بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي وعد الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليستخلفهم فِي بِلَاده وَجعلهَا دولا بَين خليقته وَالْأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَأشْهد أَن الله الْوَارِث لكل حَيَوَان وجماد القاهر فَلَا معاند لجبروته وَلَا عناده وأصلي على هَذَا النُّور المتنقل فِي الأصلاب الطاهرة والمخترع من أَجله الْكَوْن فإليه رئاسة الدُّنْيَا وَبِيَدِهِ زِمَام أَمر الْآخِرَة وعَلى آله جمال الْكتب وَالسير مَرْكَز دَائِرَة الْعِزّ الأطهر
وَبعد فَيَقُول المفتقر إِلَى مَوْلَاهُ الْعَزِيز الْقَدِير عبد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الاله بن الْوَزير جملَة الله بملبوس الْعَافِيَة وَالتَّقوى وَنزع عَن خاطره مخائل الأهوا هَذَا كشكول لطيف ومحمول على الْأَرْوَاح خَفِيف حاولت فِيهِ الْكَشْف عَن الْحَوَادِث الَّتِي مبتداها سنة سِتّ وَأَرْبَعين بعد الْألف لِأَنِّي رَأَيْت مَا سبقها من السنين قد انتظمها التسيير بِلِسَان المؤرخين وَأخذت الْعَفو فِي التَّرْتِيب والرفو فَلم أحفل بالشهر وتسيير أَيَّامه ولف الدَّهْر وتفتيش أعوامه لعلمي وكل من برع فِي التسيير إِن هَذَا يصدر لأمر عسير وَتعرض لما لَيْسَ من الصدْق
1 / 47
فِي قبيل وَلَا دبير وَقد عزي إِلَى بعض مؤرخي الْيمن أَنه وضع برسم بعض البواش مؤلفا جعله على تَرْتِيب أَيَّام الشُّهُور وأعوام العصور مكيفا وَلما فتشت مسوداته وتتبعت ورقاته وجد مِنْهُ نسختان احداهما المقتصر عَلَيْهَا والمرجوع فِي التسيير إِلَيْهَا وَحين قوبل بَين محصوليهما وجد الِاضْطِرَاب بَين منقوليهما فترى فِي إِحْدَاهمَا النُّكْتَة الْفُلَانِيَّة فِي الشَّهْر الْفُلَانِيّ وتراها فِي الْأُخْرَى قد رتبت للشهر الثَّالِث أَو الثَّانِي وَمن هَذَا الإضطراب الَّذِي يقْضِي بِأَن الْقَصْد الْخدمَة بذلك الْكتاب فترى الْكتاب لَا بسا لتِلْك الأساليب وَالله يعلم مَا تَحت الجلابيب
وَقد اطَّلَعت على تَارِيخ لبَعض أَبنَاء مُلُوك الْيمن اوعب فِيهِ مَا وصل إِلَى علمه الشريف وفكره اللَّطِيف فاعتمدت فِي الْقَصَص عَلَيْهِ وَأحلت جلّ مَا نقلته إِلَيْهِ وَمَا زِدْته مني فَإِن عزوته فقد خرجت عَن عهدته وان أطلقته فَهُوَ إنْشَاء الله بَرِيء عَن الْكَذِب ووصمته وَلم أتكلف لَا كَثْرَة سجعا مطبوعا وَلَا أحللته من مسَاكِن التنطع ربوعا لِأَنِّي قصدت من مَوْضُوعه الْعلَّة المنسوبة إِلَى الْغَايَة وَأَن يشْتَرك فِي الْميل إِلَى توقيعه أهل الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَقد رَأَيْت كثيرا من المؤلفات مَهْجُورًا مَنْبُوذًا إِلَى حيّز الإهمال مَدْحُورًا بِسَبَب مَا تحمله من النكات والمعارف وتجمل بِهِ من قطائف اللطائف
(توقى البدور النَّقْص وَهِي أَهله ... ويدركها النُّقْصَان وَهِي كوامل (فَأَقُول دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف كَانَ فِيهَا ملحمة الغرب الَّتِي
1 / 48
