الباب الأول
1 - القسم الأول من العهد المكي
2 - القسم الثاني من العهد المكي
3 - في القرآن المكي
4 - في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد المكي
الباب الثاني
1 - في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
2 - في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
3 - في الأحداث السياسية والعسكرية منذ السنة السادسة للهجرة إلى وفاة النبي
4 - في شعائر الإسلام وأحكامه
الباب الثالث
1 - اليهود
2 - النصارى
3 - المنافقون
الباب الرابع
1 - في مبادئ الإسلام
2 - في أحكام الإسلام
الباب الخامس
1 - الوثيقة المدنية وتحليلها
2 - في التراتيب الإدارية
الباب السادس
1 - في أحوال النبي الخاصة
2 - في زوجاته وأولاده
الباب الأول
1 - القسم الأول من العهد المكي
2 - القسم الثاني من العهد المكي
3 - في القرآن المكي
4 - في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد المكي
الباب الثاني
1 - في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
2 - في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
3 - في الأحداث السياسية والعسكرية منذ السنة السادسة للهجرة إلى وفاة النبي
4 - في شعائر الإسلام وأحكامه
الباب الثالث
1 - اليهود
2 - النصارى
3 - المنافقون
الباب الرابع
1 - في مبادئ الإسلام
2 - في أحكام الإسلام
الباب الخامس
1 - الوثيقة المدنية وتحليلها
2 - في التراتيب الإدارية
الباب السادس
1 - في أحوال النبي الخاصة
2 - في زوجاته وأولاده
عصر الانطلاق
عصر الانطلاق
تاريخ الأمة العربية (الجزء الثاني)
تأليف
محمد أسعد طلس
يشتمل على سيرة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم .
الباب الأول
البعثة النبوية
ينقسم عهد النبوة إلى قسمين، يتميز كل قسم منها بطابع خاص؛ فالأول منذ البعثة إلى إسلام حمزة وعمر، والثاني منذ إسلام حمزة وعمر إلى الهجرة. ويتميز كل من القسمين بطابع خاص، ونبدأ كلامنا عن القسم الأول فنقول ...
الفصل الأول
القسم الأول من العهد المكي
كانت البعثة النبوية المحمدية وأول نزول الوحي في رمضان من السنة الثالثة عشرة قبل الهجرة، الموافقة لسنة 570م، وكان له
صلى الله عليه وسلم
من العمر أربعون سنة؛ قال محمد بن إسحق:
1
لما بلغ محمد رسول الله أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا، وأول ما بدئ به الرؤيا الصادقة، وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده ... وكان يجاور في غار حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية ... وكان رسول الله يجاور ذلك الشهر في كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره أن يأتي الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك بشهر رمضان، خرج رسول الله إلى حراء كما كان يخرج لجواره، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.
قال رسول الله: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم . فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي فكأنها كتبت في قلبي كتابا، فخرجت حتى إذا كنت وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف مكاني، ثم انصرف عني، فانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مصغيا إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فوالله ، لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به الرسول أنه رأى وسمع، فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة فلقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له أن يثبت.»
فرجعت خديجة إلى رسول الله فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة ابن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أختي، أخبرني بما رأيت. فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم فلأنصرن الله نصرا يعلمه.
2
وشرع رسول الله في تبليغ رسالته إلى من يثق به من أهله وخاصته؛ فأول من أسلم به السيدة خديجة وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة مولى محمد، وأول ما فرض الله على المسلمين الوضوء والصلاة، وكانت في اليوم صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل الغروب، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، ولم تجعل أربعة إلا بعد الإسراء. ثم أسلم أبو بكر الصديق وكان رجلا محببا في قومه فاضلا ناسبا خيرا تاجرا، وكان الرجال يقصدونه، فجعل أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، فصلوا وصدقوا رسول الله.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو مسلمة عبد الله بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، ثم تتابع الناس يدخلون في دين الله، حتى فشا الإسلام في مكة بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية. ولم يتعرض أهل مكة للمسلمين أول الأمر إلى أن جهر محمد بالدعوة تلبية لقوله تعالى:
فاصدع بما تؤمر ، فأخذ يصدع بدعوته، ثم لما نزلت الآية:
وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فدعا الرسول بني عبد المطلب إلى طعام صنعه علي بن أبي طالب، وتكلم الرسول فقال: «يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة.»
3
ثم دعا بطون قريش من فوق جبل الصفا بظاهر مكة، فلما اجتمعت إليه قال: «لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم تصدقونني؟» قالوا: نعم. فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.» فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟
ثم تفرقوا، فأخذ الرسول يسفه أحلامهم وينتقد أصنامهم وينكر آلهتهم فيعيبها، فناكروه وأجمعوا أمرهم على خلافه وعداوته، فمضى محمد على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن الرسول لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من عيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب حدب عليه وقام دونه، جاء رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب؛ وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه، فأنت على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، ثم إنهم عادوا إليه ثانية فقالوا له: إن لك شرفا وسنا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا، فعظم ذلك على أبي طالب، وكره فراق قومه وعداوتهم، فبعث إلى محمد وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن الرسول أنه قد بدا فيه بدو، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» ثم بكى وقام، فناداه أبو طالب فقال: يا ابن أخي. فأقبل عليه فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وعلمت قريش بذلك فمشت إليه بعمارة بن الوليد، فقالت: هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فاتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك فنقتله. فقال: لبئسما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون. ثم حميت الفتنة بين الجانبين، وطلبت قريش من قبائل الرجال الذين أسلموا أن يعذبوا أولئك الرجال ويفتنوهم عن دينهم، واتفقت كلمة قريش والقبائل على بني هاشم وبني المطلب، إلا أبا لهب؛ فإنه خرج عن قومه، وتحملت بنو هاشم وبنو المطلب كثيرا في سبيل نصرتهم.
ثم إن نفرا من قريش اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سن ومكانة فيهم، فقالوا له: قد حضر موسم الحج، وإن وفود العرب ستقدم إليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فأجمعوا على رأي ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا؛ فماذا تقول يا وليد؟ فقال: قولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد الشمس. قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر. فجعلوا لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. وشاع أمر رسول الله يومئذ بعد رجوع الناس من الموسم؛ ولا سيما في «يثرب».
ثم إن قريشا ضاقت ذرعا بمحمد وأصحابه، فأخذت تؤذيه بالقول وتسلط عليه سفهاءها يغمزونه ببذيء القول ويسخرون منه، وهو صامد في دعوته مؤمن برسالته يستغفر لقبيلته، ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.» ثم إن قريشا أخذت تقسو في مجابهتها للنبي وجماعته، فأخذوا يعذبون فقراء المسلمين ويضربون مستضعفيهم ويجيعونهم ويعطشونهم، وممن عذبوهم آل عمار بن ياسر هو وأبوه وأمه؛ فكانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، فيمر بهم الرسول فيقول: «صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.»
4
وكان أبو جهل إذا سمع بإسلام رجل من ذوي الشرف أنبه وأهانه في المجالس العامة، أما الفقراء والمستضعفون فقد لقوا منه ومن أمثاله عناء كبيرا، ولكن المسلمين لم يكونوا يحفلون بهذا الأذى، بل ظلوا يتابعون القيام بصلواتهم علنا في فناء الكعبة
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب (سورة العلق: 6-19). فنحن نرى من هذه الآيات الكريمات عتابا شديدا وتهديدا مقذعا لمن يمنعون المسلمين من الصلاة في حمى الله، واستهانة بمن يظنون أنفسهم قادرين على منع المسلمين من الوقوف بين يدي الله في بيت الله، ولو كانوا وجهاء أو أشرافا أو أغنياء أو زعماء.
وقد لقي النبي نفسه من سفهاء مكة مزعجات كثيرة؛ منها أن سفهاءهم حثوا التراب على رأسه، ومنها أنهم كانوا ينضدون الفرث والأرواث والدماء على ثيابه، ومنها بصق أمية بن خلف في وجهه، ومنها وطء عقبة بن أبي معيط على رقبته وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان، ومنها أخذ بعض سفهائهم برقبته وخنقه خنقا شديدا حتى أنقذه أبو بكر فجذبوا رأسه ولحيته وسقط أكثر شعره. أما السب والشتم والهجو الذي كان يسمعه إياه سفهاؤهم، فشيء كثير جدا.
5
وكان شر هؤلاء السفهاء عليه أبو جهل (أبو الحكم) بن هشام، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط. ومن شر ما قام به أبو جهل أنه مر مرة برسول الله وهو عند الصفا يدعو إلى دين الله ويبتهل إليه أن يهدي قومه، فآذاه وشتمه ونال منه بما يكره، وشتم دينه، فلم يكلمه رسول الله وانصرف لطيته، وشهد الأمر مولاة لعبد الله بن جدعان، فحزنت لما أصاب محمدا من أبي جهل، ولم تمض فترة حتى جاء حمزة بن عبد المطلب متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة، فلما مر بالمرأة قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده هنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل، فلما دخل المسجد نظر إليه فوجده جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه به فشجه شجا منكرا، ثم قال: أوتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة ينصرون أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. ثم أقبل إلى حمزة يلاطفه، فتركه وانصرف. قال حمزة: ولما قلت لأبي جهل ما قلت أدركني الندم على مفارقتي دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة وتضرعت إلى الله سبحانه أن يشرح صدري للحق ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زاح عني الباطل وامتلأ قلبي إسلاما، فغدوت إلى رسول الله فأخبرته بما كان من أمري، فدعا لي بأن يثبتني الله.
6
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن محمدا قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. ثم إن أكابر قريش أجمعوا أمرهم بعد أن رأوا من إسلام حمزة ما أرغمهم على أن يفاوضوا محمدا، فقال عتبة بن ربيعة، وكان من عقلائهم ووجوههم: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل فنعطيه ما يشاء ويكف عنا؟ ثم إنه أتى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسط في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا انظر فيها لعلك ترضى ببعضها. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع.» فقال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا ورئيسا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. فقال رسول الله: «قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «استمع مني: بسم الله الرحمن الرحيم.
حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ...» ثم مضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقرؤها، وعتبة قد أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، ثم انتهى رسول الله إلى السجدة فسجد، وقال: «لقد سمعت يا أبا الوليد، فأنت وذاك.» فقام عتبة ولم يتكلم، ثم قصد قومه حتى إذا رأوه قالوا لبعضهم: نحلف بأنه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قال: لقد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، والله ليكونن لقوله الذي سمعته نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم به أسعد الناس. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد. فقال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
7
ثم إن الإسلام أخذ يفشو وعظماء قريش يتميزون من الغيظ، ثم إن قريشا اجتمعت وتشاورت في أمر محمد وعزمت على التخلص منه، فقال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني. فقالوا: والله لا نسلمك أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أخذ حجرا وقصد الكعبة، وكان الرسول يصلي بين الركنين البراني والأسود ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما سجد محمد احتمل أبو جهل الحجر وهجم نحو محمد، فلما دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا، وقد يبست يداه حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه قريش فسألته عما به، فقال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه، فهم بي أن يأكلني فتراجعت.
ثم إن قريشا فكرت تفكيرا آخر، فطلبت إلى النضر بن الحارث - وكان من شياطين قريش كان قدم الجبرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وقصص إسفنديار، وكان إذا سمع القرآن قام فقال: يا معشر قريش، هلم إلي أحدثكم حديثا أحسن من حديثه - فطلبت إليه قريش أن يتوجه إلى أحبار يهود المدينة ومعه عقبة بن أبي معيط، فلما وصلا المدينة ووصفا محمدا للأحبار وأسمعاهم بعض قوله، قال لهم الأحبار : سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح. ثم جاءوا رسول الله فسألوه عن الأسئلة الثلاثة، فقال
صلى الله عليه وسلم : «أجيبكم غدا.» ثم إنه مكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه الوحي، فأخذت قريش تتقول الأقاويل، فحزن رسول الله حتى جاءه جبريل بسورة الكهف، وفيها معاتبة من الله على حزنه وتفصيل جواب ما سألوه عنه. ولكن سفهاء قريش وزعماءها وأحلافهم استمروا في خصومتهم العنيفة، وأخذت كل قبيلة تنابذ من أسلم من أبنائها وتؤذيهم بعنف وقسوة؛ وبخاصة المستضعفون؛ فإنهم كانوا يلبسونهم أدراع الحديد حتى ينطقوا بكلمة الكفر وقلبهم مفعم بالإيمان، إلا نفرا تحملوا الأذى الشديد ولم ينطقوا بكلمة الكفر؛ ومنهم بلال مولى أبي بكر الذي قبض عليه أمية بن خلف وأخذ يعذبه بقسوة ووحشية يريده أن يكفر بالله ويعبد اللات والعزى، فيرفض وهو متحمل لأشد العذاب. وممن لقي أشد البلاء أيضا عمار بن ياسر وأمه وأبوه، وأم عميس، وعامر بن فهيرة، وزنيرة وأعتق النهدية وابنتها. (1) الهجرة إلى الحبشة
لما رأى الرسول تعذيب هؤلاء المستضعفين وأنه لا يقدر على نصرتهم، قال للمسلمين: «من أراد أن يخرج بنفسه مهاجرا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لنا فرجا.» فخرج نفر من المسلمين إلى الحبشة مهاجرين، وكان ذلك في السنة السادسة للبعثة، وهي أول هجرة في الإسلام، وكان فيها من الوجوه عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت الرسول، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو مسلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء، وجعفر بن أبي طالب، وزوجه أسماء بنت عميس، وغيرهم. فودعهم الرسول وجعل عليهم عثمان بن مظعون،
8
وبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا، فرحب بهم النجاشي وأمنهم وأحسن إليهم ، فاستقروا هناك واطمأنوا. ولكن هذا الأمر أقض مضاجع قريش، فبعثت وفدا إلى النجاشي وبطارقته، فذهب، وكان قوامه عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وحملا هدايا كثيرة إلى النجاشي وبطارقته، فلما وصلا إليه قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومهم لتردهم عليهم؛ فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوه عليهم وعاتبوهم. فقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم. فلما سمع النجاشي كلامهم غضب، ثم قال: لا والله لا أسلمهم حتى أدعوهم وأسألهم. ثم أرسل إليهم فجاءوا، فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرفه ونعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه، فعدا علينا قومنا فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك. فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال جعفر: نعم. ثم قرأ صدرا من «سورة كهيعص»، وترجمت للنجاشي، فبكى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفه، وقال: إن هذا الذي جاء به عيسى. ثم التفت إلى الرسولين وقال: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم. فرجعا أخيب ما يكون الرجوع. ولما قدما مكة ودخلاها وعلما بإسلام عمر سقط في يديهما، وتتابع فشل المشركين منذ يومئذ.
9 (2) إسلام عمر بن الخطاب
كان عمر أشد الفتيان في قريش على الإسلام وأهله، وكان رجلا ذا شكيمة، وكان يكره محمدا ودعوته الجديدة، ويناوئ أصحابه، ولكنه لما رأى خروج المسلمين من ديارهم إلى الحبشة تأثر بذلك؛ فقد روى ابن إسحق عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت حثمة، قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر حتى وقف علي وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله. فقلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله؛ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله مخرجا. فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
10
ثم إن عمر خرج يوما وقد آلمه ما جاء به محمد، ففرق جمع قريش وشتت أبناءها، وعلم أنه وصحابته في دار عند الصفا، فذهب إليه متوشحا سيفه ليؤذيه على ما فعل بقريش، فلقيه في الطريق نعيم بن عبد الله، فقال له: إلى أين يا ابن الخطاب؟ فقال: أريد محمدا هذا الصبائي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها فأقتله. فقال نعيم: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم. قال: فأي أهل بيتي صبأ؟ قال: ختنك وابن عمك وأختك، فقد والله أسلما. فرجع عمر إلى بيت أخته وزوجها وعندها خباب بن الأرت ومعه صحيفة يقرأ فيها القرآن، ولما وصل سمع هيمنة فقال: ما هذه الهيمنة؟ فقالا له: لا شيء. فقال: بلى والله لقد سمعت أنكما تابعتما محمدا. وبطش بختنه فأدماه، فقالت أخته: أسلمنا فاصنع ما بدا لك. ولما رأى الدم بختنه وأخته ندم على ما فعل، وقال: أعطني الصحيفة التي سمعتكم تقرءون فيها. فقالت أخته: يا أخي، إنك نجس على شركك ولا يمسها إلا الطاهر. فاغتسل وأعطته الصحيفة وفيها سورة طه، فقرأها وقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب كلامه خرج وقال له: والله إني سمعت رسول الله يقول أمس: اللهم أيدني وأيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب؛ فالله الله يا عمر. فقال له : دلني على موضعه أذهب إليه. فدله فأتى رسول الله وهو وأصحابه في البيت عند الصفا، ثم طرق الباب، فرآه القوم متوشحا سيفه، ففتح له الباب ولقيه رسول الله، فأخذ بحجرته وجبذه جبذة شديدة وقال له: «ما بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة.» فقال عمر: جئتك لأومن بالله ورسوله. فكبر رسول الله وكبر القوم مبتهجين بذلك. ثم تفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عز ما في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ينتصفون بهما من عدوهم،
11
وكان إسلام عمر في السنة الخامسة للبعثة.
الفصل الثاني
القسم الثاني من العهد المكي
لما أسلم حمزة وعمر تنفس المسلمون الصعداء، فقويت نفوسهم واطمأنوا على إخوانهم في الحبشة وأن النجاشي لن يسلمهم، فأخذوا يعلنون شعائرهم، وقريش تتميز من الحنق، فأجمعت رؤساؤهم وائتمرت في أمر النبي وأصحابه، فاتفق رأي أهل العقد والحل منهم على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب، وعلى ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا كتبوا ذلك في صحيفة، ثم علقوا تلك الصحيفة في الكعبة توكيدا منهم على أنفسهم. وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر، ويقال النضر بن الحارث، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى شعب أبي طالب، سوى أبي لهب فإنه انفصل عنهم، وأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثا، حتى جهدوا، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقد كان أبو جهل من أشد من ضيق عليهم الخناق، حتى إنه لقي مرة حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، فقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا ترجع أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه تطلبه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك الرسول فيشمتوا بهم، ورسول الله يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا، وقريش مستمرة في عنادها، والقرآن الكريم ينزل في هجاء قريش، ويهاجم معتقداتها الفاسدة، ويدعو إلى الإسلام وتوحيد الله.
ومما هو جدير بالذكر أن القرآن نزل في هذه الفترة بتهديد نفر من وجوه قريش؛ منهم أبو لهب وزوجه، وأمية بن خلف الجمحي، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث، وعبد الله بن الزبعرى، والأخنس بن شريق، والوليد بن المغيرة. وفي هذه الفترة رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة، فقد بلغتهم قوة الإسلام ودخول أكثر أهل مكة فيه، فلما وصلوا مكة علموا أن الأمر على العكس، فلم يستطيعوا أن يدخلوها إلا مستخفين أو داخلين في جوار بعض زعمائها. ثم إن بعض زعماء قريش - وعلى رأسهم هاشم بن عمر بن ربيعة، وزمعة بن الأسود، والبختري بن هشام، والمطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية - رأوا أن ما فعلوه مع إخوانهم وأبناء عمومتهم بني هاشم وعبد المطلب هو عمل شائن لا يليق، فعزموا على نقض الصحيفة، ثم إن هؤلاء الخمسة من زعماء قريش ذهبوا إلى الكعبة فطافوا بالبيت سبعا، ثم قام زهير بن أبي أمية فقال: يا أهل مكة، نأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله الأكذب، ما رضينا كتابها. فقام أبو البختري فقال مثل قولهما، فقام الباقون فقالوا مثل ذلك، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم فمزق الصحيفة وصرف الله ذلك البلاء عن بني هاشم وبني عبد المطلب.
ثم أخذت وفود كثيرة من القبائل تقدم على مكة، فيعرض النبي عليها الإسلام، فكان بعضها يدخل فيه وبعضها يعرض عنه، وكان ممن قدم على النبي في تلك الفترة وفد أهل الحبشة، وهم عشرون رجلا، فجلسوا إلى النبي وسألوه عن بعض المسائل، فقرأ عليهم بعض القرآن، فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم مبشرين بالإسلام داعين إليه ذاكرين فضائل محمد وحسن طريقته.
1 (1) وفاة أبي طالب وخديجة، وخروج النبي إلى الطائف
استمر الرسول في دعوته لا يحجزه عن العمل لنشر الإسلام حاجز، فكان يعرض نفسه على القبائل، ويلقاهم في المواسم فيعرض عليهم ما أوحى إليه ربه، وينفرهم من عبادة الأوثان، فكان منهم من يجيب، ومنهم من يكفر، وقريش لا تفتر تخاصمه وتصد عن سبيل الله، وهو صامد مجاهد، إلى أن حلت السنة العاشرة للبعثة، وقد انتشر الإسلام في أكثر القبائل، والرسول قرير العين مشروح الصدر، إلى أن فوجئ بوفاة عمه أبي طالب ثم بوفاة خديجة، فحزن لفقدهما أشد الحزن، وتتابعت عليه المصائب؛ فقد كان أبو طالب خير عون وعضد، وكانت خديجة خير ناصر وركن يلجأ إليه ويسكن عنده، فلما هلك أبو طالب نالت قريش منه بعد أن فاوضوه في المهادنة، وأن يتركهم وعبادتهم وآلهتهم فأبى، فأخذت تهينه وتؤذيه، فاضطر إلى أن يخرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف.
فلما وصلها قصد أبناء عمرو بن عمير، وهم وجوه الطائف، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا وأغروا به سفهاءهم يسبونه، فلجأ إلى بستان لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة بن ربيعة، وجلس تحت ظل كرمة وأبناء ربيعة ينظران إليه ويسمعان قوله وهو يخاطب ربه قائلا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب العالمين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.» فلما سمعا ذلك ورأيا سوء حاله تحركت رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا اسمه عداس فقالا له: خذ قطفا من العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل بين يدي رسول الله فقدم إليه الطبق، فقال: «باسم الله.» ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله: «ومن أهل أي بلاد أنت؟» فقال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.» فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي.» فأكب عداس على الرسول يقبل رأسه ويديه وقدميه. ثم إن رسول الله لما رأى سوء وضع أهل الطائف رجع إلى مكة ودأب على الدعوة إلى الله، وعرض نفسه على القبائل كلما قدمت إلى الحج. (2) إسلام الأوس والخزرج
في سنة 11 للبعثة قدم من يثرب أنس بن رافع وإياس بن معاذ الخزرجيان في نفر من قومهما، على قريش في مكة يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج، فسمع بهم الرسول، وجلس إليهم، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ورجعوا إلى يثرب، فجرت بينهم وبين الأوس وقعة «يوم بعاث». ثم إن قوما من الخزرج قدموا إلى مكة، فلقيهم الرسول ودعاهم إلى الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فأسلموا، ووعدوه أن يدعوا قومهم إلى دينه إذا رجعوا إلى يثرب، وأنهم سيقدمون عليه، فلما فارقوا المدينة دأبوا على الدعوة إلى الإسلام، فدخل كثير من الأوس والخزرج، ولم تبق دار في يثرب إلا دخلها الإسلام. فلما كان العام المقبل وافى من مسلمي يثرب اثنا عشر رجلا منهم من لقيهم النبي بالعقبة - وهي المعروفة بالعقبة الأولى - فبايعوه ببيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض الحرب - على ألا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصون الله والرسول في معروف.
ثم إنهم لما انصرفوا إلى قومهم بعث معهم الرسول مصعب بن عمير المقرئ ليعلمهم القرآن، فكان يصلي بهم ويقرئهم، فلما كان الموسم القادم في السنة الثانية خرج في نفر منهم إلى مكة، فقدم على رسول الله ومعه وجوه أهل يثرب، فبايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، وهي بيعة الحرب بعد أن كانت الأولى بيعة النساء، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، وقال لهم الرسول: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم.» فأخرجوا أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو، وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، والمنذر بن عمرو من الخزرج، وأسيد بن خضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر من الأوس، وبعضهم يعد أبا الهيثم بن التيهان ولا يعد رفاعة. ثم إن الرسول قال لهم: «أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي.» ثم إن القوم قدموا إلى المدينة وأظهروا الإسلام بها.
قال ابن إسحق: فلما أذن الله له
صلى الله عليه وسلم
في الحرب، وتابعه هذا الحي من الأنصار - الأوس والخزرج - على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، أمر رسول الله أصحابه من أهل مكة بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها.» فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج، ولم يتخلف معه إلا علي وأبو بكر وبعض من لم يخف على نفسه من إيذاء قريش التي رأت ما تم من أمر الهجرة، فائتمرت يوما في دار الندوة واتفق رأي زعمائها على قتل محمد، وعرف الرسول بذلك، فطلب إلى علي أن ينام في منزله وعلى فراشه، وعزم هو
صلى الله عليه وسلم
على أن يهاجر تلك الليلة من المدينة إلى مكة.
الفصل الثالث
في القرآن المكي
لقد كان للهجرة النبوية إلى المدينة تأثير في سيرة الإسلام وفي أسلوب القرآن ومضامينه، وقد انطبع النمط القرآني في كل من المدينتين بأسلوب خاص تبعا للظروف الزمانية والمكانية؛ ففي مكة كان الرسول يدعو قريشا إلى نبذ ما هي عليه من عبادات وتقاليد يأباها العقل السليم والإيمان الصحيح، ويناقشها في مزاعمها، وينكر عليها قولها بتعدد الآلهة، وإفسادها جو الكعبة والحرم الأقدس بهذه التماثيل والنصب، ويخوفها عذاب يوم شديد، ويرهبها من نتائج أعمالها وأقوالها، وينذرها بعاقبة وخيمة وبيوم حساب لم تحسب له حسابا، ويطالبها بإنصاف المرأة والرقيق، والإحسان إلى العبد والصديق، والمساواة بين الغني والفقير في أمور الدنيا والدين.
وكان أسلوبه في هذا الحين أسلوبا خطابيا ذا فقرات قصيرة، مقفاة، ذات فواصل، ومقاطع قوية. أما القرآن المدني - بعدئذ - فهو ذو أسلوب تفصيلي طويل الآيات، قليل الفقرات، القصيرة، خال من الأسلوب الخطابي، طويل النفس في الشرح والتحليل والتعليل. ولا غرو؛ فإن الوحي قد أخذ في المدينة يفصل ما أجمل في مكة من أمور العبادات والمعاملات ومبادئ الحكمة والأخلاق بما أحله الله وما حرمه. وقد كان القرآن في حجاجه مع العرب والكتابيين من يهود ونصارى مختلف الأسلوب والفكرة، يخاطب كلا حسب منطقه وعقله وعلمه، ويناقشه بما يدرك ويتسع له فهمه.
ويمتاز القرآن المكي - كما قلت - بأنه أسلوب خطابي، مسجوع، شديد في نطقه، وأحكامه، وتهديده، ووعيده، وهو أسلوب حث واستثارة ووعد وترهيب ومناقشة ومحادثة، أكثر منه أسلوب مداراة وملاطفة وتشريع وتطويل وتفصيل، كما هي الحال في القرآن المدني. وكان القرآن المكي مليئا بحكاية أقوال المشركين ومناقشتهم في آرائهم واعتقاداتهم في الجن والملائكة والآلهة المتعددة وأحوال الأنبياء ومجادلات أممهم له. أما القرآن المدني فقد نحا فيه منحى آخر في مناقشة الناس من موالين وكفار، ومتقين وفجار، ومناقشتهم ومجادلتهم. ومن يدقق في السور الأولى التي نزلت في مكة يجدها تنظم أمورا تتعلق بالدعوة إلى الدين والوعد والوعيد اللطيف، ولكن هذا الوعيد ما لبث أن اشتد حين قويت خصومات النبي، واشتدت معاكسة المشركين - ولا سيما زعماء قريش وأغنياؤها - لدعوته كما في سورة العلق (6-19):
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب .
وفي سورة القلم (7-16):
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم .
وفي سورة المدثر (11-25):
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر ... فقد احتوت هذه الآيات وأمثالها بأسلوبها الخطابي وفقرها القصيرة، صورا للمكذبين الذين لم تعجبهم حركة النبي فأخذوا يناوئونه، فلم يقف أمامهم مكتوف اليدين، وإنما خاطبهم في هذا الأسلوب القوي العنيف، كما أنه في الوقت نفسه خاطب المؤمنين بألفاظ كلها رحمة وحنان؛ كقوله تعالى:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى * فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى (سورة الليل: 5-21).
وفي القرآن المكي إيراد لكثير من تقاليد الجاهلية الدينية، ومن شبه زعماء قريش في الدين وسخرهم به وتهجمهم على النبي وتسفيههم والرد على ذلك؛ ففي سورة الفرقان:
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا * وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما * وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (سورة الفرقان: آية 3-9).
كما نجد في القرآن المكي صدى واضحا لما كان يلقاه أكثر المسلمين من أذى المشركين، منذ ابتداء الدعوة إلى وقت الهجرة؛ أمثال آيات سورة البروج (10-14)، ومنها قوله تعالى:
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود ، وقال تعالى في سورة النحل (41-42):
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وقال تعالى:
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (سورة النحل: آية 110). وفي سورة الأنفال (آية 30):
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . وفي سورة الفرقان (آية 41-42):
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . وفي القرآن المكي كثير من الصور التي تصور حزن النبي وتأثره من عنف هؤلاء المشركين؛ وبخاصة أهله وأقرباؤه، كقوله تعالى:
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل (سورة هود آية 12)، وقال تعالى:
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .
ومما تجدر بنا ملاحظته في القرآن المكي أن ذكر اليهود والنصارى وكتبهم المقدسة كان دوما مشفوعا بالإجلال لإيمانهم ولتصديق كتابهم، وقد سرد النبي في كثير من السور المكية شواهد على توافق الدين الإسلامي والنصراني، وأن القرآن ما جاء إلا تصديقا لما سبقه من الكتب السماوية من صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وتفصيلا لها لا ريب فيه من رب العالمين؛ «سورة يونس» (37) و«سورة الأنعام» (92) و«سورة فاطر» (31-32)، وغيرها كثير مثل قوله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه (سورة الشورى: آية 13)، وقال تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا (سورة القصص: آية 52-54).
الفصل الرابع
في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد
المكي
شرع الله الإسلام أركانا خمسة؛ هي: الشهادة بتوحيده والإقرار بنبيه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج.
أما الصلاة فشرعت في مكة، ولكن كيفية إقامتها وتنظيم عدد ركعاتها وما إلى ذلك من الطقوس، فقد شرع في المدينة، وما شرعت الصلاة إلا للاتجاه إلى الله تعالى ورجائه والانصراف إليه، وشكره على ما أنعم. هذا ولم يرد في القرآن مكيه ومدنيه تحديد كيفية الصلاة وأوقاتها، وإنما جاءت السنة بذلك، وفي روايات جعلها خمس مرات في ليلة الإسراء في أواسط العهد المكي. وقد اشترط للصلاة وجوب التطهير بالوضوء والخلو من الجنابة وطهارة الثوب وصفاء النية وخلوص القلب. ويظهر أن صلاة يوم الجمعة كانت مشروعة منذ فجر الإسلام، وأن الأنصار كانوا يجمعون قبل هجرة النبي.
