فهذا التغيير الفجائي الذي طرأ على أما لم يكن ليرضيها البتة، فلبثت في إنكلترا وقد ساءها جدا أن ترى زوجها الثاني قد خان عهده معها، ونكث بوعده لها من جهة عهد الخلافة لمن يولد لهما جديدا، وكما أنه أغفل ابنه المولود له منها، وقدم عليه ابنه المولود له سابقا، هكذا هي أيضا تركت الاعتناء بأمر هارديكنيوت، وطفقت تسعى سرا بين السكسون في تقديم ابنها إدوارد وترشيحه للعرش، حتى إذا رأت نفسها أنها مهدت له السبيل اللازم بعثت برسالة إلى ابنيها في نورماندي مفادها: أن الشعب السكسوني لم يعد يستطيع الصبر على تحامل الحكومة الدانماركية وجورها، ومن رأيها أنهم (أي السكسون) مستعدون لخلع الطاعة الدانماركية متى وجدوا لهم زعيما وقائدا، وعليه طلبت منهما أن يأتيا لندن للمداولة معها بهذا الشأن.
وقد أشارت عليهما أن يحضرا بطريقة سلمية بسيطة متجنبين كل ما من شأنه أن يثير القلاقل، ويوقظ ساكن البلابل، فلما وقفا على كتابها ارتضى أكبرهما إدوارد أن يذهب إلى لندن، لكنه أحب أن أخاه ألفرد يقدم على هذه المهمة إن أراد، فأجابه ألفرد إلى ذلك. وفي الواقع إن هذين الأخوين كانا على اختلاف عظيم في المنازع والمشارب؛ فإدوارد كان هادئا رزينا متأنيا، وأما ألفرد فكان حاد الطبع طموح النظر، وعليه وطن الأصغر نفسه على ركوب أخطار السفر، والأكبر عول على البقاء في نورماندي، وكانت النتيجة من ذلك شرا وبلاء، فإن ألفرد خالف مشورة والدته وساق معه جيشا من النورماند وقطع بهم البوغاز زاحفا نحو لندن، فجرد عليه هارلود قوة عظيمة اعترضته في الطريق فحاصرته وأخذته وجميع من معه أسرى، ثم حكم عليه بقلع عينيه.
لكنه ما عتم أن مات بعد صدور ذلك الحكم الهائل بسبب ما اعتراه منه آلام الحمى، ناهيك عن تأثير القهر والسقوط في يده خيبة وفشلا، فهربت أما إلى فلندرس، وأخيرا مات هارلود وخلفه هارديكنيوت الذي لم يحكم إلا وقتا قصيرا حتى مات أيضا غير مخلف ورثاء للملك، وإذ كان في ذلك الوقت أولاد إدموند بن أثلرد الأكبر في هنكاريا، وأمرهم على نوع ما منسي ظهر جو الخلافة كأنه خال من منازع لإدوارد بن أما الأكبر الذي كان باقيا في نورماندي لا يبدي حراكا، وبموجبه صرح به ملكا، وذلك سنة 1041، وظل مالكا نحو عشرين سنة، وقد صاقب ابتداء ملكه وقت تربع وليم الظافر على دوكية نورماندي، ولا ريب أن إدوارد كان قد تعرف بوليم في أثناء وجوده في ذلك الوقت الطويل في نورماندي، وقد زاره وليم أيضا إلى إنكلترا بعدما صار عليها ملكا.
ومما لا ريب فيه أيضا أن وليم اعتبر نفسه وارثا لإدوارد من وجه أنه لما كان ليس لإدوارد من أولاد وإن كان متزوجا؛ يكون الأمراء النورماند أقرب أنسبائه، وقد ادعى أن إدوارد وعده بأنه يوصي له بحق الملك بعد وفاته، وكانت أما قد شاخت وتقدمت في الأيام، وانكسرت فيها شوكة قوة الطمع في الشهرة وحب الرئاسة التي تسلطت عليها في ماضي حياتها؛ لأنه كان لها زوجان وابنان كل منهم ملك إنكلترا، لكنها عندما تناهت بها الأيام وأدركها الانحلال رأت نفسها صرعى الشقاق وتعاسة الحال.