جرى لمصابها من كل عين غرب وَذَلِكَ أَن الْمُلُوك الحسنية بِتِلْكَ الديار تجاذبوا أهداب النزاع والشجار وكادت بحبوحة مملكتهم أَن تنهار وَجُمْهُور مملكتهم فاس فَأَما تونس وجزيرة الأندلس فَهِيَ إِلَى صَاحب الْأَبْوَاب ابْن عُثْمَان وَيُقَال أَن أنتماهم إِلَيْهِ وخلاصة مَا شجر بَينهم أَنه لما فَارق الْحَيَاة أَمِيرهمْ الشريف أَبُو عبد الله القايم بِأَمْر الله الْحُسَيْن طلع تخت مَمْلَكَته أَخُوهُ الْأَكْبَر وَملك الْقَضِيب والمنبر وَضربت برسمه السِّكَّة وَعقد عَلَيْهِ اللوآ الْأَزْهَر ثمَّ أَنه بعد ذَلِك جنح إِلَى اقتعاد مملكة الْعُلُوم واستخدام عَسَاكِر منطوقها وَالْمَفْهُوم وَلم يلبث أَن خلع خلعته هَادِم اللَّذَّات وطمع وَلَده فِي أَن تكون مَمْلَكَته من سَائِر الموروثات فرام وضع السَّيْف فِيمَن بقى من أَعْمَامه وقرطس من كنانه غدره نصال سهامه طَمَعا فِي تفرده بِتِلْكَ الْجِهَات ولهجا فِي أَن تصفو لَهُ بتفرده الكدورات
وَلما علم بذلك عَمه الشريف أَحْمد أقبل على حربه بخاطر مؤلم وقلب مكمد فَرَجَفَ عَلَيْهِ جرار ورماه من رجال الرّوم بمارج من نَار فمرج عَلَيْهِ بحرين مؤجر عَلَيْهِ خمسين وانكشفت الوقيعة عَن أقحامه الْبَحْر الزخار وَهَكَذَا يكون دفع الْعَار بالعار فتقرر ملكه على قَاعِدَة الغرب واستراح
1 / 49
واستلم خلعه السلطنة بشفار الصفاح وأطراف الرماح وَهَكَذَا عَاقِبَة من جنح الى الْملك العضوض غير ملاحظ قَاعِدَة مسنون وَلَا مَفْرُوض وَقد ألم بِبَعْض الْقِصَّة الشهَاب الأفندي فِي رَيْحَانَة الألبا وَهِي من محَاسِن مَا صنف فِي العصور الْمُتَأَخِّرَة وَمن البلغاء من يرجح نَفسه على نفس قلائد العقيان وَأما شعراؤها ففيهم الْمجِيد والمتوسط وَفِيهِمْ من لَا يدون لَهُ شعره إِلَّا متسامح وَهَذَا الْكتاب الْيَوْم قد انتشرت نُسْخَة فِي هَذَا الْقطر ومؤلفه عَلامَة نَفسه يقْضِي بِأَنَّهُ من أَرْبَاب الِاجْتِهَاد وَمَا صان لِسَانه فِي رسائل أطلقها على أَعْرَاض جمَاعَة من أكَابِر الرّوم وَقد كَانَ يُسمى بالولي فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَمن مؤلفاته شرح شِفَاء القَاضِي عِيَاض وَغَيره وَمِمَّا قلته فِيهِ وفيهَا
(إِذا تنبأ أَحْمد بَيْنكُم ... يَا أهل مصر غير منكور)
(فقد تحداكم بريحانة ... أوراقها جآت بمنثور) وفيهَا خرج الحداء عَن مَذْهَب الشَّافِعِيَّة إِلَى مَذْهَب الزيدية ولتقارب الديار أثر فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَيُقَال أَن أصل هَذَا الْبَطن من الحدادين بِمصْر
1 / 50
الْقَدِيم وَأَن نسبتهم إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة وَالله أعلم بحقائق الْأُمُور
وفيهَا كتب الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم إِلَى صنوه امام الإجتهاد الْحُسَيْن رِسَالَة تكْتب من الْعُيُون بِالسَّوَادِ وتفدي من المهج بسويدا الأكباد تلِيق بِكُل أَمِير ومؤمر ان لَا يفارقها فِي سفر وَلَا حضر يربطها فِي زنده ويدرسها مَعَ ورده يحث فِيهَا على التَّوَاضُع وَترك المباهي من التطاول وَمَا يَلِيهِ من الديانَات الظَّاهِرَة والباطنة وَإِعْطَاء ذَوي الْحُقُوق الْحُقُوق وَالنَّهْي عَن
1 / 51