وأما الصوم فقد شرع في السنة الثانية للهجرة، والروايات متواترة على أن النبي كان يصوم في الجاهلية والإسلام يوم عاشوراء، وأما صوم رمضان وتحديده بشهر وشرائط معلومة، فقد شرع في السنوات الأولى من العهد المدني.
وأما الزكاة فقد شرعت فرضيتها في مكة حين نزل قوله تعالى:
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ، ولكن بيان مقاديرها وحقها ومصاريفها فلم يشرع إلا في المدينة، وقد حدد النبي في مكة مقادير معينة على أموال القادرين على إعطاء الفقراء، ولكن تلك المقادير لم تكسب شكلها النهائي إلا بعد الهجرة.
وأما الحج فقد شرع في السنة السادسة للهجرة، بعد صلح الحديبية، وعلى الرغم من أن هذه الشعيرة كانت معروفة في الجاهلية، فإن الإسلام لم يفرضها على متابعيه إلا بعد قوتهم في العهد المدني، ولم يحتو القرآن المكي إلا على إشارات إلى الحرم وأمنه، وذكر البيت وقدسيته، وعلاقة إبراهيم به، وما إلى ذلك. على أن آية في سورة الكوثر، وهي
فصل لربك وانحر ، جعلت بعض الباحثين يقولون إن النبي كان يقوم ببعض المناسك الحجية قبل الهجرة. ومما شرعه الله للمسلمين في مكة: الإيمان بالبعث والنشور، وتقبيح الزنا والنهي عنه، وعن القتل والفساد في الأرض، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والنهي عن الظلم والفساد، والحض على التخلق بالفضائل النبيلة، والقيام بكل ما فيه إصلاح البيئة الإسلامية.
ومما شرعه الله أيضا في مكة: وجوب طاعة النبي وأولي الأمر، والإخلاص والأمانة للدعوة الإسلامية، والتضامن والاتحاد بين أفراد المسلمين، والإحسان إلى الفقراء، والعطف على الرقيق، وعدم التبذير والإسراف والتقتير، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والتعاطف بين الناس والإحسان إلى الوالدين، وما إلى ذلك من نبيل الأخلاق وفاضلها.
الباب الثاني
في حياة النبي الكريم من الهجرة إلى الوفاة
الفصل الأول
في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
قلنا في [البعثة النبوية: إسلام الأوس والخزرج]: إن المسلمين بعد أن دخل الأنصار في الإسلام فعز بهم، أخذوا يهاجرون إلى المدينة، ولم يبق فيها إلا نفر قليل جدا على رأسهم الرسول وأبو بكر، وإن جماعة كفار قريش قد ائتمرت بالنبي وعزمت على قتله ذات ليلة والتخلص منه، وأنها قد اتفق رأيها أن تبعث من كل قبيلة شابا جلدا، فيضربوا النبي ضربة واحدة يقتلونه بها، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على العرب جميعا. ولكن الله أطلع نبيه على أمر قريش، فلما كانت العتمة من ذلك الليل اجتمعوا على بابه فترصدوه، فلما رأى ذلك قال لعلي: «نم يا علي على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه؛ فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وإن أتاك ابن أبي قحافة فقل له إني توجهت إلى ثور فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام، واستأجر لي دليلا يدلني على الطريق، واشتر لي راحلة.»
ثم مضى رسول الله، وأعمى الله أبصار القوم عنه،
1
ثم جاء أبو بكر فلحق برسول الله، وأدركه في الطريق، حتى انتهيا إلى الغار مع الصبح فدخلاه، وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون النبي، فدخلوا الدار، وقام إليهم علي، فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فجن جنونهم، وذهبوا إلى الملأ من قريش فأخبروهم، فقال أبو جهل: لقد هرب، فاذهبوا وترقبوا أبا بكر. فوقفوا على بابه، فخرجت إليهم أسماء ابنته، فساءلوها عن أبيها، فقالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطمها لطمة طرح منها قرطها.
وكان أبو بكر أمر ابنه عبد الله أن يسمع ما يقوله الناس في مكة ويأتيهما في الغار، وكانت أسماء تأتيهما بالطعام، فأقاما في الغار ثلاثة أيام. ثم إن قريشا حلت مائة ناقة تامة لمن يدلهم عليهما. وكان عامر مولى أبي بكر يرعى غنما لأبي بكر مع رعيان مكة، فإذا جن الليل أتاه وأخبره بخبر القوم، فلما مضت ثلاثة أيام وسكنت قريش، ارتحل الرسول وصاحبه، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة خلفه يخدمهما في الطريق، وكان دليلهما عبد الله بن أرقد، فمر بهم على عسفان، ثم على إمج، ثم على قديد، ثم على الخرار، ثم على الجداجد، ثم على العرج، ثم على قباء،
2
ولم يكن هذا الطريق المسلوك، وإنما هو طريق آخر أطول ولكنه آمن. ولما بلغوا قباء ظلوا بها أربعة أيام، فأسس الرسول مسجده هناك في بني عمرو بن عوف، ثم دخل المدينة في 16 ربيع الأول المصادف ل 20 أيلول 622م، ونزل في دار أبي أيوب خالد بن زيد إلى أن بنى مسجده ومساكنه، وباشر البناء بنفسه في نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار. ثم إن عليا لم يلبث أن لحق بالرسول بعدما رد ودائع النبي التي كانت لأصحابها من أهل مكة، ولم يبق بمكة إلا مفتون أو محبوس بأمر قريش، وغلقت كثير من الدور، وعدا أبو سفيان وغيره من زعماء قريش على بعض دور المهاجرين فاغتصبوها وباعوها. وقد بلغت أنباء هذه الأعمال إلى المهاجرين، فشكوا ذلك إلى الرسول فقال: «احتسبوها عند الله.» ثم بعد أن أتم الرسول بناء مسجده، شرع في تنظيم أمور المسلمين وتأسيس إدارة المدينة، وأول عمل عمله أن نشر الدين في المدينة، فلم يبق بيت إلا دخله الإسلام، وأصلح ذات بينهم على كثرة العداوات التي بينهم في الجاهلية، وعقد حلفا بين المهاجرين وبين أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من المشركين. وقد أورد لنا ابن هشام صورة ذلك الحلف، وإليك بعض فقراته:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرين من قريش على ربعتهم - أي جميعهم - يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون على معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ... ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو انتقى وسيعة (أي طبيعة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينتصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأن من يتبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا تعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء (يرجع) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ... وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم ... وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد ... وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن ...
3
وإن من يدقق في هذه المعاهدة يجدها تدور حول النقاط الآتية: (1)
أن الرسول يريد أن يوحد بين جميع سكان المدينة فيجعلهم أمة واحدة، وهذا أمر لم يكونوا يقرون به في الجاهلية. (2)
أن الرابطة القوية التي تربط سكان المدينة هي الدين الحنيف. (3)
أن لليهود من سكان المدينة وأهل ذمتها كافة الحقوق التي للمسلمين ما داموا محافظين على حقوق الذمية. (4)
أن المسلمين أضحوا كيانا واحدا ذا شخصية موحدة في شئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا مظهر من مظاهر الوحدة لم تعرفه العرب من قبل. (5)
أن المعاهدة تتضمن كثيرا من مبادئ العدل والإنصاف والمصلحة العامة، وهذه أمور لم يعرفها العرب من قبل.
بعد عقد هذه المعاهدة عمد الرسول إلى شيء آخر وثق به بين قلوب المسلمين؛ وهو المؤاخاة بين الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: «تآخوا في الله أخوين أخوين.» ثم إنه أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي.» وتآخى حمزة وزيد بن حارثة مولى رسول الله، وتآخى جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، وتآخى أبو بكر وخارجة بن زهير. وفي كتب السيرة تفصيل هذه المؤاخات،
4
ولكن على الرغم من ذلك فقد تآخى نفر من اليهود وزعماء الأوس والخزرج ممن لم يسلموا أو ممن أسلموا ونافقوا ضد النبي، وأخذوا يكيدون للإسلام ويحرجون النبي بالدسائس والأسئلة، فيكشف النبي دسائسهم، ويجيب على أسئلتهم. وكان من زعماء هؤلاء المجرمين حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، وسلام بن مشكم، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وغيرهم من زعماء اليهود، فآذوه
صلى الله عليه وسلم
بأسئلتهم، وأرادوا إحراجه وتخجيله، ولكن الله خذلهم وكسفهم ... ثم إن أحد زعمائهم؛ وهو لبيد بن الأعصم، أراد أن يؤذي النبي، فسحره وجعل يتخيل أنه فعل الأمر وهو لم يفعله.
5
الفصل الثاني
في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
(1) في السنة الأولى
كان أجل الأحداث: بناء الرسول بالسيدة عائشة، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة. زيادة صلاة الحضر ركعتين أخريين، فصارت أربعا، وبقيت صلاة السفر ركعتين. إرسال أول سرية بقيادة عبيد بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي جمعا عظيما من قريش، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم؛ فهو أول سهم رمي به في الإسلام، وكان على المشركين عكرمة بن أبي جهل، وانصرف القوم عن القوم. سرية حمزة بن عبد المطلب بعثها الرسول إلى سيف البحر في ثلاثين راكبا من المهاجرين، فلقوا أبا جهل بذلك الساحل في 300 راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهيني، وكان موادعا للفريقين، فانصرف القوم عن بعضهم. (2) وفي السنة الثانية
غزا الرسول ودان؛ وهي أول غزوة قام بها، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكان صاحب لوائه حمزة، وكان لواؤه أبيض، فأقام بها خمس عشرة ليلة، ووادع بني ضمرة على ألا يغزوهم ولا يغزونه ولا يعينون عليه، وكتب بذلك كتابا.
1
ثم غزا بواط في مائتين من الصحابة، يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف، ثم رجع ولم يلق كيدا، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم غزا غزوة العشيرة، قال البخاري: هي أول غزواته
صلى الله عليه وسلم ، وقد علم بقدوم عير لقريش متوجهة إلى الشام، يقال إن قريشا جمعت جميع أموالها في تلك العير، فيقال إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، وكان قائدها أبا سفيان، وكانت هذه الغزاة سبب غزوة بدر الكبرى، وقد استخلف النبي
صلى الله عليه وسلم
على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان عمه حمزة يحمل اللواء، وكان أبيض، فلما وصلوا إلى العشيرة وجدوا العير قد مضت، فرجع النبي وأصحابه ووادع بني مدلج. (2-1) غزوة بدر الأولى، ويقال لها غزوة سفوان
وسببها أن النبي حين قدم من العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليالي حتى خرج غازيا كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة، فخرج إليه النبي يطلبه حتى بلغ وادي سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز، وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي. (2-2) سرية عبد الله بن جحش
ولما رجع الرسول من طلب كرز إلى المدينة بعث عبد الله بن جحش ومعه ثمانية رهط من المهاجرين، ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ثم يمضي إلى ما أمره، ولا يستكره أحدا من أصحابه، فلما سار وفتح الكتاب وقرأه قال: سمعا وطاعة. ثم أخبر أصحابه بما أمره به الرسول من المسير إلى العير، فساروا جميعهم وأسروا من في العير وقدموا بهم إليه
صلى الله عليه وسلم . (2-3) غزوة بدر الكبرى
لما رجعت عير قريش التي كان الرسول خرج للقائها في العشيرة ولم يظفر بها ، انتظر عودتها من الشام، فلما سمع بقفولها ندب المسلمين وقال: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها.» ثم خرج إلى بدر، فلما دنا أبو سفيان بالعير بلغه أن رسول الله قد استنفر أصحابه للعير، فبعث إلى أهل مكة يستنفرهم، فخرج منهم جمع عظيم، وغير أبو سفيان طريقه وتوجه إلى البحر، وسار بحذائه لئلا يمر بموضع المسلمين، واستطاع أن يصل إلى مكة دون أن تمس تجارة قريش بسوء، والتقى جمع المسلمين بجمع قريش عند بدر، فنصر الله المسلمين وقتل من وجوه قريش سبعون رجلا ومن المسلمين أربعة عشر. وقد كان لهذه الغزاة أثر عميق في تاريخ الإسلام؛ فقد كانت الحرب الحقيقية الأولى بين النبي وخصومه، وكان انتصار النبي وتماسك المسلمين على الرغم من قلتهم وكثرة عدوهم دليلا على تمسكهم بعقيدتهم وتفانيهم في الإخلاص لها. وكان لرجال بدر اسم مخلد في تاريخ الإسلام، كما أن قريشا لما عرفت قوة المسلمين آلت أن ترصد أموال هذه العير كلها لقتال المسلمين. واشتدت المعارك بين المسلمين والكفار منذ ذلك اليوم إلى أن كتب الله للإسلام النصر المؤزر، ولم تنكس بعدها راية للإسلام، إذا ما استثنينا غزوة أحد كما سنرى. (2-4) غزوة بني سليم
لم يلبث الرسول بعد عوده من بدر إلا تسع ليال حتى غزا بني سليم، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - وقيل بل ابن أم مكتوم، وقيل بل جعله على الصلاة فقط لأنه كان أعمى - فلما بلغ مياه بني سليم أقام ثلاثة أيام ثم رجع. (2-5) غزوة بني القينقاع
هم أشجع اليهود وأعزهم بأسا، وكأنهم لما رأوا فوز المسلمين ببدر نبذوا العهد الذي عاهدوا المسلمين عليه - لأن النبي كان عاهدهم وبني قريظة وبني النضير على ألا يظاهروا عليه - وحدث مرة أن جاءت امرأة بعض الأنصار إلى صائغ يهودي من بني القينقاع فتعدى عليها وأهانها، فصاحت، فقام إليه أنصاري فقتله، وشد اليهود على الأنصاري فقتلوه. وبلغ ذلك الرسول فدعا إلى غزوهم، وسار إليهم، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، ولما اشتد عليهم الحصار سألوا الرسول أن يخليهم على أن يجلوا من المدينة وله أموالهم وسلاحهم. (2-6) غزوة السويق
لما أصاب قريشا ما أصابها في بدر، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، إلى أن خرج في مائتي محارب من قريش، ونزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد، ثم أتى بني النضير من يهود خيبر فعاهدهم، ثم عمد هو وقومه إلى نخل المدينة، فخربوا بعضه وقتلوا بعض الأنصار وهربوا، فخرج الرسول في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، فوجدهم قد غابوا وتركوا سويقهم وأزوادهم، فغنمها المسلمون ورجعوا. (3) وفي السنة الثالثة
غزا النبي بني غطفان عند ذي أمر لما بلغه أن زعيمهم دعثور بن الحارث جمع جموعه يريد الإغارة على المدينة. واستخلف النبي على المدينة عثمان بن عفان، وكان عدد المسلمين 450 رجلا، فلما سمع الغطفانيون بقدومهم تفرقوا في جبالهم بنجد، فلحق بهم الرسول، وتغلب عليهم، فأسلم زعيمهم دعثور وجماعته. (3-1) غزوة بحران
خرج النبي إلى بني سليم للمرة الثانية، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم حتى بلغ بني سليم ببحران، فتفرقت بنو سليم ورجع الرسول. (3-2) سرية محمد بن مسلمة الأشهلي
بلغ الرسول أن كعب بن الأشرف الطائي وأمه من بني النضير أخذ يحرض الناس على حرب المسلمين، وينشد الأشعار في ذلك، ويأتي مكة فيبكي أصحاب القليب ويذكر نساء المسلمين بشر، فقال النبي: «من يأتيني برأسه؟» فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله. ثم سار إلى كعب بالسرية التي بعثها الرسول معه، فلما قرب من داره بعث إليه أبا نائلة سلكان بن سلامة، فأتاه وقال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئتك لحاجة، لقد كان قدوم هذا الرجل - يعني محمدا - بلاء، عادتنا العرب وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس، وأردت أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك. فقال كعب: ترهنوني أبناءكم. فقال محمد: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي ، قد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة - السلاح - ما تشاء. ثم إن أبا نائلة أحضر أصحابه فقالوا لكعب: هلم نتماشى إلى شعب الفجور فنتحدث بقية ليلتنا. وبينما هم في الطريق حمل عليه محمد فقتله وأتى النبي برأسه. (3-3) غزوة أحد
أرادت قريش أن تثأر لنفسها من غزوة بدر، فجمعت الرجال، وأعدت الأموال، وكان أبو سفيان يتولى ذلك، حتى اجتمع قريب من الثلاثة آلاف من قريش وكنانة وتهامة والأحابيش - وهم جند مرتزقون من بني الحارث والهوان والمصطلق استأجرتهم قريش لحماية تجارتها - فخرج لهم أبو سفيان واصطحب معه القيان والمزاهر والخمر، وتوجه تلقاء المدينة، فلما علم الرسول بخروجهم استشار الصحابة، فأشار عليه الشبان بلقائهم خارج المدينة، وأشار الكبار بالبقاء في المدينة لحصانتها، فقبل الرسول الرأي الأول وسار يجمع المسلمين. وبينما هم في الطريق رجع المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بمن معه قائلا: إن محمدا قد عصانا واتبع الولدان. وكادت كلمة المسلمين أن تتفرق، وفي آيات سورة آل عمران (118-122) بيان الوضع الذي كان عليه المسلمون مع المنافقين، وهي قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط * وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم * إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون . ثم إن الرسول نزل شعب جبل أحد وعسكر على سفحه المقابل للمدينة والمتجه إلى بطن الوادي، وجعل الرماة في أعلاه ليحموا مؤخرة الجيش، وأوصاهم ألا يتركوا أمكنتهم سواء أكانت الغلبة للمسلمين أو عليهم، ثم عرض الجيش، ولما التحم القتال أظهر كل من الجانبين قوة وحزما، واتبع المسلمون أوامر الرسول فكان النصر في جانبهم. ولما رأى الرماة من على الجبل فوز إخوانهم المسلمين أهملوا الوصية التي أوصاها الرسول وتركوا منازلهم، وانكفئوا يجمعون الغنائم والأسلاب، فانتهز خالد بن الوليد، وكان على خيل المسلمين، فرصة خلو الجبل من الرماة، وأن المسلمين من خلفهم، أعمل الرماح في ظهورهم فشتت شملهم وتفرق جمعهم وجرح الرسول، وصاح ابن قميئة: ألا إن محمدا قد قتل. فانخذل المسلمون واستولى عليهم اليأس إلا نفرا أحاطوا بالرسول يحمونه ويتلقون السهام عنه، على أن خبر قتل الرسول وإن كان سببا في بلبلة جمع المسلمين، فإنه كان سببا في نجاته من أيدي المشركين؛ فقد انخدع جمعهم بذلك الخبر الكاذب، وفطن الرسول لذلك، فنهى كعب بن مالك من أن يصيح أن الرسول لم يمت. وقتل من جمع المسلمين ما يقارب السبعين شخصا، مثلت نساء قريش بقتلى المسلمين؛ ومنهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فإنها بقرت بطن حمزة وأرادت أكل كبده. ورجع المسلمون إلى المدينة، وقد أفادوا من هذا الانكسار فوائد جليلة، كما أنهم عرفوا كثيرا من المنافقين الذين كانوا يضمرون الكفر ويتظاهرون بدين الله. (4) وفي السنة الرابعة (4-1) سرية الرجيع
قدم على الرسول وفد من بني عضل والقارة، وقالوا له: يا رسول الله، إن فينا إسلاما وخيرا، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن. فبعث معهم ستة من أصحابه، فلما أتوا الرجيع - وهو ماء لهذيل بين مكة والطائف - غدروا بهم وأخذوا أسيافهم وقتلوهم. (4-2) سرية بئر معونة
قدم على الرسول أبو براء عامر بن مالك، فعرض عليه الإسلام فلم يسلم، وقال له: لو بعثت رجلا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام. فقال الرسول: «إني أخشى عليهم أهل نجد.» فقال أبو براء: أنا جار لهم فابعثهم فليدعوا الناس. فبعث الرسول المنذر بن عمرو في أربعين رجلا فساروا حتى بئر معونة، وبعثوا أحدهم بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وعدا على الرجل فقتله، ثم خرج بجماعة من قومه إلى المسلمين عند بئر معونة فقتلوهم عن آخرهم، وكان فيهم نفر من مشهوري القراء والحفاظ. (4-3) غزوة بني النضير وإجلاؤهم عن المدينة
اشتد تآمر بني النضير على الرسول وأصحابه، فعزم على حربهم، فحاصروا بيوتهم وآطامهم، فأحاط بهم المسلمون وألقى الله في قلوبهم الرعب، فسألوا الرسول أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن يأخذوا معهم ما تحمل الإبل من المال إلا الدروع، فأجابهم إلى ذلك، فخرج بعضهم إلى خيبر وبعضهم إلى الشام. (5) وفي السنة الخامسة (5-1) غزوة الأحزاب والخندق
لما أجلى الرسول اليهود عن المدينة ودخلوا خيبر، عزموا على الانتقام، فأخذوا يؤلبون العرب ويحزبون الأحزاب ضد النبي، ويبذلون في ذلك المال والنفوذ، وكانت قريش قد خرجت منتصرة من حرب أحد، فلما جاءها اليهود يدعونها لقتال النبي حبذت الفكرة، وبلغ ذلك محمدا وأصحابه فخرج للقائهم، وأمر بحفر خندق حول المدينة فحصنها. وأقبلت قريش والأحزاب من أعراب كنانة وتهامة فنزلوا جانب أحد، وخرج الرسول في ثلاثة آلاف وجعلوا ظهرهم إلى جبل سلع، وجعل النساء والأطفال في الآطام والخندق بينهم وبين المشركين، وجاء حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي يراوده في نقض ما بينه وبين الرسول من عهد، فنقض العهد، واشتد خوف المسلمين من نقض بني قريظة عهدهم وفشوا أمر المنافقين بينهم، وأقام الرسول والمشركون قريبا من شهر لا يكون بينهم إلا المراماة بالنبل والحصار، فلما اشتد الأمر على المسلمين بعث الرسول إلى زعيمي غطفان مسعر بن رخيلة وعيينة بن حصن يفاوضهما في قبول ثلث غلة المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فقبلا، وكتب نص المحالفة خلوا من أسماء الشهود؛ إذ لم يتم الصلح ولم يكن ذلك إلا للمراوضة. ثم إن الرسول تحدث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، وذكر لهما ما وصل إليه مع غطفان، فلم يوافقاه على عقد المحالفة، وعاد الموقف بين المسلمين والمشركين إلى ما كان عليه من قبل، واشتد البلاء على الجانبين، وفتك بهم الجوع والبرد، فلجأ الرسول إلى الخدعة، وأمر نعيم بن مسعود يخذل عن المسلمين؛ فإن الحرب خدعة، فذهب مسعود إلى بني قريظة وحذرهم إن هزمت قريش فنجت بنفسها تركتهم تحت رحمة محمد، ثم أشار عليهم ألا يطمئنوا إلى قريش إلا إذا أعطتهم رهائن من أشرافها. ثم ذهب إلى قريش وغطفان وأوهمهم أن بني قريظة قد ندموا على نقض العهد مع محمد، ثم طلبت قريظة الرهائن، فتأكد لقريش وغطفان قول نعيم، فتزعزع أمر المشركين، واضطرت قريش أن ترجع إلى مكة، ثم أحاط الرسول ببني قريظة فخارت قواهم وأيقنوا بالموت بما ارتكبوه من غدر وإجرام، فسألوا الرسول الصفح والعفو فأبى عليهم، وحاصرهم 25 يوما حتى نزلوا على حكمه، فحكم فيهم سعد بن معاذ، فأمر بقتل الرجال وسبي النساء وتقسيم الأموال، وكانوا قرابة 700 يهودي. (5-2) غزوة دومة الجندل
خرج الرسول فيها بألف رجل يريد جمعا من الأعراب بلغه أنهم يظلمون الناس قرب دومة الجندل على بعد خمس عشرة ليلة عن المدينة على طريق الشام، فلما دنت منهم جموع المسلمين هربوا، فتركوا ماشيتهم فاستاقها المسلمون ورجعوا سالمين. (5-3) غزوة بني المصطلق
وتسمى غزوة المريسيع. كان بنو المصطلق ينزلون قرب المريسيع، وهو ماء خزاعة، وكانوا قد ساعدوا قريشا يوم أحد، فقدم الرسول على حربهم وسار حتى وصل المريسيع، فترامى المسلمون والمشركون بالنبال، وحمل المسلمون على المشركين حملة شتتت شملهم، فهربوا وأسر عدد من الرجال والنساء، واستولوا على الماشية والمال، وكان في السبايا برة بنت الحارث سيد القوم، فتزوجها الرسول وسماها جويرية، وبسببها قال المسلمون: لا ينبغي إسراحها يا رسول الله. فأطلقوا الأسرى، وأسلم جميع بني المصطلق، وكان ذلك من حسن سياسة الرسول.
الفصل الثالث
في الأحداث السياسية والعسكرية منذ السنة السادسة للهجرة إلى
وفاة النبي
(1) في السنة السادسة
كان أجمل الأحداث العسكرية في هذه السنة غزوة الحديبية وبيعة الرضوان. والحديبية على مقربة من مكة، خرج إليها الرسول أول ذي القعدة في ألف وخمسمائة رجل، فلما وصلها بعث عثمان بن عفان رسولا ليعرفهم أن الرسول لم يأت إلا للزيارة والعمرة، فاحتبسته قريش عن الدخول إلى الكعبة، وشاع أن قريشا قتلت عثمان، فدعا الرسول الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت والشهادة في سبيل الله وألا يفروا. ثم خافت قريش، وجاء رسول من أهل مكة، وهو سهيل بن عمرو، فوادع النبي على صلح عشرة أعوام، وأن يرد الرسول من يأتيه من قريش مسلما بدون إذن وليه، وألا تلزم قريش برد من يأتي إليها من عند محمد، وأن من أحب الدخول في عهد محمد فليدخل، ومن أحب الدخول في عهد قريش فله ذلك، وأن يرجع الرسول هذا العام من غير عمرة، وأن يأتي في العام المقبل بعد أن تخرج منها قريش، ويقيم المسلمون بها ثلاثة أيام وليس معهم سلاح إلا السيوف في قرابها.
1
وقد صعب هذا الأمر على المسلمين وكبر عليهم أن يعودوا من غير اعتمار، وكاد الشيطان أن يفرق كلمة المسلمين؛ فإن الرسول لما أمرهم بالنحر لم يقم منهم أحد، ثم دخل على أم سلمة فشكى إليها ما لقي من المسلمين، فقالت له: يا نبي الله، اخرج ولا تكلم أحدا حتى تنحر بدنتك وتحلق. ففعل ما قالته، فقام الناس ففعلوا مثله، ثم عاتب المسلمين ورجع إلى المدينة، وانتهز هذه الفرصة لنشر الإسلام وتبليغ الرسالة والعمل على تنظيم شئون المدينة. وقد عد الزهري هذا الصلح فتحا عظيما للإسلام؛ إذ يقول: «فما فتح في الإسلام فتح قبله أعظم منه ... فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وآمن الناس كلهم بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه؛ فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر ...»
2
وفي هذه الغزوة نزل قوله تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
وقوله:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . وفي هذه الغزوة نزلت سورة الفتح فتسلى المسلمون بها بعد أن ضايقتهم شروط الصلح القاسية، وعلموا أنها إيذان بفتح مكة، وأنهم لا بد داخلوها آمنين محلقين. (1-1) مراسلة الملوك
بعد عودة الرسول إلى المدينة راسل الملوك في أنحاء العالم المتمدن، واتخذ خاتما من فضة نقشه «محمد رسول الله»، فكتب إلى قيصر الروم، ولأمير بصرى الشام، وأمير دمشق الحارث بن أبي شمر الغساني، والمقوقس صاحب مصر، والنجاشي صاحب الحبشة، وكسرى ملك الفرس، والمنذر بن ساوى هوذة بن علي ملك اليمامة، وجعيفر وعبد ابني الجلندي ملك عمان، فأسلم من أسلم، وكفر من كفر، ورد بعضهم ردا لطيفا، ورد بعضهم ردا قبيحا، وكان شرهم ملك الفرس؛ فقد مزق الكتاب استكبارا.
3 (2) وفي السنة السابعة
غزا الرسول خيبر، وهي مدينة ذات حصون ومزارع تبعد ثمانمائة بريد عن المدينة جهة الشام، وكانت حصونها ثلاثة، وسكانها بنو النضير الذين كانوا أعظم مهيج للأحزاب والقبائل ضد النبي يوم الخندق. وقد رأى الرسول أن بقاءهم في الجزيرة مما يفسد عليه أمره، فخرج إليهم في المحرم ومعه ألف وستمائة رجل، فلما أتاهم حاصرهم ستة أيام، ثم قال في الليلة السابعة: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويفتح على يديه المدينة.» فلما كان الصباح أعطاها عليا، فأبلى أحسن بلاء، وشدد الحصار حتى فتحها الله على يديه، وغنم المسلمون غنائم عظيمة، وطلب أهل فدك أن يصالحوا النبي ويساقوه بنصف الثمار ويخرجهم متى شاء، وأن يتركوا الأموال، وأن يحقن دماءهم، وجعلت موارد فدك للرسول خالصة من دون المؤمنين؛ لأنه فتحها بلا إيجاف. وانصرف الرسول بعد ذلك إلى وادي القرى وفتحه عنوة، ثم ذهب إلى المدينة فقدم نفر من المسلمين الذين كانوا في الحبشة وفيهم جعفر بن أبي طالب، فقال الرسول مرحبا به؛ ما أدري بأيهما أسر؛ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ وفي هذه السنة أمر الرسول أصحابه أن يعمروا عمرة القضاء قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها يوم الحديبية، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلما وصل مر الظهران على مرحلة من مكة وعلمت قريش بمقدمه، بعثت إليه من قال له: يا محمد، ما عرفت بالغدر صغيرا ولا كبيرا، وإنا لم نحدث حدثا ونحن على عهد معك. فأخبرهم أنه لا يريد إلا العمرة. ولما قرب المسلمون من مكة خرج المشركون إلى رءوس الجبال خشية أن يلتقوا بالمسلمين، فدخل الرسول مكة واعتمر ورجع إلى المدينة بعد أن أقام بمكة ثلاثة أيام. (3) وفي السنة الثامنة
كانت وقعة مؤتة، وهي من عمل البلقاء بالشام، وقد كان النبي بعث رسولا إلى أمير بصرى الشام، فلما وصل مؤتة قتله أهلها، فجهز النبي جيشا من ثلاثة آلاف رجل بإمارة زيد بن حارثة وقال لهم: «سيروا على بركة الله، فإن قتل زيد فالأمير جعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة.» ثم قال لهم إنهم سيجدون رجالا حبسوا أنفسهم في الصوامع فلا يتعرضوا لهم، ولا يقتلوا امرأة ولا صغيرا ولا شيخا فانيا، ولا يقطعوا شجرا. ثم سار زيد بالجيش حتى وصلوا مؤتة، فوجدوا الروم قد جمعوا لهم جموعا في مائة ألف مقاتل، فقاتلوهم وقتل زيد، فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فاحتضنها ثم قتل، فأخذها عبد الله فقتل، وعند ذلك اضطرب المسلمون وخافوا من الانكسار، فأمروا عليهم خالد بن الوليد، فقاتل حتى قتل من الأعداء مقتلة عظيمة، وأصاب من الغنائم الكثيرة، وأنقذ هذا الجيش الصغير من الوقوع بمخالب الروم الأشداء الكثيرين، ورجع إلى المدينة، فأثنى النبي عليه.
