دخلنا بعد ذلك فصلا آخر كان المعلم يلقي فيه درس إملاء، فنظر جنابه إلى كراسات الطالبات فوجدهن قد بيضن الموضوع السابق، فنظر إلي شذرا، وقال: لا أريد أن تبيض الطالبات موضوعات الإملاء فهل سمعت؟ قلت: ولكني أريد ذلك؛ لأن هذه الموضوعات الإملائية قطع أدبية مختارة أريد أن تقرأها التلميذات مرارا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتبييضها؛ فهن يستفدن من ذلك فائدة مزدوجة، فيتعلمن منه أدب اللغة، ويعتدن حسن التنسيق في الكتابة؛ لأني أحتم عليهن العناية بتحسين الخط في التبييض. قال: ولكني لا أوافق على ذلك، وأنا مستشار المعارف. قلت: نعم إنك مستشار المعارف، ولكن تلك الصفة لا تؤهلك للتدخل في هذا فأنت أرقى منه، وعملك ينحصر في أمرين؛ أن ترضى عن عملي فتبقيني فيه، أو تسخط فتمنعني منه، أما أن تقوم أنت بأعمال الناظرة، فليس هذا من الحزم في شيء، فنظر إلي في دهشة، ثم تحول عني إلى الجانب الآخر من الغرفة، وتبعه المرحوم كيلاني بك، وقال له: يجب أن تقنعها بعدم تبييض الإملاء. ولم أشأ أن أرد عليه في ذلك، وقد تفقد جميع غرف المدرسة، فسر من نظافتها ونظامها، وشد على يدي عند خروجه قائلا: أهنئك. وهكذا كان الرجل عادلا لا يغريه سلطانه. وفي اليوم الثاني جاءني المرحوم كيلاني بك، وقال لي: جئت لأقنعك بعدم تبييض الإملاء. قلت: إن الأمر الذي لم يستطعه المستشار لا يستطيعه أحد في الوزارة، فلا تتعب نفسك فيما لا يجدي.
سوء حظ
نقلت من مجلس مديرية الدقهلية في المنصورة إلى وزارة المعارف بعد أن وقع بيني وبين المدير حوادث مر بنا ذكرها، وقد زارني حضرة صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين بمدرسة معلمات بولاق وأنا وكيلة لها فأيدني تأييدا عظيما كما مر بنا ذكره، وكان شديد الثقة بي وبنجاحي، ثم زار بعد ذلك عواصم المديريات، ومن بينها المنصورة، وكانت حوادثي مع مديرها لا تزال ماثلة أمام أنظار أعيان الدقهلية، ودعا سعادة المدير الأعيان لتناول العشاء مع عظمته، وقد جلس هو على يمين عظمته على مائدة العشاء، وأخذ عظمته يروي قصتي، ويقول إن المعارف أرادت غبني، وإن عظمته تشبث بترقيتي، وعينني ناظرة لمدرسة معلمات الورديان، وإني في نظره أكفأ ناظرة، وإن أعمالي تسير على غاية ما يرام، وكان عظمته يقول ذلك، وهو يتحدث إلى المدير، فيضطر سعادة المدير أن يوافق على كلامه، وأن يقول له نعم يا أفندم هي كذلك، وأخذ الأعيان ينظر أحدهم إلى الآخر مندهشا لما يسمع حتى كان أحدهم يهمس في أذن جاره على المائدة قائلا: لقد وقفت اللقمة في زور المدير من الخجل والارتباك. فقال: لقد درست أمامي درسا عندما كانت وكيلة لبولاق فكان أحسن درس سمعته، وهي في نظري تقدر بعشرة رجال، وهي قديرة على أعمالها متوقدة الذكاء سريعة الخاطر، هذا فضلا عن كمالها واستقامتها، فهي من رجال مصر القلائل.
كل ذلك والمدير المسكين مضطر أن يرد عليه من وقت لآخر بقوله: نعم يا أفندم. وكثر تهامس الأعيان فيما بينهم في ارتباك المدير وقلقه، وانتهى الحديث على تلك المائدة على أسوأ ما يكون، وقال ظريف منهم: ما كاد المسكين يرتاح من تلك السيدة حتى أقلقه ذكرها، فكأنما خلقت لإزعاجه. وكان بعضهم يكره المدير فأخذ يتغنى بذلك الحديث، ويكرر ما قاله عظمة السلطان مظهرا بذلك خطأ المدير وغطرسته، وكان لذلك الحديث صدى في نوادي المنصورة، فقد ذكر الناس بتلك الليلة المشهورة التي ألقت فيها التلميذة قصيدتي أمام سمو الخديوي السابق، وهي القصيدة التي شتم فيها المدير بأسلوب ملتو غريب لم يستطع معه إثبات الشتائم التي وجهت إليه، والتي دلت عليها إشارات التلميذة، وهكذا كانت تلك الليلة من ليالي المدير السود.
