيره من شعراء الشرك يهجو النبي ﵊ ويحرض عليه ويدس إلى مجلسه من يناله بمكروه ويقول الشعر كما كان يقوله غيره من الشعراء، وعلم كعب أن النبي ﷺ قد أباح دمه كغيره من الشعراء الذين نالوا النبي ﷺ وأصحابه بالاساءة ففر الكثير من هؤلاء بعد الفتح وقتل من قتل من أمثال: نضر بن الحارث الذي قتله الرسول ﷺ، وكعب ليس بأقل جرما منه ومن هؤلاء الخصوم. كل ذلك ملأ قلب كعب رعبا وفزعا وخوفا مما أمر به النبي ﷺ وحاول كعب الفرار كغيره من أمثال ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب، ولكن دون جدوى فضاقت به الأرض وتخاذل الناس من أمامه ولم يجد من يمد له يد العون فأخوه بجير على غير ملته والصراع في نفسه صراع رهيب لأنه يعلم بأن المسلمين أن رأوه سيقتلونه لعلمه بأنه ليس هناك ممن نطق بالشهادتين من يرفض ما أباحه النبي ﷺ فهو هالك لا محالة ويأمل بجير أن يخطو كعب خطاه حيث الاستقرار النفسي والاطمئنان والتضحية في سبيل الحق، فما كان من بجير إلا أن بعث إلى أخيه كعب ينصحه بأن يطلب العفو من النبي ﷺ لأن النبي ﵊ رؤوف رحيم، ذو خلق كريم، يأمر بالعفو ويعرض عن الجاهلين، وجاءته رسالة بجير ينشده للإسلام والشهادة:
1 / 21
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات واحده ... فتنجو اذا كان النجاة وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من النار الا الطاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى على محرم
فلما بلغ الكتاب كعبا ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وقد انفض عنه من كانوا بالأمس يدفعونه لهجاء الرسول ﵊ وقالوا:
(مقتول) ...
فاستقرت عزيمة كعب على أن يستجير بعفو النبي من غضب النبي ﵊ وانطلق حتى بلغ المدينة فاوى إلى أبي بكر الصديق رضى الله عنه كما تقول بعض الروايات- ليأخذه إلى النبي ﷺ وهناك رواية أخرى تقول أنه نزل على رجل من جهينة كانت بينه وبين كعب صلة، فغدا به إلى رسول الله ﷺ حين صلى الصبح فصلى معه ﷺ، ثم أشار لكعب إلى الرسول فقال: هذا رسول الله فقم إليه، يقول كعب: (فعرفت رسول الله بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه)، وكان كعب ملثما بعمامته فقال: يا رسول الله هذا رجل جاء يبايعك على الإسلام فبسط النبي ﷺ يده فحسر كعب عن وجهه وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير وهم به الأنصار عند معرفتهم له لما قدم من اساءة للنبي ﵊ وتواثبوا يريد كل واحد منهم قتله، فقال رسول الله ﷺ: دعوه فإنه قد جاء تائبا عما كان عليه، ونهاهم عنه وبايع كعب النبي ﵊ وتقول بعض الروايات: أن النبي استنشد أبا بكر ما كان كعب قد قاله في هجائهم فقال ﷺ كيف قال يا أبا بكر؟
فأنشده أياه أبو بكر، فلما بلغ قوله (فانهلك المأمور منها وعلكا) فقال كعب: لم أقل المأمور يا رسول الله وإنما قلت المأمون، فقال النبي مأمون والله مأمون ورضى النبي ﵊ عن كعب بن زهير فما كان من كعب إلا أن وقف أمام الرسول ﷺ وأنشده قصيدته التي عرفت فيما بعد بقصيدة البردة، وقد أعجب رسول الله ﷺ بهذه القصيدة وبخاصة عندما وصل إلى قوله:
1 / 22
ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
وقد سر النبي ﵊ بأن يكون بجانبه شاعر مجيد وقد كان من كرم رسول الله ﷺ وتقديره لكعب أن وهبه بردته الخاصة فسميت هذه القصيدة فيما بعد ببردة كعب، وأن معاوية أراد أن يشتري البرده من كعب وأغلى له الثمن ولكن كعبا أبى أن يبيع بردة الرسول ﵊، فلما مات كعب راجع معاوية أهله فاشتراها بأربعين ألف درهم وهي التي توارثها الخلفاء فيما بعد وكانوا يخرجون بها للناس في العيدين ثم انتهت إلى الخلفاء من الأتراك من بني عثمان فحفظها السلطان مراد الثاني في صندوق من الذهب ولم تزل محفوظة فيه إلى الان في الاستانة في تركيا والله أعلم..