4 (3-1) فتح مكة
وفي تلك السنة أيضا فتح الله مكة، وذلك أن قريشا نقضت شروط صلح الحديبية؛ لأنهم أعانوا بني بكر التي دخلت في حلفهم على بني خزاعة التي دخلت في حلف مع الرسول، وذلك أن رجلا خزاعيا ضرب آخر بكريا؛ لأنه سمعه يسب الرسول، فقررت بكر محاربة خزاعة وطلبوا النجدة من قريش، فأعانتهم سرا، ثم دهموا خزاعة على حين غفلة فقتلوا منهم نحوا من عشرين رجلا، فلما خبروا الرسول بذلك قال: «لأمنعنكم مما أمنع منه نفسي.» ثم إن قريشا ندمت على ما فعلت حين لا ينفعها الندم، فأرسلوا أبا سفيان إلى المدينة ليجدد عهد الحديبية ويمدده، فأتى الرسول وهو في المسجد فقال له: «هل من حدث؟» فقال: لا. فقال الرسول: «فنحن على مدتنا وصلحنا.» ورجع أبو سفيان إلى المدينة فاشلا. أما الرسول فإنه تجهز للسفر إلى مكة في عشرة آلاف مجاهد من أهل المدينة وقبائل أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، وبينما كان في طريقه جاءه عمه العباس وأبو سفيان بن حرب فأسلما، وأكرمهما الرسول، ودخل الرسول مكة فطاف الكعبة سبعا، ثم أمر بإزالة الأصنام والتماثيل والأنصاب من الكعبة والمشاعر المقدسة والصور، ومنها صورتا إبراهيم وإسماعيل، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.» وأمن الرسول أهل مكة ونادى مناديه: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ...»
وكان فتح مكة من أكبر العوامل على إنجاح الدعوة الإسلامية لمكانة الكعبة لدى العرب أجمعين، فسارع كثير منهم إلى الدخول في الإسلام. ولما استقر الرسول في مكة جلس في المسجد الحرام والأبصار خاشعة إليه لترى ماذا سيفعل بمشركي قريش وأعداء الدين الذين آذوه وأخرجوه من بلده الحبيب، فخطب الناس وقال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض؛ فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم. أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب ... يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.» ثم أخذ الناس يتوافدون عليه مبايعين مسلمين، ومن أعيان من أسلم في ذلك اليوم معاوية وأبو قحافة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أبي أمية، والحارث بن هشام، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهند زوج أبي سفيان، وكعب بن زهير. (3-2) غزوة حنين
وفي تلك السنة سار الرسول قبل أن يرجع من فتح مكة ومعه عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان من أهل مكة يريد قبيلتي ثقيف وهوازن، ولما وصلوا حنينا سمع الرسول بعض المسلمين يقول : لن نغلب اليوم من قلة. وأعجب المسلمون من كثرة عددهم، فصعب ذلك على الرسول، ولما التقوا بعدوهم قابلهم بعدد كثير وحزم وقوة، فانهزم المسلمون، ولم يثبت مع الرسول إلا جماعة منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول، ثم نادى العباس الأنصار أن ينعطفوا إلى النبي، فتراجعوا وقاتلوا أشد قتال وأصدقه، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم يروها، وقتل من المشركين أكثر من سبعين وأسر منهم الكثير، وأخذ المسلمون نساءهم وذراريهم، وقتل من المسلمين أربعة. (3-3) غزوة الطائف
سار الرسول بمن معه بعد غزوة حنين إلى الطائف لطلب الفارين، فوجدهم قد تحصنوا فيها وتزودوا زادا كثيرا، فلما رأوا المسلمين نضحوهم بالنبال، وأصيب كثير من المسلمين ومات اثنا عشر رجلا، وبقي الحصار تسعة عشر يوما، فلم يفد ذلك شيئا، واضطر المسلمون إلى الرجوع عنهم، ومر النبي في رجوعه بالجعرانة حيث ترك سبي حنين، فأقام فيها ثلاثة عشر يوما، ثم أحرم بعمرة ودخل مكة ليلا، فطاف واستلم الحجر، ورجع بالجيش من ليلته إلى المدينة، وكان غيابه عنها هذه المرة شهرين وستة عشر يوما. (4) وفي السنة التاسعة
كانت سرية علي إلى طي: وقد أرسله الرسول في مائة وخمسين مقاتلا إلى طي، فقاتلهم وغنم سبيا وغنما وهدم الفلس؛ وهو صنم كبير لهم، وكان في السبي سفانة بنت حاتم الطائي، فأكرمها الرسول، فقالت له فيما قالت: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سببا لردها عليه ... وقدم عليه عدي بن حاتم فأسلم. (4-1) غزوة تبوك أو غزوة العسرة
سببها أن الرسول بلغه أن الروم قد جمعوا جموعا في الشام بزعامة هرقل يريدون غزو المسلمين في ديارهم، فجمع من عرب المدينة ومكة والقبائل العربية جموعا كبيرة، وطلب من الميسورين أن يجهزوا جيشا، فتبرع عثمان بعشرة آلاف دينار وثلاثمائة بعير وخمسين فرسا، وتبرع أبو بكر بكل ماله؛ وهو أربعة آلاف درهم ، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية، وجاء العباس وطلحة بمال كثير، وتبرع عاصم بن عدي بتسعين وسقا من التمر، وأرسل نساء المسلمين بكل ما قدرن عليه من حليهن، ولما تأهب الجيش للخروج قال نفر من المنافقين: لا تنفروا في الحر. فأنزل الله تعالى فيهم قوله:
وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ، وجاءه المعذرون من الأعراب يستأذنونه فأذن لهم، وقعد آخرون من المنافقين لأسباب واهية ورئيسهم عبد الله بن أبي، فنزل فيهم قوله تعالى:
وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ، واستأذن نفر من المنافقين في التخلف فأذن لهم، فنزلت الآية:
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين . وقد استخلف الرسول في هذه الغزوة عليا على أهله، ومحمد بن مسلمة على المدينة، ثم سار في ثلاثين ألفا، فلما وصل تبوك لم يجد أحدا، وقبل انصرافه من تبوك جاءه يوحنا صاحب أيلة ومعه أهل جرباء وأزرح وميناء من بلاد الشام، فصالحوه وأعطوه الجزية، وكتب لهم كتاب الأمان لهم ولأموالهم ما داموا على العهد، ثم استشار الرسول أصحابه في أن يجاوز تبوك، فقال عمر: إن كنت أمرت بالسير فسر. فقال الرسول: «لو أمرت لم أستشر.» ثم اتفق رأيهم على العودة بعد أن أقاموا في تبوك عشرين يوما، وبنى الرسول في طريقه عدة مساجد، ولما دنا من المدينة قال الرسول تطييبا لقلوب المعذرين: «إن في المدينة قوما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر.» ولما دخل المدينة سأله العباس أن يمدحه، فقال له: «قل ، لا يفضض الله فاك.» فقال قصيدته التي فيها:
وأنت لما ولدت أشرقت ال
أرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي ال
نور وسبل إرساله تخترق (4-2) وفود ثقيف
وفي هذه السنة أيضا وفدت ثقيف فأسلمت ورجعت إلى الطائف راضية مرضية. (5) وفي السنة العاشرة
كانت البعثة إلى اليمن؛ فقد أرسل الرسول إلى اليمن بعثة في ثلاثمائة فارس إلى قبيلة مذحج، وعلى رأسها الإمام علي، وقال له: «سر حتى تنزل في ساحتهم فادعهم إلى قول لا إله إلا الله، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة ولا تبغ منهم غير ذلك، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس، ولا تقاتلهم حتى يقاتلوك.» فسار علي حتى وصل إلى مذحج فدعاها إلى الإسلام فأبت فحمل عليها، ثم جاءه شيوخها فعرض عليهم الإسلام فأجابوه ثم قفل راجعا.
ثم بعث الرسول معاذ بن جبل إلى الكورة العليا من عدن، وأبا موسى الأشعري إلى الكورة السفلى منها، وأمرهما أن يدعوا الناس للإسلام وييسرا ولا يعسرا ويبشرا ولا ينفرا، وقال لمعاذ: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.» ثم انطلق كل منهما إلى عمله، فمكث معاذ باليمن إلى أن مات رسول الله، وسار أبو موسى وعاد فشهد حجة الوداع. (5-1) إسلام جمهرة العرب في هذه السنة
في هذه السنة جاءت إلى رسول الله وفود العرب من أقاصي الجزيرة تطلب الإسلام فاعتنقته، ودخل جماهير الناس في دين الله أفواجا بعد ما جاء النصر والفتح. (5-2) حجة الوداع
وفي هذه السنة أيضا حج الرسول حجة الوداع، فأتى مكة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وفي الثامن منه ذهب إلى منى، وفي التاسع توجه إلى عرفة، وفيها خطب خطبته المشهورة بخطبة الوداع وخطبة البلاغ التي فيها يقول: «الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأوصيكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم ولا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به هو عمي العباس بن عبد المطلب.
وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به هو دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية.
والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أما بعد: أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أما بعد: أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق، لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، استوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.»
قالوا: نعم.
قال: «فليبلغ الشاهد الغائب.» «أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل.
أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى.»
5
وقد بين في هذه الخطبة أصول الدين وفروعه. وفي هذا اليوم أنزل الله عليه
صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، ثم رجع الرسول إلى المدينة. (6) السنة الحادية عشرة (6-1) بعثة أبنى
لما رجع الرسول من حجة الوداع جهز حملة بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة إلى أبنى بالبلقاء ، بالقرب من مؤتة، حيث قتل زيد بن حارثة، وكان في الجيش بعض كبار صحابة الرسول كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص، وكان أسامة شابا لم يتجاوز السابعة عشرة، ولم يتم لهذه البعثة أن تسافر لمرض الرسول
صلى الله عليه وسلم
واشتداد وطأة المرض عليه. (6-2) مرض الرسول
لم يمض على حجة الوداع ثلاثة أشهر حتى مرض الرسول بالحمى، فلما اشتد المرض استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة، وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولما وجد في يوم بعض النشاط خرج متوكئا على علي والفضل، والعباس أمامهم والنبي معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس في أسفل مرقاة المنبر، ثم نهض فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس، بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي من قبلي فيمن بعث فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لاحقون بي، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وليوصي المهاجرين فيما بينهم؛ فإن الله يقول:
والعصر * إن الإنسان لفي خسر . وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله؛ فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد. ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلكم، أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي، ألا فإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علي فليكف يده ولسانه، إلا فيما ينبغي.»
ولما كان يوم الأحد اشتد الوجع عليه
صلى الله عليه وسلم ، ولما دخل يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول المتمم عشر سنين للهجرة، فارق الرسول الكريم هذه الدنيا الفانية واختار الرفيق الأعلى، وكان ذلك حين زاغت الشمس، وصادف ذلك يوم 8 حزيران من سنة 632 للميلاد ، وهو في الثالثة والستين من عمره.
ولما علم المسلمون بنبأ وفاة الرسول طاش حلمهم، ووقف عمر رافعا سيفه مهددا بالقتل من يقول بموت النبي، ولكنه ذهب كما ذهب موسى، وإنه ليرجعن. ثم أقبل أبو بكر وعمر يتكلم في الناس، فلم يلتفت إليه حتى دخل على الرسول وهو مغطى بثوبه، فكشف عنه وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وطبت ميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولو أن موتك كان اختيارا منك لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشئون، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وإدناف يتحالفان ولا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا السلام، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة. اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا.
ثم خرج إلى الناس وهم يموجون حزنا وعويلا، فخطب فيهم هذه الخطبة الحكيمة التي أرجعتهم إلى الصواب، وأثابتهم إلى رشدهم، حين قال: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وأشهد أن الكتاب كما نزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الدين هو الحق المبين. أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وإن الله قد تقدم إليكم في أمره، فلا تدعوه جزعا، وإن الله قد اختار لنبيه عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه، وسنة نبيه، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر. يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط، ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يفتننكم عن دينكم، فعاجلوه بالذي تعجزونه، ولا تستنظرونه فيلحق بكم.
6
ودفن الرسول يومي الثلاثاء والأربعاء، وصلى الناس عليه أفواجا: الرجال، والنساء، والأطفال، لا يؤمهم أحد. ودفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، ودفن في المكان الذي توفي فيه في جوف الليل، ودخل القبر عليه علي والعباس وولده الفضل وقثم ومولاه شقران، وهم الذين تولوا غسله وتكفينه وأمره كله، وحضرهم أوس بن خولي، ولم يكن شيئا سوى حمل الماء. وكان غسله في قميص من بئر يقال لها قوس ثلاث غسلات بماء وسدر، وجعل علي على يده خرقة وأدخلها تحت القميص، وحفر له أبو طلحة الأنصاري، ورش قبره الطاهر بالماء بلال مؤذنه، ووضع شقران في حفرته قطيفة نجرانية حمراء أصابها يوم خيبر، وكان رسول الله يلبسها ويفرشها، فطرحها تحته، وقال: لا يلبسها أحد بعدك. وبنى في قبره اللبن، يقال تسع لبنات، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.
7
ولما فرغوا من دفنه خرجت فاطمة فقالت لعلي: يا أبا الحسن، دفنتم رسول الله؟ قال: نعم. قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه، أليس كان نبي الرحمة؟ قال: نعم، ولكن لا مرد لأمر الله. فقعدت تندب على رسول الله وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، وا نبي الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنا جبريل، اللهم ألحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة. وأخذت تربة من تراب رسول الله فشمته وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها
صبت على الأيام صرن لياليا
ومما قالته عائشة في ذلك اليوم: يا من لم يشبع من خبز الشعير، يا من اختار الحصير على السرير، يا من لم ينم الليل كله من خوف السعير.
ومما قالته صفية بنت عبد المطلب:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا
وكنت بنا برا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما
ليبك عليك اليوم من كان باكيا
كأن على قلبي بذكر محمد
وما خفت من بعد النبي المكاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي
وعمي وآبائي ونفسي وماليا
فلو أن رب العرش أبقى نبينا
سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده
ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
أفاطم صلى الله رب محمد
على جدث أمسى بيثرب ثاويا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا
ومت صليب العود أبلج صافيا
عليك من الله السلام تحية ...
وأدخلت جنات من العدن راضيا
8
الفصل الرابع
في شعائر الإسلام وأحكامه
كملت شعائر الإسلام خلال السنوات العشر التي قضاها الرسول الكريم في دار الهجرة؛ فقد شرع منذ وصوله إليها في إقامة مسجده للقيام بشعائر الإسلام وتعليم المسلمين آداب الدين وتعاليمه، والقضاء بينهم فيما يقع بينهم من المشكلات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، والمشاورة في كل أمر يحزب بالمسلمين ويتعلق بجماعتهم، أو استقبال الوفود والرسل الذين يفدون على النبي ممثلين بلادهم أو مستنيرين بالهدي المحمدي، وفيما يلي بيان أجل شعائر الإسلام: (1) الأذان
أول شعيرة دينية نظمها الرسول في المدينة هي الأذان؛ فقد كان المسلمون يجتمعون للصلاة لا يناديهم إليه أحد، هم أنفسهم يعرفون المواعيد، ولكن لما كثروا وكثرت مشاكلهم تكلموا يوما في حضرة الرسول في اتخاذ وسيلة لجمع المسلمين للصلاة، فاقترح بعضهم اتخاذ ناقوس النصارى، وقال الآخرون باتخاذ بوق - قرن - اليهود. ولكن لم يعجب الرسول هذان الاقتراحان، فقال لبلال، وكان حسن الصوت جهوريا: قم فناد بالناس للصلاة. فكان بلال ينادي بالناس: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة. وكان يصعد أطول بيت في المدينة فينادي الناس بذلك، إلى أن بني المسجد النبوي فصار ينادي من فوقه.
1
وقد اختلف الفقهاء والمؤرخون في الأذان المعروف كيف وجد؛ فقال بعضهم: إنما جاء به الوحي إلى النبي. وقال آخرون: بل جاءت به رؤيا رآها عبد الله بن زيد بن ثعلبة الأنصاري؛ فقد رووا أنه: بينما كان بين اليقظان والنائم إذ رأى شخصا يلقنه الأذان، فحفظه وأتى الرسول وقص عليه الخبر، فقال له: إنها لرؤيا حق، ولقن ذلك بلالا. فلما سمعه عمر ثاني يوم، قدم إلى النبي وهو يقول: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله.
2 (2) تحويل القبلة
كان الرسول يجعل قبلته منذ الإسلام إلى بيت المقدس، ولكنه كان يجعل الكعبة بينه وبين المقدس، وكان كثيرا ما يقلب نظره في السماء ينتظر الوحي من عند ربه بتحويل القبلة إلى الكعبة. وقد ظل الرسول يصلي إلى بيت المقدس حتى شعبان من السنة الثانية للهجرة، واليهود يجادلونه بما يعلمون وما لا يعلمون، ويفتنون المسلمين ويتخذون من مسألة القبلة والتوجه إلى البيت المقدس وسيلة للمحاجة أو سبيلا لإقناع الرسول في مماشاتهم في دينهم، فلعله يفعل وتصبح الجزيرة العربية كلها جزيرة يهودية؛ نظرا لما كانوا يرونه من النبي من المداراة أول الأمر، فلما خابت أمانيهم ونزل قوله تعالى:
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (سورة البقرة: آية 114)، فتحول الرسول عن بيت المقدس إلى الكعبة، واطمأنت قلوب العرب بذلك، وانشرحت صدورهم لما للكعبة المقدسة في نفوسهم من مكانة في جاهليتهم وإسلاميتهم، وكل ذلك كان خذلا لليهود وتهوينا من شأنهم. (3) الصلاة
كانت شرائط الصلاة وأوقاتها وأنواعها وأحكامها مقررة مفصلة في العهد المكي، ولم يحدث في العهد المدني تشريع للصلاة سوى ما كان متعلقا بصلاتي الجمعة والخوف. أما الصلاة الجمعية فلم يعرف أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يصليها في مكة، بل إنه أول ما صلاها في المدينة كما تؤيد لك آيات سورة الجمعة، المدنية (7-9):
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، على أن بعض الروايات والآثار تذكر أن الرسول كان يصلي بالمسلمين صلاة الجمعة في مكة منذ عهد مبكر، وأن الأنصار كانوا يجمعون قبل ذهاب الرسول إليهم. وأما صلاة الخوف فقد شرعت حين أذن الله بالقتال بعد الهجرة، قال تعالى:
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم (سورة النساء: 101-102). (4) التطهير للصلاة
روى الفقهاء والمفسرون أن المسلمين كانوا يتطهرون من الحدثين الأصغر والأكبر للصلاة منذ العهد المكي، ولكن الآيات القرآنية المتضمنة لذلك هي آيتان مدنيتان في «سورة النساء (43)، وفي سورة المائدة (6)»، قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ، وقال:
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا . (5) الصوم
فرض الله الصوم على المسلمين في السنين الأولى من العهد المدني، والمشهور أنه فرض بعد تحويل القبلة بشهر؛ أي في الثالث من السنة الثالثة للهجرة، وقد تضمنت آيات سورة البقرة (183-187) بعض أحكامه، حيث يقول الله سبحانه:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . (6) الحج
هو من أقدم الشعائر التي كان العرب والمسلمون يفعلونها في الجاهلية والعهد المكي، وقد تضمن العهد المدني بيان المناسك وكيفية الأداء وكيفية الاعتمار والطواف، وغير ذلك من الآداب. انظر آيات سورة البقرة (158، 189، 196-203) وسورة آل عمران (96-97)، وسورة المائدة (1-2، 94، 97)، وسورة الحج (25-37)، وهي كلها آيات مدنية بين فيها سبحانه آداب الحج وكيفيته وأحكامه وطقوسه. (7) الزكاة
كانت الزكاة مشروعة منذ العهد المكي، ولكن مواردها ومصارفها لم تنظم إلا في العهد المدني؛ فقد كانت الزكاة في العهد المكي نوعا من الصدقة يعطيه المرء إلى الفقراء إحسانا إليهم وتطهيرا لماله، أما في هذا العهد فقد أضحت ضريبة رسمية يجب إعطاؤها ودفعها لتنظيم الدولة الجديدة، التي هي وحدها تعرف المصارف الواجب إنفاق ذلك المال فيها. قال تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (سورة التوبة: آية 60). (8) الأنفال
النفل والغنيمة هو ما ينفله الله على المسلمين من أموال أهل الحرب بعد هزيمتهم، والفيء هو ما يفيئه الله على المسلمين من أموال صلح المقاتلين. وقد اختلف المسلمون في الأنفال التي ساقها الله تعالى إلى المسلمين في غزوة بدر، فقد ادعاها الذين أخذوها، وادعاها المقاتلون ومن أحاطوا بالرسول يحرسونه خشية قتله، وتضاربت أقوال المسلمين في ذلك حتى نزل قوله تعالى:
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (سورة الأنفال: الآية الأولى). ولقد قسمه الرسول أربعة أخماس الأنفال في المحاربين، وجعل الخمس الباقي للرسول وذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
3 (9) الإرث والوصية وأموال اليتامى
أنزل الله في الآيات المدنية المبكرة أحكام الوصايا والمواريث للحاجة الملحة إلى معرفة أحكام الله في هذه الأمور الهامة؛ فقد كانوا في الجاهلية يخبطون خبط عشواء، ويحكمون أحكاما عجيبة في تقسيم المواريث، وأحوال الوصايا، وأموال اليتامى، وكانوا يقسمون أموال الميت تقسيمات غريبة، ولم يتح للإسلام في عهده المكي أن يهتم بهذا الأمر الحيوي، فلما انتظمت أمور الدولة في العهد المدني نظمها، وفي آيات سورة البقرة (180-182) وسورة النساء (7، 8، 12، 32، 33، 127، 176) تفصيل دقيق للأحكام الشرعية المتعلقة بهذه القضايا وبالقضايا المالية الأخرى. (10) الجهاد
ليس في القرآن المكي شيء ذو غناء يتعلق بالجهاد وأحكامه، وجميع الآيات الواردة في الجهاد وتشريعاته ووقائعه هي آيات مدنية، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه ملائم لروح الحركة الإسلامية؛ فقد كانت في مكة ضعيفة ساذجة تحاول أن تتقوى وتقوم على رجليها، فلما أتيح لها ذلك في العهد المدني أمر الرسول بالجهاد وجعله شعيرة من شعائر الدين. ولما بايع الرسول الأنصار بايعهم على الجهاد والاستماتة في سبيل الله ونشر الدين الحنيف. والآيات القرآنية المدنية التي تحض على الجهاد والاستماتة في سبيل ذلك قد شغلت أكبر حيز في القرآن، وما ذلك إلا لأهميتها وارتكاز الحركة عليها، وجعله فرضا على كل مسلم قادر في بدنه وماله وعقله.
الباب الثالث
في أهل الكتاب والمنافقين في العهد المدني
مقدمة
أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وقد كان لهم ذكر كثير في العهد المدني، سواء في معاونتهم للحركة المحمدية أو معاكستها، وقد كان لهم بعض الأثر في العهد المكي أيضا، سواء من كان منهم من العرب أو من غير العرب، فقد عرف الحجازيون أهل الكتاب من يهود ونصارى في بلادهم، وعرفوا خارجها في رحلاتهم إلى الشام واليمن والحبشة وبلاد الروم ومصر، وقد رأينا بعض ذلك في الفصول السابقة مما له علاقة بالعهد المكي، ونريد في هذا الباب أن نبين تأثيرهم على الدعوة الإسلامية في العهد المدني، سواء أكانوا يهودا أو نصارى أو منافقين.
الفصل الأول
اليهود
نزل اليهود الشام والحجاز منذ عهد بعيد، وكان لهم أثر بارز في النواحي التجارية والاجتماعية والدينية في تلك النواحي، كما كان لهم تأثير كبير في العرب قبل الإسلام للقرابة الإسماعيلية التي تجمع بينهم، وللدين الإلهي والكتاب المقدس الذي عندهم. وقد كان العرب في جاهلية وسذاجة يسترشدون بما عند أهل الكتاب من علم وحكمة، ويفيدون بما يسمعون من أقوال حكمائهم وعقلاء أحبارهم.
وكان العرب يحترمون عقلاء اليهود ويقدرونهم، ويجلون كبار رجالاتهم من أهل المال والدين والكهانة. وقد استغل اليهود هذا التقدير والاحترام، فسيطروا على التجارة العربية، ورسخت أقدامهم في كل ناحية من نواحي ديار العرب، وفي القرآن الكريم آثار وشواهد تؤيد هذا.
وقد كان اليهود يبشرون بمبعث نبي عربي، ويستفتحون به على العرب، فلما بعث الله محمدا اطمأنت قلوب اليهود وجلت مكانتهم لتحقق نبوءتهم من جهة، ولاستشهاد النبي
صلى الله عليه وسلم
بهم في كثير من الأمور التي كانت قريش تعاكسه فيها. ولما دخل النبي إلى المدينة، وكانوا ذوي سلطان فيها، كتب لهم عهدا، وحالفهم والعرب، وأمنهم على طقوسهم الدينية، ومعاهدهم المقدسة، وحقوقهم المشروعة، مشترطا عليهم أن يحفظوا للجوار حقوقه، فلا يغدروا، ولا يفجروا، ولا يتجسسوا، ولا يعينوا عدوا، ولا يمدوا الأعداء، ولا يبدءوا المسلمين بأذى. وقد رحب اليهود بالنبي أول مقدمه إلى المدينة، ولكن شياطينهم ومفسديهم أخذوا يتآمرون عليه ويستهزئون به، ويخذلون دعوته، وينقضون عهده الذي عاهدوه عليه، وأخذوا يلبسون الحق بالباطل. فأنزل الله سبحانه على رسوله فيما أنزل قوله:
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (سورة البقرة: آية 40-42).
ويظهر أن اليهود - والنصارى أيضا - إنما جاروا محمدا أول الأمر ظنا منهم أنه سيجنح إليهم، ويتبع ملتهم، أو يهادنهم على الدوام، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة:
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم (سورة البقرة: آية 120).
ولكن الرسول لم يفعل شيئا يحلمون به، بل أخذ يدعوهم إلى الدخول في دعوته الجديدة، فثارت ثائرتهم، وبخاصة حين سمعوا قوله تعالى:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (سورة المائدة: آية 19)، ولما لم يدخلوا في دين الله ولم يأبهوا لإنذار الرسول وتبشيره، أنزل الله سبحانه فيهم آيات العتاب واللوم، والتحذير والوعيد، حيث يقول سبحانه:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (سورة البقرة: آية 44).
ولعل أخطر دور قام به هؤلاء الناس هو أنهم شجعوا أهل الحجاز وغيرهم من العرب على النفاق والتظاهر بالدخول في الإسلام مع الكيد له في الباطن، وقد لقي رسول الله وصحابته من هؤلاء المنافقين - من اليهود والعرب على حد سواء - عنتا كبيرا، وعناء كثيرا، ولما ضاق ذرع النبي الكريم بهم وبفسادهم، أخذ يهددهم، ويذكر عوارهم ويبين سوء مصيرهم إن هم بقوا على هذا الضلال المبين، وفي ذلك نزلت الآية:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب (سورة الأعراف: آية 167)، والآية الأخرى:
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة (سورة آل عمران: آية 112).
ولما يئس الرسول منهم وعرف أن إيمان من آمن من بينهم إن هو إلا كذب ونفاق، دعا الله سبحانه أن يكشف أمرهم ويبين للناس سوء حالهم، فاستجاب له ونزلت آيات:
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون * وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (سورة البقرة: آية 75-80). ولما رأى اليهود موقف النبي منهم أخذوا يحاجونه ويحاولون إثارة الشبه في قلوب المسلمين، ويزعمون أنهم وحدهم على الحق، وأن الجنة لهم وحدهم، وأن اليهودية هي دين الله الذي أوحاه إلى أبيهم إبراهيم - عليه السلام - وأن الأنبياء هم من بني إسرائيل وحدهم و... وقد فند القرآن الكريم كل هذه الأقوال الباطلة، وأبان أن اليهود قد ضلوا عن دين إبراهيم حين قالوا إن عزيرا هو ابن الله سبحانه، وحين حرفوا الكتاب المقدس، وضلوا عما كان عليه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. والحق أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، وأن النبوة فضل من الله سبحانه يمنحها من يشاء من عباده، ويخص بفضله من يشاء، وأنهم يعرفون ذلك كله، ولكنهم يكتمونه، وأن مثلهم في ذلك كمثل الحمار الذي لا ينتفع بما يحمل من أسفار العلم والهدى ... فلما سمع اليهود تلك الأقوال طاش صوابهم، وضلت أحلامهم، وأخذوا يهاجمون النبي وشخصه، ويسخرون منه ومن صحابته أشد السخرية، وقوي الخصام بين الجانبين، وفي القرآن آيات كثيرة تبين لنا ذلك وترد على بني إسرائيل أقطع رد.
أما الأمور التي اشتد الحجاج حولها بين اليهود والنبي فهي: غرور اليهود بدينهم، وتبجحهم بأنهم وحدهم على الحق، ومن عداهم من الناس في ضلال وجهل وكفر، وأن دين الله هو دينهم وحدهم، وأن الأنبياء هم منهم لا من غيرهم، وأنهم يستنكرون تحويل القبلة عن البيت المقدس إلى الكعبة، وما إلى ذلك من الأمور التي جرت على خلاف ما يريدون، كبعض قضايا الحج، وشئون الكعبة، وأحوال جبريل، ومباحث الوحي ...
وقد كانت لليهود دسائس فظيعة حاولت دك صرح الإسلام، والتآمر على المسلمين، وقد تجلت هذه الدسائس على أشكال متعددة: منها إيقاعهم الفتنة بين المسلمين أنفسهم، وإلباسهم الحق بالباطل، وكتمان الحق وهم يعلمونه، وقد أشارت سورة البقرة إلى ذلك (آيات 41-45).
ومنها التظاهر باعتناق الإسلام، وإبطان الدس عليه، والكيد له والعمل سرا على تقويض عرى الدين الجديد ومعاونة المنافقين من ضعفاء الدين، وتشجيعهم على أعمالهم الباطلة، وقد أشارت إلى ذلك بعض آيات سورة البقرة (اقرأ الآيات 75-76، و172-176)، وسورة آل عمران (اقرأ الآيات 69-73).
ومنها التدليس على المسلمين، واختراع الأباطيل والأكاذيب ونسبتها إلى دين الله سبحانه، وإلصاق ذلك بالمسلمين، وأنهم يصدقون بتلك الأكاذيب. وقد كذب القرآن ذلك كله، وأشار إليه في الآيات (77-78) من سورة آل عمران ...
ومنها صد الناس عن الدخول في الدين، ومنعهم من إعلان إيمانهم بالرسالة المحمدية، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد وضحت ذلك آيات سورة آل عمران (98-100)، وسورة التوبة (آيات 32-34).
ولما ضاق الرسول الكريم بهم وبدسائسهم ونقضهم العهد، نكل بهم، ثم أمر بإجلائهم عن المدينة المنورة وما حولها من القرى، كما رأينا تفصيل ذلك في الباب الماضي.
الفصل الثاني
النصارى
كان في الحجاز خاصة والجزيرة العربية عامة كثير من النصارى من غير العرب أو العرب، وكانت صلتهم بالعرب من غير النصارى حسنة في الغالب، وعلى الرغم من أن القرآن حمل عليهم لبعض مواقفهم العدائية معه واعتقاداتهم الباطلة، فإنه كثيرا ما كان يثني عليهم لأخلاقهم الطيبة وحسن معاملتهم للمسلمين، وخلوصهم من الكيد والدس والحقد الذي يغلي في قلوب اليهود والمتهودين من العرب.