القطيعة والعقوق وتوظيف مَرَاتِب أهل الْحُقُوق على طبقاتهم بمراعاة الْعَالم بتوفير حَقه وتوقيره وَالْجَاهِل بمواساة فقيره الْمُطِيع وزجر عاصيه وتحذيره وافتقاد الْأُمَرَاء والأجناد وعرضهم فِي أغلب الْأَحْوَال على دفاتر الْإِمْدَاد وكف الْجند سِيمَا حَاشِيَة الْملك فِي كل وَقت عَن التخطي إِلَى طرق الْمَظَالِم وَوضع أَنْوَاع بَيت المَال خلف أَبْوَاب وأقفال فعمارة المنصب بِالْمَالِ وعَلى قدره يكون قدر الحياطة من الإضمحلال وَفِي هَذِه الرسَالَة مَا هُوَ أَكثر من هَذَا المرقوم فليطلب من مَحَله
وفيهَا أوفى الَّتِى قبلهَا كَانَ وَفَاة السَّيِّد الْعَلامَة صَلَاح بن أَحْمد السراجي الْمَعْرُوف بالحاضري وَكَانَ فِي لطف المحاضرة وَحسن الْجَواب ورشاقة الأسلوب أشبه شَيْء بالسيد الإِمَام صَلَاح بن أَحْمد بن عبد الله بن الْوَزير وَقد كَانَت لَهُ الْمنزلَة الرفيعة عِنْد الباشا الْعَارِف جَعْفَر والحاجى مُحَمَّد فضل الله باشا فَإِنَّهُ تمكن من قلب الرجلَيْن مَا شَاءَ وَلما كتب إِلَيْهِ جَعْفَر يسْأَله بقوله
(مَاذَا يَقُول إِمَام الْعَصْر فِي رجل ... أضحى قَتِيل الْهوى بالأعين النجل)
(هَل يستباح لَهُ أَحيَاء مهجته ... برشف محبوبه وَالضَّم والقبل)
(أم هَل يجوز لَهُ يَوْمًا يعانقه ... ويشفي النَّفس من قَول بِلَا عمل (
وَفِي قَوْله ويشفي النَّفس من قَول بِلَا عمل مقَال وَقد وَقع لَهُ نَظِير فِي شعر القدماء وشعراء المولدين كَأبي الطّيب وَغَيره ووجهة تَقْدِير أَن أَجَابَهُ بقوله
1 / 52
(إِن صَحَّ دَعْوَاهُ فِي إِتْلَاف مهجته ... وَأَن رشف اللمى يشفي من الْعِلَل)
(فليرشفن رضاب الثغر ملتمسا ... من ريق محبوبه أحلى من الْعَسَل)
(فالرشف فِي شرعة الْإِسْلَام أَهْون من ... قتل امرء مُؤمن بِاللَّه وَالرسل)
وَظَاهر هَذَا مُوَافق لمَذْهَب الظَّاهِرِيَّة ان التَّقْبِيل وَالنَّظَر لشَهْوَة وَسَائِر الْمُقدمَات جَائِزَة وَقد تعدى الْحَال بِسَبَب هَذَا الْمقَال فِي أَيَّام حيدر الْمَغْرُور إِلَى مَا هُوَ فِي سيرته وسيرة حَاشِيَته مَشْهُور ذكر بعض العارفين أَنه كَانَ إِذا قصد المنتزهات إنهمك فِي أَنْوَاع الْمَفَاسِد وَاللَّذَّات وَبيع الْخمر فِي سوقه واستوى زرع الْمُنكر على سوقه وَقد قطع هَذَا الْعرق الظَّالِم بدولة الفواطم بعد حصد تِلْكَ الرّقاب العواصي بالقواصم فَالْحَمْد لله
وفيهَا قتل شرِيف مُعْتَقد من بني العيدروس بحدود خثعم قَاصِدا لبيت الله الْمُعظم فَضرب الله أهل تِلْكَ الْبَلدة الَّتِي قتل فِيهَا بالجذام عقيب ذَلِك الْمُنكر وَظهر عِنْد الْخَاص وَالْعَام وفيهَا كَانَ وَفَاة السَّيِّد الأديب مُحَمَّد بن
1 / 53
مقاطع جي وَله شعر متوسط مدح بِهِ الشريف المسعود صَاحب مَكَّة وَملك الْيمن الْحسن ابْن الْقَاسِم والأمير حُسَيْن بن عبد الرب وَله مكاتبات مَعَ إِمَام الْفلك عِيسَى ابْن لطف الله ومعارضات لشعر السَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد بن عبد الله بن المتَوَكل على الله يحيى شرف الدّين
وفيهَا وَفَاة وَاحِد عصره فِي التنجيم والخط القويم عبد الله بن صَلَاح عنقوب وَله مَجْمُوع كتاب الزيج وتكميل فِي الشُّهُور الْعَرَبيَّة واليزدجردية لكتاب الشَّيْخ باغوث الْحَضْرَمِيّ بلغ فِيهِ إِلَى سنة ألف وَمِائَة وثماني وَسِتِّينَ