1 / 23
أضواء على لامية كعب في مدح الرسول ﷺ:
عندما أنشد كعب بن زهير قصيدته في مدح الرسول ﷺ لم يخرج عن المألوف عند شعراء الجاهلية إذ بدأ قصيدته كعادتهم قبل الإسلام، فقد بدأها بالغزل والتشوق إلى الحبيب.
وفيه يفصح كعب عن لوعته وشوقه إلى سعاد التي بعدت عنه حتى اضناه الفراق فهو أسيرها لا يجد الوسيلة التي يستطيع أن يفك قيوده منها وما سعاد سوى هذه الحبيبة أو الزوجة كما وردت في بعض الروايات، وينهي هذا الجزء من القصيدة عند البيت الثالث عشر.
وفي هذا الجزء يتعرض كعب بن زهير لوصف حسي، وقد أدهشنا فيه أنه ذكره أمام الرسول ﷺ عقب صلاة الفجر في المسجد فلم ينهه الرسول ﵊ عن إنشاد هذا الغزل بل رفع عنه العقوبة التي كان قد عاقبه بها وان دل هذا على شيء فهو يدل على تفتح افاق الإسلام وافاق الرسول ﷺ وسماحة المباديء الإسلامية الغراء، وكعب بن زهير عندما تعرض لهذا الغزل لم يكن يقصد الغزل لذاته وإنما اتخذه مدخلا لما سوف يلي ذلك من إعجاب بدين الله ومدح رسول الله ﷺ وذلك امتداد لما كان عليه الشعراء وبعد معرفته الإسلام وإيمانه به وعفو رسول الله ﷺ لم يعد يتعرض في شعره للغزل الحسي. أو غير الحسي ونستطيع أن نقول أن كعبا حينما طرح صورة سعاد إنما يطرح أمام المستمع صورة خيالية متحركة كاملة ليدلل على أنه مفتون بجمالها، وتناسق أجزاء بدنها في الوقت الذي يأمل من تحقيق رغبة في الوصال واللقاء، ولكن من هي سعاد؟
هل هي تلك السعادة التي تحرك شعوره الداخلي لمبايعته للرسول ﵊ بالإسلام والشهادة أم هي سعادته بدخول الدين الجديد؟ .. وإذا ما تمعنا في بداية القصيدة ونظرنا بعين المتأنى لنفسية كعب فيها تبين لنا أن سعاد ما هي إلا الدعوة الإسلامية والتي هو بعيد عنها، وأنه في شوق إليها بعد أن وصلت إليه رسالة أخيه بجير وفيها أن الرسول أخ كريم وابن أخ كريم، يعفو ويعرض عن الجاهلين، وكعب ممن حق عليهم القتل كغيره، فأحس بنشوة الإيمان
1 / 24
لمحتوى رسالة أخيه الذي سبقه بالإيمان ووجد الأمان في ظل رسول الله ﷺ.
إذن سعاد ما هي إلا الدعوة وهو في شوق إليها وإلى التلذذ بمبادئها، وشرب شرائعها السمحة.