إن في القرآن والأحاديث المنقولة عن النبي وعن كبار الصحابة آيات وأحاديث كثيرة تبين أحوال النصارى في عهد النبي، ويمكننا إجمالها في المواقف الآتية: (1) موقف التحبب والموادعة
وبخاصة في أول أمر الدعوة الإسلامية، وحين هاجر المسلمون إلى الحبشة النصرانية، فأكرم النجاشي وفادتهم وسمع بعض آيات القرآن الحكيم واطمأنت إليها نفسه، وآمن نفر من حاشيته وبطانته. ويتجلى لنا هذا الأمر في قوله تعالى من سورة المائدة (آيات 82-86):
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم . (2) موقف المناظرة والنقاش
على أن موقف التحبب والموادعة لم يدم طويلا، فإن قسما من النصارى قد حادوا عن الطريق السوي، إما بالنسبة إلى النصرانية نفسها، وإما بالنسبة إلى الإسلام، فاضطر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى محاجتهم ومناقشتهم، وفي آيات سورة النساء بيان شيء من ذلك:
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (سورة النساء: آيات 171-173). (3) موقف التهجم
بعد أن وقف الإسلام موقف المناظرة والنقاش الذي رأيت، ورأى سوء طوية القوم، عمد إلى موقف جديد، وعمدوا إلى التهجم عليهم وإفساد باطلهم لبعدهم عن الدين، وروحه القويمة، واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، قال تعالى:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (سورة التوبة: آية 31-34). (4) موقف الدعوة إلى الإسلام
ولما أن رأى الرسول بعد النصارى عن الدين الحقيقي، وتخبطهم في مذاهبهم وناظرهم فبين لهم ضلالهم، وتغييرهم للدين الإلهي السماوي، أخذ يدعوهم إلى حظيرة الإسلام، الذي يؤمن بجوهر دينهم؛ فآمن من آمن، وكفر من كفر، وإن أهم مواقف الهول في دعوة النصارى إلى الإسلام هو ما كان بينه وبين وفد نصارى نجران الذين قدموا عليه من اليمن في الربيع الأول من سني الهجرة، وكان وفدهم هذا مؤلفا من ستين رجلا، فيهم وجوه القوم وأحبارهم وعلماؤهم، فلما اجتمعوا بالرسول، وجرت بينه وبينهم مناظرة مطولة في مولد عيسى - عليه السلام - وحقيقة صلته بالخالق سبحانه، وفي رسالته، ودعاهم الرسول إلى الإسلام فلم يجيبوه، زاعمين أنهم على الحق فيما يعتقدون؛ طلب إليهم المباهلة بأن تكون لعنة الله على الكاذب الضال من أي الجانبين، فلم يجيبوه أيضا إلى هذا، ووادعوه وانصرفوا راجعين إلى ديارهم. وفي سورة آل عمران تفصيل هذه القصة، وإليك بعض ما ورد فيها:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين * قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (سورة آل عمران: آيات 59-64).
ولكن على الرغم من هذه المحاجة والدعوة الحكيمة، فإنهم ظلوا في عنادهم وكفرهم، ولكنهم اضطروا أن يوادعوه
صلى الله عليه وسلم
ويرجعوا إلى بلادهم منخذلين، على الرغم من حرص النبي على المباهلة. والدعوة إلى تنزيه عيسى بن مريم عما يعتقده النصارى فيه من الباطل؛ فما عيسى بن مريم إلا عبد الله ونبيه، آتاه الله الإنجيل فيه رحمة ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (راجع سورة المائدة، آية 46).
وكان موقف نصارى الجزيرة العربية ونصارى الشام من الدعوة الإسلامية مختلفا؛ فنصارى الجزيرة كانوا دمثي الأخلاق ليني الجانب، أما نصارى الشام فقد كانوا عنيفين في خصوماتهم شديدين في تهجمهم، حتى إنهم قتلوا بعض رسل النبي
صلى الله عليه وسلم
ودعاته، فاضطر إلى أن يغزوهم أو يبعث إليهم بعض السرايا المقاتلة، كسرية دومة الجندل وغزوة مؤتة اللتين فصلنا أمرهما فيما سلف. وقد أشرنا إلى ما لقي المسلمون فيهما من عنف نصارى الشام، وقد نزلت آيات كريمة تحض النبي على مقاتلتهم، كقوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ...
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (سورة التوبة: الآيتان 29 و34).
الفصل الثالث
المنافقون
النفاق هو أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، وقد استعملت هذه اللفظة في الآيات المكية كما في آيات سورة الحج (11-13) و(سورة العنكبوت 11-13) ... وهذا يدل على أن المنافقين كانوا موجودين منذ العهد المكي، ولكنهم لم يكثروا إلا بعد أن هاجر النبي إلى المدينة وقوي أمره، فاضطر بعض الناس إلى إظهار الإسلام وإبطان غيره؛ إما لضعف نفوسهم أو لسوء طويتهم، وإما للعمل على تهديم الدين وإدخال القلق والاضطراب إلى نفوس أصحابه، وإما حسدا للنبي وكبار رجال دعوته. ولم يكن الرسول وكبار صحابته يجهلون أمر هؤلاء المنافقين، بل إن بعض مواقفهم كانت تكشف للملأ، وفي القرآن الكريم والسور المدنية بصورة خاصة تفصيل أخبارهم وكشف لعوارهم. وقد كان لهؤلاء المنافقين مواقف أتعبت النبي
صلى الله عليه وسلم
وآذت الإسلام، وخصوصا في السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية في مكة، والسنوات الأولى في المدينة بعد الهجرة. وقد تعاون هؤلاء المنافقون مع المشركين من أهل مكة وأهل المدينة، وتربصوا الدوائر بالنبي وصحابته، وكادوا لهم الشر كيدا، ودسوا عليهم أقبح الدسائس.
ويمكننا إجمال ما ورد عن المنافقين في القرآن والسنة بالنقاط الأربع الآتية: (1) أحوالهم وصفاتهم
وصفهم القرآن بأنهم قوم في قلوبهم مرض، أضلهم الله فكفروا بقلوبهم وإن أظهرت ألسنتهم الإسلام:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون * وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (البقرة 8-13)، ويقول تعالى عنهم:
وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (سورة النساء: 142-143).
وقد كان الرسول يعرفهم وينظر إليهم نظرته إلى الكافرين، وهم أنفسهم ما كانوا يخفون ذلك؛ فإن أعمالهم في التخلف في الجهاد مع المسلمين، وفي نصرة الضعفاء والإحسان إلى من يستحقون الإحسان، وامتناعهم عن أداء شعائر الإسلام، لتكشف عنهم. (2) إضرارهم بالإسلام وأهله
في القرآن والسنة كثير مما قام به المنافقون، فإنهم لم يتورعوا عن القيام بأفظع الإجرام والإساءة إلى المسلمين، وكانوا إذا ما عوتبوا على ذلك اعتبروا ذلك إهانة لهم، فإذا انكشفت حقيقة إجرامهم اعتذروا بالجهل، وإذا لم تنكشف اتخذوا ذلك وسيلة إلى الإيغال في الفساد ونشر الرعب والفتنة بين صفوف المسلمين، وسعوا في الأرض فسادا:
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (البقرة 204-206)،
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (التوبة 56-57).
وقد كان لتخلفهم عن نصرة إخوانهم المسلمين الذاهبين إلى جهاد العدو يوم تبوك ومؤتة والأحزاب أثر كبير في بلبلة أفكارهم وإثارة الرعب في قلوبهم، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وأعز جنده وهزم الباطل وحده. (3) استهزاؤهم بالإسلام وأهله
أكثر المنافقون من الكيد للإسلام والنبي والمسلمين في الخفاء، واستهزءوا بالإسلام ونبيه في العلن، واتهموا النبي تهما باطلة؛ فزعموا أنه محاب في توزيعه الصدقات، كما اتهموا زوجات النبي تهما لا أصل لها، ونشروا الشوائع الباطلة عن المسلمين، وأرجفوا في حق أهل البيت وكبار رجال الإسلام وهم برآء:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (التوبة: 58)، و
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا * يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما * لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (الأحزاب: 57-61)، و
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (التوبة: 79). (4) تثبيطهم عزائم المسلمين عن الجهاد
ورد في القرآن الكريم وأخبار السيرة النبوية أن لهؤلاء المنافقين مواقف كثيرة في تثبيط عزائم المسلمين وتخويفهم من الذهاب لقتال العدو:
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا (آل عمران: 156)،
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (آل عمران: 168)، و
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (الأحزاب: 12-20).
وقد نجح هؤلاء المنافقون في إدخال الرعب إلى قلوب المؤمنين يوم الأحزاب كما قدمنا ذلك، وقد تعرض المؤمنون في هذه الغزوة لأذى شديد ، وكاد أن يتضعضع الإسلام لولا ثبات النبي وبعض صحابته.
الباب الرابع
الفصل الأول
في مبادئ الإسلام
الإسلام في اللغة: الطاعة والانقياد والمسالمة والمتابعة، ويطلق في الاصطلاح على استسلام المرء إلى الله، وانقياده لأوامره، واجتناب نواهيه، ومتابعته لما جاء به النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
خاتم النبيين. وليس في الإسلام بدع لم يكن معروفا من قبل، فأركانه الخمسة مقررة جاء بها الأنبياء والرسل قبل، لكن الشيء الجديد الذي جاء به الرسول العربي هو تعميم الرسالة المحمدية لأهل الكون جميعه تحت راية واحدة هي راية الدين الإسلامي. نعم إن الإسلام هو تجديد للنبوات السماوية القديمة وتقويم لما حرفه الناس من ديانات السماء التي أوحاها الله إلى رسله، فأحيت قلوبهم وقومت اعوجاجهم، حتى بعث الله محمد بن عبد الله العربي القريشي الأمي بدينه الجديد لإصلاح ما أفسد الناس من ديانات الأنبياء الأقدمين الذين قص علينا أمرهم في القرآن الكريم أو لم يقصص، قال تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير .
وللإسلام أركان وقواعد، أما الأركان فخمسة؛ وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام. وأما القاعدة الأساسية التي يقوم عليها بنيانه قد بينها الله في قوله:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم * صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون * قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون .
هذه هي القاعدة الأساسية التي بني عليها الإسلام، وهي كما نرى قاعدة تعتمد على أن الإسلام هو الدين الأول الذي بعث به الله أنبياءه ثم حرفه الضالون من بعد، فجاء محمد به خالصا من الشوائب، ورسالة سيدنا محمد هي رسالة عامة للبشر أبيضهم وأصفرهم وأسودهم وأحمرهم، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولا امتيازات لعنصر على عنصر ولا لجماعة على جماعة إلا بالصلاح، وأن الإنسان أخو الإنسان والبشر كلهم أبناء أسرة واحدة، وأنها ما صارت قبائل وشعوبا للتخاصم والتشاجر، بل للتعارف والتراحم:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
وللإسلام شعائر وطقوس تعبدية من حج وصلاة وصوم وزكاة وغير ذلك، ولكل منها حكمة ومزايا يفهمها أهل العلم والزكانة، كما أن للإسلام مبادئ يمكننا إجمالها في النقاط التالية: (1)
الاعتقاد بوجود الله وحده، لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وهو خالق لكل شيء عالم بكل شيء، يحيي ويميت، قديم باق، قادر قوي، سميع بصير، منتقم، حكيم في أفعاله، عادل في قضائه. (2)
وجوب تحكيم العقل ودراسة الكون والتفكر في آثار الله للوصول إلى الإيمان الصحيح؛ فإن المقلد الجاهل بعيد كل البعد عن روح الإسلام والإيمان الكامل. (3)
تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ فقد قال الإمام محمد عبده: اتفق أهل مكة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ننظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما يدل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان؛ الطريق الأولى: هي طريق التسليم لصحة المنقول من الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في فهمه. والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
1 (4)
لا سلطان على مسلم إلا سلطان الله والعقل الصحيح والعلم الثابت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا وسطاء بينه وبين الله، والمسلم عبد الله فقط، حر من كل عبودية لما سوى الله سبحانه. (5)
العمل واجب لكل قادر عليه، وأن لكل نفس
ما كسبت وعليها ما اكتسبت ،
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وأباحه لكل واحد. (6)
أباح الإسلام لمعتنقيه كل شيء طيب خالص نافع للإنسان من مشرب ومطعم وملبس، كما أباح له أن يتناول من الطيبات ما شاء أكلا وشربا ولباسا وزينة، ولم يحظر عليه إلا ما كان ضارا بنفسه، أو بمن يدخل ولايته، أو ما تعدى ضرره إلى غيره.
2 (7)
عبادات الإسلام كلها تتفق مع ما يليق بجلال الله وسمو وجوده عن الأشباه والنظائر، ويلتئم مع المعروف عند العقول السليمة؛ فالصلاة ركوع وسجود ودعاء وتضرع، والصوم حرمان يعظم به أمر الله في النفس، وتعرف به مقادير النعم عند فقدها ومكانة الإحسان الإلهي في التفضل بها، والحج تذكير للإنسان بأوليات حاجاته، وتعهد له بتمثيل المساواة بين أفراده ولو مرة في العمر يرتفع فيها الامتياز بين الغني والفقير والصعلوك والأمير،
3
والزكاة تطهير للمال بالإحسان إلى الفقراء والإنعام على المعوزين. (8)
واجب على المسلم تدارس القرآن وطلب العلم من ديني ودنيوي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (9)
واجب على المسلم عمل الخير والإحسان، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . (10)
إن للنيات والأعمال الباطنة الخفية ما للأعمال المكشوفة من ثواب وعقاب، فيجب على المسلم أن يحسن سريرته كما يحسن ظاهره: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.» (11)
إن المسلم محاسب على أعماله كلها إن خيرا أو شرا، وإنه مبعوث بعد موته لهذا الحساب، وليس ذلك على قدرة الله بعزيز. (12)
القرآن هو كتاب الإسلام، وفيه قواعده وأسسه وتعاليمه، وهي قواعد تختص بالعبادات والمعاملات والتشريع والأخلاق والواجبات، وليست هذه القواعد قواعد مفصلة، ولكنها أصول أولية وقواعد كلية ترك فيها الشارع الجزئيات لاجتهاد الفقهاء والمجتهدين، يستنبطونها منه بحسب مستواهم العلمي والفكري ومقتضيات ظروفهم الحيوية. (13)
وجوب اتباع ما أمر به النبي
صلى الله عليه وسلم
وما نقله الثقات عنه مما يتعلق بمسائل الدين. أما مسائل الدنيا، فالناس أعلم بمصالح دنياهم. (14)
الفطرة السليمة والعقل الصحيح هما المرجع الديني فيما لم يذكره القرآن وموثوق السنة، فكل ما أقرته الفطرة السليمة والعقل الصحيح والقلب السليم فهو من الإسلام. (15)
القصد والاعتدال في كل شيء؛ فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. (16)
لا ضرر ولا ضرار؛ فإن الإسلام لم يفرض على أهله ما فيه ضرر عليهم، كما أنه لم يبح لهم أن يضروا غيرهم، والضرر يزال قطعا. (17)
ما تعارف عليه الناس، وما أجمعوا على استحسانه ورأوه حسنا فهو عند الشرع حسن ولو لم ينص عليه. (18)
الرجل والمرأة متساويان في جميع التكاليف الدينية والمدنية إلا في أحوال قليلة؛ فقد أباح للمرأة ما دامت من أهل التصرف أن تتزوج بنفسها، وأن توكل غيرها، ولها أن تشترط طلاق نفسها. (19)
لا إكراه في الدين؛ فقد قال سبحانه:
لست عليهم بمسيطر ، ما لم يؤذ الآخرين أو يتعدى عليهم وعلى حقوقهم. (20)
الجهاد واجب على المسلم، وكذلك إعداد كل ما يحتاج إليه من عدة ودراسات وخطط.
الفصل الثاني
في أحكام الإسلام
ذكرنا في الباب الخامس الطرف الهام من مبادئ الإسلام ، ونبين في هذا الباب طرفا من الأحكام الشرعية المنبعثة عن تلك المبادئ، ويمكننا إجمال ذلك في النقاط الآتية: (1)
حرم الإسلام القيام بكل ما يخل بالشرف والمروءة من السرقة والرشوة والزنا وما إلى ذلك. (2)
حرم الإسلام سفك الدماء وقتل الأنفس إلا بالحق، وللإمام أو القاضي وحدهما حق إقامة الحدود والقصاص. (3)
نهى الإسلام عن أكل مال الآخرين ظلما، وأخذ مال اليتيم، واستحلال الربا، وكل ما فيه تعد على أموال الناس. (4)
نهى الإسلام عن السب والشتم وقذف المحصنات والفجر. (5)
أمر الإسلام بصلة الأرحام وبر الوالدين وحسن الجوار، قال - عليه الصلاة والسلام: «يقول الله تعالى: أنا الرحمن الرحيم، وهذه الرحمة شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته.» وقال
صلى الله عليه وسلم : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.» (6)
أمر الإسلام بأداء الأمانات والمحافظة على أموال القاصرين وحفظ حقوق الآخرين. (7)
أوجب المسلمون أمورا وأحكاما في مسائل البيوع والشراء والإجارة والرهن والدين والصلح والحوالة والشركة والوكالة والشفعة والإجارة والفرائض والوصايا والودائع، وأجمعوا على العمل بها والاستحسان لها، وقد استنبط تلك الأمور والأحكام أئمة ومجتهدون شهد لهم رجال أزمانهم والذين جاءوا من بعدهم بالعقل والعلم والأمانة والإخلاص. وليس ما أوجبوه من صلب الشرع، ولكن اجتهادهم أداهم إلى ذلك، فإذا أدى اجتهاد من بعدهم ممن أجمعت لهم الشروط المطلوبة في الاجتهاد كان ذلك حسنا؛ لأن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. (8)
درس الأئمة والمجتهدون من المسلمين قضايا القضاء والنكاح والطلاق والرضاع والعتاق والنفقات والجنايات والقسامة والقتال والجهاد والحدود والحظر والإباحة، فأجمع رأيهم على أشياء توصلوا إليها باجتهادهم فعمل بها جمهور الأمة، ولكن هذا لا يمنع أن تتبدل هذه الأحكام بتبدل الأوقات. (9)
أوجب الإسلام تعلم العلم وطلب المعرفة على كل مسلم ومسلمة، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذف في القلب. (10)
حض الإسلام على النظافة الجسدية والروحية، فقد قال - عليه الصلاة والسلام: «الدين النظافة.» وليست النظافة مرادة في الثياب، بل وفي القلب.
1 (11)
أوجب الإسلام على متابعيه كثيرا من الأخلاق الفاضلة؛ كالتواضع، والشفقة، والنصح، ومعرفة آداب الطعام والشراب والضيافة والجوار، وصلة الرحم، وفك الأسير، وإشباع الجائع، وإفشاء السلام، وقضاء حاجات ذوي الحاجات، ولين الكلام، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، والجود، وكظم الغيظ، والبعد عن اللعب واللهو والفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان. وجاء في ذلك أحاديث: منها قوله - عليه السلام - لمعاذ: «أوصيك باتقاء الله تعالى، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبدء السلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ولزوم الإيمان، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح. وأنهاك أن تسب حكيما، أو تكذب صادقا، أو تطيع آثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تفسد أرضا. وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية.»
2 (12)
عني الإسلام بالأسرة عناية كبيرة، فدعا إلى الزواج، وأباح الطلاق على أنه ضرورة، وفرض النفقات للزوجة والأولاد والأصول، وخص للمرأة على زوجها حقوقا كثيرة، وحرم التزوج بنساء ذكرهن في الآية (23) من النساء وهي:
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما . وأباح الإسلام التزوج بأكثر من واحدة شريطة العدل بينهن، وليس العدل بينهن من الأمور السهلة:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل (النساء: 129). (13)
أباح الإسلام الاسترقاق، جريا على تقاليد الحروب والأوضاع الاجتماعية التي كان عليها الناس في ذلك الوقت، ولكنه عني بالأسرى عناية شديدة، وفرض إعتاق الرقاب، وجعله من أجل القرب من الله، كما جعل إعتاق الرقاب كفارة لبعض الذنوب والخطايا الشرعية، وفي ذلك رأفة بهم ورحمة.
الباب الخامس
في حكومة النبي وإدارته
الفصل الأول
الوثيقة المدنية وتحليلها
إن المبادئ الإدارية التي جاء بها الرسول هي إيجاد مجتمع فاضل منظم في حكومته وشئون إدارته، وقد حاول النبي إيجاد ذلك أيام كان في مكة، ولكن معارضة قريش له وسوء معاملتهم إياه وأصحابه اضطراه إلى أن يأمر أصحابه بالهجرة، ثم هاجر هو بنفسه إلى المدينة، فوجد الجو صالحا لإقامة حكومة ذات أنظمة وقوانين وتعاليم ترعى الدين الجديد وتحميه. وأول عمل يتجلى فيه التنظيم هو تلك الوثيقة التي كتبها في المدينة المنورة وأذاعها على أهاليها فور استقراره، وهي بمثابة القانون الأساسي للدولة الإسلامية الجديدة، وهذا نصها: (1) الوثيقة المدنية «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب
1
من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: (1)
أنهم أمة واحدة من دون الناس.
2 (2)
المهاجرون من قريش على ربعتهم
3
يتعاقلون
4
بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (3)
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (4)
وبنو الحارث من الخزرج على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (5)
وبنو جشم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (6)
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (7)
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (8)
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (9)
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (10)
وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا
5
بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء. (11)
وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. (12)
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم
6
أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. (13)
وألا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن. (14)
وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. (15)
وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. (16)
وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. (17)
وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.
7 (18)
وأن المؤمنين يبيء بعضهم
8
عن بعض بما ينال دماءهم في سبيل الله. (19)
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه. (20)
وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن. (21)
وأنه من اعتبط
9
مؤمنا قتلا عن بينة فإنه
10
قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. (22)
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بهذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا
11
أو يؤذيه، وأنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
12 (23)
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد. (24)
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. (25)
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوتغ
13
إلا نفسه وأهل بيته. (26)
وأن ليهود بني النجار ما ليهود بني عوف. (27)
وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. (28)
وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. (29)
وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. (30)
وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. (31)
وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. (32)
وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. (33)
وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم. (34)
وأن موالي ثعلبة كأنفسهم. (35)
وأن بطانة يهود كأنفسهم.
14 (36)
وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد. (37)
وأنه لا ينحجز
15
على ثأر جرح، وأنه من فتك
16
فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا. (38)
وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. (39)
وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم. (40)
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. (41)
وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
17 (42)
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. (43)
وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. (44)
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار
18
يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. (45)
وأنه لا تجار قريش ومن نصرها. (46)
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
19 (47)
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه
20
فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى أقل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. (48)
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. (49)
وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع أبر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. (50)
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله ومحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جار لمن بر واتقى.»
21 (2) تحليل هذه الوثيقة
إن هذه الوثيقة من أقدم الوثائق السياسية العربية المعروفة، إن لم تكن أقدمها، وقد سميت تارة «كتابا»، وتارة «صحيفة». أما «الكتاب» فمأخوذ من قولهم: «كتب الله الصيام والصلاة.» قال تعالى:
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، وقال:
كتب عليكم القتال ؛ أي فرض. فمعناها إذن: «الفريضة» التي يجب على الناس ألا يتهاونوا بما تضمنته. وأما «الصحيفة» فمعناها: «ورقة» تضمنت شيئا مقدسا، مثل «صحف إبراهيم وموسى» أو «عهد مكتوب» بين فرقاء، مثل الصحيفة التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم وعلقتها في الكعبة. وليس المراد «بالكتاب والصحيفة» هنا «الاتفاقية» المعقودة بين طرفين تعاهدا على أمر ووثقاه بتوقيعهما، وإنما المراد بها أنها «إعلان» أو «نشرة» تصدرها السلطة القوية إلى رعيتها للعمل بما تضمنته. وأسلوب هذه الوثيقة سهل بسيط، كثير التكرار، قصير الجمل، يستعمل الكلمات والمصطلحات العربية القديمة في القضايا المتعلقة بمثل هذا الأمر. ولم تنص هذه الوثيقة كسائر الوثائق النبوية أو أكثرها على اسم كاتبها أو شهودها، كما أنها لم تنص على تاريخ كتابتها، إلا أن الإمام أبا داود في سننه يذكر أن هذه الصحيفة قد كتبت بعد وقعة بدر الكبرى. وهذه الرواية معقولة؛ لأنها تصور لنا قوة النبي
صلى الله عليه وسلم
ومواقفه من اليهود الذين كانوا أقوياء يومئذ، فأراد الرسول أن يحول دونهم ودون نشاطهم ضده أو معاونتهم عدوه عليه، تنتظم هذه الوثيقة الحديث عن فرقاء ثلاثة: المسلمين واليهود والمشركين.
أما ما يتعلق بالمسلمين فهي تنص على أنهم أصبحوا «أمة» واحدة يؤمنون بإله واحد، ويطيعون رسولا واحدا، ويخضعون لأحكام دينية متوحدة، وأن المرجع الأول لهذه الأمة هو «الله»، وأن رسوله ووسيطه بين خلقه هو «محمد» الذي إليه مرد أمور المسلمين بعد «الله»، وأنه بعد الله أجار من بر واتقى (المادة 44، 50)، وأن المؤمنين والمسلمين من أهل يثرب ومكة أمة واحدة لها أنظمة تقوم على الأسس الإسلامية لا على الأسس الجاهلية، إلا أنه لم يمح تلك الأسس، فأبقى بعضها مجاراة لسنن الحياة، فأبقى النظام القبلي وحق الجوار والديات وما إلى ذلك. وقد اعتبرت الوثيقة المهاجرين قبيلة واحدة والأنصار قبيلتين؛ وهما الأوس والخزرج، أما الأوس فقبيلتان: بنو الأوس وطوائفهم قبيلة، وبنو النبيت وطوائفهم قبيلة، وأما الخزرج فست قبائل: عوف، والحارث، وساعدة، وجشم، والنجار، وعمرو. ولا ندري السر في تعداد هذه القبائل الخزرجية والاكتفاء بذكر الأوس والنبيت؛ ولعل ذلك راجع إلى كثرة القبائل الخزرجية وقلة الأوسية، أو لعله راجع إلى كثرة من أسلم من أولئك وقلة من أسلم من هؤلاء.
وأما اليهود، فهم داخلون فيما دخل فيه أحلافهم من الأوس والخزرج؛ فاليهود والمحالفون للأوس ومواليهم، واليهود المحالفون لبني عوف هم داخلون معهم، وكذلك اليهود المحالفون لبني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة، وكذلك بنو الشطيبة، وكذلك اليهود خارج المدينة (البطانة)؛ فإنهم داخلون معهم، وأن كل هؤلاء اليهود ممن اتبع الإسلام دخل في حلفهم لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم (المادة 51)، وأنهم ينفقون مع المؤمنين فيما يجب على المؤمن إنفاقه ما داموا محاربين (المادة 24)، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والبر دون الإثم (مادة 38).
وأما المشركون، فلا يقتل مؤمن في قتل واحد منهم ولا ينصر مؤمن كافرا على مؤمن (مادة 13)، وأنه لا يجير مشرك - من أهل هذا الحلف - مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن (مادة 20)، ولا يحل لمؤمن أن ينصر قاتلا أو يؤويه (مادة 22)، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها (45).
وقد أثبتت هذه الوثيقة المبادئ الآتية: (1)
إبقاء نظام الديات والعقل كما كان أيام الجاهلية (مادة 2). (2)
إبقاء نظام فك الأسرى كما كان أيام الجاهلية (مادة 2). (3)
إبقاء نظام وفاء دين المدين (المفرج) الذي لا يجد ما يفي به دينه (مادة 10). (4)
ألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دون موافقته (مادة 11). (5)
أنه لا يحق لأحد المؤمنين وحلفائهم حماية من بغى وظلم أو أثم أو تعدى أو فسد، وأنه لا يحق لأحد أن يسعى تخليصه ولو كان ولده (مادة 12). (6)
وأنه لا يقتل مؤمن في كافر قتله (مادة 13). (7)
وأنه لا ينصر كافر على مؤمن (مادة 13). (8)
الإبقاء على نظام الإجارة الجاهلي، وأن أهل هذا الحلف يجير عليهم أدناهم (مادة 14). (9)
أن سلم المؤمنين ومحالفيهم هو سلم واحد (مادة 16). (10)
إبقاء نظام التعاقب في الغزو، فإنه إذا خرجت طائفة إلى الغزو ثم عادت لم تكلف الخروج ثانية حتى تعقبها أخرى (مادة 17). (11)
أن المؤمنين متساوون في هذا الحلف، فإن لأحدهم الحق في قتل كل من قتل مؤمنا منهم (مادة 18)، وأن من قتل مؤمنا فهو مقتول به إلا إذا رضي ولي المقتول بالعقل والدية، وأن على المؤمنين أن يؤيدوه في رأيه (مادة 21). (12)
لا يجوز لمؤمن أن ينصر ظالما أو قاتلا أو يؤويه (مادة 22). (13)
أن من تعدى على غيره بفتك أو جرح فعليه مثل ما فعل (مادة 37). (14)
أن ليثرب حرمة فلا يجوز انتهاكها (مادة 41)، وأن على أهل هذا الحلف حرب من دهم يثرب (مادة 46). (15)
أن الجار والحليف كالنفس (مادة 39، 42)، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها (مادة 43). (16)
أن من يدعى إلى الصلح ويقبله فعليه أن ينفذه كما قبله (مادة 47). (17)
أن أصحاب هذه الوثيقة كتلة واحدة مسلمين ويهود يتعاونون في تنفيذ موادها، وهم كلهم يد واحدة على من بغى. (18)
أن لكل واحد من أهل الوثيقة دينه وكتابه (مادة 25)؛ فللمسلمين كتابهم ودينهم، ولليهود دينهم وأحكامهم وحفظ حقوق مواليهم، أما ما يتعلق بالحرب فإن الأمر في يد الرسول
صلى الله عليه وسلم . (19)
أن من قام بجرم انحصر أمره فيه وفي أهل بيته، ولا يمتد ذلك إلى عشيرته كما كان الأمر في الجاهلية. (20)
قطع العلاقات من اقتصادية أو اجتماعية مع العدو سواء أكان ذا قرابة أو علاقة كائنة ما كانت مع العدو (مادة 20).
