तारिक इखवान सफा
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
शैलियों
سبل الارتقاء
من هذه المقاطع نفهم أن ارتقاء النفس يقوم بعدد من الأسباب، أولها وأهمها: اكتساب العلوم والمعارف. ذلك أن النفس التي انقطعت عن أصلها لما حصل منها من خطيئة قد تراكمت عليها حجب الجهل، وغرقت في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولا سبيل إلى رفع هذه الحجب والاستيقاظ من نوم الغفلة إلا بالعلم الذي تتيحه للنفس الحياة في جسد إنساني تؤهلها لتذكر أصلها ومعرفة ماهيتها والارتقاء من الرتبة الإنسانية، آخر بوابات جهنم، إلى الرتبة الملائكية، فصعودا بعد البعث والنشور للاتحاد بالنفس الكلية: «واعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمانا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح، دائبا في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والأثاث، واتخاذ البنيان وعمارة الأرض والعقارات، وطلب الرياسة، متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر وقرب الأجل وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها، ولم يفكر في الآيات التي هي آفاقها، ولا اعتبر أحوال موجوداتها ولا تأمل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها، فمثلهم مثل قوم دخلوا مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها، ووضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها وزادا للراحلين عنها. ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم؛ لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته، ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته ويستحقون كرامته. فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا، ولا من أيها خرجوا، ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب حسب. فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، الراحلين عنها كما قال الله، جل ثناؤه:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا »
9 (4: 1، 167-168). «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال المعارضة والصفات الزائلة، صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا، متمنيا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة، متمنيا البلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصور أحواله مثنوية متضادة ... صارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها؛ وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمي الجسد ويزيد ويربو ويسمن. فلما كان هكذا صارت المجالس أيضا اثنين: مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعمل والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة ... فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة، أو للتفقه في الدين طلبا لطريق الآخرة ... ونجاة من عالم الكون والفساد» (7: 1، 259-261). «وليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ... من العلم وطلبه وتعليمه. وبيان ذكر شرف العلم ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تعلموا العلم فإن في تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة» ... واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة، ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة» (9: 1، 346-349). «واعلم يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، والتعليم ليس شيئا سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هو الخروج من القوة إليه [أي إلى الفعل]، وأن كل شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا لشيء هو بالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامة بالفعل، والأنفس الجزئية علامة بالقوة. فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات، فهي أقرب إلى النفس الكلية، لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها، [وذلك] كما قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهد أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية ... واعلم أن بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة، وبه تنتبه من نوم الغفلة، كما قال الله:
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به ...
10
فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك» (10: 1، 399-400). «واعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها ومعارفها وأخلاقها، في التشبه بالنفس الكلية الفلكية، وتتمنى اللحوق بها، والنفس الكلية أيضا كذلك، فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك، وتحريكها الكواكب، وتكوينها الكائنات، كل ذلك طاعة لباريها، وتعبدا له واشتياقا إليه. ومن أجل هذا قالت الحكماء: إن الله هو المعشوق الأول، والفلك إنما يدور شوقا إليه» (36: 3، 285). «ثم اعلم أن نفوس الجهال كلها موتى بالقياس إلى نفوس العلماء، وذلك أن قلوب العلماء مفتوحة، وصدورهم منشرحة متسعة، ممتلئة من نور الهدى وروح المعارف، وقلوب الجهال حرجة منغلقة، وصدورهم من الوسواس والخيالات ضيقة مظلمة، وأوهامهم هائمة وأفكارهم تائهة في ظلمات الجهالات المتراكمة ونفوسهم ممتلئة من الوساوس والخيالات، كما قال الله تعالى من القرآن، مثل قوله:
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
11
واعلم أن حياة النفوس ويقظتها هي المعارف والعلوم، كما أن حياة الأجساد ويقظتها بالحس والحركة» (42: 3، 532). «واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة. وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام ... ومثل نفوس المحققين من الحكماء التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية ... ومثل نفوس الكهنة المخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية ... واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة واحدة، مبذولة لها دائم الأوقات؛ لكن الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلا شيئا بعد شيء ... ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجل استغراقها في بحر الهيولى، وتراكم ظلمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية، وغرورها باللذات الجرمانية. فمتى انتبهت من نوع الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة ... وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال، لحقت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية» (15: 2، 10-11). «واعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها، مثلما سلك به في خلق جسده وصورة بدنه، فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة ... وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقة جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة، ثم كان جنينا مصورا تاما، ثم كان طفلا متحركا حساسا، ثم كان صبيا ذكيا فهما، ثم كان شابا متصرفا قويا نشيطا، ثم كان كهلا مجربا عالما عارفا ...
अज्ञात पृष्ठ