لقد بنيت رفضي على رأي اعتمدته منذ طفولتي، وهو ألا أتزوج؛ لأني على ما أتذكر لم أكن طفلة بالمعنى الصحيح، أجهل ما يحيط بي، ولكني كنت أعلم ما بين الرجل والمرأة مع أنه لم يكن في منزلنا رجل، ولكن يظهر لي أن الأمر غريزة طبيعية، أو أني كنت أعلم بالإشارة، أو بما أراه من الحيوانات، كنت أعلم ذلك تمام العلم، وأرى أنه قذارة خصوصا نصيب المرأة فيه، فكنت أنفر منه، وربما ترجع مسألة خروجي من المنزل في سن الثالثة عشرة، والتحاقي بالمدرسة إلى كرهي لهذا الأمر؛ لأني لو بقيت بلا عمل لما استطعت أن أبقى أيضا بلا زواج، وليس لي من الأملاك ما يقوم بسد حاجتي؛ لهذا انصرفت عن الزواج بتاتا، ثم شاء الله أن تزداد فكرتي رسوخا ووضوحا، فسمعت رجلا يتشاجر مع امرأة على قارعة الطريق، ويقول لها ما معناه: امرأة مثلك أقضي في جوفها حاجتي تتجرأ أن تكلمني بما تقولين؟ شرحت لي تلك الكلمة ما هناك، وكرهت أن يقف مني رجل ذلك الموقف القذر المريع؛ لهذا كنت أكره أن أسمع الزواج في شبابي، أما بعد أن كبرت فقد أصبح مجرد هذا الاقتراح سبة لا يشتمني أحد بأقبح منها.
وعلى ذكر تلك الخطوبة أقول: إني خطبت بعد ذلك مرتين، سأذكرهما هنا على سبيل ذكر أشياء وقعت لي في حياتي.
كانت تلك الخطوبة الأولى في سنة 1907 كما قدمت، وفي سنة 1913 كنت ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة، وكنت ألقي محاضرات في الجامعة المصرية، كانت تكتب في جميع الصحف، فوصلني خطاب من أحد المهندسين يقول فيه: إنه معجب بمقالاتي، وإنه يطلب من الله أن يكثر من أمثالي في الأمة المصرية.
لم يكن الرجل في طبقة الخطيب الأول من الكتابة، فلم يقع كلامه من قلبي موقعا حسنا على أنه لم يقل شيئا صراحا، بل أكثر في مدحي، وقد أرسل لي في طي خطابه صورة فوتوغرافية له.
وقد فهمت من تلك الصورة ما كان يرمي إليه في طيات كلامه، وشاء الله أن يكون شقيقي ضيفا عندي في ذلك اليوم، ففضضت الخطاب، وبعد أن قرأته قذفت به شقيقي في ضحك، وقلت له: لو لم يكن هذا الرجل مؤدبا في الكلام لعاقبته بإرسال صورتي إليه، أما وهو مؤدب فلا معنى إذن لذلك العقاب. وقع الخطاب والصورة على أرض الغرفة، ولم أعرهما بعد ذلك أية التفاتة حتى إني نسيت اسم الرجل، أو قل إني لم أقرأ إمضاءه.
وبعد أيام من ذلك الحادث جاءني البواب يقول لي إن محمد أفندي حافظ يطلب مقابلتي، وكان لي خال بهذا الاسم فظننت أنه خالي أتى من القاهرة ليراني في المنصورة، فقلت للبواب أن يدخله بسرعة، وقمت له ضاحكة لأقابل ذلك الخال، وما كدت أراه حتى استولت علي الدهشة؛ لأني عرفت أنه صاحب الصورة التي أرسلت طي الخطاب السابق، وعلى كل حال فقد اضطررت أن أحييه، وأن أجلس معه.
عرفت بالطبع ما جاء به، وما يريد أن يطلبه، وأردت أن أمنعه من ذلك فقلت له: لقد وصلني خطابك، وليس لي أي انتقاد عليه؛ لأنك كنت فيه مؤدبا، وإني مستعدة أن أساعدك في كل ما تطلبه مني إذا كنت تريد إدخال بناتك بالمجانية في مدرستي هذه، وسأساعدك بكل ما أستطيع.
احتار الرجل في أمره، وقال متلعثما: ولكني لا أسرة لي، وقد جئت اليوم من أجل ذلك. فقاطعته قائلة: اسمع يا بني لقد صممت منذ كنت في سنك على أن لا أتزوج، فإذا كنت أنت اليوم لم تتزوج فأنصحك أن لا تفعل. فدهش الرجل من تلك المفاجأة، وقد كان أكبر مني سنا؛ أي كان في سن المرحوم أخي.
فلم تدخل عليه الحيلة، وقال: لست بابنك أولا، وثانيا اسمحي لي أن أسألك لم صممت على عدم الزواج؟ ضايقتني تلك الجرأة منه، وقلت له: إنك لم ترني إلا اليوم، ومع ذلك تسألني عن أمر هو من أخص خصائصي، وما كان لك ولا لغيرك أن يتدخل فيه، مع هذا فسأشبع حب الاستطلاع في غريزتك، وأقول لك إني قد صممت على عدم الزواج؛ لأني لا أحب الرجال، ولا أحب أن أنحط في معيشتي، بل لو أني تزوجت وأنا اليوم أتناول مرتبا قدره 24 جنيها كان يجب علي أن لا أقبل إلا رجلا مرتبه 96 جنيها؛ 24 جنيها لي، و24 جنيها له، و48 جنيها للأطفال، ومثل هذا الرجل ما أظنه يطلب الزواج مني. قال الرجل: وما المانع من أن تتزوجي وأنت في وظيفتك؟ قلت: عفوا يا سيدي، فقد قلت لك إني أكره الرجال، فما معنى أن أقبل القرب من رجل وأنا لا أزال أعمل، وما فائدة ذلك الرجل؟ وما قيمته في حياتي؟ قلت ذلك وانتصبت واقفة، واعتذرت إليه بأن لدي درسا سألقيه الآن، وأن في استطاعته أن يمكث مع معلمي مدرستي في غرفتهم إذا شاء.
فخرج الرجل من عندي لا أدري مودعا بماذا، ولكني استدعيت البواب في الحال، وقلت له: إذا جاءك هذا الرجل مرة أخرى قل له إني غير موجودة، وإياك أن تدخله عندي مرة ثانية، أو تطلب مني حتى السماح له. وبعد أيام جاءني خطاب منه يقول لي فيه: بالرغم من أنك تدعين أنك أكبر مني سنا، وأنك لا أمل للرجال فيك لدمامتك، فإني شخصيا أرى فيك غير ذلك. قرأت الخطاب ومزقته، وقلت: سبحان الله! من أخذ رأيه في هذه الأمور، وما الذي يهمني من رأيه في؟ إن رأيي فيه، وفي كل رجل أن لا أتزوج، ولا ثاني لهذا الرأي عندي.
अज्ञात पृष्ठ