الفصل الثاني
في التراتيب الإدارية
نريد بالتراتيب الإدارية نظام الإدارة والخطط التي سار عليها الرسول الكريم في تنظيم شئون دولته، وقد استعرنا هذا التعبير من عنوان كتاب العلامة السيد عبد الحي الكتاني الفاسي الذي نشر جزأه الأول في سنة 1346ه بالرباط تحت اسم: «كتاب التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية في المدينة المنورة العلمية». وهو كتاب قيم بذل فيه مؤلفه جهدا محمودا، وكشف عن علم غزير واطلاع عميق واسع على الثقافة الإسلامية والخزانة العربية، وقد أراد المؤلف الفاضل أن يبين للناس ما كانت عليه أوضاع الإدارة الإسلامية في عهد النبي الكريم، فقد ذكر في مقدمته: «أن الذين اعتنوا بتدوين المدنية العربية والتراتيب الإدارية لخلفاء المملكة الإسلامية، وذكروا ما كان لأمراء الإسلام على عهد الدولة الأموية والخلافة العباسية من الرتب والوظائف والعمالات والعمال، أهملوا ما كان من ذلك على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مع أنه - عليه الصلاة والسلام - حيث كان يشغل منصب النبوة الديني على قاعدة جمع دينه القويم بين سياسة الدين والدنيا جمعا مزج بين السلطتين، بحيث كادا أن يدخلا تحت مسمى واحد وهو «الدين». وكذلك وقع. كانت الإدارات اللازمة للسياستين على عهده صولجانها دائر، والعمالات بأتم أعمالها إلى الترقي والعمل سائر، بحيث يجد المتتبع وظائف حاشية الملك اليوم الخاصة بشخصه من صاحب الوضوء والفراش والنعال والإصطبل والحاجب، وغير ذلك، كانت موجودة عند النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولعل عن ذلك العهد أخذها ملوك الإسلام، كما إذا التفت إلى ما يتعلق بالمراتب الإدارية من وزارة بأنواعها، وكتابة بأنواعها، والرسائل، والإقطاعات، وكتابة العهود والصلح، والرسل والترجمان، وكتاب الجيش والقضاة، وصاحب المظالم، وفارض النفقات، وفارض المواريث، وصاحب العسس في المدينة، والسجان، والعيون، والجواسيس، والمارستان، والمدارس، والزوايا، ونصب الأوصياء، والممرضات، والجراحين، والصيارفة، وصاحب بيت المال، ومتولي خراج الأرض، وقاسم الأرض، وصانع المنجنيقات، والرامي بها، وصاحب الدبابات، وحافر الخنادق الصواغين، وأنواع المتاجر والحرف - تجد أن مدته - عليه الصلاة والسلام - مع قصرها لم تخل عن أعمال هذه الوظائف وإدارة هذه العمالات، وتجد أنها كانت مسندة للأكفاء من أصحابه وأعوانه. وربما يستغرب السامع هذا القدر على البديهة إذا سمعه ممن اقتصر على مطالعة بعض كتب السير للمتأخرين، وظن أنها خالية عن أمثال هذه الأمور؛ فإنه ربما يحيص حيصة الاستغراب، ولكن لا ضير فإن أكثر الذين يتعاطون السير اليوم غاية ما يقرءون من كتبها الهمزية.»
1
والحق أن السيد الكتاني قد بذل جهودا جبارة وطالع مئات المؤلفات من مطبوع ومخطوط في الفحص عن حكومة عهد النبي وتراتيبه الإدارية، وقد أوفقه الله إلى العثور على الكتاب النفيس المسمى «تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية» لأبي الحسن علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن أبي غفرة الخزاعي (710-789)، فقرأه واستدرك عليه وشرحه ونشره في مجلدين ضخمين بعنوان «التراتيب الإدارية». ولا شيء يؤخذ على كتاب الكتاني سوى سوء ترتيبه واضطراب بحوثه وضعف تأليفه، فإن المؤلف الجليل على الرغم من الجهد لم يستطع أن يرتب كتابه ترتيبا علميا حديثا يفيد منه كل من يريد الاطلاع على حكومة النبي وأصول نظمه الإدارية، ولكنه جهد عظيم وعمل نافع جزى الله صاحبه عن الإسلام والعروبة خيرا.
ونحن إذا رحنا ندرس شئون التراتيب الإدارية التي كانت في عهد حكومة النبي
صلى الله عليه وسلم ، نجدها تنحصر في الشئون الآتية: (1) الشئون الدينية
كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
هو المشرف الأعظم على كافة مرافق الدولة الإسلامية وبخاصة الشئون الدينية، فهو المرجع الأول للمسلمين، وهو الموجه للدولة، وهو المشرع للمسلمين، فإمامة الصلاة وأذانها وتوقيتها وإمارة الحج وحجابة البيت والسقاية وتولي أمور الزكاة وصدقات الصوم؛ كان الرسول يشرف عليها بنفسه، أو يعهد إلى من يراه كفئا للقيام بها. (1-1) إمامة الصلاة
هي من حقوق النبي، وقد كان يقوم بها بنفسه إلا في حال مرضه أو غيبته، فكان يأذن أن يتولاها غيره، وكان الرسول إذا بعث أميرا في سرية أو فتح جعل إليه الصلاة، ولما مرض مرض موته فوض الصلاة لأبي بكر، فصلاها طول مدة مرضه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى،
صلى الله عليه وسلم . (1-2) مؤذن الصلاة
اتخذ الرسول سبعة يؤذنون للناس ويدعونهم في أوقات الصلاة، «فأول» مؤذن له
صلى الله عليه وسلم
هو بلال الحبشي، وكان إذا أذن وقف على باب رسول الله فيقول: السلام عليك يا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة. و«الثاني» هو عبد الله بن أم مكتوم، وكان يؤذن في الفجر يتوخاه فلا يخطئه. «والثالث» هو أبو مخدورة، فقد كان رتبه لأذانه في مكة منصرفه من حنين، فلم يزل يؤذن بها إلى أن مات. «والرابع» هو سعد القرظ، أذن له بقباء ثلاث مرات. «والخامس» هو زياد بن الحارث الصدائي، أذن مرة لما كان بلال غائبا، وأقام في صلاة الصبح. «والسادس» هو عبد العزيز بن الأصم، أذن مرة. «والسابع» هو ثوبان مولى النبي
صلى الله عليه وسلم . ويقال إن عثمان بن عفان كان يؤذن للنبي.
2
كما يقال إن أول من أذن بمكة هو حبيب بن عبد الرحمن. ذكره الأزرقي في تاريخ مكة.
3 (1-3) موقت الصلاة
أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
بلالا بحفظ أوقات الصلاة؛ ففي «الموطأ» عن سعيد بن المسيب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين قفل من خيبر أسرى، حتى إذا كان من آخر الليل عرس وقال لبلال: اكلأ لنا الصبح. ونام رسول الله وكلأ بلال. (1-4) أمير الحج
أول من قام للمسلمين بأمور الحج عتاب بن أسيد سنة ثمان للهجرة حين ولاه النبي على مكة بعد فتحها، وكان عمره إذ ذاك عشرين سنة. أسلم يوم الفتح فولاه النبي
صلى الله عليه وسلم
عليها لما سار إلى حنين، وفي سنة تسع حج بالناس أبو بكر، وفي السنة العاشرة حج النبي وخطب خطبة الوداع. (1-5) حجابة البيت الحرام
هذه إحدى الوظائف في عهد الجاهلية، وكان يتولاها عثمان بن أبي طلحة وشيبة بن عثمان قبيل الفتح، فلما فتح الرسول مكة دفع إليهما مفتاح الكعبة ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي، فقال لعثمان وشيبة: إنها لكما خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم. (1-6) سقاية البيت الحرام
هذه أيضا إحدى الوظائف في عهد الجاهلية، وكانت لبني عبد المطلب، فأقرها النبي
صلى الله عليه وسلم
في الإسلام، حتى قال لهم - عليه السلام - وقد أتى على بني عبد المطلب وهم يسقون الناس على زمزم: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم.» فناولوه دلوا فشرب. قال ابن باديس: طرح عليه الصلاة والسلام كل مأثرة كانت الجاهلية تتكبر بها ... واستثنى من ذلك السدانة، وهي حجابة البيت، والسقاية؛ لأن فيهما تعظيم حرمات الله من حفظ البيت والقيام عليه.
4 (1-7) المساجد ووظائفها وما يتعلق بها
قال الخزاعي في التخريج نقلا عن الروض الأنف: إن مساجد المدينة تسعة مساجد سوى مسجد رسول الله، وكانوا كلهم يصلون بأذان بلال.
5
وهذه المساجد هي: مسجد بني عمرو بن النجار الخزرجي، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رابح من بني عبد الله الأشهل، ومسجد بني زريق، ومسجد غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة ، والتاسع مسجد سالم.
أما أول مسجد خطه النبي في المدينة بعد مسجده فهو مسجد بني جهينة، قدموا إليه
صلى الله عليه وسلم
فخط لهم مسجدهم. وأول مسجد قرئ فيه القرآن هو مسجد بني زريق.
6
وأول جمعة صلاها النبي في المدينة هي في مسجد بني أسلم ببطن الوادي، نقله السيوطي عن الزبير بن بكار في تاريخ المدينة.
7
أما مسجد النبي فقد بناه عقب وصوله إلى المدينة وقال: «ابنوا لي عريشا كعريش موسى، ابنوه لي من لبن، له ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل ذلك.» قيل له: وما ظلة موسى؟ قال: «كان إذا قام أصاب رأسه السقف.» وعمل فيه بنفسه ترغيبا لهم،
8
وطفق
صلى الله عليه وسلم
ينقل معهم اللبن في ثيابه ويقول وهو ينقل:
هذا الحمال
لا حمال خيبر
هذا أبر
ربنا وأطهر
9
وجعلوا أساسه بالحجارة ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللبن، وجعل يقول
صلى الله عليه وسلم : لاهم إن الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة.
10
فأخذوا في بنائه وجعلوا عضادتيه من حجارة، وبنوه بالرهص، وهو الطين الذي يتخذ منه الجدار، ورفعوا جداره سبعة أذرع، وقيل: خمسة.
11
وجعلوه سبعين في ستين ذراعا، وقيل: مائة في مائة مربعة.
12
وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعلوا أوسطه رحبة، وبنى بيتين لزوجتيه
13
عائشة وسودة، ثم زادها حتى بلغت تسعا، ولم يجعل له سطحا أول الأمر، ولما شكوا الحر إليه
صلى الله عليه وسلم
جعل له سطحا من خشب وسوارية جذوعا وظللوه بالجريد ثم بالخصف، ولما وكف عليهم طينوه.
14
وقيل: إنهم لما قالوا له أن يطينه قال: لا، عريش كعريش موسى. ولم يزل كذلك حتى قبض.
15
وكان له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه، وهو باب عثمان، ولما حولت القبلة سد الباب الذي خلفه.
16
ولما ضاق المسجد بأهله وكثر المسلمون وسعه بإضافة المربد الذي كان بجانبه، اشتراه عثمان ووهبه للنبي،
17
وقد جعله مسجدا بسيطا خاليا من الزخرف والتزيين. ولما جمع الأنصار مالا أتوا به النبي فقالوا له : ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال: «ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى.»
18
ويظهر أن المسجد النبوي لم يكن له محراب، فإني لم أعثر على أحد أشار إلى ذلك، وإنما ذكر السيوطي أن عمر بن عبد العزيز هو أول من أوجد المحراب المجوف حينما بنى المسجد النبوي، ونقل ذلك عن الواقدي.
19
والمحراب كلمة عربية قديمة تطلق على صدر البيت، ومنها أخذت لصدر المسجد، وقيل: إن أصله محرام (من الإحرام) ثم أبدلت الميم الثانية باء. وقيل: إن الكلمة عبرية، ومحاريب اليهود هي كنائسهم. قال المجد الفيروزآبادي في القاموس: المحراب الغرفة، وصدر البيت، ومقام الإمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس، ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون بها. أما المئذنة أو المنارة، فلم يذكر أحد من المؤرخين أنها كانت مبنية في عهد الرسول، وإنما ذكروا أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حذاء المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، ثم يؤذن. وذكر أهل السير أن بلالا كان يؤذن على أسطوان في قبلة المسجد، يرقى إليها بأقتاب فيها، وكانت خارجة من المسجد.
20
وفي أسد الغابة: أن النوار أم زيد بن ثابت هي التي قالت: إن بيتي كان أطول بيت حول المسجد الحرام، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله مسجده، فكان يؤذن بعد على ظهر المسجد وقد رفع له شيء فوق ظهره.
21
وقيل إن بلالا كان يؤذن من دار حفصة بنت عمر قرب المسجد.
22
وقال الكتاني: لم يكن منار في زمانه
صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من سنة الصحابة، وكانوا في عهده يؤذنون عند باب المسجد وبين يدي الإمام.
23
وأما المنبر فقد ذكروا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يخطب بالناس يوم الجمعة في مسجده إلى جذع شجرة أو نخلة، ثم إنهم اتخذوا لهم منبرا من خشب يخطب عليه،
24
فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا؟ قال: «إن شئت فعلت.» فعملت له منبرا،
25
فلما كان يوم الجمعة قعد النبي
صلى الله عليه وسلم
على المنبر الذي صنع له، وقد جعلوا له ثلاث درجات أو أربعا.
26
وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة، وقيل: بل في السنة الثامنة. وقيل: في التاسعة.
27
وكان موضع المنبر عن يمين مصلى النبي لاصقا بجدار المسجد القبلي.
28
وقد كان هذا المسجد مفروشا بالحصى، وربما وضعت فيه الخمرة، وهي حصير من سعف النخل مضفور بالسيور ونحوها بقدر الوجه والكفين من المصلي. وقيل: هي السجادة التي يسجد عليها المصلي. وروى البخاري عن عائشة قالت: قال لي رسول الله: «ناوليني الخمرة من المسجد.» وروى النسائي عن ميمونة قالت: كان رسول الله يضع رأسه في حجر إحدانا فيتلو القرآن وهي حائض، وتقوم إحدانا بخمرته إلى المسجد وتبسطها وهي حائض. كما روي أن المسجد كان مفروشا بالحصير.
29
وقد كان المسجد ينظف ويخلق بالطيب؛ فقد رووا أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة فأصبح كئيبا لذلك، فسألته امرأته فأخبرها، فعمدت إلى القبلة فغسلتها وخلقتها، فكانت أول من خلق القبلة. وقيل: إن الذي رأى ذلك هو النبي فحكها ثم أمر بخلوق فلطخ به مكانها، ثم خلق الناس المساجد. أما إضاءة المسجد النبوي، فقد رووا أنهم أول الأمر كانوا يوقدون المشاعل من سعف النخل، ثم إن تميما الداري حمل معه من الشام قناديل وزيتا ومقطا، ولما انتهى إلى المدينة وافق ذلك يوم الجمعة، فأمر غلاما له يقال له أبو البراد، فقام فشد المقط - وهو الحبل - وعلق القناديل وصب الماء فيها وجعل المفتل فيها، فلما غربت الشمس أسرجها، فخرج رسول الله إلى المسجد فإذا هو يزهر، فقال: «من فعل هذا؟» قالوا: تميم يا رسول الله. فقال: «نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة .» وفي الاستيعاب في ترجمة سراج مولى تميم: قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم
في خمسة غلمان لتميم وأنه سرج للنبي
صلى الله عليه وسلم
بقنديل الزيت، وكانوا لا يسرجون قبل ذلك إلا سعف النخل، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ما اسمه؟» قال: فتح. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «بل اسمه سراج.» قال: فسماني رسول الله سراجا.
30
وقد كان للمسجد صفة، وهي ظلة في آخر المسجد، قال القاضي عياض: هي ظلة في مؤخرة المسجد النبوي يأوي إليها المساكين، وينسب إليها أهل الصفة. وقال الذهبي: إن القبلة قبل أن تحول كانت في شمالي المسجد، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة قبل الأعلى مكان أهل الصفة،
31
وكان أهل الصفة جماعة من فقراء الصحابة وغربائهم يأوون في المسجد النبوي، وربما بلغ عددهم المائة يزيدون وينقصون. ومن مشهوريهم عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة، وابن أم مكتوم، وصهيب، وخباب. وقد طلب النبي
صلى الله عليه وسلم
من أغنياء المسلمين أن يطعموهم، وطلب إليهم أن يبعثوا بأقناء من نخلهم للمساكين، فبعث الناس ذلك، واستعمل على الأقناء معاذ بن جبل، فكان يمد حبلا بين جذعين ويعلق عليه الأقناء، وكان يحفظها ويقسمها.
32
وقد كان للمسجد النبوي امرأة تعتني بتنظيفه وتطهيره؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فسأل عنها، فقالوا: ماتت. فقال: «أفلا آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغروا أمرها، فقال: «دلوني على قبرها.» فدلوه فصلى عليها. وروى ابن خزيمة في صحيحه أنه قال: «إن امرأة كانت تلقط الخرق والعيدان من المسجد.» وروى ابن ماجه أنها كانت تقم المسجد، فماتت ليلا، فلما أصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبر بها فقال: «ألا آذنتموني؟» فخرج بأصحابه فوقف على قبرها فكبر عليها والناس خلفه ودعا لها ثم انصرف. واسم تلك المرأة أم محجن، وقيل: محجنة. وهي من أهل الحبشة.
33
وكان في المسجد النبوي مجمر يطيبه ويبخره، وكان النبي يقول : جمروا مساجدكم. ويقال: إن مجمر مسجد النبي كان نعيم بن عبد الله المزني، وكذلك كان أبوه. وكان عبد الله مولى عمر بن الخطاب يباشر ذلك أيضا. وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت: أمر رسول الله ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف، ونقل الخزاعي عن كتاب «الجامع من البيان والتحصيل» لابن رشد: أن رسول الله قال: «جمروا مساجدكم.» وفي «التمهيد» أن عبد الله المجمر مولى عمر بن الخطاب، كان يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر. وقيل إنه كان من الذين يجمرون الكعبة.
34 (1-8) صاحب الصلاة
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقوم بدعوة الناس إلى صلاة الجماعة، ويشتد عليهم في تركها لغير عذر مشروع، قال الخزاعي: كان
صلى الله عليه وسلم
يباشر ذلك بنفسه، حتى إنه هم بحرق الدور على الذين لم يشهدوا معه الجماعات كما في الصحيحين وغيرهما. وذكر الزمخشري في الكشاف: أن المصطفى استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة، وقال له: «... فقد استعملتك على أهل الله.» فكان شديدا على المنافقين هينا على المؤمنين، وقال لهم: والله لا أعلم متخلفا عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا المنافق.
35
وزاد الكتاني على ذلك قوله: إن أبا زياد الجاجي في شرحه على مختصر ابن أبي جمرة ذكر غير واحد ممن ألف في السير أن عمر بن الخطاب وعليا كانا من عاداتهما إذا طلع الفجر خرجا يوقظان الناس لصلاة الصبح، وأن ذلك سبب قتلهما، فيؤخذ منه أن إيقاظ الناس ليس بمكروه ولا محرم، بل هو من باب التعاون على البر.
36 (1-9) مرتب صفوف المصلين
كان من وظائف بلال عند الأذان أن يسوي صفوف الصلاة، ويضرب عراقيب المصلين بالدرة حتى يستووا؛ فقد نقل الكتاني عن الإمام أحمد في كتاب الصلاة (ص14): أن بلالا كان يسوي الصفوف ويضرب عراقيبهم بالدرة حتى يستووا. وقال بعض العلماء: قد يشبه أن يكون هذا من بلال على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة ؛ لأن الحديث جاء عن بلال أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
إلا يوما واحدا بعد مرجعه من الشام مدة أبي بكر.
37 (2) الشئون السياسية
اهتم الرسول الكريم بالشئون السياسية، فعني بنفسه بالشئون الخارجية لحكومته، وكان يراقب أحوال العرب واليهود والنصارى خارج العاصمة، وكان أمله الأول هو الاستيلاء على مكة قلب الجزيرة العربية، فعمل كل ما في وسعه، وحالف من حالف ضد قريش حتى تمكن من القضاء عليها. وقد رأينا في الوثيقة المدنية شيئا من العمل السياسي الحكيم الذي قام به من التحالف مع اليهود ضد قريش، ثم إنه - عليه السلام - انصرف إلى عمل كل ما في وسعه لحصر قريش التضييق عليها، وقد رأينا طرفا من أعماله الحربية التي قام بها للقضاء على قريش وأحلافها. ونريد هنا أن نبين بعض الأعمال السياسية التي قام بها - عليه الصلاة والسلام: فمن ذلك أنه بعث عبد الله بن جحش الأسدي الصحابي السياسي الداهية العاقل (-3ه) يترصد قريشا ومعه سرية، وقد كتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدا، وكان في ذلك الكتاب: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم.»
38
وهذه سياسة حكيمة بارعة سلكها النبي
صلى الله عليه وسلم
خوفا من عيون قريش في مكة ومن المنافقين المقيمين بين ظهرانيه، ولو أشهر أنه فعل ذلك لعلمت قريش بمقدم هذه السرية وفتكت بأصحابها، فقد قال الواقدي: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أمر عبد الله أن يسلك طريقا بعينه وهو طريق النجدية-ركية، فسار فلما بلغ بئر بني خميرة نشر الكتاب وقرأه فسار بمن معه، ولم يتخلف منهم أحد، ورجع سالما مطمئنا بأطيب الأخبار.
ومن أعمال النبي السياسية في تلك الفترة جوابه على كتاب جاءه من أبي سفيان يقول له فيه: «أما بعد، فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت أطفالنا، ورملت نساءنا، والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك وقلع آثارك، وقد أنفذنا إليك نريد منك نصف نخل المدينة؛ فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخرب الديار وقلع الآثار.»
تجاوبت القبائل من نزار
لنصر اللات في بيت الحرام
وأقبلت الضراغم من قريش
على خيل مسومة ضرام
فطلب النبي من علي أن يكتب الجواب، فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتاب أهل الشرك والنفاق والكفر والشقاق، وفهمت مقالكم، فوالله ما لكم عندي جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا - ويلكم - عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبفلق الهام وخراب الديار وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى.
ألا أبلغ عني قريشا
من لسان كالحسام
أن هلموا كي تلاقوا ما لقيتم
من الصمصام في بدن وهام
39
ونحن نرى من رسالة أبي سفيان سوء أدبه وضيق عطنه، كما نستشف منه اضطراب وضع مكة وأهلها حتى لجأ أبو سفيان إلى تلك العبارات الشديدة ليخيف النبي ويهدده ثم يوعده، وكان من أحزم الحزم ومن السياسة الرشيدة والكياسة الحميدة أن يجيبه النبي بما أجابه من القوة، وأن الجواب ما سيراه لا ما سيسمعه، فإن القول والقلم لا يغنيان في موضع السيف والحسام.
ومن سياسات النبي الحكيمة أيضا: ما رواه ابن هشام والطبري من مراوضة لغطفان حتى تخذل قريشا أثناء غزوة الخندق، وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا عن تلك الغزوة حين أقام المسلمون والمشركون كل جانب يتربص بصاحبه، حتى ضاق أمر الرسول وصحابته وقريش وأحلافها من غطفان وأحلافهم، وقد فكر الرسول مليا في الأمر، فلم ير سياسة أحكم من أن يفل صفوف قريش ويحتال عليها بعد أن أتى البلاء على الناس في المدينة، فإنه - عليه الصلاة والسلام - كتب إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف زعيمي غطفان يعدهما بإعطائهما ثلث ثمار المدينة وأموالها على أن يرجفا عنه بمن معهما، وجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم يوقع ولم يشهد عليه إلا المراوضة - المداراة والمداورة - حتى مكنه الله وخذل قريشا وفرق جموعها.
ومن سياسات النبي الحكيمة: صلح الحديبية والعقد الذي عقده مع أهل مكة ، وهو هذا:
باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشرين سنة يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من قدم مكة من أصحاب مكة حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر والشام يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال،
40
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده. وقالت بنو بكر: نحن في عقد قريش وعهدهم)، وإنك ترجع علينا عامك فلا تدخل مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها. وأشهد على هذا الصلح رجال المسلمين ورجال المشركين وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، ومكرز بن حفص و... من المشركين وعلي بن أبي طالب وكتب ...
41
وهذه المعاهدة تدل على أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
إنما هادن القوم وقبل بما تضمنه بعض بنودها من القسوة على المسلمين؛ لأنه رأى أن الكفة راجحة وقتئذ مع قريش، فجاراهم ليأمن على أموال المسلمين ودمائهم. ونحن إذا دققنا في رسائله السياسية التي بعث بها إلى الملوك والأمراء والتي سنراها بعد، نطلع على جانب من السياسة العملية التي سلكها النبي الكريم في خارج الجزيرة العربية بعد أن استقرت له الأمور في بلاد العرب.
ومن مظاهر سياسة النبي الكريم اعتناؤه ببعض الشئون التي تتعلق بالسياسة، كأعمال التوثيق والمعاهدات والمبايعات وانتقاء السفراء ورسل الصلح أو الرسل عامة، والتراجمة ... وما إلى ذلك من شئون السياسة، مما سنبينه بعد! (2-1) التوثيق ... والمبايعة
التوثيق أو التثبيت: هو أن يعمد المتعاهدان إلى تثبيت تعاهدهما وتحالفهما بالكتابة والتوقيع. والمبايعة: هي أن يتعاهد الرجلان على أمر يتفقان على الإخلاص له والتفاني فيه. قال ابن الأثير في شرح قوله
صلى الله عليه وسلم : «ألا تبايعوني على الإسلام؟» إن المبايعة هي عبارة عن المعاهدة على الإسلام، والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره.
42
وقد كان الرسول يبايع الرجال والنساء، يضع يده في أيدي الرجال يعاهدهم ويعاهدونه على الإسلام ونصرته والتفاني في تأييده والجهاد والهجرة والنصر والثبات والاستماتة في رعاية الدين وأهله، وحفظ عهد الله وميثاقه، قال تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما . وقال:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم .
والمبايعة والتعاقد والتحالف أمور كانت تعرفها العرب في الجاهلية، وكان لهم أصول وقواعد يتبعونها في تحالفهم، فلما جاء الإسلام ودعا الرسول الكريم العرب إلى الدخول في دين الله، كون دولة وحدت متفرقي العرب، ونظمت شملهم، وسعت إلى خلق كيان سياسي لهم لا يقل عن كيان الدول القوية المعروفة وقتئذ في بلاد فارس والروم والأحباش. وقد عقد النبي الكريم مبايعات وعقودا من رؤساء القبائل العربية حفظ لنا التاريخ بعض نصوصها، وقد مر بنا بعض ذلك. كما يروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان عنده ملء صندوق فيه نسخ العهود والمواثيق التي عقدها النبي وأبو بكر، ولكنها احترقت لما احترق الديوان يوم الجماجم سنة 82 للهجرة، ولم يبق من تلك الوثائق إلا قليل جدا.
وقد حفظ لنا الدهر بعض تلك الوثائق الهامة، كالوثيقة التي وجدها المستشرق الفرنسي بارتيلمي في كنيسة قرب إخميم في مصر، وهي التي بعث بها النبي إلى المقوقس، والوثيقة التي نشرها المستشرق الألماني فلايشر، ونشرها وهي تتضمن كتاب الرسول إلى المنذر بن ساوي، والوثيقة التي عثر عليها المستشرق الإنكليزي دنلوب وهي تتضمن رسالة النبي إلى النجاشي.
43
على أن كتب الوثائق والتاريخ والحديث والسيرة قد حفظت لنا نصوص كثير من الوثائق، وقد جمعها الأستاذ المحقق الهندي محمد حميد الله الحيدرأبادي في كتابه القيم «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة».
44
ومما جاء في مقدمة هذا الكتاب قوله: كان عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل الهجرة عصر تمهيد وتجربة، ولا يصح أن يقال: إن الجماعة الإسلامية بمكة كانت حينئذ دولة من الدول؛ فإنه لم يكن لها كيان سياسي ولا نظام إداري، ولا تصادف في هذا العهد ما يطلق عليه اسم السياسة الخارجية سوى بيعتي العقبة اللتين أسستا بنيان الدولة الإسلامية، وكان لهما أثر عظيم فيما بعد، إلا أنهما لم تكتبا في قرطاس، ولم تؤخذا إلا سرا. وهاتان البيعتان تتعلقان بروابط المسلمين مع أهل المدينة، وكان فيهما وضع الدستور الأساسي (يريد بذلك وثيقة المدينة التي ذكرناها في الباب الخامس). ولما هاجر الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وجد هناك عدة قبائل يهودية فعاهدهم فدخلوا في دولة وفاقية
Fédération
تحت رياسة محمد
صلى الله عليه وسلم ... وكانت هجرة مسلمي مكة وإقامة دولة إسلامية في المدينة سببا لتوتر العلائق بين المسلمين وقريش، فنشأت بينهما وقائع بدر وأحد والخندق والحديبية وفتح مكة ... ولم تبدأ علائق المسلمين السياسية مع الروم والفرس ومن تحتهم من الحبشة والغساسنة وأهل البحرين وعمان واليمن، والبحرين ونجران وحضرموت ومهرة وغيرها إلا بعد الحديبية ... ومن المعروف أن قيصر الروم وكسرى الفرس لما دعاهما الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى الإسلام أبيا وردا دعوته، فكتب النبي
صلى الله عليه وسلم
رأسا إلى الملوك والأمراء الذين تحت سيطرة هذين العظيمين، فمنهم من أجاب فأفلح، ومنهم من أدبر فهلك.
45
وقد ضمن الأستاذ الحيدرأبادي وثائق النبي ومعاهدات الدعوة الإسلامية وتجديد المعاهدات القديمة، وذكر عهود تولية العمال مع ذكر واجباتهم، كما ذكر عهود الأراضي وكتب الأمان والتوصيات، وبذل في جمع ذلك جهدا يدل على فضل وإيمان. وقد كشف لنا بعمله هذا - جزاه الله خيرا - عن كثير من النواحي السياسية والطرق التي اتبعها الرسول الكريم في كتابة وثائقه وعهود مبايعته ورسائله. (2-2) السفارة
كان الرسول يختار لسفارته أناسا من أعقل الصحابة وأجملهم صورة وأحسنهم حديثا وأطلقهم لسانا وقوة حجة، وكان إذا أرسل سفيرا قال لهم: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتشاوروا وتطاوعوا.»
46
ومن سفراء الرسول الذين بعثهم إلى ملوك عصره وأمرائه: دحية بن خليفة الكلبي (-45) وكان عاقلا لبيبا جميل الصورة بعثه إلى قيصر، فلما دخل عليه قال له: يا قيصر، أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله هو خير منه ومنك، فاسمع بذل ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات. قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من دبر خلق السماوات والأرض والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى، وبشر به عيسى بن مريم، وعندك من ذلك أثارة من علم تكفي عن العيان، وتشفي من الخبر، فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، واعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم.
فأخذ القيصر الكتاب ووضعه على عينيه ورأسه وقبله، ثم قال: أما والله ما تركت كتابا إلا وقرأته، ولا عالما إلا وسألته، فما رأيت إلا خيرا، فأمهلني حتى أنظر من كان المسيح يصلي له، فإني أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن فأرجع عنه فيضرني ذلك ولا ينفع، أقم حتى أنظر. فلم يلبث أن أتاه وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم .
ومما قاله دحية حين قدومه على القيصر:
ألا هل أتاها على نأيها
فإني قدمت على قيصر
فغررته بصلاة المسي
ح وكانت من الجوهر الأحمر
وتدبير ربك أمر السما
ء والأرض فأغضى ولم ينكر
وقلت تقر ببشرى المسي
ح فقال سأنظر قلت انظر
فكاد يقر بأمر الرسو
ل فمال إلى البدل الأعور
فشك فجاشت له نفسه
وجاشت نفوس بني الأصفر
على وضعه بيديه الكتاب
على الرأس والعين والمنخر
فأصبح قيصر من أمره
بمنزلة الفرس الأشقر
47
حاطب بن أبي بلتعة اللخمي (-30ه)
كان من فرسان قريش وشعرائها ورماتها وتجارها، بعثه الرسول إلى المقوقس جريج بن ميناء ملك مصر بكتابه إليه، فلما قدم عليه قال له: إنه قد كان رجل قبلك يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك. فقال له: هات. قال: إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه؛ وهو الإسلام ... فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ... وسأنظر.