وفي الجزء الثاني من القصيدة يتعرض كعب لغرض من أغراض الشعر الجاهلي وهو وصف الناقة أو الراحلة، ولعله غرض ثابت تقريبا في أكثر من المطولات الشعرية، وأغلب هذه القصائد لا بد أن تحتوي على وصف الراحلة إن كانت ناقة أو حصانا، وهنا يبدأ كعب بتمهيد منطقي لوصف ناقته وهي وسيلته للوصول إلى محبوبته وجاءت ضرورة وصف الناقة كأداة للوصول إلى أرض سعاد البعيدة، ويصف ناقته وصف مختص فأهم عارف بطبائع وصفات هذا الحيوان، وليس ذلك بمستغرب عليه وهو يقيم بين النوق فهو يركبها، ويرعاها، ويشرف على تربيتها وولادتها. وعلى أكلها وشربها، ويعرف أنسابها وأنواعها والجيد منها وغير الجيد، والكريم وغير الكريم، والسريع وغير السريع وما إلى ذلك من صفات هذه النوق، وتعرض كعب بن زهير لهذه الناقة من خلال استخدامه المفردات البيئية التي يعيش فيها، ولا يستعير من مفردات ومعاني الحضارات المجاورة كالفارسية والرومانية، بل يعتمد في تعبيره على قاموس البيئة العربية. وهذه الصفات امتدت على مدى واحد وعشرين بيتا. ونجد كعبا قد أنهى هذا الجزء بنهاية مفاجئة بلا تمهيد، لينتقل إلى غرض اخر وهو ما يسعى إليه كعب ليطرحه أمام الرسول ﷺ يمدحه ويظفر بعفوه، وبهذا الانتقال المفاجيء يريد أن يؤكد حقيقة واقعة لمسها إذ يكشف أمام الرسول ﷺ وأصحابه عليهم رضوان الله من خلال أربعة أبيات مركزة كل التركيز، ولكنها تكشف عما في نفسه واحساسه بأن الوشاة ليس لهم إلا بث الفرقة والاساءة ومراعاة مصالحهم الذاتية وتشويه قيمة الإنسان كإنسان، هم الذين بالأمس قد أخبروه باهدار الرسول ﷺ لدمه ولا عفو عنده ولا تراجع ولا مسامحة وهم أيضا الذين استحثوه ودفعوه إلى ذلك مما أورده هذا المورد الخطر واليوم قد تخلوا عنه ونزوعه نحو إلقاء القصيدة
1 / 25
يعتبر لحظة تحول في حياته، فيها كشف عن العلاقات الإنسانية مما جعله يلخصها تلخيصا شديدا في مجموعة من الحكم أو الحقائق المكثفة فلسفيا ودراميا، فقد استطاع أن يؤكد ثلاث حكم أو حقائق بليغة كل البلاغة..
١- الحقيقة أو الحكمة الأولى:
(أنه لا صديق إلا نفسه) من قوله: (كل صديق عنك مشغول؛ ٢- والحقيقة أو الحكمة الثانية:
(ان الله ما شاء فعل) من قوله: (وكل ما قدر الرحمن مفعول) ٣- الحقيقة أو الحكمة الثالثة:
(ان كل انسان مهما طالت به الحياة سينتهي إلى التراب)
من قوله: (يوم على الة حدباء محمول)
ولعله لا يفوتنا ونحن بصدد قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
ان نشير إلى أن كلمة نبئت عند كعب كانت شعاع نور وبداية لحياة جديدة بفضل رسول الله ﷺ من بعد فضل الله، فقد أحل دمه، ولكن الرسول أوعده بالعفو وأنباه بذلك أخوه بجير، ويبدو كعب بعد ذلك كالطفل الوليد مادحا من أعطاه صك الحياة مرة أخرى، ألا وهو رسول الله ﷺ الذي يمثل عنده وفي هذه اللحظة بالذات، لحظة العفو والصفح الأب والأم والأسرة، وفي أثناء مدحه للرسول ﵊ يأخذ في الاعتذار عن ذنوبه، وما أخطأ فيه، لقد ترك كعب الوشاة وزمرة السوء، وبدأ يلجأ إلى أصحاب رسول الله ﷺ ليتخذ منهم الرفاق والصحاب، ويستبدل الماضى بالحاضر، حيث الاستقرار والصدق والفداء والتضحية، وهذا يكشف عن أحساسه بتصديق ما جاء عن رسول الله ﷺ وعما سمعه عن المسلمين المحيطين به، كما يعتبر بداية لإيمانه برسالة هذا الرسول الكريم ﷺ وبتصديق ما جاء به، ويخاطب الرسول ﵊ بنفس مطمئنة راضية متضرعا إليه بعظمة الله سبحانه، وبعظمة القران الكريم كمعجزة نزلت عليه من السماء إذ يقول:
1 / 26