فخرج من باريس مخفورا بالرسل الذين أنفذهم ألان للإتيان به، وحامية قوية من الجند سارت في حراسته على الطريق ومعه معلمه الحربي ثيرولد، وهكذا جاء قصر ألان على جناح السلام والأمان، وكان لحضوره في نورماندي وقع عظيم كما كان في حسبان الذين ارتأوا ذلك - كما سبق الإلماع إليه - وقد حرك في قلوب الأكثرين عوامل الميل نحوه، فسر الجنود سرورا لا مزيد عليه بأن رأوا قائدهم الصغير مالكا زمام الملاحة، قابضا على عنان النشاط وسدة العزم منذ الصغر؛ ولا سيما لأنهم أبصروا منه في ركوب الخيل فارسا مجربا، إذ كان مغرما أشد الغرام في ركوبها منذ طفوليته، أما الآن وقد تهيأ له الحصول على أجودها وأكرمها، وأخذ عن أستاذه ثيرولد كل ما يتعلق بأساليب فن الركوب وطرائقه، فلا نعجب من أن نرى منه على ظهر الجواد قلة من القلل يجري في ميدان السباق بأسرع من وميض البرق أو جري البراق، ويدخل ساحة الحرب من أبواب تقضي بالعجب العجاب، وحوله الأمراء والأعيان والرجالة والفرسان ينظرون إلى كراته وغاراته، ويكبرون من لباقة خطراته ورشاقة حركاته، ويتوسمون طالع النصر والظفر في طالع جبينه الأنور، ويتلون في فرقان محياه:
إنا أعطيناك الكوثر ، وعلى هذه الكيفية كنت ترى وليم عند قومه، وقومه من قدومه في يومه.
وأما قيادة الجيش وأزمة الأحكام فلم تزل في يد ألان يجريها باسم وليم - كما سبقت إليه الإشارة - على أن وليم نفسه لم يعدم قوة النفوذ والسلطان، والأخذ بمجامع القلوب، بل ألان أيضا رأى أن إتيان وليم زاد كلمته علوا، وسطوته تعزيزا، وأحكامه نفوذا، ومع كل ذلك فالبلاد كانت لم تزل بعيدة عن الطاعة والانقياد هاجرة مضاجع الراحة والسكينة؛ لأن أمير أرك وغيره من طلاب الإمارة تحصنوا في قلاعهم، وجمع كل رجاله إليه وجاهر في العصيان على الحكومة الوليمية، ولا يخفى على القارئ أنه في تلك الأيام كانت كل مقاطعة من البلاد تحت سلطة أمير مستقل في ذاته، فكان يجلس في قلعته متحصنا بقواته، متمنعا بسطوة رجاله وهو حر مطلق الأمر فعال لما يريد، يجري أحكامه في البلاد على نمط الاستبداد الشديد، وينفذ قضاءه على العباد بقضيب من حديد. وكانت نيران القتال بين أولئك الأمراء مستمرة الاشتعال، كل منهم يتعدى تخوم الآخرين، ويعيث مفسدا أخذا بثأر له عندهم، أو تأديبا لهم على إساءة بدت منهم أو أنه توهمها فيهم، وكانت تلك الاضطرابات والانقلابات في إبان ثورانها حين رجوع وليم من باريس، وما برح شرها يزداد تفاقما، وخطبها هولا واشتدادا حتى عمت البلاد، وبلت العباد بالويل والخراب، وتعذر على الحكومة الوليمية أن تعود تميز بين أعدائها وأصدقائها، فإنه حدث مرة أنها أصدرت أمرا باسم وليم لأمير إحدى المقاطعات توعز إليه أن اجمع رجالك وتعال إلينا؛ فإننا في حاجة إليك في أمر ذي بال، أما هو فما كان منه إلا أن أجابها بما يأتي: عندي كثير من المشاغب والفتن التي تضطرني أن أقوم في إخماد نارها، وتصدني عن تلبية أمر آخر.
وما مر على وليم نحو من سنتين في نورماندي وحكومته أشبه شيء بدفة في البحر تتقاذفها الأمواج، حتى زاد طينه بلة حادث جديد من الملك هنري نفسه، فإنه لما كان وليم ابن خمس عشرة سنة، وذلك بعد إتيانه من باريس بسنتين أو ثلاث، أرسل إليه الملك هنري يدعوه إلى ملاقاته في بلدة تدعى أفركس بين باريس وفاليس؛ لكي يقدم له رسوم الطاعة المفروضة على دوكيته، فداخل مشيري وليم ريب من جهة ذهابه وعدمه، على أنهم أخيرا أجمعوا على وجوبه، وهكذا أعدت التأهبات اللازمة وركب وليم بمزيد الاحتفاء والعظمة لملاقاة سلطانه.