1 / 54
وفيهَا مَاتَ الْفَقِيه الفلكي عبد القيوم الرغيلي وَكَانَ من الإتقان بِمحل أول وَهُوَ الَّذِي وضع الْمدْخل الْمُخْتَصر لزيج بن الشاطر الْمُسَمّى بالدر النظيم وَقد وقفت على هَذَا المُصَنّف فرأيته جداول ساذجة خلاف مَا عَلَيْهِ كتب هَذَا الْفَنّ من تخَلّل رِسَالَة المداخل وَنَحْوهَا وَهُوَ لطول مصر
وَدخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف
فِيهَا ارتحل الْملكَانِ الْحسن وَالْحُسَيْن من ضوران متوجهين إِلَى صنعاء الْيمن فِي أبهة حيدرية ومملكة رُومِية وخيول كالسعالي وجنود يدكدك لَهَا
1 / 55
الشم العوالي وتلقاهم من بِصَنْعَاء من طَائِفَة الْعَسْكَر فَدَخَلُوهَا فِي وَقت مَسْعُود الطالع أغر وَكَانَ يَوْمًا مشهودا انبهر لَهُ عَسْكَر الأروام الَّذين رَغِبُوا إِلَى خدمَة آل الإِمَام وَرَأى النَّاس مَا هالهم من الشارة الملوكية والسناجق السلجوقية والنوبة الَّتِي رجفت لأصواتها قُلُوب المرجفين واستحكمت بهَا قُوَّة أَفْئِدَة الَّذين كَانُوا مستضعفين وَلما قر قَرَار الْملكَيْنِ انْفَصل الْحسن إِلَى رَوْضَة حَاتِم البهية بِمن مَعَه من القواد والأتابكية وَرجع أَخُوهُ إِلَى ضوران وَأَحْيَا معالمها بِعُلُومِهِ وأعلامه حِصَّة من الزَّمَان
وفيهَا وصل الْعَلامَة إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم إِلَى صنوه الْحسن إِلَى صنعاء وَكَانَ قد ناله مشقة التَّكْلِيف بشهارة هُوَ وَمن مَعَه بِسَبَب تحري الإِمَام الزَّاهِد الإِمَام الْمُؤَيد فِي حَاله مثله فَصنعَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْحسن من أَصْنَاف الْمَعْرُوف مَا هُوَ بِهِ مَذْكُور لَهُ مألوف وَحضر قِرَاءَة الْفُصُول اللؤلؤية مَعَ أَخِيه الْحُسَيْن على إِمَام
1 / 56
الْعَصْر الْأَخير مُحَمَّد بن عز الدّين الْمُفْتِي وأتفقت الْمُرَاجَعَة الطَّوِيلَة بَينه وَبَين شَيْخه فِي مسئلة الرَّجَاء عِنْد إملاء مَا نَقله صَاحب الْفُصُول عَن الْفَقِيه قَاسم الْمحلي من قَاعِدَة بنآ الْعَام على الْخَاص وَقد وقفت على أجوابه عَن السُّؤَال ورايتها لَا تحل ذَلِك الْإِشْكَال وأشفها أَن التوعد على كل كَبِيرَة بِعَينهَا لَا يجلب إِلَيْهِ تطرق الإحتمال وَهُوَ بعد ذَلِك مطروق بمناقشة صعبة الإضمحلال وَهِي أَن التوعد كَذَلِك لَا يخرج الْمعْصِيَة الْمعينَة من عُمُوم الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال وَرَأَيْت الْجد صارم الْإِسْلَام قد ترك الْإِشْكَال مَفْتُوحًا ولأمر مَا خلاه عَن طرق النّظر مطروحا وَهُوَ الَّذِي عض فِي الْعُلُوم بناجذ وتلمح من الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول خفيات المأخذ
وَلما اسْتَقر حَال الْمُؤَيد بِاللَّه بضبطه مملكة الْيمن وقوى جَانِبه لمهابة جَانب أَخَوَيْهِ الْحُسَيْن وَالْحسن انْقَطع بإرسال البواش طمع السُّلْطَان مُرَاد وَعلم أَنه لَا يَنْتَظِم لَهُ مرام وَلَا يتم لَهُ مُرَاد مَعَ مَا كَانَ قد أتْلفه قواده فِي الْأَيَّام السَّابِقَة من الخزاين المشحونة والذخائر المصونة وَالْخَيْل المسومة والأبطال المعلمة