أما أنا فقد بليت في وزارة المعارف بأظلم من ذلك المدير، وشاء سوء حظي أنا الأخرى أن يزورني في مدرستي مفتش إنجليزي كان مشهورا بغطرسته وحبه لإساءة الموظفين، وكنت عند زيارته أتفقد طالبات مدرسة المعلمات في صفوف الصباح استعدادا لدخول الدروس، وكانت مدرسة المعلمات تقف في جانب من الفناء، وتقف تلميذات الملحق، أو المدرسة الأولية التابعة لها الجانب الآخر، فوقف المفتش بين المدرستين في وسط الفناء، ولم أكن رأيته في حياتي، فلما انتهيت من تفقد طالبات مدرسة المعلمات، واتجهت إلى جهة الملحق اعترضني هو في وسط الطريق فقال لي بشدة دون أن يحييني: إنك متأخرة. فنظرت له بدهشة وقلت: ومن أنت أولا؟ قال: أنا فلان المفتش بوزارة المعارف. قلت: إني أسير حسب ساعتي وساعة المدرسة. قال: إن ساعتك متأخرة. قلت: لا بأس، قلت ذلك بعد أن وليته ظهري، وسرت نحو صفوف الملحق فاشتد غيظه، وعز عليه أن لا أقف لسماع تأنيبه، فقال لي بإشارة احتقار من سبابته: إني أكلمك. قلت: أعلم ذلك كما أعلم أن أمامي تلميذات قد تأخرن عن ميعاد درسهن حسب رأيك، ولا بد أن أصرفهن قبل أن أتفرغ لمحادثتك. قلت ذلك، وأنا لا أزال في طريقي، وتفقدت تلميذات الملحق حسب عادتي، ثم انصرفن إلى فرقهن، وبقي هو واجما وسط الفناء.
وقد مررت به في طريقي إلى مكتبي، فلم ألتفت إليه، فاضطر أن يتبعني، وهو يقول: أنا هنا يا سيدة نبوية. قلت: أعلم ذلك. قال: إني أريد أن أزور المدرسة. قلت: إن المدرسة أمام جنابك تفعل بها ما تريد. قال: أود أن تصحبيني. قلت: حسنا. وسرت إلى جانبه فنظر إلي متعجبا، وقال: أليس من العجيب أن تكون ساعتك متأخرة عن ساعتي؟! قلت: وما وجه العجب في ذلك وأنا لم أرك في حياتي، ولم أضبط ساعتي على ساعتك؟ قال: وما الذي ستفعلينه اليوم بعد أن علمت أن ساعتك متأخرة؟ قلت: لا شيء، أفرض أني لم أرك، وأسير حسب ساعتي إلى أن تنتهي دروس الصباح، ثم أضبطها بعد ذلك لأني لو ضبطتها الآن لقل وقت الحصة الأولى خمس دقائق، وهذا ما لا أريده، أما إذا سرت كما أنا فقد دخلت التلميذات الدرس بعد تأخر خمس دقائق، ثم ينتهين منه بعد تأخر خمس دقائق أيضا، ولا ضرر في ذلك.
غاظه كلامي، وأراد أن ينتقم مني، فأراد أن يتفقد نظافة المدرسة قبل أن يتفقد الدروس لاعتقاده أن المصريين لا يعنون بالنظافة، ودخلنا مطبخ المدرسة فأدهشته نظافته، ووقف حائرا لا يدري ماذا يفعل، ثم تفقد كل شيء فيه بدقة، وأخيرا أخذ يشم حوائطه بأنفه، وكان الرجل طويل الأنف، وقد ضايقني ذلك منه فقلت له: أتريد يا مستر فلان أن تكنس حوائط مطبخي بأنفك، وهل إذا فعلت ذلك في كل غرفة تدخلها أجد من وقتي متسعا للسير معك؟ إن لدي أعمالا أريد إنجازها، فإلى اللقاء! قلت ذلك وتركته فتبعني مسرعا، وهو يقول: تمهلي إني أريد أن أزور المدرسة بحضورك. فسرت معه، وأخذ في أثناء سيره يقول لي بمناسبة أو بغير مناسبة: نحن الإنجليز - وكان يلبس طربوشا مصريا - فقلت له: وما بالك بنا نحن المصريين ألسنا خلقا مثلكم؟ إنك تلبس طربوشا مصريا دلالة على أنك موظف مصري، أو على الأقل لتحمل الناظر إليك على الاعتقاد بأنك موظف مصري، فما بالك تذكرني من وقت لآخر بأنك إنجليزي الأصل؟ اخلع إذن هذا الطربوش والبس قبعتك الحقيقية، ودع ذلك الرياء في الملبس.
انتهت الزيارة بمثل ما ابتدأت به من سوء تفاهم يتفاقم كلما خطونا خطوة، وكتبت لجناب المستشار خطابا أشكو إليه فيه من تصرف المفتش، وقلت له: إن المفتش في تفتيشه يجب أن يكون قدوة حسنة يحتذي بها النظار، وإذا كان مفتشك الإنجليزي على حدة بصره لا يستطيع أن يرى القذارة على حوائط مطبخي إلا على بعد أنفه من تلك الحوائط، فكيف أستطيع أنا أن أرى تلك القذارة مع قصر نظري؟ هل ينتظر مني أن أجدع أنفي لأضع حبة عيني على الحائط، وأرى القذارة التي رآها مفتشك على بعد أنفه، الحق يقال: إنه متعنت، وإني أفضل أن أضرب بالسياط على أن أرى وجهه مرة أخرى.
ويظهر أن جناب المستشار استدعى المفتش فدافع عن نفسه دفاعا لا يتفق مع الحقيقة، بل كان ملؤه الكذب والخداع، وكانت زيارة المفتش في يوم سبت، وأراد المرحوم أن يتحقق من صحة قول المفتش، فزار المدرسة مفاجأة يوم الخميس، ومعه مسز ألجود، وكانت سيدة إنجليزية طيبة القلب شريفة المبدأ، ففتشت المدرسة تفتيشا دقيقا حتى إنها تفقدت ملابس الطالبات الداخلية، وسرت سرورا عظيما من نظافة المدرسة ونظامها، وأخبرت جناب المستشار بما رأت، فهنأني عند خروجه من المدرسة باجتهادي، ونظافة مدرستي، ثم طلب من المفتش السابق أن لا يزور المدرسة مرة أخرى، وهكذا كان المستشار عادلا بالرغم من كثرة الدسائس التي كانت تحاك لي عنده.
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
अज्ञात पृष्ठ