وأهدى للنبي أم إبراهيم القبطية واسمها «مارية بنت شمعون»، وأختها «سيرين» أم عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وغلاما اسمه «مابور» وبغلة اسمها «دلدل»، وكسوة وقدحا من قوارير كان يشرب فيه النبي وكاتبه.
48
والعلاء بن عبد الله الحضرمي (-21ه)
وكان عاقلا مقداما أبلى بلاء عظيما في الفتوح، بعثه الرسول إلى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين، فقال له: يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين ليس فيه تكرم العرب، ولا أعلم أهل الكتاب ينكحون من يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم على أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب ألا تصدقه، ولمن لا يخون ألا تأمنه، ولمن لا يخلف ألا تثق به، فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به ، أو ليته زاد في عفوه أو نقص في عقابه ... فقال المنذر: قد نظرت في هذا الأمر الذي في فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا ... وسأنظر.
49
وعمرو بن العاص السهمي (-43ه)
العاقل الداهية الحكيم الأشهر، بعثه
صلى الله عليه وسلم
إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، فقال له: يا جلندي، إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد، إن الذي تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك، وألا تشرك به من لم يشركه فيك. اعلم أنه يميتك الذي أحياك، ويعيدك الذي بداك، فانظر في هذا الأمي الذي جاء بالدنيا والآخرة، فإن كان يريد أجرا فامنعه، أو يميل به هوى فدعه، ثم انظر فيما يجيء به هل يشبه ما يجيء به الناس، فإن كان يشبهه فسله العيان، وتخبر عليه في الخبر، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال وخف ما وعد. فقال الجلندي: إنه والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وإنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وإنه يفي بالعهد وينجز الموعود، وإنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوي فيه أهله، وأشهد أنه نبي.
50
شجاع بن وهب (وهبه) بن ربيعة الغنمي (-12ه)
وكان من العقلاء الشجعان النبلاء، بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى جبلة بن الأيهم بن الحارث بن أبي شمر الغساني بغوطة دمشق، فقال له: يا جبلة، إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم - يعني الأنصار - فآووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبي الأمي من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضك. فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، والقبلة بالصليب، وكان ما عند الله خير وأبقى .
فقال له جبلة: إني والله لوددت أن الناس أجمعوا على هذا النبي الأمي اجتماعهم على خالق السماوات والأرض، ولقد سرني اجتماع قومي له، وأعجبني قتله أهل الأوثان واليهود، واستبقاؤه النصارى، ولقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، فانتدب مالك بن ناقلة من سعد العشيرة فقتله الله، وسأنظر.
51
المهاجر بن أبي أمية المخزومي (-؟)
وكان من عقلاء العرب ودهاتهم وشجعانهم وتجارهم. بعثه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن، فلما قدم عليه قال له: يا حارث، إنك كنت أول من عرض عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرا، فإذا نظرت في غلبة الملوك فانظر في غالب الملوك، وإذا سرك يومك فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وإني أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك، وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس له شيء أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه. واعلم أن لك ربا يميت الحي ويحيي الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فقال الحارث: قد كان هذا النبي عرض نفسه علي فخطئت عنه، وكان ذخرا لمن صار إليه، وكان أمره أمرا سبق فحضره اليأس وغاب عنه الطمع، ولم يكن لي قرابة أحتمله عليها، ولا لي فيه هوى أتبعه، غير أني أرى أمرا لم يوسوسه الكذب ولم يسنده الباطل، له بدء سار وعاقبة نافعة، وسأنظر.
52
وهناك سفراء آخرون تطول أخبارهم منهم:
عبد الله بن حذافة السهمي:
بعثه إلى كسرى ملك الفرس.
وعمرو بن أمية الضمري:
بعثه إلى النجاشي.
وسليط بن عمرو السليطي:
بعثه إلى ثمامة بن أثال ملك اليمامة.
شجاع الأسدي:
بعثه إلى الحارث الغساني ملك البلقاء.
وكان بعث الرسول هؤلاء السفراء في محرم من السنة السابعة للهجرة.
53 (2-3) الرسالة
كما كان للرسول سفراء بعث بهم إلى الملوك والأمراء في عصره، كانت له رسل بعث بهم لتبليغ بعض رسائله التي تتضمن الدعوة إلى الإسلام، أو إلى عقد الصلح، أو تبليغ بعض الأخبار الدينية أو السياسية. ومن رسله حراش بن أمية الخزاعي؛ بعث به إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له، وأمره أن يبلغ أشرافهم ما جاء به؛ فعقروا جمل الرسول وأرادوا قتله، فمنعهم الأحابيش وخلوا سبيله، ثم أرسل المصطفى
صلى الله عليه وسلم
في ذلك عثمان بن عفان بإشارة عمر بن الخطاب، فبلغ ما أراد ونجا.
54
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان، وبعث معه بهدية إلى مكة، ويروي أبو عبيد القاسم بن سلام أن هذه الهدية كانت تمر عجوة، وأن النبي كتب إلى أبي سفيان يستهديه أدما، فأهداه إليه أبو سفيان، وكان ذلك أيام الهدنة بين الرسول
صلى الله عليه وسلم
وبين أهل مكة قبل فتحها.
55
وهذا يدلنا على حسن سياسة النبي، وأنه على الرغم من الخصومة الشديدة التي كانت بين النبي وبين قريش، فإن هذا لم يمنعه من أن يتلطف مع أبي سفيان رئيس قريش، فيهدي إليه ويستهديه، وفي هذا ما فيه من براعة النبي الكريم وكياسته. وقد كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يحسن استقبال الرسل الذين يجيئون إليه ويتلطف معهم؛ فقد روى ابن حجر في الإصابة في ترجمة مسعود بن سعد الجذامي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ... ثم ذكر القصة، وفيها: أن فروة كان عاملا لقيصر على عمان من البلقاء، فكتب فروة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بإسلامه، وأرسل إليه بهدية مع رجل من قومه يقال له مسعود بن سعد، فقرأ الرسول كتابه وقبل هديته، وأجاز رسوله بخمسمائة درهم.
56
وهذا يدلنا على حسن تلقي النبي لرسل غيره وإجازتهم. (2-4) الترجمة
وكما اهتم الرسول بأمر السفراء والرسل، كذلك اهتم باللغات الأجنبية للكتابة إلى أربابها بلغاتها، وإبلاغهم رسالة ربه تعالى بها. وفي كتاب التراتيب الإدارية بحث مفصل في معرفة النبي للغات الأجنبية ومناقشة النظرية القائلة بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
أرسل إلى جميع البشر، وأن القرآن يقول:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه . فهذا يقضي كونه - عليه الصلاة والسلام - يعرف غير اللغة العربية. ونحن - على الرغم من ضعف حجج القائلين بمعرفة النبي للغات الأقوام والملوك الذين كاتبهم ودعاهم إلى الإسلام - نعتقد بأن النبي - عليه السلام - قد أوصى بعض أصحابه بتعلم بعض اللغات الأجنبية من فارسية ورومية وحبشية وعبرية وسريانية؛ لشدة حاجة الدعوة الإسلامية إليها، وقد احتاج النبي إلى تراجمة يترجمون له ما يكتب إليه بهذه اللغات. وقد تواترت الأقوال أنه
صلى الله عليه وسلم
طلب إلى زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة العبرية أو السريانية؛ فقد ذكر ابن حجر في ترجمة زيد: أن زيدا كان من علماء الصحابة وفضلائهم، وأنه الذي جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر حين قال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك. وإنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
حين قدم المدينة، فقرأ عليه سبع عشرة سورة من القرآن كان يحفظها، فأعجبه وقربه، ثم قال له: «تعلم كتاب اليهود؛ فإني ما آمنهم على كتابي.» قال زيد: ففعلت، فما مضى نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له.
57
ويروى أنه أمره بتعلم السريانية أيضا، وأنه تعلمها في سبعة عشر يوما؛ ففي الاستيعاب لابن عبد البر أنه كانت ترد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كتب بالسريانية، فأمر زيد بن ثابت بتعلمها فتعلمها في بضعة عشر يوما. وفي مختصر الطحاوي: عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أتحسن السريانية؟ إنه تأتيني كتب.» قال: قلت: لا. قال: فتعلمتها في تسعة عشر يوما. وفي الأحكام الصغرى ذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنه تأتيني كتب من أناس لا أحب أن يقرأهن كل واحد، فهل تستطيع أن تتعلم السريانية؟» قال: قلت: نعم. فتعلمتها في سبعة عشر يوما.
58
ويذكر الكتاني والخزاعي
59
أن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري كان يكتب للملوك ويجيب بحضرة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وقد نقل ذلك التلمساني في «العمدة»، وابن هشام في «البهجة»، ويذكر صاحب العقد أن زيدا تعلم الفارسية من رسول كسرى، والرومية من حاجب النبي
صلى الله عليه وسلم ، والحبشية من خادم النبي، والقبطية من خادمته.
60
ويذكر ابن عساكر في تاريخه: أن الرسول قال له: «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كل واحد، فهل تستطيع أن تتعلم كتاب العبرانية؟» أو قال: السريانية. فقلت: نعم. قال: فتعلمتها في سبع عشر ليلة.
61
وتخلص من هذه الأقوال والروايات كلها أن زيدا تعلم بعض اللغات الأجنبية بأمر الرسول، وأكثر الروايات على أنها عبرية، وأنه تعلمها في مدراس يهودي يسمى مدراس ماسكة.
62
ومهما يكن من شيء، فإن الرسول اهتم بهذه الناحية لحاجته الشديدة إلى الكتابة باللغات الأجنبية، ولا شك في أنه كان يستعين ببعض صحابته من أرباب تلك اللغات؛ كصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي، وأنه أمر بعض الشبان من أذكياء الصحابة أن يتعلموا بعض اللغات الأجنبية التي لم يكن بين الصحابة من يعرفها أو يحسن الكتابة بها؛ كالعربية أو السريانية. (3) الشئون الديوانية الإدارية
نظم الرسول الكريم شئون حكومته الإدارية والديوانية تنظيما كاملا بعد أن استقر أمره في المدينة، وقد اتخذ المسجد مقر حكومته يحكم فيه، ويتقبل زيارة الوفود، ويفصل فيه بين الناس، ويعلمهم أمور دنياهم، ويفقههم في أمور دينهم. ولم يكن تنظيم النبي الكريم لأمور الدولة تنظيما ناقصا كما يزعم ابن خلدون في مواضع كثيرة من مقدمته، ومنها قوله في الفصل الذي عنوانه (انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة): اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول؛ فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس، ولا يكون ذلك غالبا إلا مع البداوة؛ فطور الدولة من أولها بداوة، ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه ... ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح، وملكوا فارس والروم، واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة حتى حكي أنه قدم لهم المرقق، فكانوا يحسبونه رقاعا، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ...
63
إلخ تلك الأقوال السخيفة التي لا تقوم على شاهد، وإنما هي من تلفيق الشعوبيين وأعداء العرب والإسلام، مع أن الدولة الإسلامية المحمدية كانت وليدة نهضة عربية قوية أخذت من حضارة العرب القديمة خير ما فيها، وجاء محمد مكملا لنواقص تلك الحضارة بما حباه الله من عقل وعلم، وحكمة وعرفان. وإن من يدقق في سيرة النبي وأصحابه وأخبار الأمة العربية في صدر الإسلام، يجد أن القوم كانوا متمتعين بنوع من الحكم الراقي المنظم، وأن النبي الكريم قد عمل خلال سنيه العشرة التي أقامها في المدينة على تأسيس حكومة كاملة المصالح مرتبة الشئون والإدارات والتراتيب والعمالات. يقول القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي: وأما الأمة السابعة، وهي الأمة العربية، فهم فرقتان: فرقة بائدة وفرقة باقية ... وأما الباقية فهي متفرعة من جدين: قحطان وعدنان، ويضمهما جميعا حالان: حال الجاهلية وحال الإسلام؛ فأما حال الجاهلية فمشهورة عند الأمم من العز والمنعة ... وكانوا طبقتين: أهل مدر وأهل وبر؛ فأما أهل المدر، فهم أهل الحضر وسكان القرى، وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والكرم والماشية والضرب في الأرض للتجارة ... وكانت عبادة الأوثان فاشية في العرب حتى جاء الإسلام. وجميع عبدة الأوثان من العرب موحدة الله تعالى، وإنما كانت عبادتهم ضربا من التدين بدين الصابئة ... وأما علمها الذي كانت تفاخر به وتباري فيه، فعلم لسانها وإحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب، وكانت مع ذلك أصل علم الأخبار، ومعدن معرفة السير والأمصار ... وكانوا يدخلون البلاد للتجارة فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم ... والعرب أصحاب حفظ ورواية لخفة الكلام عليهم ورقة ألسنتهم ... وكانت للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأقطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة؛ لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلوم ... وأما حال العرب في الإسلام ... كانت العرب حين بعث النبي قد تفرق شملها وتشتت أمرها، فضم الله شاردها وسكن نافرها، وجمع عليه جماعة ممن كانوا بجزيرة العرب من قحطان وعدنان، فآمنوا به ... وأقروا لله بالتعظيم والتحميد، والتزموا شريعة الإسلام من اعتقاد حدوث العالم وخرابه ... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...
64
ويقول السيد عبد الحي الكتاني: من عرف نهضة الإسلام وتعاليم النبي (عليه السلام)، وأمعن النظر في تلك النهضة، تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن الإسلام في وقت ظهوره أصلا له وينبوعا. فمن تأمل ما بثه النبي
صلى الله عليه وسلم
من التعاليم وأنواع الإرشاد، وما حوى القرآن من آداب الاجتماع وسن من طرق التعارف والتمازج، وما أودع الله غضون كلماته الجوهرية من أحكام الطبيعة وأسرار الوجود وفرائد الكائنات، وما ضبط من الحقوق وسن من نظامات الحياة، وما تلته به السنة النبوية من تهذيب النفوس والأخلاق والإرشاد للأخذ بالأحسن فالأحسن، وأحكمته من سنن الارتقاء والإخاء البشري والتمتع بضروب الحرية، علم أن التمدن الإسلامي في إبان ظهوره قامت معه تلك الأعمال لتأثير تلك التعاليم على قلوب سامعيها في ذلك الحين. نعم لا ننكر أن التمدن الإسلامي جرى مجرى النشوء الطبيعي في كل شيء، وسار سيرا تدريجيا إلى أن وصل إلى أوجه في السمو، فمن لم يتأمل ذلك ولم يحط نظرا في الموضوع بما له وما عليه، لا بد أن يغيب عن علمه ما بلغته الإدارات والعمالات والصناعة والتجارة في تلك العشر سنوات التي قضاها النبي
صلى الله عليه وسلم
في المدينة بعد الهجرة النبوية، وأن الترقي والعمران وصل فيها إلى أحدث ما يعرف من الوظائف اليوم في إدارة الكتابة والحساب والقضاء والحرب والصحة ونحو ذلك.
65
والحق أن الناس قد ظلموا التاريخ العربي والسيرة النبوية بكتاباتهم المرتجلة وبحوثهم المبتسرة، التي لم تقم على البحث المتواصل والجد والتنقيب عن الحقائق العلمية والتاريخية؛ لتعرف أصول الإدارة الديوانية والإدارية في حكومة النبي الكريم وصحابته الراشدين. وقد آليت على نفسي تقصي هذا البحث ودراسته دراسة عميقة أهتدي بها إلى معرفة حقائق الأشياء، لا لأني عربي معتز بعروبتي وقوميتي، ولا لأني مسلم مؤمن بسمو ديني وشرف رسالة نبي؛ بل لأني إنسان محب للحق منقب عن الفضائل جاهد في إدامة البحث، مواصل الليل بالنهار للتنقيب عن القضايا العلمية والنظريات الجوهرية. وقد هداني الله بحوله وقوته إلى ذلك، فاستطعت أن أتبين الخطوط الأولى للإدارة الإسلامية في فجر الإسلام، ورتبت ذلك ترتيبا لم يسبقني إليه باحث من مسلمي هذا العصر ولا مستشرقيه، على أنني لم أدع أنني وفيت البحث، وما عملي إلا لبنة في بناء المجد العربي والعز الإسلامي، وأرجو الله أن يهيئ لهذا البناء من يكمله ويعمل على حفظه وحمايته.
رتب الرسول الكريم شئون حكومته الإدارية والديوانية ترتيبا منطقيا يؤيده العقل السليم وتوحيه الفطرة الصافية، ويتجلى ذلك الترتيب في معالجته للشئون الآتية وإسنادها إلى الأكفاء الأخيار من الصحابة؛ وهي ... (3-1) الوزارة
الوزير في اللغة: هو المعين والعضد، وفي الاصطلاح: هو من يؤازر الأمير أو السلطان، ويحمل عنه بعض أثقال الإمارة وشئون السلطان. وفي القرآن الكريم يقول موسى في حق أخيه هارون:
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري . وقد أكثر مؤرخو الإسلام والأحكام السلطانية وكتاب الخطط من الكلام في الوزارة وأنواعها ومبدئها، وهم يذهبون إلى أن أول من تلقب بذلك أبو سلمة الخلال، الذي كان يلقب في أولية الدولة العباسية: وزير آل محمد، وأن الوزارة تسلسلت في ملك آل العباس بعدئذ. والحق أن النبي قد استعان ببعض كبار الصحابة وجلة المسلمين ممن كانوا يوآزرونه في مسائل الدنيا والدين وحل مشاكل المسلمين، وكان على رأس هؤلاء أبو بكر وعمر اللذان كانا يلقبان بوزيري النبي. وقد كان هذا اللقب مستعملا بمعناه المفهوم اليوم في عهد النبي؛ فقد روى النسائي عن عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا، فإن نسي ذكره، وإن ذكره أعانه. وقال أبو داود في سننه، في باب الوزير: روت عائشة أن النبي قال: «إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل الله له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكره أعانه، وإن أراد الله به غير ذلك جعل له وزيرا سيئا، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه.»
66
وقد كان للنبي وزراء يشاورهم في القضايا المهمة أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابنيه وحمزة وجعفر وأبي ذر والمقداد وسلمان وحذيفة وابن مسعود وعمار.
67
وقال ابن خلدون: الوزارة أم الخطط السلطانية والرتب الحكومية؛ لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة ... وكان
صلى الله عليه وسلم
يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهامه العامة والخاصة، يخص من ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى كان العرب الذين عرفوا الدول ودخلوا لها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره.
68
وهكذا كان عمر مع أبي بكر، وعثمان وعلي مع عمر، ولكن الاسم لم يطلق عليهم، ولا كانوا ينادون به. (3-2) أمانة السر
اتخذ النبي لنفسه صاحب سر يكاشفه بالأسرار الدولية والقضايا الخاصة التي لا يطلع عليها أحد غيره، ولا غرو فإن النبي كما كانت له صفة النبوة التي تستدعي العصمة عن الخطأ، كان إنسانا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويقوم بأعمال البشر ويتصرف بتصرفاتهم، وهو عرضة لكل ما هو للناس من نسيان وخطأ وما إلى ذلك. وقد اتخذ - عليه السلام - في تنظيم شئون الدولة الدنيوية بما تحتاج إليه من مرافق ومقتضيات، كما اعتمد في شئون الدين على ذات الإله سبحانه. وليس بغريب أن يرتب - عليه الصلاة والسلام - لأمور الدنيا ما تقوم به على أحسن وجه، ومن تلك الأمور اختياره طائفة من عقلاء الصحابة وفضلائهم - لأن الصحابة بلا شك كانوا مختلفي الدرجات العقلية والملكات الفكرية والمواهب العلمية - ليكاشفهم ببعض الأسرار التي يرى ألا يطلع عليها غيرهم، فيستفيد بمواهبهم وملكاتهم وعقولهم، ويستعين بذلك على حل بعض المشاكل الدنيوية، أو يتوصل إلى قضاء بعض ما كربه. ومن هؤلاء الرجال أبو بكر وعمر وعلي وسلمان وحذيفة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومصعب وغيرهم. فقد عرف مواهب كل واحد من كبار صحابته، وكان يفضي إليه بما يرى عنده سواء أكان علما يستعين به أو خطة يتمكن بها لتفهم بعض القضايا أو طريقة للوصول إلى حلها. ويظهر أن النبي كان يختص من هؤلاء الرجال المأمونين رجلا يرى فيه الخير ويتوسم فيه حفظ السر؛ وهو الصحابي الجليل أبو حذيفة بن اليمان العبسي (-36ه)، الذي كان يعرف بصاحب سر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكرت كتب تراجم الصحابة أن حذيفة كان صاحب سر رسول الله، ويروي النسائي في السنن في قصته ذهاب علقمة للشام ولقائه في دمشق لأبي الدرداء، أن أبا الدرداء قال له: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ وقال في أسد الغابة: حذيفة صاحب سر رسول الله في المنافقين، لم يعلمهم أحد إلا حذيفة، أعلمه بهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وسأله عمر: أفي عمالي أحد من المنافقين؟ قال: «نعم، واحد.» قال: من هو؟ قال: «لا أذكره.» قال حذيفة: فعزله فكأنما دل عليه. وكان عمر إذا ما مات ميت يسأل عن حذيفة، فإذا حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر، وإلا لم يصل عليه. ولاه عمر على المدائن، فكانت عادة عمر إذا استعمل عاملا كتب في عهده: «بعثت فلانا وأمرته بكذا.» فلما استعمل حذيفة كتب في عهده: «اسمعوا له وأطيعوه وأعطوه ما سألكم.» فلما وصل المدائن استقبله الدهاقين فقرأ عهده فقالوا: سلنا ما شئت. فطلب ما يكفيه من القوت، وأقام بينهم فأصلح بلادهم وفتح نهاوند سنة 22ه صلحا، وغزا الدينور وماه سبذان وهمذان والري. ثم استقدمه عمر، فلما قرب من المدينة خرج للقائه وعانقه وسر بحالته، ثم أعاده إلى المدائن إلى أن مات فيها، وله في صحيح البخاري ومسلم نحو من 225 حديثا.
69 (3-3) الكتابة
اتخذ النبي لنفسه كتابا متعددين؛ منهم من اختصه بكتابة الوحي، ومنهم من كان يكتب له الرسائل، ومنهم من كان يكتب إلى الأمراء في البوادي، ومنهم من كان يكتب له الإقطاع وكتب العهود والصلح، ومنهم من كان يكتب له أموره الخصوصية. وقد روى بعض مؤلفي السير وكتب الحديث أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يوصي كتابه ببعض الوصايا المتعلقة بشئون الكتابة؛ فقد ذكر السيوطي في آخر كتاب «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة» حديثا مسلسلا بالكتاب من طريق عبد الحميد بن يحيى الكاتب، إلى سالم بن هشام الكاتب، إلى عبد الملك بن مروان الكاتب، إلى زيد بن ثابت كاتب رسول الله: أن رسول الله قال له: «إذا كتبت «بسم الله الرحمن الرحيم» فبين «السين» فيه.» وفي «صبح الأعشى» و«الجامع الصغير» وغيرهما عن أنس بن مالك أن معاوية كان يكتب للنبي، فكان إذا رأى من النبي إعراضا وضع القلم في فيه، فنظر إليه النبي فقال: «يا معاوية، إذا كنت كاتبا فضع القلم على أذنك؛ فإنه أذكر لك للمملي.» وأنه قال مرة لمعاوية حين كان يكتب بين يديه: «ألق «الدواة» وحرف «القلم» وأقم «الباء» وجرس «السين» ولا تعور «الميم» وحسن «الله» ومد «الرحمن» وجود «الرحيم».» وأنه ندب الكتاب إلى تتريب الكتاب، قال: «تربوا الكتاب ونحوه من أسفله؛ فإنه أعظم للبركة وأنجح للحاجة.»
70
وقد ألف فيهم جماعة من العلماء؛ منهم القضاعي المؤرخ، ومنهم عمر بن شبة، ومنهم محمد بن علي بن أحمد بن حديدة، واسم كتابه «المصباح المضي في كتاب النبي وفي رسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي»، فرغ منه «سنة 679ه» بمصر، ومنهم الجمال الأنصاري، ومنهم ابن أبي الجعد.
71
فأما كتابة الوحي
فقد كان يكتبها له
صلى الله عليه وسلم
عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، فإن غاب علي كتبها له أبي بن كعب أو يزيد بن ثابت. وفي الاستيعاب لابن عبد البر: وكان أبي بن كعب ممن كتب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
الوحي قبل زيد بن ثابت ومعه، وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان أبي إذا لم يحضر دعا الرسول زيد بن ثابت.
72
وقال القضاعي: فإن لم يحضر أحد منهم كتب الوحي من حضر من الكتاب؛ وهم: معاوية بن أبي سفيان، وجابر بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، وحنظلة بن الربيع. وكان عبد الله بن سعيد بن أبي سرح يكتب الوحي، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فلما فتحت مكة استأمن له عثمان بن عفان، فأمنه رسول الله وحسن إسلامه. وممن كان يكتب له أيضا أبو بكر، وعمر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس، وخالد بن سعيد، وأخوه حبان، وحنظلة بن أبي عامر الأسدي، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، والزبير بن العوام، ومعيقب بن أبي فاطمة الدوسي، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجهيم بن الصلت، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسيلمة. قال الكتاني: وأوصلهم القرطبي في تفسيره إلى ستة وعشرين، وأوصلهم الشبراملي في كتاب القضاء من حاشية على المنهج في فقه الشافعية إلى أربعين، وأوصلهم العراقي إلى اثنين وأربعين فقال:
كتابه اثنان وأربعونا
زيد بن ثابت وكان حينا
كاتبه وبعده معاوية
ابن أبي سفيان كان واعيه
وبعد أن سرد ما أورده العراقي في ألفيته، وقال: وعدهم الرهبان الحلبي في حواشي الشفاء، فأوصلهم إلى ثلاثة وأربعين. وقال نصر الهوريني في المطالع النصرية: ولكن لم يكونوا كتاب وحي، وإنما كان أكثرهم مداومة على ذلك بعد الهجرة زيد بن ثابت، ثم معاوية بعد الفتح.
73
وأما الكتابة الديوانية ومتعلقاتها من كتابة السر والإقطاع والرسائل، فقد كان الرسول يمليها بنفسه على كتابه، أو يطلب إليهم أن يكتبوها ويعرضوها عليه، فإن استحسنها أجاز الكتاب وأرسله إلى صاحبه. قال في صبح الأعشى: إن الديوان اسم الموضع الذي يجلس فيه الكتاب ... واعلم أن هذا الديوان أول ديوان وضع في الإسلام، وذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يكاتب أمراء وأصحاب سراياه من الصحابة ويكاتبونه. وكتب إلى من قرب من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام ، وبعث إليهم رسله بكتبه، وكتب لعمرو بن خرم عهدا حين وجهه إلى اليمن. وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع الشام، وكتب كتاب القضية بعقد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية، وكتب الأمانات أحيانا، إلى غير ذلك.
74
وقال المقريزي في الخطط: «كتابة السر رتبة قديمة لها أصل في السنة؛ فقد خرج أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني في «كتاب المصاحف» عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كل أحد، فهل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية؟» أو قال: كتاب السريانية. فقلت: نعم. فتعلمتها في سبع عشر ليلة.»
75
وهذا يدلنا على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد كان يصطفي بعض الكتاب فيجعلهم يكتبون له بعض ما لا يريد أن يطلع عليه الآخرون، كما رأينا أنه كان يصطفي بعض أصحابه فيودعهم بعض الأسرار كما كان يفعل مع حذيفة بن اليمان فيما رأيت.
وأما كتابة البوادي
فكان في الغالب يتولاها معاوية بن أبي سفيان مع كتابة الوحي، وقيل: بل إن معاوية لم يكتب الوحي. روى شارح المواهب اللدنية: أن معاوية كان يكتب بينه
صلى الله عليه وسلم
وبين العرب.
76
وقال الخفاجي في «نسيم الرياض»: إن رجلا قال للمعافي بن عمران: أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ - يعني أيهما أفضل - وخصهما بالسؤال لأنهما أمويان، فغضب المعافي على السائل وقال: لا يقاس بأصحاب النبي أحد، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحيه؛ لأنه لو لم يستأمنه ما استكتبه الوحي، وكفاه بهذه المرتبة التي لم يصل إليها عمر بن عبد العزيز وأضرابه، والمعافي رجل منطق، فما صح عنه يرد ما قيل إنه - أي معاوية - لم يكتب له شيئا من الوحي، وإنما كان يكتب له إلى القبائل والجهات.
77
وأما كتابة العهود والمواثيق
فقد كان يتولاها علي بن أبي طالب وعامر بن فهيرة وأبو بكر الصديق، ويقال: إن وثيقة الهجرة كتبها عامر بن فهيرة، وإن عامرا كتب له أيضا عهد الأمان لسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، ويقال: بل الذي كتبه أبو بكر الصديق.
78
وأما من كان يكتب له في شئونه الخاصة وحوائجه من قضايا المال وما إلى ذلك
فقد رووا أن الذي كان يتولى ذلك له
صلى الله عليه وسلم
هو الحصين بن نمير والمغيرة بن شعبة. قال الكتاني: ذكره جماعة من المتأخرين، ومنهم القرطبي المفسر في المولد النبوي، والقطب الحلبي في شرح السيرة. وأشار إلى أنه مأخوذ من كتاب القضاعي الذي صنفه في كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنهما كانا يكتبان المداينات والمعاملات، فلا أدري هل أراد هذا أو الذي قبله.
79
اصطلاحاته في كتبه
صلى الله عليه وسلم
كانت قريش قبل البعثة النبوية تكتب في صدور رسائلها وعهودها: «باسمك اللهم»، وقد جرى الرسول على ذلك في كتبه الأولى، ولما نزلت الآية:
بسم الله مجراها ومرساها ، كتب «باسم الله»، ولما نزلت إليه الآية:
إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» في صدور كتبه.
80
ولم تجر عادة محمد
صلى الله عليه وسلم
بذكر «الحمد»؛ فقد قال ابن حجر في فتح الباري: لم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتداء المراسلات «بالحمد»، وقد جمعت كتبه - عليه السلام - إلى الملوك وغيرهم فلم يقع في شيء منها البداءة «بالحمد»، بل بالبسملة.