فاستغرقت هذه المقابلة بين وليم وملكه بضعة أيام، وكان لوليم قلعة في جنوبي دوكيته على متاخمة أملاك هنري، واسمها تلير يتولى حراستها ضابط أمين متقدم في الأيام يدعى دي كرسين، هذا أقامه روبرت أبو وليم على حراسة تلك القلعة، وأمده بحامية من الجند، فأخذ الملك هنري يتشكى إلى وليم بخصوص القلعة وقال: إن حراسها دائما يشنون الغارة على تخومه، ويبلون تلك الأطراف بالسلب والنهب، فأجابه وليم مظهرا مزيد حزنه وأسفه أنه سوف يتولى بنفسه البحث عن هذا الشأن، حتى إذا تحقق صدقه بادر في الحال إلى كبح جماحهم وقمع تعديهم، فأجابه الملك هنري: «هذا ليس كافيا، بل أعطني تلك القلعة فأدكها إلى الحضيض فتصبح ركاما مركوما» فساء في عيني وليم هذا الطلب، وإذ إنه كان قد تعود العمل على طاعة الملك هنري من نعومة أظفاره:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
رأى ذاته مضطرا أن يجيب سؤاله هذا، وفي الحال أصدر أمرا في تسليمها مكرها.
فلما بلغ دي كرسين ذلك الأمر رفضه وأبى القيام بموجبه، محتجا بأن تلك القلعة سلمت لمناظرته على عهد الدوك روبرت حاكم نورماندي، وعليه فهو يرفض تسليمها لسلطة أخرى أي كانت، ولما وقف وليم ومستشاروه على هذا الجواب اغتاظوا غيظا شديدا، عالمين أن مقاومة الملك هنري في مثل تلك الظروف لا تجديهم نفعا، بل بالحري ترتد عليهم نكالا من حيث إن وليم كان عندئذ في حوزته وتحت قبضة سلطانه، فاستأنفوا إرسال الأوامر للقائد دي كرسين بأكثر إلحاح وأشد لجاجة في تسليم القلعة، فامتثل لأمرهم أخيرا وسلم مفاتيحها، وانسحب منها هو ورجاله، وإذ ذاك أجيز لوليم أن يرجع لبلاده، ولم تلبث القلعة أن دكت إلى الأرض وتركت أثرا بعد عين.
على أن هذه الحادثة آلت إلى زرع العداوة بين الحكومتين الفرنسية والنورماندية، وطوت القلوب على الضغينة والحقد، حتى إنها انتهت بشبوب حرب عوان افتتحت بأن زحف الملك هنري بجيشه على نورماندي، وطفق يفتح المدن، ويخرب القلاع، ويهدم الحصون والمعاقل، ويعمل السيف في رقاب من لم يطيعوه ، ويضرم النار في مساكن من راموا أن يقفوا في وجهه ويصدوه، وما زال يتقدم في نورماندي بين افتتاح وإخراب حتى جاء قلعة فاليس ومد عليها مطمار الحصار، فانخلعت إذ ذاك قلوب الوليميين وخارت قواهم، وأسقطوا قنوطا وفشلا لما رأوا من تعاقب الخطوب ومعاكسة الأحوال، على أنهم ما لبثوا أن نهضوا بعزيمة شديدة، واتحدوا على الذب والدفاع عن بلادهم، وتأهبوا لرفع الحصار عن فاليس، وإجلاء عساكر هنري عنها بعدما كانوا قد أحاطوا بها من كل جانب، وشددوا عليها الحصار وكادوا يفتتحونها لولا أن وليم تداركها وفل جيوش الأعداء مدحورين مذعورين. وتفصيل ذلك أن الملك هنري رشا حاكم القلعة، فوعده أن يسلمه مفاتيح الأبواب ويدخله إليها ظافرا منتصرا، وبينما هما يسعيان في تدبير هذه الخيانة قدم وليم بفرقة من النورمان الشجعان، وانطبقوا على معسكر هنري، وغاروا على المحاصرين كالأسود الكاسرة، فلما أبصرهم أهل المدينة فرحوا وتهللوا، واستبشروا بحلول الفرج وزوال الضيق، وكادوا يطيرون سرورا حالما رأوا فارسهم المدافع وليم الظافر قادما لإنقاذهم، وحينئذ تذكروه يوم كان ولدا صغيرا يلعب حول أسوار تلك القلعة، وألان جاء يرد الأعداء عن مسقط رأسه بهيئة تولي الناظرين عجبا واندهاشا، فلعبت في أعطافهم راح الابتهاج والفرح، ورفعوا أصوات التأهيل والترحاب بقدومه، أما ذلك القائد الخائن فلم يجاز على خيانته بالقتل حسب شريعة تلك الأيام، بل خلعت عنه ثيابه الرسمية وضبطت أملاكه وأخلي سبيله.
وهكذا استظهر وليم على عدوه الملك هنري، وازداد قوة ومنعة، على أن عمه أمير أرك كان لا يزال مجاهرا في العصيان عليه، وقد ساعدته التقادير بانشغال وليم بالقتال مع الملك هنري حتى خلا له الجو، فنهض من زاوية التربص، وشرع يجمع رجاله متأهبا لاستئناف المشاغب والفتن وشن الغارات إذلالا للحكومة الوليمية، وسعيا في إسقاطها وقلبها، فجمع إليه عصابته، وتحصن في قلعته أرك - وهي إلى الشمال من نورماندي على متاخمة البحر، ولا تزال أطلالها ورسومها إلى هذا اليوم - وكان هذا الأمير قد بنى في أعلاها برجا حصينا يلتجئ إليه مع نفر من رجاله عند مسيس الحاجة.
अज्ञात पृष्ठ