1 / 57
وانضاف إِلَى ذَلِك اشْتِغَاله باستدراك الْعرَاق من يَدي سُلْطَان الْعَجم الشاه عَبَّاس بعد مُتَابعَة المراس وَإِتْلَاف النفائس والأنفاس وَلما اقتعد أَخُوهُ السُّلْطَان إِبْرَاهِيم ملكه الْعَقِيم جنح إِلَى سد هَذَا الْبَاب وأطفأ سعير السيوف والحراب واشتغل بِبَقِيَّة عمل الْعرَاق حَتَّى طرد عَنهُ الشاه وَاسْتقر دُخُوله فِي قَاعِدَة مملكة الأروام وَقد صَحَّ عَن الباشا قانصوه مَا يفهم إضراب صَاحب اصطنبول عَن الْيمن فَإِنَّهُ لما فر الى مليك الْيمن الْحسن فِي أَيَّام منازلة المخا وزبيد وَرَأى من الْحسن الْإِحْسَان الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ مزِيد صرح لَهُ بذلك حَتَّى قَالَ مَا مَعْنَاهُ أَنا الَّذِي اخْتَرْت الْخُرُوج الى الْيمن وَكَانَ الي نِيَابَة مصر قصر وَحين رَأَيْت كَثْرَة أَمْوَالِي طمعت فِي الْيمن فتحملت مونة العساكر الرومية من مَالِي وَأما السُّلْطَان فَمَا كَانَ لَهُ نهج الى التَّخْرِيج وَفِي هَذِه أَو الَّتِي تَلِيهَا كتب الْمُؤَيد بِاللَّه إِلَى أَخَوَيْهِ رِسَالَة جَامِعَة وَكَلمه وازعة وَأمر فِيهَا بِأخذ الزَّكَاة من
1 / 58
الْقَلِيل وَالْكثير أخذا بِظَاهِر عُمُوم الحَدِيث الشهير وَذكر فِيهَا أَن على النَّاس تضمينات وَأَنه لَو علم التَّخَلُّص عَنْهَا لما فعل مَا فعل
وَفِي هَذِه السّنة ظَهرت آيَة من الْآيَات الموقظة وَهِي نَار على بِلَاد حجَّة بمَكَان مُرْتَفع واستمرت أَيَّامًا فسبحان من عظمت قدرته وبهرت صَنعته وفيهَا رأى بعض السَّادة طفلة لَهَا ثديان ولحية مسترسلة فسبحان الْقَادِر على مَا يَشَاء
وَفِي شعْبَان هَذَا الْعَام اقْترن المُشْتَرِي والمريخ ولتطلب منزلَة الإقتران من مُصَنف ابْن عنقوب فقد قررها وحررها وَفِي هَذَا الْعَام لَا أَدْرِي فِي أَي شهر مِنْهُ عَاد الْحسن ابْن الإِمَام إِلَى مُسْتَقر ملكه ضوران وَأطَال فِيهِ البنان والبنيان فَإِنَّهُ كَانَ أكْرم من الْغَيْث الهامع وَلَا أَقُول كالرسم الَّذِي لَيْسَ بِجَامِع وَلَا مَانع وَمَعَ استقراره أمنت قبائل تِلْكَ الْجِهَات وَكَانَت الحداء قد أخلتها عَن تِلْكَ الساحات واستولت على أَكثر أَمْوَالهم نهبا وغصبا واستقوى كَذَا جَانب هَذِه الْقَبِيلَة وَصَارَت لِلْحسنِ حزبا
وَفِي ضوران الْجَبَل الْمُسَمّى الدامغ وَهُوَ من المعاقل الجسيمة والأعلام المنيعة الْعَظِيمَة حميري الأساس مليح الأنفاس وَقد ذكره الْملك الرائش ذُو مراثد فِي شعره وَهُوَ الَّذِي أسس بناه وشيده وانتماه وَهُوَ من الْأَعْلَام المشمخرة والمنصات الَّتِي تمسح مِنْهَا للشمس الْغرَّة يسترسل بَين أكتافه ذوائب
1 / 59
الغيوم وَتحمل الْمَرْأَة مكتلها لما يتساقط إِلَيْهِ من ذَرَارِي النُّجُوم قد امتزج طينه من عنبر النسيم بِطيب وَأخذ نسيمه من الشَّفَاعَة إِلَى المزن بِنَصِيب حَتَّى أطار الْقُلُوب إِلَى بَيْتِي حبيب فِي ذكرى منزل حبيب
(ربى شفعت ريح الصِّبَا بنسيمها ... إِلَى المزن حَتَّى جادها وَهُوَ هامع)
