كان سامي قد بلغ نهاية المرحلة الثانوية، وأدى امتحان الشهادة، وفي يوم ظهور النتيجة ذهب مع مأمون ليتعرفا عليها. وكان فناء المدرسة حاشدا بالطلبة، والجلبة شديدة، والتلاميذ في حلقات منها المتسعة ومنها قليلة العدد. وسامي بين رفاق له يجري بينهم الحديث هينا وهو يسمع أكثر مما يتكلم. وفجأة رأى سامي حلقات تنضم، واثنين متماسكين في معركة عنيفة. وأنعم النظر، فإذا مأمون أحد المتعاركين وخصمه يكيل له الضربات ويهم سامي إلى أخيه، وقبل أن يصله يكون مأمون على الأرض، وقد ارتمى خصمه عليه يضربه في غير هوادة ولا رحمة، ويصل سامي إلى مكان المعركة، ولا يسأل ولا يفكر، وإنما يرفع ذلك الخصم في ثبات، ويحمله وكأنه يحمل ورقة، ويلقي به، وكأنما يلقي حصاة اعترضت طريقه، ومال على أخيه فأقامه، وهو يسأل في هدوء وكأنه لم يصنع ما جعل الطلبة متجمدين من الهول والذهول. - ماذا حدث؟
ويقول مأمون لاهثا: راح يذكر أبي بسوء دون أي سبب.
وقبل أن يجيب سامي يتصايح الطلبة: الحقوا ... أسرعوا ... منيب ... منيب.
ويلتفت سامي إلى الصائحين: من منيب؟
وتتكاثر الأصوات، وتتقاطع الكلمات، ويفهم سامي بصعوبة أن منيب هو اسم الفتى الذي ألقى به عن أخيه. - ما له؟ - مات. - ماذا؟ - مات.
ويؤخذ سامي على غرة ولا يتريث، بل سرعان ما يشق جموع الطلبة الزاحفة، وكأنه يزيح شخوصا من هباء، ويصل إلى باب المدرسة بين حيرة المشاهدين وذهولهم، ويخرج يجري في سرعة الومض حتى يصل إلى محطة السكك الحديدية، ويسأل سائق التاكسي الواقف في انتظار القادمين: ما أول قطار إلى مصر؟ - بعد دقيقتين. - لماذا لم يصل إذن إلى المحطة؟ - سلامتك يا أستاذ ها هو ذا واقف على ...
وقبل أن يكمل السائق جملته يكون سامي في القطار دون أن يشتري تذكرة، ودون أن يفكر إن كان ما في جيبه يكفي ثمنا للتذكرة أم أن ما معه لا يكفي، ويتحرك القطار. - إلى أين؟ ما هذا الذي فعلته؟ أقتل إنسانا وأهرب؟! كأني إذن أبي، ما الفارق بيني وبينه؟ لماذا نلوم الناس ونفعل فعلهم؟ ألم يكن الأجدر بي وأنا الذي أوثق أسبابي بالسماء، وأقرأ ما أقرأ أن أكون أكثر هدوءا وروية؟ نعم أعلم أنني لم أتمالك نفسي، وأنا أرى أخي يكاد يموت تحت هول الضربات، ولكن أي فارق بيني وبين الحيوان إذا أنا تركت مشاعري تتحكم في دون أن أحيطها بسياج التعقل والتفكير؟ أليس بالعقل وحده فضل الله الإنسان على سائر المخلوقات؟ فما فائدته إذن إذا لم يجعلنا نتروى عند غضب، ويعصمنا عند ثورة، ويدرأ عنا عادية المعاصي؟ وهل هناك أكبر من القتل؟ إنني كأنني قتلت الناس جميعا، ويل لي أي ويل، ويل لي من الله، فوحق الإله سبحانه إنني لا أخشى غير سخطه، وإنني وحق الإله سبحانه لا أخشى الموت، وإنما أخشى الله، فأنا كادح إليه فملاقيه سبحانه، وإنه ملق بي إلى حيث العصاة. - أكنت حين جريت وهربت عبدا ثائبا؟ - أنا لم أبدأ في إعمال العقل إلا حين تحرك القطار، أي إنسان أنا؟ بل إنني أنا الإنسان الذي قال عنه خالقه:
قتل الإنسان ما أكفره ، أنا الإنسان بكل شروره وطغواه وجبروته، إن صلاتي ونسكي وصيامي وحبي لربي، وعلمي وثقافتي، كل هذا لم يجعلني أتصرف كما ينبغي أن يتصرف العقلاء! غائب العقل كنت حين ألقيت بالفتى وغائب العقل حين جريت، وغائب العقل حين ركبت القطار. والآن ها أنا ذا أعود إلى عقلي ويعود إلي ... أفتراني أستطيع أن أنزل عند أول وقفة للقطار، وأقفل عائدا إلى حيث كنت؛ لأتحمل نصيبي من العقاب، ولأواجه آثار ما قدمت يداي. - هل أستطيع؟ - ولم لا؟ - وما لي لا أفعل؟ - إذن فهلم. - هلم.
