وبالحقيقة لم يكن رجل غير وليم يستطيع أن يصبر على هذه الصعوبات المتنوعة؛ لأنه مر عليه - على ما قيل - سبع سنين قبلما أدرك من مرامه نتيجة، والحادثة التالية تروى عن شدة ثبات وليم بغرابة تفوق التصديق، وذلك أنه بعدما مرت السنون على المخابرات المتتابعة، والموانع المتوالية صادف وليم متيلدا في شوارع بروغوس إحدى مدن أبيها، ولم يعلم بالتفصيل كل ما حدث بينهما في أثناء ذلك الاجتماع، ولكن في ختامه حمي غضب وليم على متيلدا لداعي ما أبدته نحوه من النفار والانقباض حتى لطمها أو دفعها بعنف، فأسقطها على الأرض، وقيل: إنه لطمها على دفعات متوالية وغادرها مطروحة مهشمة، وسار مسرعا وهو يلتهب غيظا ويحتدم حنقا. نعم إن المنازعات الحبية كثيرا ما تكون وسائل لجعل المتنازعين أقرب إلى بعضهما بعدها منهما قبلها، ولكن منازعة حبية مخيفة كهذه تعتبر نادرة جدا، على أنه ما عتمت هذه المنازعة على شدتها أن أعقبت بمصالحة تامة، ومنها أخذت الموانع تزول شيئا فشيئا من طريق الاقتران الذي تم سنة 1053.
وقد احتفل به في إحدى قلاع وليم على تخوم إمارته كما كانت العادة في تلك الأيام للأمراء والملوك أن يقيموا عقد زفافهم في ذات مقاطعاتهم، فشيعت متيلدا بملء البهرجة والاحتفال مصحوبة بوالديها ورهط عظيم من الحامية والحرس رجالا ونساء راكبين خيولا كريمة مسرجة بأجمل السروج، يسيرون في عرض البلاد كجيش في غاية الانتظام، بل بالحري كفرقة منتصرة ظافرة تسير في حماية ملكة، وهكذا أنزلت متيلدا في القلعة على مزيد الرحب والتأهل، وظلت أفراح ذلك الزفاف أياما تضيء أنوارها في سماء البلاد النورماندية، وكان لباس كل من وليم ومتيلدا في ذلك اليوم جميلا فاخرا، وعلى الخصوص كان على كل منهما ملاءة تتألق بأغلى الحلي وأنفس الجواهر، وقد بقيت ملابسهما الثمينة بجواهرها الكريمة مكنوزة في كنيسة بأيو الكبيرة خمسمائة سنة.
وبعدما انقضت مدة الأفراح المعينة في قلعة أوجي حيث عقد الاقتران، خرج وليم وعروسه تحفهما الأمراء والكبراء والقواد والعساكر إلى مدينة روان، وهناك جلس ذانك الزوجان يتجاذبان أطراف الرفاء، ويأخذان بأسباب المسرة والصفاء، وقد توفرت لمتيلدا ذرائع الرغد ووسائط العظمة، فكان لها نخبة من جياد الخيل مسرجة على الدوام ومعدة لركوبها، ناهيك عما جهز لها من الأكسية الفاخرة والأثواب الجميلة الموشاة كلها بالحلي والجواهر، وأقيم على خدمتها من الحرس، وقد عينت فرق الفرسان المنخوبة للركوب معها من مكان إلى آخر، وبالإجمال كانت محاطة بكل دواعي الاحتفاء والتجلة - الاحتفاء والتجلة ولكن ليس الراحة والسلام؛ فإنه كان لوليم عم يدعى ماتجر، رئيس أساقفة روان، وكان على جانب عظيم من نفوذ الكلمة وقوة السلطة، ومعلوم أن مسرة أقرباء وليم كانت أن لا يتزوج؛ لأن زيادة الترجيح في انتقال تاجه إلى وريث من صلبه كانت تضعف آمالهم المستقبلة بالاستيلاء عليه، وتسقط أهمية شأنهم الحاضرة، وعليه عارض ماتجر هذه الزيجة وبلغ جهيداه في إحباط مساعي إتمامها، وصرح بعدم جوازها من وجه القرابة بين وليم ومتيلدا، وقد اتخذ لنفسه حق المعارضة في ذلك من وجه أنه رأس الكنيسة في نورماندي، وإذ كان الزفاف قد احتفل به قبل انتهاء المخابرة بشأنه في رومية، أصدر ماتجر حرما لوليم ومتيلدا وشجب زواجهما الذي لم يكن قانون الكنيسة ليجيزه.