ولم يكن ابنها لينسى جريمتها الفظيعة التي ارتكبتها في هجرها له ولأخيه، واقترانها بمن كان ألد عدو لهما ولأبيهما، وإنفاذها لما تعهدت به يوم زفافها إلى كانيوت من حرمانهما الوراثة الملكية، وفضلا عن ذلك تخلت عنهما بمزيد الإهمال وعدم الاكتراث في أيام زوجها كانيوت، بينما كانت هي نفسها عائشة معه في لندن على سعة الرغد ورحب الأبهة والعظمة، وقد شكاها أيضا بأنها كانت تقلب جفنيها ناظرة إلى موت أخيه ألفرد؛ ولذلك أصدر أمرا بمحاكمتها في هذه الدعاوى العريضة على النار، وتلك طريقة كانوا يمتحنون بها المتهمين بالجنايات والجرائم، بأن يضعوا على أرض كنيسة قطعا من حديد محمية إلى درجة البياض وعلى بعد معين بين بعضها البعض، ويشيروا إلى المشكو عليه بالمشي عليها بقدمين حافيتين، معتقدين بأنه إن كان بريئا فالعناية الإلهية ترشد خطواته، وتقيه من مس قطع الحديد فيجتازها آمنا، وإن كان مجرما يحترق.
وقد نقل عن رواة حوادث ذلك الوقت أن أما حكم عليها بهذا الامتحان في كنيسة ونشستر الكاتدرائية؛ لمعرفة ما إذا كانت عالمة بقتل ابنها، وسواء صدقت هذه الرواية أو لا فليس من ريب في أن إدوارد حكم عليها بالسجن في دير ونشستر، حيث أكملت أيامها متجرعة غصص الذل والهوان.
ولما رأى إدوارد أن الموت صار منه قريبا على الأبواب أخذ يهتم في أمر الخلافة، وكان لها وريث من أخيه إدموند الذي يذكر القارئ أن كانيوت نفى أولاده إلى بلاد الدانمارك ليتخلص من منازعتهم له، وهذا الخلف كان لا يزال حيا في هنكاريا واسمه إدوارد، وهو الخليفة الشرعي للعرش، ولكن قد صرف حياته متغربا بعيدا عن وطنه، وفي الوقت ذاته كان الأمير غودون - الذي مر الكلام على نهوضه من بيت سكسوني دني الشان إلى أعلى مقام في المملكة - قد أحرز سطوة مكينة ونفوذا بينا، فظهر بهما أمنع جانبا من ذات الملك، وقد مات أخيرا لكن ابنه هارلود الذي تأسله بالبسالة والإقدام وثبات الجنان خلفه في القوة، وتراءى كما ظن إدوارد أنه يطمح في المستقبل نحو اغتصاب العرش.
وكان إدوارد يكره غودون وعائلته كرها شديدا، وصار الآن يتخذ كل الاحتياطات التي تكفل له إحباط مساعي ابنه هارلود في الجلوس على تخت الملك، وعليه أرسل يطلب حضور ابن عمه إدوارد من هنكاريا؛ ليرشحه للملك من بعده ويخذل هارلود، فجاء بعائلته وكان له ابن يدعى إدغر، ولكنه لسوء الحظ لم يلبث أن توفي بعد حضوره إلى إنكلترا بقليل، وابنه إدغر بعد صغير لا فائدة من قيام الحكومة باسمه؛ إذ لا تستطيع الثبوت ضد هارلود، فلما رأى ذلك الملك إدوارد وجه أفكاره نحو وليم حاكم نورماندي الذي كان أقرب نسيب إليه من جهة أمه، وتحقق أنه يكون أفعل وسيلة لتخليص الملك من السقوط في يدي هارلود المغتصب، وعلى أثر ذلك قامت مصادرات عديدة ومناضلات مختلفة، فكان هارلود يفرغ جعب الجد والسعي في الحصول على الخلافة، وإدوارد ينضي مطايا المساورة والمقاومة في منعه عنه وتحويله إلى وليم النورماندي، وكان النفوذ في البداءة لهارلود وفي النهاية لإدوارد ووليم.
الفصل السابع
الملك هارلود
अज्ञात पृष्ठ