ووقف وكان القطار سائرا، فقعد ينتظر وقوف القطار، وحين استقر به المقام ... إلى أين؟ وكيف أعود إلى قوم ثائرين؟ - وما لي لا أفعل؟ - ليس مع ثورتهم منطق. - وفيم تريد المنطق؟ - أوليس هو الحكم الطبيعي بيني وبينهم؟ - أي حكم؟ إنك قتلت وعقوبة القتل هي القتل، ففيم تريد المنطق؟ لا تخفيف في عقوبة القتل، لا تخفيف في عقوبة القتل؟ إذن أعود، وإذن أقتل .. وإذن ... وألقى عليه النوم بقوة لا قبل له بها، ولا يد له فيها. وتجلى له الشيخ النوراني صاحب الحوت. - لا تعد. - أليس من الطبيعي أن أواجه عقابي؟ - أي عقاب؟ - عقاب القاتل. - أقتلت عن عمد؟ - لا ... لا طبعا أعوذ بالله. - إذن فلست القاتل الذي يعاقب بالإعدام. - ولكنني أعلم أنني أملك قوة جسمانية خارقة وهبها الله لي، وكان ينبغي أن أتحسب حين أضطر إلى استعمالها. - هل كنت في تمام وعيك حين فعلت ما فعلت؟ - كان إنقاذ أخي هو كل ما أفكر فيه. - وقد تصرفت بما أنقذ أخاك؟ - نعم. - ولم تتصور أنك قد تقتل زميلك؟ - لا. - إذن فلا بد من مناقشة هذا جميعا قبل أن يقع بك العقاب. - مع من أناقشه؟ - مع كل الذين يسألونك. - صاحب الثأر لا يسأل. - إذن لا تعد. - ولكنني أنا أسائل نفسي. - هل كنت تريد قتله؟! - أعوذ بالله العلي العظيم . - إذن لا تعد إلا حين تعلم أنك تستطيع أن تجادل الذين سيواجهونك. - لا جدال معهم. - إذن لا تعد. - أظل هاربا؟ - وما تعلم نفس ماذا تكسب غدا. - ولكني قتلت. - عن غير عمد. - الموت شيء فظيع. - ليس كما تظن. - ألم يجعل الله منه قصاصا؟ - إن القصاص ليس في الموت نفسه، وإنما في العلم به. - إنه قصاص. - إن الساعات التي يعلم فيها القاتل أنه سيقتل جزاء ما فعل هي القصاص الحقيقي، أما الموت نفسه فشهيق لا يعقبه زفير، أو زفير لا يعقبه شهيق. إنما الموت لحظة، لمحة، ومضة لا أكثر ولا أقل. - وحزن الأهل. - أسف وتشوق، ولكنهم يعلمون أنهم جميعا لاحقون بعزيزهم. - ألا يطهرني القصاص من الخطيئة؟ ألا يجعلني احتمال العقوبة مغفورا لي عند ربي؟ - إنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وهو وحده من يعلم أين يضعها. قد يغفر لك دون أن يقع بك القصاص، وقد لا يغفر لك وإن وقع بك القصاص، وهو وحده الذي يغفر، وهو العدالة المطلقة.
12
अज्ञात पृष्ठ