وشاء الحظ أو سوءه أن يفتح مجلس مديرية الدقهلية مدرسة معلمات المنصورة، وأن يطلب لها ناظرة من حاملات دبلوم السنية اللائي كن في ذلك الوقت أندر وجودا من العنقاء والخل الوفي، وكان حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد عضوا في ذلك المجلس، ولم يكن بالطبع من الأعضاء الذين يوحى إليهم، بل كان هو العضو الوحيد الذي يصح أن يوحي إلى غيره لا أن يتلقى الإيحاء، وعرض سعادته على المجلس تعييني ناظرة لتلك المدرسة، وكان مدير المديرية في ذلك الوقت المرحوم محمد باشا شكري، وكان صديقا حميما لحضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد، كما كان فاضلا متضلعا في العلوم؛ ولهذا قبل ذلك العرض من سعادة لطفي باشا السيد، واتفق معه على تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، وأخبرني حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد بذلك، وحدد لي يوما للسفر إلى المنصورة، واقترح أن أبيت في منزل سعادته في برقين، وفي الصباح أذهب إلى المنصورة حتى لا أضطر إلى المبيت في أحد الفنادق، وهي عادة لم تكن مألوفة بين المصريات، فرحبت بفكرة سعادته، وشكرت له ذلك، وذهبت إلى برقين، وإذا بعربة المغفور له والده تنتظرني عند المحطة، فأخذتني إلى منزلهم العامر في برقين.
دخلت المنزل مغتبطة فقابلتني شقيقتاه، وزوجة والده بالترحيب كما هي عادة ذلك المنزل لكل طارق، جلست مع الشقيقتين، وكان المنزل ينفذ الحجاب بالدقة، فلا يدخل أحد من الرجال إلى محل الحريم، وعلمت أن هؤلاء الفضليات من نساء برقين لم يقابلن رجلا غريبا، ولم يتحدثن إلى رجل أجنبي عنهن، وهنا هالني الأمر، وتساءلت في نفسي ماذا يكون رأيهن في مبيتي في منزلهن، وتحدثي مع شقيقهن؟ ألا يبدو ذلك غريبا شاذا في نظر هؤلاء الفضليات؟ ولا يبعد بعد ذلك أن تحتقرنني لخروجي عن الفضائل التي اعتدنها، فكرت في ذلك فمادت بي الأرض، وخشيت على سمعتي السوء، ولم أدر ماذا أصنع، وأردت أن أتجنب مقابلة حضرة صاحب السعادة لطفي باشا السيد حتى لا أظهر أمامهن بالخروج على فضائلهن المتبعة، فطلبت ماء لأتوضأ، وتوضيت وصليت، وجلست تائهة أفكر فيما عسى أن يقال عني، وحضر صاحب السعادة لطفي باشا السيد ليرحب بي قياما بواجب الضيافة، وهو المعروف بكرمه وسخائه المتناهي فقمت له، ولما أراد أن يسلم علي باليد اعتذرت إليه خشية أن ينقض وضوئي فجلس بعيدا عني، وكنت أجلس على ديوان كبير وضع بجانب نافذة تطل على جرن البلد، واندهش لطفي باشا إذ رآني على غير عادتي صامتة لا أتكلم، ويبدو على محياي أني سابحة في بحر من الأفكار والهواجس، فقال: هل أنت خائفة من تلك النافذة؟ وأشار إلى النافذة التي كانت خلفي، قلت: كلا، ولكني أفكر في كيفية مبيتي في هذه الليلة، وهل سأبيت مع شقيقتيك في هذه الغرفة، وهل لها مفتاح لنغلق الباب علينا؟ ونظر الفيلسوف إلي في شيء من الدهشة والسخرية، وقال: إذن أنت تخافين من الباب لا من النافذة؟ فقلت: نعم. فضحك، وقال: السلام عليك، سأقابلك غدا في المنصورة في غرفة سعادة المدير. وتركني وانصرف.