81
وكان يذكر بعد البسملة قوله: «من محمد رسول الله إلى فلان»، وربما ذكر: «أما بعد» أو لم يذكرها، وربما بدأ كتابه بقوله: «سلام عليك»، أو: «السلام على من اتبع الهدى»، أو: «سلم أنت». وكان في الغالب يذكر اسم المرسل إليه بعد اسمه
صلى الله عليه وسلم ، أو يكتفي بلقبه مثل: «عظيم الروم»، أو «صاحب مملكة كذا». وكان يعبر عن نفسه تارة بالإفراد وتارة بالجمع، فيقول: «بلغني» أو يقول: «بلغنا». وربما بدأ رسالته بقوله: «أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو». وقال صاحب صبح الأعشى: كان
صلى الله عليه وسلم
يفتتح أكثر كتبه بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»، وربما افتتحها بلفظ: «أما بعد»، وربما افتتحها بلفظ: «هذا كتاب»، وربما افتتحها بلفظ: «سلم أنت». وكان يصرح في الغالب باسم المكتوب إليه في أوائل المكاتبات، وربما اكتفى بشهرته، فإن كان المكتوب إليه ملكا كتب بعد ذكره اسمه: «عظيم القوم الفلانيين»، وربما كتب: «ملك القوم الفلانيين»، وربما كتب: «صاحب مملكة كذا». وكان يعبر عن نفسه
صلى الله عليه وسلم
في أثناء كتبه بلفظ الإفراد مثل: «أنا» و«لي» و«جاءني» و«وفد علي» وما أشبه ذلك. وربما أتى بلفظ الجمع مثل: «بلغنا» و«جاءنا» ونحو ذلك. وكان يخاطب المكتوب إليه عند الإفراد بكاف الخطاب مثل: «لك» و«عليك»، وتاء المخاطب مثل: «أنت قلت كذا» و«فعلت كذا»، وعند التثنية بلفظهما مثل: «أنتما» و«لكما» و«عليكما»، وعند الجمع بلفظه مثل: «أنتم» و«لكم» و«عليكم» وما أشبه ذلك. وكان يأتي في صدور كتبه بالسلام فيقول في خطاب المسلم: «سلام عليك»، وربما قال: «السلام على من آمن بالله ورسوله»، وفي خطاب الكافر: «سلام على من اتبع الهدى»، وربما أسقط «السلام» من صدر الكتاب. وكان يتخلص من صدر الكتاب إلى المقصود تارة ب «أما بعد»، وتارة بغيرها. وكان يختم كتبه ب «السلام» تارة، فيقول في خطاب المسلم: «والسلام عليك ورحمة الله وبركاته»، وربما اقتصر على «السلام»؛ ويقول في خطاب الكافر: «والسلام على من اتبع الهدى»، وربما أسقط «السلام» من آخر كتبه.
أما عنونة كتبه
فلم أقف فيها على نص صريح، والذي يظهر أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يعنون كتبه بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان» على نحو ما في صدور كتابه: «من محمد رسول الله» عن يمين الكاتب و«إلى فلان» عن يساره.
وكتبه
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل الإسلام على ثلاثة أساليب: (1)
أن يفتح الكتاب بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»؛ فمن ذلك كتابه إلى خالد بن الوليد في جواب كتابه إليه
صلى الله عليه وسلم
بإسلام بني حارث، وهو على ما ذكره ابن إسحق في سيرته: «سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن كتابك جاءني مع رسول لك يخبرني أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من إسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» (2)
أن تفتح المكاتبة بلفظ: «هذا كتاب» ويذكر المقصد فيما بعد، وهو قليل الوقوع في المكاتبات. ومن ذلك كتابه
صلى الله عليه وسلم
لقبيلة همدان من اليمن فيما ذكره ابن هشام، وهو هذا: «هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرمل مع وافدها ذي المشعار لمالك بن نمط ولمن أسلم معه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها ويرعون عافيها، لكم بذلك عهد الله وذمام رسول الله وشاهدكم المهاجرون والأنصار.»
82 (3)
وأن تفتح المكاتبة بلفظ: «سلم أنت»؛ فمن ذلك كتابه
صلى الله عليه وسلم
إلى المنذر بن ساوي، وهو فيما ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال: «سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبى فإن عليه الجزية.»
وأما كتبه إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام، فعلى ثلاثة أساليب أيضا: (1)
أن يفتتح الكتاب بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»؛ فمن ذلك كتابه
صلى الله عليه وسلم
إلى هرقل وهو قيصر، وقيل: بل نائبه بالشام. وهو على ما ثبت في الصحيحين: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .» (2)
أن يفتتح الكتاب بلفظ: «أما بعد»، وهو أقل وقوعا مما قبله؛ فمن ذلك كتابه
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل نجران ودينهم النصرانية، وهو فيما ذكره ابن الجوزي: «بسم الله الرحمن الرحيم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام.» (3)
أن يفتتح الكتاب بلفظ: «هذا كتاب»؛ فمن ذلك كتابه
صلى الله عليه وسلم
مع رفاعة بن زيد إلى قومه، وهو فيما ذكره ابن إسحق: «هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد، إني بعثته إلى قومه عامة، ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله ورسوله، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب الرسول، ومن أدبر فله أمان شهرين.»
83
وأما كتب الأمراء إليه
صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر القلقشندي أن كتب سراياه
صلى الله عليه وسلم
ومن أسلم من الملوك، تفتح المكاتبة إليه باسمه
صلى الله عليه وسلم ، ويثنون بأنفسهم، ويأتون بالتحميد والسلام عليه
صلى الله عليه وسلم ، ويتخلصون إلى المقصود ب «أما بعد» أو غيرها، ويختمون بالسلام، وملوك الكفر يبدءون بأنفسهم، وربما بدءوا به
صلى الله عليه وسلم . وكان المكتوب عنه منهم يعبر عن نفسه بلفظ الإفراد مثل: «أنا» و«لي» و«قلت» و«فعلت»، وربما عبر بعض الملوك عن نفسه بنون الجمع، ثم إن كان المكتوب عنه مسلما خاطبه
صلى الله عليه وسلم
بلفظ الرسالة والنبوة مع كاف الخطاب وتاء الخطاب، وإن كان كافرا خاطبه بالكاف والتاء المذكورتين، وربما خاطبه باسمه، وإن كان المكتوب عنه مسلما ختم الكتاب بالسلام عليه
صلى الله عليه وسلم .
84 (3-4) إمارة السلم
كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
أمراء ولاهم على بعض البلاد أو النواحي أو الأجناد أو بعض المصالح العامة كالقضاء والصدقات، فقد كان من عادة الرسول أن يوصي كل أمير بإحسان عمله وإتقانه، كما كان يعهد إليهم بكتب يكتبها إليهم بذلك في الغالب. وكان لا يخرج عن المدينة للغزو إلا ولى عليها أميرا، كما أنه لم يكن يبعث سرية للجهاد إلا ولى عليها أميرا، ولم يسلم قوم إلا جعل عليهم أميرا أو عاملا يتولاهم ويجمع صدقاتهم، أو بعث من قبله أحدا يؤمره عليهم ويفقههم في الدين.
وقد كان للنبي أمراء ولاهم المدينة في غيابه عنها، كما كان له أمراء ولاهم مكة وسائر مدن الجزيرة وعشائرها، فممن أمرهم على المدينة «السائب بن عثمان» أمره عليها حين خرج إلى غزوة بواط، وقد ذكرنا أسماء أمراء المدينة في كلامنا على غزوات النبي.
وأما أمراء مكة فأولهم «عتاب بن أسيد»، أمره الرسول عليها بعد الفتح سنة ثمان للهجرة وهو دون العشرين، وممن ولاه بعض أعمال مكة «الحارث بن نوفل الهاشمي».
وأما أمراء اليمن فأولهم «باذان» أو «باذام» الفارسي، وكان ملك اليمن في الجاهلية، وأسلم حين كتب إليه الرسول فأقره على عمله وبقي حتى مات بعد حجة الوداع، فولى ابنه شهرا مكانه. وبعث النبي إلى اليمن أمراء فقهاء، كأبي موسى الأشعري بعثه إلى زبيد وعدن، وولى «خالد بن الوليد» على صنعاء، و«المغافر بن أبي أمية» على كندة، و«زياد بن لبيد» على حضرموت، و«أبا سفيان» على نجران.
ومن أمراء المدن: «سعد بن عبد الله بن ربيعة» ولاه الطائف، و«غسان بن أبي العاص» ولاه على الطائف أيضا، و«العلاء بن الحضرمي» استعمله على البحرين، و«عمر بن حزم الأنصاري» استعمله على نجران، وأعطاه كتابا جامعا فيه من أحكام الإدارة والزكاة والديات والفرائض الشيء الكثير المفيد، و«عمرو بن سعيد بن العاص» ولاه وادي القرى، و«المنذر بن ساوي» ولاه على هجر، و«سواد بن غزية» ولاه على خيبر، و«عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي» ولاه الجند باليمن.
ومن أمراء القبائل «عمرو بن سبيع التغلبي» ولاه على بني تغلب وغطفان، و«الحارث بن بلال المازني» ولاه على جديلة من طيء، و«سعد الدوسي » ولاه على قومه دوس، و«سعيد بن خفاف التميمي» ولاه على بطون بني تميم ، و«صيفي بن عامر» ولاه على بني ثعلبة، و«الضحاك بن قيس» ولاه على قومه، و«امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي» ولاه على كلب، و«عكاشة بن ثور» ولاه على السكاسك والسكون. وقد أحصى الحافظ العراقي في ألفيته في السيرة النبوية أسماء أمرائه
صلى الله عليه وسلم
بقوله:
أمر باذان بلاد اليمن
ثم ابنه شهرا بصنعا يمن
وابن أبي أمية المهاجري
كندة ... إلخ ... (3-5) إمارة الحج
كان العرب في الجاهلية يحتفلون أشد الاحتفال بموسم الحج وبمشاعره، وكان يتولى إمارة الحج «كعب بن لؤي»، وكان إليه الإمارة والحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة، ثم توارث أبناؤه هذه المفاخر إلى أن جاء الإسلام فأقرها، وأول أمير تولى إمارة الحج في الإسلام هو «عتاب بن أسيد» سنة ثمان للهجرة. وفي السنة التاسعة حج بالناس أبو بكر، وفي السنة العاشرة حج الرسول
صلى الله عليه وسلم
بالناس، وخطب فيهم خطبة الوداع. (3-6) الحجابة
كان المسجد النبوي هو مقر الحكومة؛ ففيه كان يجلس النبي للناس، وفيه كان يستقبل الوفود، وفيه كان مسكنه، في حجرات خاصة. وما كان الرسول ليحجب نفسه عن الناس إذا ما كان في المسجد، أما إذا دخل ليستريح أو ليختلي ببعض أهله أو خاصته، فكان له حاجب وآذن وبواب يقفون على بابه فرادى أو مجتمعين، لا يدخلون أحدا عليه
صلى الله عليه وسلم
إلا بعد الاستئذان.
وممن كان يتولى ذلك له
صلى الله عليه وسلم
أنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، ورباح الأسود، وربيعة بن كعب الأسلمي، ومهاجر مولى أم سلمة، وزيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وهلال بن يسار، وغيرهم من مواليه وخدمه. فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: «جاء أبو بكر يستأذن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فوجد الناس جلسوا ببابه ولم يؤذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ...» وفي المواهب اللدنية: «ومن تواضعه - عليه السلام - أنه لم يكن له بواب راتب، ثم ذكر حديث البخاري المروي عن أنس بن مالك، قال: مر النبي
صلى الله عليه وسلم
بامرأة تبكي على قبر فقال: «اتقي الله واصبري.» قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي
صلى الله عليه وسلم . فأتت باب النبي
صلى الله عليه وسلم
فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى.» وقد علق الزرقاني شارح المواهب اللدنية على هذا الحديث بقوله: فلا ينافي وجود بواب أحيانا لأمر ما.»
85
والحق أن النبي الكريم كان يتخذ الحجاب والبوابين في الأوقات التي يريد أن يخلو فيها إلى نفسه، أو إلى بعض الوفود ممن لا يريد أن تكثر عليه الناس في محضرهم، وهذا أمر من أمور السياسة الحكيمة، ومنهج من مناهج الاجتماع المدني الرشيد. (3-7) صاحب الخاتم
لا شك في أن العرب في جاهليتهم كانوا يتخذون الأختام يوقعون بها وثائق بيوعاتهم وصكوك معاملاتهم، ونحن وإن كنا لم نعثر على نصوص متعلقة بذلك، ولا على نماذج من تلك الأختام في الحفريات حتى الآن، إلا أن بعض المؤرخين ورجال السير يذكرون أن الرسول كتب إلى ملوك عصره قبل أن يتخذ الخاتم؛ فقد روى البخاري عن أنس قال: لما أراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرءوا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقشه «محمد رسول الله»، فكأنما ننظر إلى بياضه في يده
صلى الله عليه وسلم . وأخرج الترمذي في الشمائل المحمدية عن أنس أيضا قال: كان خاتم النبي
صلى الله عليه وسلم «محمد» سطر و«رسول» سطر و«الله» سطر. وقال البخاري: إن فصه كان منه. وفي سنن أبي داود والنسائي أنه كان من حديد، ملونا عليه فضة.
وكان الذي يتولى العمل بالخاتم النبوي يوقع به ويعيده إليه «معيقب بن أبي فاطمة» و«حنظلة بن الربيع بن المربع بن صيفي» ابن أخي أكثم بن صيفي.
86
وفي الكتاب الذي بعثه إلى المنذر بن ساوي، والذي عثر عليه صورة الختم النبوي هكذا: ، وكذلك هو في كتاب المقوقس الذي عثر عليه أيضا.
87
وهذا يؤكد ما روي من أن كتابة الختم لم تكن على الترتيب العادي «محمد رسول الله» كما ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه. (3-8) المحتسب
الحسبة وظيفة شرعية تتصل بالقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتصالا وثيقا، وقد أمر الرسول كل فرد أن ينصب نفسه محتسبا يحاسب كل من يتعدى على حقوق الآخرين، أو يفسد عليهم طرقاتهم وأسواقهم، ولكن الرسول الحكيم عرف أن الناس هم الناس، وأنه لا بد لهم من وازع يزعهم، ويكون ذا سلطة حتى تكون كلمته مسموعة وإرشاداته متقبلة وتهديداته مخيفة. وقد كان الرسول يتولى ذلك بنفسه، فإذا رأى منكرا أو فسادا أو تعديا على حقوق السابلة أو المشترين، أزال ذلك بيده، وعاقب كل من يعبث بحقوق الناس، وكذلك فعل الخلفاء من بعده. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول مر على صرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: «يا صاحب الطعام، ما هذا؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟» ثم قال: «من غشنا فليس منا.» ويظهر أن الرسول قد عرف بوجود نفر لا يتورعون عن غش الناس على الرغم من كثرة مراقبته ووجوده بين ظهرانيهم، ورأى بسديد عقله أن لا بد من تنصيب إنسان خاص يراقب أمور الأسواق والطرقات، ويحاسب المتعدين على أعمالهم المخالفة للمصلحة العامة أو لروح الشرع الإسلامي؛ فقد بلغ الرسول أن جماعة من تجار المدينة كانوا يتلقون ركبان التجار وأرباب البضائع من خارج المدينة، فيشترون بضائعهم ويغررون بهم بالأسعار دون أن يعرفوا حقيقة الأسعار في سوق المدينة، فيأخذون البضائع بالرخيص عن أثمانها الحقيقية، ويبيعونها للناس بأكثر من أسعارها، ويربحون أرباحا فاحشة، فنهى عن ذلك، وحرم تلقي الركبان التجار. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر: أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله، فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام. ولما وجد
صلى الله عليه وسلم
أنهم لا يمتثلون أمره ولم ينتهوا عن ذلك أمر بضربهم ومقاصصتهم، قال في الجامع الصحيح: عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: رأينا الذين يبيعون الطعام مجازفة - أي بلا كيل ولا وزن ولا عدد - يضربون على عهد رسول الله أن يبيعوه حتى يذهبوا به إلى رحالهم. وقال ابن عبد البر: استعمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة،
88
وعمر بن الخطاب على سوق المدينة،
89
وكانت لعمر درة من جلد يضرب بها الناس ويؤدبهم.
وكان للرسول مناد خاص يأمره أن يذيع في الناس ما يجب عليهم أن يعملوه من أمور الاحتساب وأحكام الشريعة؛ ففي صحيح البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ البطيخ، فأمر رسول الله مناديا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجرت في سكك المدينة. وفي الصحيح أيضا: عن زاهر الأسلمي قال: إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر، إذ نادى منادي النبي
صلى الله عليه وسلم
أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ينهاكم عن لحوم الحمر. وفي سنن أبي داود: عن معاذ الجهني قال: غزوت مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فضيق الناس المنازل وقطعوا الطرق، فبعث النبي مناديا ينادي في الناس أن من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له. (3-9) صاحب العسس
اتخذ الرسول رجالا يعسون بالمدينة يحرسون الناس ويتبعون أهل الريب والفساق وكل من يريد إفساد أمن المدينة، وكان جماعة من كبار الصحابة يحرسون النبي نفسه خوف الاغتيال، وذلك عقب وروده المدينة؛ فقد روى الترمذي عن عائشة قالت: سهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقدمه المدينة ليلة فقال: «ليت رجلا يحرسنا الليلة.» فبينما نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة السلاح. فقال: «من هذا؟» قال: سعد بن أبي وقاص. فقال له الرسول: «ما جاء بك يا سعد؟» قال سعد: وقع في نفسي خوف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فجئت أحرسه. فدعا له. وقد اتخذ الرسول «بديل بن ورقاء» حارسا للمدينة وصاحب عسس لها، وجعل معه في ذلك أوس بن ثابت وأوس بن عرابة ورافع بن خديج.
90
وفي عهد أبي بكر تولى العسس عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وفي عهد عمر كان يتولى ذلك بنفسه، فيطوف في الليالي ويراقب أحوال الناس ويستصحب معه مولاه أسلم، وربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف. (3-10) صاحب البريد
لم يحتج رسول الله أن ينظم شئون البريد تنظيما كاملا؛ لصغر رقعة الحكومة الإسلامية في وقته، إلا أنه كان قد شرع في ذلك حينما أراد الاتصال بالبلاد المجاورة، ولكنه عوجل فتمم ذلك عمر بن الخطاب. وقد اكتفى النبي باتخاذ الرسل يبعث بهم إلى من يريد الاتصال بهم أو يتلقى منهم رسائلهم، وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يكتب إلى أمرائه: إذا أبردتم إلي بريدا فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم. وإنما طلب الرسول إليهم ذلك للتفاؤل وحسن التلقي؛ فقد وردت عنه - عليه الصلاة والسلام - أخبار كثيرة تؤيد اعتقاده بالفأل والطيرة؛ ولهذا اشترط في صاحب البريد أن يكون حسن الصورة ... وقد انتظمت شئون البريد في عهد عمر حين دون الدواوين ونظم شئون الدولة. (3-11) الشئون العسكرية
جاء الرسول بدعوته سالكا سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، يدعو الناس إلى اتباع ما جاء به، فدخل في دينه نفر من المستضعفين أو الأقوياء، فلقوا جميعا من أهل مكة شر ما يمكن أن يلقاه الإنسان من قومه، فطلب الرسول إلى خصومه أن يكفوا أذاهم فلم يسمعوا، وزادوا في طغيانهم وضلالهم وإيذائهم وتعذيبهم للمسلمين. ولم ير الرسول وسيلة إلا أن يطلب إلى قومه أن يفروا بدينهم، فخرجوا من ديارهم هاربين بدينهم إلى حيث أمنوا على أنفسهم وأولادهم وعقيدتهم، واضطر النبي نفسه إلى الهجرة وترك بيته واللجوء إلى قوم يحبونه ويؤوونه، فلما استقر فيهم أخذ خصومه يسعون لتأليب القوم الذين لجأ إليهم عليه، فلم ينجحوا، واضطر الرسول حين ضاق ذرعا بهؤلاء العتاة وأحس بقوته أن يقابل قوتهم بالقوة، فلجأ إلى حربهم. ولم تكن حروب النبي كلها هجوما، بل كانت حروب دفاع. هذا هو السر في لجوء النبي إلى الحرب وتعزيز الشئون العسكرية. فما لنفر من المبشرين والمستشرقين يزعمون أن نبينا محمدا لم ينجح في دعوته إلا بالسيف، وأنه كان سفاحا، وأن دينه دين قتال وسفك دماء لا دين رحمة ورجاء!
إن الحملات التي شنها المبشرون وأعداء الإسلام على النبي تتركز في هذه القضية، وهي قضية باطلة؛ لأن النبي دعا إلى الإسلام أولا بالحكمة والموعظة الحسنة والمنطق، فلما وقف المشركون في طريقه وحاربوه اضطر أن يدافع عن نفسه ودينه، فقاتل قريشا وقاتل اليهود وقاتل الروم. ثم إن القتال - حتى في عصرنا الحاضر - هو الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها الحكومات لإقرار الأنظمة والإصلاحات إذا قابلها الناس بالابتعاد عنها أو بالعنف، وهل يفل الحديد إلا الحديد؟! وقد شرع الإسلام الجهاد، فقال تعالى:
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا .
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» وهذا قول يقره المنطق والعقل؛ فإن الإسلام لم يأمر إلا بما أمرت كافة الشرائع والقوانين، وإن محمدا ما كان ملكا يطلب الحرب لأجل الحرب، بل نبيا رسولا طلبها لإقرار الأمن والسلام والسكينة على الأرض. وقد تجلت مواهب النبي العسكرية في غزواته؛ فقد كان شجاعا لا يهاب الموت، يسير في الصفوف بين صحابته، ويمارس الحرب ممارسة تدل على علو كعبه فيها. وقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى التي تجلت فيها مواهبه العسكرية وحسن قيادته، ثم تتابعت الغزوات الكبرى التي علا فيها شأن الإسلام، والتي لم يخذل النبي في واحدة منها؛ وذلك لأنه كان ذا عبقرية عسكرية فائقة ليس فيها شيء من العسف ولا الظلم، إنها عبقرية ترضاها وتتطلبها البطولة في كل زمان ومكان، وسنرى في النقاط التالية تنظيماته العسكرية التي استطاع بها أن يقهر قوما يفوقونه عددا وعدة؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم
لم يترك ناحية من النواحي التي يجب على قائد الجيش أن يهتم بها إلا اهتم بها ونظم جيشه بموجبها.
إمارة الجيش
لا بد للجيش من قائد يقوده وينظم خطط هجومه ودفاعه، وقد كان النبي الكريم يتولى ذلك بنفسه في الغزوات التي يخرج فيها بنفسه؛ لما حباه الله من شجاعة وبأس وذكاء وسياسة. وقد بلغت الغزوات التي قادها بنفسه وتولى الإمارة فيها ستا وعشرين موقعة، وقد اصطلح المؤرخون على تسمية كل معركة يكون النبي فيها «غزوة»، وكانت غزوة بدر الكبرى أجل تلك الغزوات وأكثرها فائدة للإسلام. وأما المعارك والوقائع التي لم يحضرها النبي، فكانت تسمى «سرايا»، وقد بلغت سراياه
صلى الله عليه وسلم
ستا وخمسين سرية.
ديوان الجيش
المشهور أن عمر بن الخطاب هو أول من نظم للجيش الإسلامي ديوانا تسجل فيه أسماء المجاهدين، بادئا بقريش وبطونها وأفخاذها، ثم بالقبائل الأخرى كل قبيلة على انفراد، وما ذلك إلا ليعلم عدد المقاتلة من كل قبيلة واستحقاقها وتنظيم موازنة الدفاع ومقدار العطايا وتقسيم الفيء على المسلمين، وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد. ولم يتكلم أحد من مؤرخي السيرة النبوية على أن النبي نفسه قد أمر بإيجاد ديوان الجيش لتسجيل أسماء المجاهدين، مع أن البخاري روى في صحيحه بسنده إلى حذيفة بن اليمان أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «اكتبوا لي من يلفظ الإسلام من الناس.» وأن حذيفة قد كتب ذلك له
صلى الله عليه وسلم
فبلغوا وقتئذ ألفا وخمسمائة رجل. فهذا الحديث يدلنا على أن الرسول أمر باتخاذ هذا التقليد ليعرف عدد المقاتلين من أهل الإسلام، وقد رتب الرسول على المقاتلين من أهل الإسلام رؤساء عرفوا «بالعرفاء»؛ لأنه كان
صلى الله عليه وسلم
بهم يتعرف أحوال المجاهدين، وعريف كل قوم هو زعيمهم والقائم بأمورهم، وهو الواسطة بينهم وبين الأمير. ولا بد من إقامة العرفاء؛ لأن النبي أو الأمير لا يستطيع أن يتعرف بنفسه أحوال كل منهم، وقد حذر الرسول هؤلاء العرفاء من الوقوع في الخطأ أو الظلم أو التعدي على الرعية، وقد روي عنه «أن العرفاء في النار.» وهذا يشعر بأن الوظيفة وظيفة خطيرة، ويجب على صاحبها أن يكون أمينا صادقا عادلا. ومثل هؤلاء العرفاء «النقباء»، وقد جعلهم الرسول نقباء على قومهم يراقبون أحوالهم ويحلون من مشاكلهم ويطلعونه
صلى الله عليه وسلم
على ما يحتاج إليه من معرفة أحوالهم.
تقاليد النبي في جيوشه
كان للنبي إذا عزم الخروج في غزوة تقاليد قلما تخطاها، فمن ذلك أنه كان يستخلف على المدينة أميرا يعهد إليه بالصلاة في القوم والحكم بينهم والمحافظة على شئون المدينة، وقد استخلف عبد الله بن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة على المدينة، وممن استخلفهم عليها أيضا «أبو لبابة» و«جعال بن سراقة الضمري» و«سباع بن عرفطة الغفاري» و«أبو رهم الغفاري» و«علي بن أبي طالب». ومن تقاليده في ذلك أنه كان يستخلف على أسرته من أولي قرابته ليقوم بشئونهم ويقضي حاجاتهم؛ فقد استخلف عليا في غزوة تبوك وخلفه على عياله، وكان أكثر غزواته يستخلف حسان بن ثابت عليهم ويبعث بهم إلى أطمه؛ لأنه كان من أحصن آطام المدينة. ومن تلك التقاليد أنه يعرض جنده قبل السفر إلى الغزو أو في أوقات أخرى؛ ليتأكد من استعدادهم للحرب وقوتهم المعنوية؛ فقد روى ابن عبد البر عن سمرة بن جندب: أن النبي كان يعرض غلمان الأنصار كل عام، فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة بن جندب من بعده فرده
صلى الله عليه وسلم
لصغر سنه ولضعفه، قال سمرة: فقلت: يا رسول الله، لقد أجزت غلاما ورددتني، ولو صارعني لصرعته. قال النبي: «فصارع.» قال سمرة: فصارعته فصرعته، فأجازني في البعث.
91
وقال الإمام الشافعي: رد
صلى الله عليه وسلم
سبعة عشر صحابيا عرضوا عليه أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا السن، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة سنة فأجازهم. وقال البرهان: ويحتمل أن يزيد ردهم في أحد، ويحتمل مجموع من رده في هذه السن في غزواته.
92
وكان
صلى الله عليه وسلم
في العرض يقف الناس أمامه صفوفا صفوفا؛ ففي طبقات ابن سعد الكبرى قصة قدوم العباس بن مرداس السلمي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في تسعمائة من قومه على الخيول والقنا والدروع الظاهرة ليحضروا معه غزوة الفتح، قال العباس: فصفنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإلى جنبه أبو بكر وعمر.
93
وكان من عاداته في ذلك
صلى الله عليه وسلم
أن يسأل كل من يريد الغزو عن أهله، فإن لم يكن لهم من يعولهم سواه رده، وإن كان صغيرا سأله هل أذن له أبواه في الخروج، فإن قال بالنفي رده وقال له: فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا برهما. وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن معاوية السلمي: أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: أريد الغزو، وجئتك أستشيرك. فقال الرسول: «وهل لك من أم؟» قال: نعم. قال الرسول: «الزمها؛ فإن الجنة تحت أقدام الأمهات.»
94
وكان من عادته أنه إذا رجع من غزوة أو حرب أو حج أو عمرة وأقبل على المدينة، أنه كان يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» (الموطأ). وربما نصب للنبي عريش عال يشرف منه على العسكر، وقد فعل ذلك في غزوة بدر، كما أشار عليه بذلك سعد بن معاذ. ومن ذلك أنه كان يقسم الجيش، ويعرف العرفاء في الجيش، ويرتب الأجناد، وغير ذلك مما فيه تنظيم شئون القتال.
أقسام الجيش
كان العرب يسمون الجيش خميسا؛ لأنهم كانوا يقسمونه إلى خمسة أقسام: ميمنة، وميسرة، ومقدمة، ومؤخرة، وقلب، وربما قالوا: المجنبة اليسرى، والمجنبة اليمنى، والمقدمة، والساقة، والوسط. وكان من عادتهم أن يكون الأمير في القلب.
قال ابن هشام في أثناء فتح مكة: إن عبد الله بن أبي نجيح روى أن رسول الله حين فرق جيشه من «ذي طوى»، أمر الزبير بن العوام أن يدخل بعض الناس من «كدى»، وكان الزبير على المجنبة اليسرى ، وأمر سعد بن عبادة الأنصاري أن يدخل في بعض الناس من «كدى»، وكان خالد على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وغفار وسليم ومزينة وجهينة وقبيل من العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين بين يدي الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ودخل
صلى الله عليه وسلم
حتى نزل بأعلى مكة وضربت له قبة هناك.
وكان الجيش يقسم إلى قسمين: «الخيالة» و«الرجالة»، ويسمون البيادقة أيضا، وهي تعريب الكلمة الفارسية: «بياده». وقد أخذ العرب منذ الجاهلية هذا الاصطلاح عن الفرس؛ فقد روى صاحب الاستيعاب أن خالد بن الوليد كان على مقدمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم حنين في بني سليم، وأن النبي جعله يوم فتح مكة على البيادقة، وهم الرجالة، وهم أيضا المحيطون بالملك والمتصرفون له، وكان رماة الجيش هم عصب الجيش، وكان عليهم أمير يتولى زعامتهم يأمرهم بالرمي ويمنعهم منه ويلزمهم أماكنهم، وقد كان أمير الرماة في غزوة أحد عبيد الله بن جبير الأنصاري، أمره النبي عليهم، وأن المشركين لما انهزموا ذهب الرماة ليأخذوا الغنائم، فنهاهم عبيد الله بن جبير أن يتركوا أماكنهم، ولكنهم مضوا وتركوه، فكان من أمر انخذال المسلمين ما كان. وكان
صلى الله عليه وسلم
يقدم بين يدي الجيش طلائع يكشفون أحوال العدو ويتبينون شئونهم، ويبعثون بها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ ليكون على معرفة بأحوال عدوه. فمن ذلك أنه
صلى الله عليه وسلم
بعث ثلاثة فرسان يستطلعون أخبار المشركين يوم أحد، وكان من بين هؤلاء الثلاثة سليط بن سفيان الأسلمي.
95
عدد الجيش ومتعلقاته
اتخذ الرسول الكريم لجيشه من العدد ما كان معروفا في زمنه من سيوف ورماح ودروع ولامات وقسي وسهام وخيل، وقد أمره الله سبحانه بالاستعداد الكامل في قوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة * ترهبون به عدو الله . وفي كتب التفسير والحديث والسيرة كثير من أخبار استعداد النبي وبعث البعوث لجمع السلاح وشراء العدد والخيل للجهاد . وممن بعثهم لذلك «سعيد بن زيد»؛ بعثه إلى نجد حيث الخيل الأصيلة القوية والسلاح الجيد، فذهب وابتاع ما وجد من خيل وسلاح، ولما أفاء الله على النبي أموال بني النضير أخذ منها لنفقة أهله سنة، ثم جعل ما بقي من المال والسبايا عدة للجهاد في سبيل الله. ولم يكتف الرسول بالاستعداد في الأسلحة الخفيفة، بل عمد إلى الاستعداد في الأسلحة الثقيلة كالمنجنيقات والدبابات والعرادات، وهي آلات ثقيلة ترمي الحجارة الثقيلة على أسوار العدو وقلاعه وثكناته فتهدمها. أما المنجنيقات فقد قال الخفاجي عنها: المنجنيق - بفتح الميم وكسرها - آلة لرمي العدو بالحجارة الكبيرة، بأن يشد سوار مرتفعة جدا من الخشب يوضع عليها ما يراد رميه، ثم تضربه سارية توصله لمكان بعيد جدا، وكانت هذه الآلة قديما قبل اختراع المدافع والبارود.