(كَأَن السَّحَاب الغر غيبن تحتهَا ... حبيبا فَمَا ترقى لَهُنَّ مدامع)
وَهُوَ وَاسع الْمزَارِع كثير المنابع لَهُ عُيُون تسرح إِلَى تِلْكَ الغصون وتزداد بنزول مَاء المعاصرات الجون وَلما صعد إِلَيْهِ السَّيِّد الأديب المؤرخ عِيسَى بن لطف الله صُحْبَة الْحسن بن الإِمَام وَرَأى رحابة أَعْلَاهُ وَمَا فِيهِ من الْأَرَاضِي المثمرة والعيون المتفجرة قَالَ هَذَا أَرض فِي سَمَاء
وَهُوَ حَاكم على تِلْكَ الْبِقَاع متسنم على صياصيها والتلاع وازداد بهجة وحسنا بِأَن كَانَ فِيهِ ضريح الْإِمَامَيْنِ السعيدين الإِمَام الْجواد المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل وَالْإِمَام القطب الزَّاهِر الْمُنْقَطع النظير فِي الْأَوَائِل والأواخر الْمُؤَيد بِاللَّه قدس الله روحيهما
وَفِي هَذَا الْعَام أَو الَّذِي قبله توفّي الشَّيْخ الْعَارِف الأصولي على رأى الْمُعْتَزلَة عَليّ بن الْحَاج وَهُوَ من مشائخ القَاضِي عبد الْهَادِي الثلائي وَقد كَانَ من عجائبه حَسْبَمَا حُكيَ عَنهُ أَنه لَا يَقُول بإمامة الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَفِي هَذَا
1 / 60
الْعَام اجْتمع الْحسن وَالْحُسَيْن بضوران مَعَ أَن الْحُسَيْن كَانَ يتَرَدَّد الى وَادي النائجة وَإِلَى صَافِيَة ذِي بهلان وَلم يكن خاطره يَوْمئِذٍ بِمحل من الإطمئنان لعوارض بَينه وَبَين إِمَام الْوَقْت الْمُؤَيد بِاللَّه
وفيهَا وَفد على الْحسن بن الإِمَام ولد أَخِيه الْحُسَيْن بن الْمُؤَيد بِاللَّه يشكو تقلص مواده وَقلة إعداده وإمداده فَأمر المدفتر بإدخاله فِي زمرة الأكابر وأجرى عَلَيْهِ من سني الأرزاق مَا يفوت حصر الحاصر ولازم حَضْرَة بَابه وَأخذ فِي الْخدمَة بركابه وَلم يُفَارِقهُ إِلَى أَن فَارق الْحسن الْحَيَاة ثمَّ عَاد إِلَى حَضْرَة وَالِده وَعَلِيهِ أحسن الشارات
وَدخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف فِيهَا وصل إِلَى الْحسن بن الإِمَام السَّيِّد الطَّاهِر المغربي الْمَكِّيّ وأهدي إِلَيْهِ مُخْتَصره من كتاب الجفر فقابله الْحسن بِالْفِعْلِ الْحسن وخلع عَلَيْهِ الْخلْع الفاخرة وأجرى عَلَيْهِ الأرزاق المتكاثرة وجهز برفد كثير ونوال غزير
وَفِي شوالها توفّي الْحسن بن الإِمَام بالحصين من ضوران وَحضر وَفَاته صنوه الْحُسَيْن ﵀ وَكَانَ عمره أحدى وَخمسين سنة عِنْده وَكَانَ يَوْمئِذٍ وَلَده أَحْمد بن الْحسن بِأول الْبلُوغ وَكَانَ وَلَده مُحَمَّد بن الْحسن هُوَ الْكَبِير بعد
1 / 61
أَن قضى زِيَارَة وَالِده قد عَاد إِلَى قطعته وبلد ولَايَته مَدِينَة صعدة وَمَا إِلَيْهَا فوصل إِلَى حَضْرَة عَمه الْمُؤَيد بِاللَّه شهارة ثمَّ سَار إِلَى حبور وبلغه وَفَاة أَبِيه فَعَاد من حبور مبادرا إِلَى حَضْرَة عَمه الْحُسَيْن بضوران وَكَانَ يظنّ أَن الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه سَيجْعَلُ إِلَيْهِمَا أَمر بِلَاد أَبِيهِمَا لما فِي وُجُوههمَا وانصباب أَصْحَاب والدهما إِلَيْهِمَا فَاقْتضى نظره أَن الْبِلَاد الَّتِي كَانَت مَعَ شرف الْإِسْلَام بأجمعها تصير إِلَى صنوه الْحُسَيْن وَإِلَيْهِ تَدْبِير إمداد حاشيتهما وَأمر وَلَدي أَخِيه بالتوقف على رَأْي عَمهمَا الْحُسَيْن