أما أنا فقد فرحت بالنتيجة التي وصلت إليها، وإن كان قد ساءني أن أظهر أمام ذلك الفيلسوف الفاضل النزيه بمظهر الارتياب، ولكن هي الظروف فإن الفتاة يجب أن تصون سمعتها من أن يتسرب إليها أي شك، أو تظهر أمام غيرها من فضليات الفتيات بمظهر لم يألفنه من قبل فتكون مضغة في الأفواه، والناس لا يعلمون إلا المشاهد والملموس أمامهم.
وفي اعتقادي أن المعلمة على الخصوص يجب أن تكون مثال الأدب والنزاهة والشرف إلى أبعد حد من حدود الكمال مهما كلفها ذلك لتكون قدوة صالحة أمام تلميذاتها، فإن أضافت إلى نزاهتها الظاهرية البادية نزاهة السريرة، وما وراء الغيب، فقد برهنت على أنها جديرة بمهنة التعليم والتهذيب، وإلا فلا كان تعليم، ولا تتوجه القدوة الحسنة من جانب المعلمات.
خرجت في الصباح دون أن أقابل صاحب السعادة لطفي باشا السيد كما أراد هو ذلك، وتقابلنا في غرفة المغفور له محمد باشا شكري، وبعد كتابة العقد بيني وبين المجلس لمدة خمس سنوات، دعاني المغفور له لتناول الطعام مع حضرة صاحبة العصمة حرمه، وكان المغفور له وقورا، قليل الكلام، يميل إلى الجد أكثر منه إلى الهزل حتى في أحاديثه .
ذهبت إلى المنزل فقابلتني السيدة الجليلة حرمه بالترحيب، وجلسنا نتسامر، وإذا بي أقابل سيدة لا كسيدات ذلك العصر، بل سيدة متعلمة سامية الأفكار، تدير منزلها بالحكمة والروية، وكان المغفور له على تضلعه في العلم يخشى جانبها، ويجلها كل الإجلال.
جلسنا نتحادث، فقامت بيننا من اللحظة الأولى صداقة متينة، فأخذنا نتسامر ونضحك، وقد أنست كل منا بالأخرى، وحضر المغفور له في وقاره وسكينته، وكان قلبي قد اطمأن إلى حرمه المصون، فعدت لا أخفي شيئا إذا أنا تبسطت أو ضحكت، وهنا نظرت إلى سعادته في شيء من الدعابة، وقلت: لا تؤاخذني إذا أنا نسيت في خطابك الآن أن أذكر كلمة سعادتك؛ لأني لم أعتد خطاب العظماء، فأنا «أكره «سعادتك» من كل قلبي»، أريد بذلك الكلمة لا شخص المدير.
واضطر سعادة المدير أن يضحك، وأن يقول: «أرجو أن لا تذكري تلك الكلمة ما دامت تعلمك كراهتي.» وهكذا توطدت بيني وبين صاحبة العصمة حرمه أواصر الصداقة من أول مقابلة، وقد حرصت كل منا على تلك الصداقة إلى اليوم.
وابتدأت عملي في مدرسة معلمات المنصورة بإعداد المدرسة وشراء أثاثها، وترتيب كل ما يصلح لها قبل أن تفتح، وكان المغفور له شكري باشا لا يرد لي كلمة، وإذا فعل أو أراد أن يفعل كان في منزله من يرغمه على تنفيذ ما أريد، خصوصا وقد رأت صاحبة العصمة حرمه أني لا أطلب إلا الصالح لتلك المدرسة التي يراد افتتاحها، وفتحت المدرسة أبوابها، وقد اقترحت أن تفتح إلى جانبها مدرسة ابتدائية، ففتحت المدرستان في وقت واحد، وأقبل أعيان المنصورة على المدرسة الابتدائية إقبالا مدهشا حتى كان فيها جميع بنات أعيان البلاد المجاورة، ومن بينهن شقيقة صاحب السعادة لطفي باشا السيد نفسه.
في المنصورة
अज्ञात पृष्ठ