نحن نعيش في عصر اقتنائي نتبارى فيه لاقتناء العقارات والمنقولات وجمع الأموال، ونفاخر فيه بالتكاثر، وفي أحيان كثيرة لا نبالي الطرق التي نقتني بها أو نجمع بها المال، وذلك لأن شهوة الجمع والاقتناء تتسلط على عواطفنا، وتتغلب على إحساسنا، بل إننا في حالات كثيرة ننكر على أنفسنا الراحة فضلا عن الاستمتاع كي نقتني ونجمع.
وأحيانا نعمى عن الحقائق وننساق ذاهلين كأننا لا ندري ما نفعل، فتحملنا شهوة الاقتناء على التقتير الجنوني، فقد قص علي طبيب كان يمارس مهنته في قرية قريبة من طنطا، أن رجلا قدم إليه ومعه ابنه المريض وهو شاب دون العشرين، فلما فحص عنه وجد أن مرضه هو «البلاجرة» وهذا المرض برهان على سوء الغذاء، ثم فحص عن أخيه فوجد أنه أيضا مريض بهذا المرض الذي لا يفشو إلا حيث يكون الجوع، ونعني هنا الجوع الكيماوي حين يكون المقدار كافيا، ولكن عناصر الطعام ناقصة.
ولما سأل الطبيب عن الحال الاقتصادية التي تعيش فيها عائلة هذين الشابين، وجد أن الأب يملك خمسة عشر فدانا يزرعها بنفسه ولا يؤجرها؛ أي: أن إيراد الفدان لا ينقص عنده عن عشرين أو ثلاثين جنيها.
ومع هذا الإيراد كان ابناه يشكوان قلة الغذاء؛ لأن روح الاقتناء قد تغلب عليه حتى صار يقتر في غذاء أولاده، وأدى التقتير إلى مرضهم.
وليس منا من ينكر قيمة المال في مجتمعنا وظروفنا، ولكن يجب ألا ننساق في القيم الاجتماعية ونضحي بالصحة من أجلها؛ لأن هناك قيما بشرية يجب أن تحتل المكانة الأولى في نفوسنا، وأولى هذه القيم بالطبع هي الصحة، وهناك الثقافة، والارتفاع بحاجات الحياة إلى التأنق الفني وضروب الاستمتاع العديدة.
والشاب الذي يهمل صحته أو ثقافته، ويضحي بحاضره لأجل المستقبل، ويحمله كل ذلك على التقتير، إنما ينكر على نفسه السعادة التي هي من حقه وواجبة، ولو كنا نعيش في مجتمع سليم لكان يجب أن نحجز على المزارع الذي أحدث لابنيه مرض البلاجرا بتقتيره وتمنعه من الصرف؛ لأنه بدلا من أن يجعل المال خادما جعله سيدا.
الفصل الرابع والخمسون
البساطة في الحياة فن
عندما نقول: إننا يجب أن نعيش المعيشة الفطرية، ونتوخى السذاجة البساطة؛ نجد أننا نقع في التباسات واشتباهات كثيرة، فإن الحيوان يعيش المعيشة الفطرية؛ أي: أنه يقنع بما تزوده به الطبيعة من طعام ومأوى، سواء أكان مخبأ في ديسه أو جحرا في كهف، وليس هذا ما يقنع به إنسان، ولكن هناك المعيشة الفطرية التي يطلبها الفيلسوف أو الرجل الحكيم حين يستغني عن عشرات أو مئات الأشياء التي يقتنيها غيره فتببظه بعبئها وتكاليفها دون أن يقتنع بها.
ولذلك يجب أن نترك عبارة المعيشة الفطرية ونقول: إننا يجب أن نحيا الحياة الفنية ففي الفن البساطة، ولكنها بساطة تشبه «السهل الممتنع»؛ إذ هي ثمرة الثقافة العميقة التي استخلصنا منها أسلوبا وهدفا للحياة حتى استطعنا أن ننحي عنا كثيرا من الزوائد والنوافل.
अज्ञात पृष्ठ