وقد كان الحرم في عهد متيلدا أمرا هائلا، فالشخص المحروم كان يجتنب من الناس، ويعتبر أنه ملعون من السماء، وعلى فرض أنه أمير كبير كوليم كان ذات شعبه يبتعد عنه، ولا يعود يلبي دعوة إغاثته والمحاماة عنه، وقد كان ممكنا لحاكم مطلق كوليم أن يثبت قليلا تجاه هذه الصعوبة لولا أنه تحقق ازدياد شدة وطاءتها عليه، وتفاقم خطبها لديه بواسطة خرافات الشعب المار ذكرها، وأحس منه وخيم العاقبة، وعليه رفع دعواه إلى البابا، واجتهد بإلغاء الحرم هناك بواسطة راهب أنفذه إلى رومية يدعى لنفرنك، وجهزه بالوسائل المؤدية إلى إبطال الحرم وإبداله بالبركة على الوجه الآتي؛ وهو أن البابا يمنح (الحلة) ويثبت الزواج ويبطل حكم الحرم الذي أصدره رئيس الأساقفة ماتجر، بشرط أن وليم ينشئ متصدقا لأجل مائة فقير، ويبني ديرا للرهبان ومتيلدا ديرا للراهبات، فناب الراهب لنفرنك عن الزوجين بالتوقيع على هذه العهدة.
وهكذا أزيل الحرم واعترف كل سكان نورماندي بشرعية الزواج، وأقبل وليم ومتيلدا على إنجاز ما وعدا به، فقاما يلاحظان بناء الديرين بأنفسهما، وقد اختارا لهما مكانا في مدينة كاين على متاخمة نورماندي من الشمال، وهي ذات موقع حسن في منخفض فسيح عند ملتقى نهرين يحيط بها من كل ناحية سهول مخصبة في غاية الجمال، وكانت محصنة بالأسوار والأبراج من عهد أسلاف وليم أمراء نورماندي، وكان الدير المبني على اسم وليم كبيرا جدا، وقد أنشئت داخله قلعة سامية كثيرا ما سكنها وليم ومتيلدا في أيامهما المستقبلة، ومع أن أسوار مدينة كاين وحصونها قد أصبحت اليوم ركاما مركوما، فكثير من أبنية ذينك الديرين لا يبرح قائما يساور بواعث الاضمحلال والفناء، وينازعها الخلود والبقاء، على أن هذا الباقي منها لم يعد مستعملا لما بني له، لكنه لا يزال محفوظا فيه اسمه الأصلي، وكثيرون من السياح والزائرين يحجون إلى تلك البقايا القديمة، ويحنون بملء الشوق إلى ما يتبينونه بواسطتها من مجد بانييها الخالي، ويكرمون هذا التذكار الجليل الباقي لهما إلى هذا اليوم.
ثم قضى وليم ومتيلدا ما شاء الله من الزمان في صفاء العيش ونعيم البال، وأول مولود رزقاه كان ذكرا، وذلك بعد زواجهما بسنة، فدعاه وليم باسم أبيه روبرت، ثم رزقا بعده عدة أولاد، وكانت أسماؤهم روبرت ووليم روفوس وهنري وسيسيليا وأغاثا وكونستانس وإدالا وإدالايد وغندرد، فوقفت متيلدا حياتها على تربيتهم وتهذيبهم بأمانة ومحبة والديتين، حتى إن أكثرهم عاشوا وخلدوا لهم في صفحات التاريخ آثارا مأثورة، وأسماء بالشهرة مذكورة.
وقد تسنى لوليم أن نال ما كان مطمح أبصاره، ومبعث أشغال أفكاره، ألا وهو الاتحاد مع حكومة فلندرس التي كان يتولاها حموه أبو متيلدا، فصارت الحكومتان كأنهما واحدة بداعي ذلك الرباط الطبيعي (الزواج) الذي جمعهما إلى وحدة متينة في القوة والنفوذ والعظمة، بحيث أصبحت كل منهما ظهيرة الأخرى ونصيرتها عند مسيس الحاجة، وإن يكن قد حدث فيما بعد ذلك ما خيب أمل وليم من هذا الاتحاد وعاد عليه بخلاف المنتظر؛ وذلك أنه لما أخذ وليم يتأهب لمهاجمة إنكلترا أرسل إلى بالدون أخي امرأته متيلدا (الذي كان حينئذ أميرا على فلندرس عوضا عن أبيه) يطلب منه إعداد قوة يمده بها، أما بالدون فهاله هذا الطلب، وأوجس منه خوف الإقدام على خطر عظيم كهذا، فأرسل إلى وليم يطلب منه معرفة النصيب الذي يعينه له من بلاد الإنكليز إذا ضافره على تدويخها ، فاستدل وليم من هذا الاشتراط العاجل على تغير قلب ابن عمه عنه، وعدم ركونه إليه، وإذ ذاك أخذ رقا وطواه - بدون أن يكتب فيه شيئا - على هيئة كتاب وكتب على ظاهره ما معناه:
أما النصيب الذي أرسلت تطلبه
من البلاد التي في الحرب نغنمها
فانظر إلى داخل التحرير حيث ترى
अज्ञात पृष्ठ