قال: أعاهدك ألا أسيء إليك بعد هذا. قلت: أرجو أن تكون في هذه المرة صادق الوعد. لكنه ما لبث بعد هذا أن ضايقني مضايقة عظيمة فذهبت إلى مكتبه، وكان عنده بعض الأعيان، فقلت له: من العقل أن لا يعمل الإنسان عملا إلا وله من غاية تفيده شخصيا، ولا أدري ما هي الغاية التي تتلمسها سعادتك من مضايقتي والإساءة إلي؟ إنك إن انتصرت علي بعد ذلك فلن يعجب بك أحد، أو يصفق لك استحسانا، بل يقولون جرب قوته ضد فتاة، وإذا أنا انتصرت عليك كان الويل والخجل لك، فما الذي يحملك على هذا؟ قال: إني لا أضايقك. قلت: ولكني أنا شخصيا أشعر بتلك المضايقة. قال: لعلك من رواد الزار، ولعل عليك عفريتا يكرهني. قال ذلك بشيء من السخرية أمام الأعيان ليظهر أني امرأة كباقي النساء الجاهلات، فابتسمت، وقلت له في نفس سخريته: يجوز يا باشا أن يكون علي عفريت، ولكن ما رأيك لو أن هذا الأمر قد ثبت جليا لأصبحت أنت شيخة الزار؛ لأن عفريتي لا يظهر إلا على يديك، أو بعبارة أخرى لا يتحرك إلا إذا زمرت له أنت وطبلت. فضحك الأعيان، وخجل سعادته.
انتقام
أخذ المدير ينتقم مني، وأخذت أنا الأخرى أبحث في وسائل لأنتقم بها لنفسي؛ فكانت من أهم وسائله إفهام الإنجليز أني وطنية محبوبة، وأني أكره الإنجليز، وأعمل ضدهم، ولم أكن أتجه إلى وجهة نظره هذه؛ لأني كنت أجهل ما يدس لي عند الإنجليز.
وكان امتحان الكفاءة للمعلمات، وامتحان الابتدائية يقامان في مدرستي، وكان يسبق الامتحانين امتحان عملي للتدبير المنزلي، وكنا نخلي محال المطبخ والمائدة وغيرهما لإجراء الامتحان العملي للتدبير المنزلي، وكانت هذه الأشياء في أعلى دور من المدرسة، وكنت أعلم شدة ميل المدير إلى التدخل في كل شيء يتعلق بالسيدات، فعلمت من هذا أنه سيدخل الامتحان العملي، وأردت أن أقطع عليه الطريق فيما يريد، فكتبت إلى المستر دانلوب خطابا أقول له فيه: إن وزارة المعارف هي المسئولة عن نظام الامتحانات، وعن المخالفات للآداب التي يجوز أن تقع فيها ما دامت هي القائمة بتلك الامتحانات العامة، وإني أعلم أن المدير شديد الرغبة في أن يتدخل في كل شيء، وأنه سيحضر حتما لامتحان العملي، والطالبات في ذلك الامتحان يلبسن ملابس قصيرة تكشف عن سيقانهن كما تكشف عن سواعدهن، بل إن أكمامهن ترفع إلى ما فوق الساعد، وإن دخول رجل بينهن وهن على تلك الحالة يخالف الآداب الشرقية الواجب رعايتها في البلاد، والتي يجب عليك أنت أن تحافظ عليها، فإذا دخل المدير لجنة الامتحان العملي كنت أنت هدفا للوم الذي سينصب على تلك التصرفات المستهجنة في نظر الناس.
وصله الخطاب، واهتم به، ونبه على رئيسة اللجنة أن تغلق عليها باب الدور الذي سيقوم فيه الامتحان، وأن لا تسمح لرجل بالدخول مهما كانت درجته، وكانت رئيسة اللجنة سيدة إنجليزية، فحضرت، وكان أول ما طلبته أن يعمل لباب الدور رتاج، ودخلت وأغلقته عليها وعلى الطالبات، وطردت جميع الخادمات فنزلن إلى الدور الأرضي، وجلسن فيه، وكان جلوسهن خلف الباب الخارجي أي أمام مكتبي، وتحقق ما تخيلته، وحضر المدير، وطرق الباب، وكنت قد أمرت الخادمات أن لا يفتحن للمدير الباب إلا بعد أن يستأذن مني، وطرق المدير الباب بشدة، وقال للخادمة: افتحي أنا المدير. وذهبت إحداهن تستأذن مني، وتضايق المدير، وطرق الباب مرة أخرى ثم ثالثة، والخادمة تجيب بأنها لا تستطيع أن تفتح الباب إلا بعد أن تأذن الناظرة، وأن إحدى زميلاتها ذهبت لتستحضر ذلك الإذن، واشتد المدير في لهجته، وقال: أنا مدير البلد. وقالت الخادمة: وأنا مالي يا سيدي.
وأخيرا قالت له: لا تغضب، وسأذهب أنا بنفسي. وجاءتني الخادمة الثانية فأمرتها أن تحضر لي كوبا من الماء قبل أن تفتح له الباب، وكانت هذه بالطبع كل الوسائل التي أستطيع أن أنتقم بها لنفسي.