وَكَانَ الْحسن بن الإِمَام مَعَ شجاعته وَنِهَايَة كرمه وصفاء بَاطِنه وسلامة جَمِيع أَحْوَاله متمسكا بِحِصَّة نافعة من الْعلم وَله حَظّ فِي البلاغة جيد وَله بأيدي النَّاس قصائد مَشْهُورَة وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي يحث وَالِده فِيهَا على الصُّلْح الَّتِي طالعها
(مولَايَ ان الصُّلْح أعذب موردا ... فاسلك لَهُ جددا سويا أجردا)
وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ الْحُسَيْن شريفي الطَّرفَيْنِ فَإِن جدهما من قبل الْأُم السَّيِّد الناسك عَليّ بن إِبْرَاهِيم العابد رَأَيْت لبَعض الْفُضَلَاء كلَاما فِيهِ يَقُول فِيهِ مَا لَفظه كَانَ قوته فِي كيسه بالميزان عونة وَاحِدَة فِي الْيَوْم فرغ نَفسه لعبادة الله فِي الْمَسَاجِد الخالية ورفض الدُّنْيَا وَبعد عَن أَهلهَا حَتَّى عَن أَهله وَأَوْلَاده فَكَانَ يوتى فِي بعض الْأَحْوَال بقوته من كوَّة الْمَسْجِد إِلَى أَن قَالَ وَقد قَامَ بالحسبة لما قَالَ لَهُ أهل الشّرف الْأَسْفَل أَن الشاوش مرجان وغوث الدّين دخلُوا على
1 / 62
الشرايف فِي بِلَاد نوسان وَغَيره وَجعلُوا وَجعلُوا وفعلوا وفعلوا فَقَامَ بالحسبة هُوَ وَالسَّيِّد عَليّ إِبْرَاهِيم صَاحب الجاهلي وَقَامَ مَعَهم قبائل الشّرف الْأَسْفَل وقاتلوا مرجان شاوش وعسكر غوث الدّين فِي مَوضِع يُسمى الفايش فَوق جبل بني جلّ وَتَحْت المحابشة فَانْهَزَمَ الْقَبَائِل وَلم يصدقُوا وَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَلَا همة لَهُم فِي نصْرَة الدّين إِنَّمَا همتهم إِزَالَة مطَالب الدولة وظلمهم لمن استضعفوا مِنْهُم أَكثر من ظلم الدولة فَلَمَّا عرف ذَلِك مِنْهُم رفضهم بِالْكُلِّيَّةِ واعتزلهم اعتزالا كليا وَلم ينله من الدولة الَّذِي حاربهم مَكْرُوه خوفًا لجانبه وَكَانَ كَمَا قيل
(يدع الْعَظِيم فَلَا يُرَاجع هَيْبَة ... والحاضرون نواكس الأذقان)
(أدب الْوَقار وَعز سُلْطَان التقا ... فَهُوَ المطاع وَلَيْسَ ذَا سُلْطَان)
فَبَقيَ يتَرَدَّد فِي الْمَسَاجِد لِلْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ ﵀ وَهُوَ يَتْلُو سُورَة يس انْتهى
وفيهَا مَاتَ السَّيِّد الْعَارِف البليغ الفلكي روح الله عِيسَى بن لطف الله بن المطهر بن أَمِير الْمُؤمنِينَ يحيى شرف الدّين بن شمس الدّين بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي لدين الله بِصَنْعَاء الْيمن عقيب دُخُوله إِلَيْهَا رَاجعا من جِهَة الْيمن وَكَانَ على مَا قيل توخى دُخُول تِلْكَ السَّاعَة اسْتِعْمَالا لحصة من البضاعة فسبحان من وسع كل شَيْء رَحْمَة وعلما وَكَانَ فِي سَفَره هَذَا مُنْفَصِلا من حَضْرَة الْملك الْعَظِيم مُحَمَّد بن الْحسن من ذمار وَله التَّارِيخ الْمَشْهُور الْمُسَمّى بِروح الرّوح
1 / 63
وَهِي تَسْمِيَة فِي أعلا طَبَقَات الْمُنَاسبَة والرامن روح الْمُضَاف مَفْتُوحَة وَمن الْمُضَاف إِلَيْهِ مَضْمُومَة وَهُوَ من رَأس الْمِائَة التَّاسِعَة إِلَى زَمَانه ذكر فِيهِ دولة بني طَاهِر وجده الإِمَام شرف الدّين وَمَا تعقب دولته وَكَيْفِيَّة زَوَال تِلْكَ الدول وَفصل مَا شجر بَين جده المطهر وَبَين أُمَرَاء الأروام من تِلْكَ الْمَلَاحِم الَّتِي طحنت الرؤوس وأفنت النُّفُوس وأنست حَرْب داحس والبسوس وقضت أَن المطهر بن الإِمَام فرع من تِلْكَ الشَّجَرَة العلوية وافتخار عِنْد مقارعة الحروب ومنازلة الخطوب للحوزة اليمنية وَله كتاب النفحة اليمنية فِي دولة المحمدية جعله خدمَة لحضرة مُحَمَّد باشا لمزيد اخْتِصَاصه بِهِ وإحسانه إِلَيْهِ وَله قصائد مدونة فِي مُحَمَّد باشا وَغَيره وَله ديوَان حميني مُخْتَصر وَهُوَ الَّذِي جمع الشّعْر الحميني والموشح للسَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد بن عبد الله بن
1 / 64
الإِمَام شرف الدّين وَذكر الْأَسْبَاب وليته لم يذكرهَا وَذكر فِي ديباجة الدِّيوَان أَن أول من تكلم فِي الحميني أَحْمد فليته ثمَّ الْفَقِيه فَخر الدّين عبد الله المزاح ثمَّ الْفَقِيه إِمَام الطَّرِيقَة عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْعلوِي وَكَانَ هَذَا السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الله بن الإِمَام من محَاسِن السادات علما وَعَملا مَعَ ورع شَدِيد ويكفيه حَدِيث الْجَارِيَة فَإِنَّهُ اشْترى جَارِيَة وعلق بهَا إِلَى النِّهَايَة فَذكرت لَهُ مرّة أَنه اشْتَرَاهَا مُشْتَر وَولدت لَهُ ولدا ثمَّ غَابَ عَنْهَا فَخرجت من بَلَدهَا فانتهبت وبيعت إِلَيْهِ فتكدر باله وتشوش حَاله وَمنع نَفسه مِنْهَا مصادقة لَهَا بِمُجَرَّد قَوْلهَا
1 / 65
وتحرجا عَن الْوُقُوع فِي الْمَحْظُور وَكَانَ الْفَقِيه الشكايذي قد أفتاه بِأَن الْيَد لَهُ وَالْملك ملكه فِي الظَّاهِر فَرجع إِلَى تَرْجِيح التعمق فِي الدّيانَة الباطنية فَأمرهَا بالإحتجاب وسد عَنْهَا الْأَسْبَاب مَعَ طرف مسفوح وقلب مقروح وزفرات تَغْدُو وَتَروح وَهِي أَيْضا قد كَانَ وَقع مِنْهَا الْموقع الْعَظِيم من الولوع فاشتركا فِي تصعيد الزفرات وإرسال الدُّمُوع ثمَّ ظهر بعد فَتْرَة أَنَّهَا فرت إِلَى بلادها وَأَنَّهَا ارْتَدَّت فانتهبت بعد الرِّدَّة وَلَكِن هَذَا لم ينجح فِي إِزَالَة الشُّبْهَة عَن خاطر سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بل اسْتمرّ على الْفِرَاق وَبت حَبل التلاق وَهَذَا قسم من الْوَرع قد ألم بِهِ الْغَزالِيّ فِي إحيائه والديلمي فِي تصفيته وَغَيرهمَا رزقنا الله تَعَالَى حسن الاستعداد فلسنا من أهل هَذَا الْمقَام
وَوَقع بَينه وَبَين الإِمَام الْأَعْظَم الْقَاسِم بن مُحَمَّد مشاعرات تتَعَلَّق بِمذهب التصوف وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي جمادي الأولى سنة عشر وَألف بِالذنُوبِ من حجَّة ﵀ وَذكره وَذكر وَفَاته هُنَا عَارض وَإِلَّا فَهُوَ من وضائف مَا سلف
وفيهَا مَاتَ القَاضِي الْعَلامَة عبد الْهَادِي بن أَحْمد الثلائي الحسوسة الْحَاكِم بِمَدِينَة صنعاء وَكَانَ مبرزا فِي أصُول دين الْمُعْتَزلَة البهشمية أَخذ عَنهُ القَاضِي الْعَلامَة صارم الدّين إِبْرَاهِيم بن يحيى السحولي ﵀ وَالْقَاضِي أَحْمد بن صَالح
1 / 66