فتحت الخادمة الباب بعد أن وقف خارجه نصف ساعة ودخل، وكنت واقفة على باب مكتبي، وقد أمرت الخادمات أن لا يرشدنه إلى شيء، ومن ترشده سترفت في الحال، ودخل المدير ووقف أمامهن، وقال لأقربهن منه: أين لجنة الامتحان؟ قالت: لجنة؟ لجنة إيه يا سيدي، ودي تبقى إيه؟ قال: ألم تحضر هنا سيدة أجنبية، فأين هي؟ قالت: سيدة أجنبية! واش عرفني أنا؟ وسأل الثانية فلم تفده بأكثر من هذا، فتركهن وذهب، وبدلا من أن يصعد إلى السلم الموصل إلى الدور الأعلى ذهب إلى الجهة الثانية التي مر بها المراحيض، وبعد أن زارها بالطبع عاد إلى مكانه الأول، وسأل السؤال الأول بشدة، وقلت أنا للخادمة التي كان يخاطبها في أول الأمر: خذي ده يا فلانة - مشيرة إلى المدير - وديه اللجنة، وهنا عرفت الخادمة معنى كلمة اللجنة التي كانت تتجاهلها، وذهبت أمامه وتبعها، وهو في غضب، فلما وصل إلى الدور الثالث طرق الباب ففتحت له رئيسة اللجنة بنفسها لترى من الطارق، وقالت: من أنت؟ قال: أنا المدير. قالت: إني آسفة لأني لا أستطيع الخروج إليك ولا إدخالك عندي. وأغلقت الباب، ونظرت الخادمة إليه في شيء من الدهشة، وقد ذهل هو وخجل من موقفه، فقالت له: يا عيني يا سيدي طردتك؟! ولم يجب هو بشيء، ولكنه أسرع بالنزول قفزا، فكان يقفز كل ثلاث درجات دفعة واحدة، ومر بالخادمات اللائي كن بالفناء والخادمة تجري وراءه، ولما خرج هو يجري، وفتح الباب الخارجي، وكان جمهور من الناس مجتمعا عند الباب في انتظار بناتهم فسمعوا الخادمة ، وهي تقول: مسكين والنبي ، صعب علي لما طردته. فظن الناس أن التي طردته هي نبوية موسى، وانتشر الخبر في مدينة المنصورة، وأخذ الناس يتساءلون كيف استطاعت أن تطرده وأن تبقى؟ وكثرت الحكايات والأقاويل، وكلها تنصب على موقف المدير المخجل من ناظرة المدرسة الظافرة المنتصرة.
سوء حظ وعناد
اشتد العناد بيني وبين المدير فأخذ يفهم الإنجليز أني أعمل ضدهم، وتصادف أن قام سمو الخديوي في آخر عهده سنة 1914 برحلة إلى الأقاليم، وجاء إلى المنصورة، وكان المدير بالطبع الذي يرتب نظام الاحتفال باستقباله وتوديعه، وعلمت أنه لا ينوي أن يشرف الخديوي مدرستي لما كان بيني وبينه، كما علمت أن سمو الخديوي كان سيشرف بيت الطاهري بك، وهو قريب من المدرسة، وكان بيني وبين سيدة البيت صداقة، وكانت الغرفة التي سيشرفها الخديوي لها بابان أحدهما على طرقة ضيقة توصل إلى الحرم، والآخر الباب الخارجي الذي أعد لاستقبال سموه، فطلبت من السيدة أن تسمح لي أن أقف وراء ذلك الباب الداخلي لأشاهد الخديوي من ثقب مفتاح الباب، فأجابت الطلب، وما كدت أظفر بذلك حتى ذهبت إلى ذلك الباب، وأغلقته بالمفتاح، وأخذت مفتاحه معي، ثم أحضرت تلميذة صغيرة بارعة الجمال لا يتجاوز سنها السادسة، وأعددت لها قصيدة مدح في سمو الخديوي، وعنيت بتحفيظها تلك القصيدة، وإجادة إلقائها عناية تامة، وكنت أفعل ذلك سرا لا يعلم به أحد، وقد اشتريت لهذه التلميذة فستانا أبيض يناسب بياضها الرائق، وربطت شعرها بشريط أزرق يناسب لون عينيها، ووضعت على صدرها وشاحا كتب عليه مدرسة المعلمات بالمنصورة، مع أن التلميذة لم تكن من مدرسة المعلمات بالطبع، ولكني أردت أن أذكر الجمهور بمدرسة المعلمات التي ألغاها المجلس بإجماع الآراء تحت ضغط المدير، ثم أعيدت إلى الوجود في اليوم الثاني، فكان اسمها عارا على المدير وسلطته؛ لأنها بقيت رغم إرادته.
كتبت القصيدة على قطعة حرير زرقاء بلون السماء، ثم أحطتها بإطار من أزهار البنفسج الجميلة اللطيفة رسمت بالبوية، ولم يكن النقش بالبوية على القماش معروفا في ذلك الحين، فكانت تحفة رائعة، ثم كسوت بها «مخدة» حشيت بريش النعام، ولم أعمل «مخدة» واحدة، بل عملت مخدتين من صنف واحد؛ لأني كنت أعلم أن المدير سيحرض علي مفتش الداخلية الإنجليزي، ويدعي له أني شتمته أمام الناس؛ لأن القصيدة كان بها تعريض به، أخذت المخدة الأخرى، وأهديتها إلى زوجة مفتش الداخلية، فسرت بها سرورا عظيما، وعرضتها على المفتش أمامي، فقلت له في بساطة: إن المكتوب على تلك المخدة قصيدة عملتها مدحا في الخديوي، ورجائي أن تقرأها، وأن تقول لي انتقادك عليها؛ لأني أريد أن أرسلها له. وكان الرجل من الإنجليز الذين يعدون أنفسهم شرقيين يجيدون اللغة العربية فقرأها، وقال إنها عظيمة، وبناء على هذا أخذت موافقته على هذا التعريض بالمدير.
अज्ञात पृष्ठ