96
وفي السير أنه
صلى الله عليه وسلم
حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق، وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أول من رمى بالإسلام بالمنجنيق أهل الطائف، وقال السيوطي في الأوائل نقلا عن ابن دحية: أول ما رمي بالمنجنيق في الإسلام في غزوة الطائف.
97
وفي كامل ابن الأثير أن الذي أشار على النبي بذلك هو سلمان الفارسي، وفي أوائل السيوطي أيضا: أن أول من وضع المنجنيق هي بلقيس ثم جذيمة الأبرش.
98
وأما الدبابات - وواحدها دبابة - فهي آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدفعون إلى الأسوار ويثقبونها، وقال المجد الفيروزآبادي في القاموس: الدبابة تتخذ في الحروب فتندفع في أصل الحصن فيشنون وهم في جوفها، وقال في التراتيب الإدارية: هي بيت صغير، تعمل للحصون، يدخلها الرجال فينقبون من داخلها، ويكون سقفها حرزا لهم من الرمي. وفي كتاب نفحة الحدائق والخمائل في الابتداع والاختراع للأوائل: أول دبابة صنعت في الإسلام دبابة صنعت على الطائف حين حاصرها النبي
صلى الله عليه وسلم .
99
وأما العرادات فهي كالمنجنيق، إلا أنها أصغر منه. وفي طبقات ابن سعد أثناء كلامه عن وفد ثقيف على رسول الله: ولم يحضر عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلامة حصار الطائف، كانا في جرش يتعلمان صنع العرادات والمنجنيق والدبابات. ومما يتعلق بعدد الجيش صنع القلاع والحصون، وقد كان العرب يعرفون ذلك في جاهليتهم، فاستمر رسول الله على ذلك. ومما اخترع في عهده أيضا صنع الأخاديد والخنادق، وأول ما صنع ذلك رسول الله في غزوة الأحزاب، أشار عليه به سلمان الفارسي، فأمر النبي بحفره بعد أن خطه، وقطع لكل عشرة من الصحابة أربعين ذراعا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان؛ لأنه كان رجلا قويا، فقال هؤلاء: هو منا. وقال أولئك: هو منا. فقال الرسول: «سلمان منا أهل البيت.» وفي سيرة ابن هشام: أنه
صلى الله عليه وسلم
حفر الخندق بنفسه، ولما أقبلت قريش فرأت الخندق هالها ذلك، وقالت: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.
100
وقال السهيلي في الروض الأنف: إن اتخاذ الخندق من مكائد الفرس؛ ولذلك تفطن سلمان وأشار به، والفرس أول من حفر الخندق، وبخت نصر أول من اتخذ الكمائن. ومما يتعلق بعدد الجيش راياته وألويته؛ فقد اتخذ النبي لنفسه رايات وأعلاما؛ «فاللواء» ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، و«الراية» ما يعقد فيه ويترك حتى تضعضعه الرياح، وقيل: بل هما شيء واحد، ولكن اللواء دون الراية، وقيل العكس. أما «العلم» فهو الذي يرفع فوق الأمير، يدور معه حيث دار، وقد كان للرسول أناس يحملون رايته
صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أبو بكر وعمر وعلي والزبير وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقيس بن سعد بن عبادة ومصعب بن عمير.
101
وكان من تقاليده
صلى الله عليه وسلم
أن يعقد الرايات لكل أمير يبعثه في سرية أو بعث. ويقال إن أول راية عقدها هي راية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة. وفي الإصابة أن سعد بن مالك وفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
فعقد له راية سوداء وفيها هلال أبيض.
102
وفي التراتيب الإدارية: قال ابن إسحق: دفع
صلى الله عليه وسلم
اللواء يوم غزوة بدر الكبرى إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض. وفي سنن النسائي وأبي داود: عن جابر أنه كان لواؤه
صلى الله عليه وسلم
يوم دخول مكة أبيض لا أصفر. وفي سنن أبي داود: عن سماك بن حرب عن رجال من قومه قال: رأيت راية النبي
صلى الله عليه وسلم
صفراء لا غبراء. وقال ابن إسحق في أخبار غزوة بدر: وكان أمام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رايتان سوداوان؛ إحداهما مع علي والأخرى مع بعض الأنصار. وذكر عبد الله بن حبان الأصفهاني «في كتاب أخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم » أنها كانت سوداء تسمى العقاب. وفي تاريخ البخاري: عن الحارث بن حسان قال: دخلت المسجد فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
قائما على المنبر يخطب، وفلان قائم متقلدا السيف، وإذا راية سوداء تخفق، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من ذات السلاسل.
103
مكائد الجيش
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الحرب خدعة.» ولا ريب في ذلك؛ فإن إعلان الحرب هو قطع لكل العلاقات الودية والإنسانية مع الخصم، فلا مانع عقلا ولا شرعا من اتخاذ كل الوسائل للتغلب على العدو وقهره. وأول ما يجب على القائد الاهتمام به، هو أن يعرف أخبار عدوه وأحواله وعدده، ولا أفضل في ذلك من اتخاذ الجواسيس والعيون. وقد استحسن النبي ذلك وفعله، وكانت له عيون يبعث بهم للاستطلاع والتحقيق عن أحوال العدو؛ ومنهم «بسبس» أو «بسبسة بن عمرو»، فقد بعثه
صلى الله عليه وسلم
لتعرف عير أبي سفيان، وبعث معه عينا آخر اسمه «عدي بن أبي الزغباء الجهيني» يتجسسان خبر أبي سفيان في وقعة بدر، فسارا حتى أتيا قريبا من ساحل البحر. ومنهم «عبد الله بن أبي بكر الصديق»، كلفه أبوه حين خرج مع النبي للمهاجرة أن يستمع أخبار قريش ويأتيهما بها وهما في الغار، وكان شابا فطنا، كان يبيت عندهما ويخرج وقت السحر، فيظل مع قريش يتسمع أخبارها وينقلها إلى النبي وأبيه. وممن بعثهم يتجسسون له أخبار العدو يوم بدر «علي بن أبي طالب» و «الزبير بن العوام» و«سعد بن أبي وقاص».
104
وممن كان يتجسس للنبي «طلحة بن عبيد الله» و«سعيد بن زيد»، بعثهما إلى طريق الشام يتجسسان أخبار قريش، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم بدر، فضرب لهما الرسول بسهميهما وأجرهما. وفي طبقات ابن سعد: أن «أبا تميم الأسلمي» أرسل غلامه «مسعود بن هنيدة» من العرج على قدميه إلى رسول الله يخبره بقدوم قريش عليه، وما معهم من العدد والعدد والخيل والسلاح يوم أحد. وفي الاستيعاب: أن «حذيفة بن اليمان» بعثه النبي يوم الخندق ينظر إلى قريش، فجاءه بخبر رحيلهم.
105
وبعث
صلى الله عليه وسلم
يوم غزوة هوازن «عبد الله بن أبي حدرد»، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ويأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد حتى دخل فيهم، فأقام بينهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله ...
106
وممن بعثهم الرسول يتجسسون له على قريش «أمية بن خويلد» و«بشر بن سفيان العتكي»، و«جبلة بن عامر البلوي» تجسس له يوم الأحزاب، و«خبيب بن عدي». وروى البخاري أن للنبي
صلى الله عليه وسلم
عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت.
107
ومن مكائده في حروبه
صلى الله عليه وسلم
اتخاذ المخذلين في صفوف أعدائه؛ لما في ذلك من تضعيف أمرهم وإفساد قلوبهم؛ فقد روى ابن سعد: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي إلى صفوف الأحزاب يخذلهم عن المسلمين، فأوقع بين قريش وبين قريظة وبين غطفان حتى صرف الله كيدهم عن المسلمين.
108
وقد قدمنا تفصيل ذلك في كلامنا عن غزوة الأحزاب. ونقل الكتاني عن كتاب العلل لأبي حاتم: عن النواس بن سجعان قال: بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
سرية فقال لها: «تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار، إن كل كذب مكتوب كذبا لا محالة، إلا أن يكذب الرجل في الحرب؛ فإن الحرب خدعة.»
109
ومن مكايد الحروب إحراق الأشجار وتقطيعها؛ لإفساد أمر العدو وعدم تمكينهم من الاحتماء بها، فقد روى مسلم في صحيحه: عن عبد الله بن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أمر بإحراق نخيل بني النضير، وعهد بذلك إلى أبي ليلى المزني وعبد الله بن سلام، فأنزل الله عز وجل الآية:
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
110
ومن مكائده في الحروب أنه كان يجعل لكل غزاة شعارا وكلمة يتعارفون بها في الحروب، ويتداعى بها كل فريق، وهو الذي يقابله عند الأجانب في العصور الحاضرة ما يسمى بال
Mot d’ordre ، فمن شعاراته
صلى الله عليه وسلم : «يا كل خير»، و«يا أصحاب سورة البقرة»، و«يا حلال»، و«أنت أنت»، و«يا منصور أمنت»، و«هم لا ينصرون»، و«يا منصور». قال ابن عباس: وكان الشعار يوم بدر: «يا منصور»، ويوم حنين: «هم لا ينصرون»، وشعارهم يوم انهزموا: «يا أصحاب سورة البقرة»؛ تخصيصا لهم. وقال بعض الشافعية، وقد ذكر الحقوق المرتبة على أمير الجيش لهم، فعد منها: أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا به متميزين، وبالاجتماع به متظافرين.
111
معاملته
صلى الله عليه وسلم
للأسرى والكفار
كان الرسول الكريم منصفا مع خصومه على الرغم من اشتدادهم عليه ومحاولتهم الفتك به وقتله، ولم يعلم عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قتل أحدا في حروبه إلا أبي بن خلف، وكان في كل حالاته داعية خير كارها للدماء والقتل، لا يترك فرصة - حتى في خلال المعارك - يدعو فيها خصومه إلى اعتناق الدين القويم. ولما أتم الله للمسلمين فتح مكة ووقع أهلها أسرى في يد المسلمين عفا عنهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.» وكان من عاداته
صلى الله عليه وسلم
إذا جاءه الأسرى أن يجعل عليهم رجلا يراقب أحوالهم؛ ومن هؤلاء «أسلم بن بحرة الأنصاري»، وقد جعله على أسرى بني قريظة من اليهود. ومنهم «بديل بن ورقاء»، جعله النبي
صلى الله عليه وسلم
على الأسرى والأموال بالجعرانة. ومنهم «بريدة بن الحصيب»، جعله النبي
صلى الله عليه وسلم
على أسرى المريسيع. ومنهم «شقران» مولى النبي ، استعمله على جميع ما وجد في رجال أهل المريسيع من المتاع والسلاح والغنم والشاء .
في أدب الجهاد
أوجب النبي الجهاد على كل قادر عليه؛ تلبية لأمير المسلمين وإعلاء كلمة الله. والواجب على كل من يخرج للجهاد أن يكون خروجه لله ولإعزاز دينه، لا للتفاخر ولا طلبا للغنائم؛ فقد روى أبو موسى الأشعري عن النبي: أنه جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.» وعن ابن مسعود قال: «إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا أو قتل شهيدا، فإن الرجل ليقاتل ليغنم، ويقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه.»
112
ويجب على المجاهد ألا يأخذ ما لا يحل له أخذه، فإن ذلك معصية كبيرة سماها القرآن «غلولا»، وقال أبو هريرة: خرجنا مع الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى خيبر، ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا، غنمنا المتاع والطعام والثياب. ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله عبد له، فلما نزلنا قام عبد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يحل رحله، فرمي بسهم فيه حتفه، فلما قلنا له: هنيئا له الشهادة يا رسول الله. فقال: «كلا، والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم.» قال: ففرغ الناس، فجاء الرجل بشراك أو بشراكين، فقال: أصبته يوم خيبر. فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «شراك من نار أو شراكان من نار.» وقال ابن الجوزي: وقد يكون الغازي عالما بالتحريم، إلا أنه يرى الشيء الكثير فلا يصبر عنه، وربما ظن أن جهاده يدفع عنه ما فعل، وها هنا يتبين أثر الإيمان والعلم. روينا بالإسناد عن هبيرة بن الأشعث عن أبي عبيدة العنبري قال: لما هبط المسلمون وجمعوا الأفياض، أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأفياض، فقال الذين معه: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله لما أتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ قال: والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا أغريكم لتقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
113 (4) الشئون الاجتماعية
كان الرسول العظيم على جانب كبير من رقة القلب والحنان والعطف على الناس أجمعهم، وقد أثرت عنه
صلى الله عليه وسلم
حوادث وأقوال تدل على شدة عنايته - عليه السلام - بالناس وأحوالهم والعطف عليهم والدعوة إلى الإصلاح في الشئون الاجتماعية العامة.
وفدت على النبي جماعة من هوازن وهي مهزومة بعد وقعة حنين، وفيها عم له من الرضاعة، فأحسن النبي تلقيهم لأجل عمه من الرضاعة، ثم تشفع النبي لدى المسلمين أن يردوا على هوازن ما أخذوه من السبي، واشترى بماله من السبي ممن أبوا أن يردوا السبايا إلا بالمال، وما فعل ذلك إلا لرقة قلبه وحفظه العهود وتعليما للناس أن وراء الحقوق قضايا اجتماعية هامة يجب على المرء أن يرعاها. وكان
صلى الله عليه وسلم
إذا ودع رجلا أخذ بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه. وكان كثير الرحمة للصبيان والعيال والبائسين والأرقاء والخدم، يهتم بهم ويفكر في أحوالهم، وقد اهتم أيضا بشئون الناس الاجتماعية عامة، فأمر بعمل كل ما فيه إصلاح المجتمع الدنيوي، وأوجب على الناس القيام بكل ما فيه قوام مجتمعهم وإصلاحه، وحرضهم على التعاطف والتراحم وإقامة القسطاس وحفظ حقوق الآخرين وعمل كل ما فيه إصلاح شئون المجتمع الإسلامي من آداب وأخلاق فاضلة ومرافق عامة وما إلى ذلك. (4-1) الآداب العامة
في القرآن الكريم والسنة النبوية طائفة كبيرة من الآداب الجامعة التي أمر الناس بها، ويتجلى لنا بعضها في الآيات والأحاديث الآتية:
قال الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .
114
وقال سبحانه:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما .
115
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «حق المسلم على المسلم، إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه.» وقال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر من ألا تزدروا نعمة الله عليكم.» وقال النواس بن سمعان: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.» وقال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه.» وقال: «من أحب أن يبسط له رزقه، وأن ينسأ في أثره فليصل رحمه.» وقال: «لا يدخل الجنة قاطع «رحمه».» وقال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.» وقال: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات )، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه.» وقال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.» وقال: «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء، وإن الله يحب العبد المحترف، رحم الله امرأ سهل البيع، وسهل الشراء، وسهل القضاء، وسهل الاقتضاء.» وقال: «من أنظر معسرا أو ترك له، حاسبه الله حسابا يسيرا، ومن الإحسان أن يقيل من يستقيله.»
116
هذه نقطة من بحر الآداب الاجتماعية التي دعا إليها النبي الكريم، وهي كما نرى قبس من نور الإله الرحمن الرحيم الذي بعث نبيه محمدا يختم رسالات الرسل الأكرمين، ويتمم مكارم الأخلاق، ولم تكن خطة النبي أن يقول فقط، ولكنه كان يقول ويعمل. وقد كانت حياته الخاصة وتصرفاته وأعماله كلها منطبقة تمام الانطباق على أقواله، فهو يأمر الناس بأمر، ويحضهم على مكرمة، ويكون أول العالمين بها، وهو يدعوهم إلى فضيلة، ويرشدهم إلى منقبة، ويكون أول من يتحلى بها. وكان
صلى الله عليه وسلم
يراقب نفسه ويحاسبها على أعمالها، ويدعو الناس إلى مراقبة نفوسهم وجهادها، فإن هذا هو الجهاد الأكبر، وكان يقول: إذا أراد الله لعبد خيرا بصره بعيوب نفسه.
117
وكان يحض الناس على عدم التدخل في شئون الآخرين، إلا ما كان فيه مصلحة عامة أو فائدة للمجتمع. ولم يكن دينه دين آخرة وحسب، بل اهتم بشئون الدنيا والحض على العمل لها، وكان يقول: «رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه.» وسنرى في النقاط التالية شدة عنايته بدقائق الأمور الدنيوية عنايته بإصلاح أحوالها. (4-2) الاهتمام بمعاملات الناس وحفظ الحقوق العامة وإصلاح شأن البيئة الإسلامية
نظم الرسول أمور البيئة الاجتماعية، فأمر بالزكاة، وهي فرض على المسلم يدفعه لإصلاح شئون المجتمع. وقد نص القرآن على أن مصارف الزكاة يجب أن تكون في هذه الأصناف الثمانية: (1)
الفقير: وهو من لا مال له ولا قدرة على الكسب. (2)
المسكين: وهو الذي لا يفي دخله بخرجه. (3)
السعاة: وهم الذين يجمعون مال الزكاة. (4)
المؤلفة قلوبهم: وهم الأشراف الذين أسلموا وكان في إعطائهم المال ترغيب لقومهم بدخول الإسلام. وقد انقرض هذا الصنف الآن، كان خاصا بأيام الدعوة الإسلامية الأولى. (5)
المكاتبون: وهم الأرقاء الذين يكاتبهم مواليهم على شيء من المال يدفعونه إليه فيحرروهم. (6)
الغارمون: وهم المدينون الذين لا يملكون وفاء ديونهم. (7)
الغزاة في سبيل الله: ممن ليس لهم راتب معين في ديوان الدولة. (8)
أبناء السبيل: وهم المسافرون الذين انقطعت بهم الأسباب وفقدوا المال.
هذه هي مصارف الزكاة، وهي - كما نرى - مصارف معقولة أوجب الله لأربابها حقا مفروضا في مال كل مسلم قادر. ومما أمر به الإسلام مما فيه إصلاح الشئون الاجتماعية تنظيم قضايا البيوع والمتاجرات والعقود والأقضية وكل ما له علاقة بالمعاملات وكسب العيش، وقد حض الرسول الكريم على إحسان المعاملة فيها؛ فقد ورد عنه
صلى الله عليه وسلم : «من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب العيش.» وقال: «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء.» وقال: «رحم الله امرأ سهل البيع والشراء، سهل القضاء، وسهل الاقتضاء.» وكان
صلى الله عليه وسلم
ينهى عن احتكار الطعام، كما ينهى عن إخفاء عيوب البضائع، ويحرم كافة أنواع التلبيس والغش، ويأمر بالتساهل في البيع والشراء، واجتناب الظلم في المعاملات، ويحرض على المتاجرة والكسب، وينهى عن التواكل والتقاعس وتناول كل ما فيه شبه، وكان يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.»
وإن من أهم ما حرض عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
هو عدم التطفيف في الكيل والوزن، وقد شدد الله ونبيه النكير على من يفعل ذلك، فقال تعالى:
ويل للمطففين ... وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله: أن النبي اشترى مني بعيرا بأوقيتين ودرهم أو بدرهمين، فلما قدم المدينة وزن لي ثمن البعير فأرجح. وفي سنن أبي داود أنه - عليه السلام - كان يقول للوازن : «زن وأرجح.»
118
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله.» ولم يترك الرسول شأنا من شئون معاملات الناس إلا اهتم به، ودعا إلى حفظ الحقوق والقيام بأمور الناس ومصالحهم ومرافقهم على أحسن وجه، حتى إنه أمر ببناء المستشفيات ودور الضيافة والقيام بما فيه الترويح عن الناس من إقامة الحفلات البريئة وإجازة حلبات السباق.
أما المستشفيات والشئون الطبية
فقد اهتم بها اهتماما كبيرا؛ لما في ذلك من العناية بشئون البيئة الإسلامية وحفظ حياتها وصحة أبنائها، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها.» وهذا أدب اجتماعي كبير؛ فإن الخروج من البلد الموبوء فيه نقل للوباء إلى المناطق السليمة، وفيه إهمال للعناية بأمر المرضى بالمدينة وإصلاح أحوالهم، وأما عدم الدخول إليها فلئلا يلقي الإنسان بنفسه في التهلكة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه لما خرج إلى الشام وعلم أن فيها وباء رجع بعد أن حمد الله على سلامته منه. وقال أبو الحسن بن طرخان الحموي: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يديم التطبب في حال صحته ومرضه؛ أما في صحته فباستعمال التدابير الحافظة لها من الرياضة، وقلة المتناول، وأكله الرطب بالقثاء، والرطب بالبطيخ، ويقول: «يدفع حر هذا برد هذا، وبرد هذا حر هذا.» وإكحال عينيه بالإثمد كل ليلة عند النوم، وتأخير صلاة الظهر في زمن الحر القوي، ويقول: «أبردوا بها.» وأما تداويه في حال مرضه، فثابت بما روي من ذلك في الأخبار الصحيحة؛ فمنها ما رواه عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله كثرت أسقامه، وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه، ومنها يسقى آخر عمره أو في آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجه بها.
119
وكان الرسول يخرج معه إلى الغزو والجهاد الممرضات، وكان يجعل لهن خياما يمرضن فيها من يجرح أو يصاب في الله. ومن هؤلاء الممرضات رفيدة بنت سعيد الأسلمية الأنصارية وأختها كعيبة؛
120
ففي صحيح مسلم عن عائشة: أن سعد بن معاذ أصيب يوم الخندق، رماه رجل من قريش، فضرب له
صلى الله عليه وسلم
خيمة في المسجد يعوده من قريب. وفي سيرة ابن إسحق: كان رسول الله قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده - عليه السلام - كانت تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كان فيه ضيعة - أي مرض - من المسلمين.
121
وكان الرسول يوصي الناس بإتيان الأطباء المهرة المشهود لهم بالبراعة والحكمة والفضل، وقد عقد ابن أبي أصيبعة في كتابه فصلا خاصا بالأطباء الذين كانوا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ ومنهم طبيب العرب وحكيمهم وفيلسوفهم الحارث بن كلدة وولده النضر بن الحارث وابن أبي رمثة.
122
وكان
صلى الله عليه وسلم
ينهى مدعي التطبب والكهان والرقاة والسحرة من أن يقوموا بمداواة الناس وإفساد أجسامهم، وإن من فعل شيئا من ذلك وآذى فعليه عقابه. وقد روى أبو داود والنسائي والدارقطني عن عمرو بن شبة أن النبي قال: من تطبب ولم يعلم عنه الطب فهو ضامن. ورواه أبو نعيم: من تطبب ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن. وقد علق الشيخ ابن طرخان الحموي على هذا الحديث بقوله: فيه احتياط وتحرز على الناس، وحكم سياسي مع ما فيه من الحكم الشرعي. وقوله: «تطبب»؛ أي تعاطى علم الطب ولم يكن من أهله، ومعناه: من تعاطى علم الطب ولم يتقدم له به استعمال ومزاولة وتدرب مع الفضلاء فقتل بطبه فهو ضامن.
123
وممن كانوا يتعاطون الطب في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
الشمردل بن قباب الكعبي وضماد بن ثعلبة الأزدي.
124
أما دور الضيافة
فقد أمر النبي باتخاذها، وقد روى ابن هشام أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما فتح الله عليه مكة وفرغ من غزوة تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت، أخذت وفود العرب تتردد عليه من كل وجه، وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة النبوية، وكانت تسمى سنة الوفود، فأمر الرسول ببناء الدور لإنزال هؤلاء الوفود وإكرامهم. وقال السمهودي: إن من دور عبد الرحمن بن عوف التي اتخذها، الدار التي يقال لها الدار الكبرى؛ دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وإنها سميت «بالدار الكبرى»؛ لأنها أول دار بناها أحد المهاجرين بالمدينة، وكان عبد الرحمن ينزل فيها ضيوف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكانت تسمى أيضا دار الضيفان.
125
ومن الدور التي كان النبي ينزل فيها ضيفانه دار رملة بنت الحارث النجارية،
126
وفيها أنزل الرسول وفد بني تميم وبني كلاب وبني قريظة وبني حنيفة. ومنها دور أبي أيوب الأنصاري ويزيد بن أبي سفيان وأم شريك.
127
وكان يضرب لهم الخيام والقباب في ناحية المسجد النبوي فينزلون فيها، ويبعث إليهم بطعامهم، ويجزل جائزتهم وتزويدهم حين سفرهم.
128
وأما القيام بما فيه الترويح عن النفس
من الحفلات البريئة والمسابقات الرياضية، فقد أباحه
صلى الله عليه وسلم . قال الغزالي في تعديد مزايا النبي الكريم ومحاسن أخلاقه، نقلا عن بعض العلماء: كان يمزح ولا يقول إلا حقا، ويضحك من غير قهقهة، يرى اللعب المباح فلا يكرهه، ويسابق أهله.
129
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها: قدم وفد من الحبشة على النبي
صلى الله عليه وسلم
فجعلوا يزفنون ويلعبون؛ أي يرقصون، والنبي
صلى الله عليه وسلم
لا يمنعهم من ذلك، بل كان يبتسم.
130
وفي الصحيحين للبخاري ومسلم أن عائشة قالت: جاء الحبش يزفنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني
صلى الله عليه وسلم
فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي أنصرف عن لعبهم. وفيهما أيضا: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان الدف، ورسول الله مسجى بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف رسول الله رأسه وقال: «دعها يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.» وروى الطبراني عن أم سلمة قالت: دخلت علي جارية لحسان بن ثابت يوم فطر ناشرة شعرها معها دف، فزجرتها، فقال رسول الله: «دعيها يا أم سلمة ، فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.» وروى جابر بن عبد الله: أن بعض الأنصار نكح بعض أهل عائشة، فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أهديت عروسك؟» فقالت: نعم. فقال: «فأرسلت معها بغناء، فإن الأنصار يحبونه؟» قالت: لا. فقال: «أدركيها بأرنب - وهي امرأة كانت تغني بالمدينة.» فأدركتها، وكانت من المغنيات المتقنات والجواري الراقصات. ومن الجواري المغنيات في المدينة أيضا زمن الرسول: حمامة وزينب الأنصارية.
131
ولما قدم الرسول إلى المدينة خرج له الغلمان بالدفوف والألحان يحيونه وينشدون:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داعي
وخرجت الفتيات يغنين ويقلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمد من جار
132
ويذكر صاحب الأغاني والإصابة عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مر بحسان بن ثابت وهو بفناء أطمه، ومعه سماطان من أصحابه، وجاريته «سيرين» تغنيهم، فانتهى إليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهي تقول:
هل علي ويحكما
إن لهوت من حرج
فابتسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: لا حرج. ولما زفت الفارعة بنت أبي أمامة قال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليلة زفافها، قولوا:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر
ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا
ما سمنت عذاريكم
133
ومر ابن عمر مرة في الطريق فرأى الحبش يلعبون، فأخرج درهمين فأعطاهم. لما ختن ابن عباس بنيه أرسلت دعوة للعابين فأعطاهم ابن عباس أربعة دراهم.
134
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: سابق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين الخيل التي أضمرت فأرسلها. وكان ابن عمر ممن سابق عليها. وسابق مرة بين الخيل، وكان سهل بن سعد الساعدي على فرس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
اسمه «الظرب»، فسبق الناس وكساه النبي بردا يمانيا، وسابق مرة فسبق أبو أسيد الساعدي على فرس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما طلع الفرس على الخيول جثا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ركبتيه واطلع من الصف، وقال: «كأنه بحر.» وكسا أبا أسيد حلة يمانية. وأباح الرسول السباق والمراهنة في الخيل وكل ذي خف وحافر، أباح الترامي بالنبال، ومما يروى عنه: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل.» وقال ابن الأثير: «السبق ما يجعل من المال رهنا على المسابقة.» والمعنى: لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة: الإبل والخيل والسهام. وقد ألحق بها الفقهاء ما كان بمعناها. وفي الحديث: أنه
صلى الله عليه وسلم
أمر بإجراء الخيل وسبقها ثلاثة أعذق من ثلاث نخلات. وقال ابن الأثير: سبق بمعنى أعطى السبق، وقد يكون بمعنى واحد.
135
وقال
صلى الله عليه وسلم : «الهوا والعبوا؛ فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة.»
136 (5) الشئون المالية
مما لا شك فيه أن الناس في الجزيرة العربية كانوا قبل زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
يعيشون عيشة لها نظم اقتصادية واجتماعية، كان فيهم الأثرياء والتجار المنعمون، ولا شك أيضا في أن هذا الأمر استمر بعد الإسلام؛ لأن النبي لم يهدم كل ما كان في الجاهلية، إنما جاء بفكرته ودينه يدعو الناس إلى الإسلام والدخول في دين الله. ثم إنه - عليه السلام - كان شديد الحرص - كما رأينا في الفصول السابقة - على تقوية أركان حكومته بعد الهجرة وعلى توطيد دعائمها، وجعلها حكومة لها مميزات الحكومات الأخرى الصالحة؛ لهذا نستغرب كل الاستغراب حينما نقرأ بعض الكتب لكتاب مسلمين أو مستشرقين أن حكومة النبي كانت حكومة بدوية خالية من النظم والقوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن العرب كانوا قبله بداة وحوشا يأكل بعضهم بعضا، وأنه استطاع
صلى الله عليه وسلم
أن يجعل منهم كتلة يهاجم بها الأمم المتمدنة، ناسين أو متجاهلين أن النبي بعثه الله على حين فترة من الرسل لينقذ العالم من شروره وضلالاته، وأنه لم يجئ بشيء خارق للعادة ولا بمعجزات فوق قدر البشر سوى هذا القرآن الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه تنزيل من عزيز حميد. أما ما عدا ذلك فإن سننه وسبله
صلى الله عليه وسلم
كانت سننا وسبلا عادية سلك فيها الطريق المستقيم، واتبع أنظمة الكون المألوفة، ونظم شئون بلاده من سياسية واجتماعية واقتصادية محتفظا بالطيب الكامل الذي كان عندها من قبل، نابذا الضار الفاسد، مضيفا إلى ذلك كل ما هو حسن مفيد؛ هذه هي سيرة محمد في أمته. أما سيرته في الأمم الأخرى، فإنه دعاها إلى دينه الذي أمره الله بتبليغه، وهو دين قائم على التوحيد وتقديس النبوات الإلهية السابقة، محي لما اندرس من تعاليمها، آمر بالتوحيد المطلق، ناه عن الشر والفساد، محبذ لكل فضيلة عند تلك الأمم.
وبعد، فهذه هي سيرة النبي الكريم، وتلك هي طرقه وآدابه وإصلاحاته، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟! وسترى في هذا الفصل أن النبي الكريم عني بشئون بلاده الاقتصادية والمالية عناية صحيحة، فاستبقى منها ما كان صالحا، واستبعد منها ما كان طالحا.
فأول أعماله المالية أن أوجد الديوان، فسجل فيه أصحاب العطايا، والمشهور أن عمر أول من فعل ذلك، ولا يعقل أن يكون المسلمون ظلوا في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر بدون ديوان تسجل فيه أسماء أصحاب العطايا. وقد فتشت طويلا فوجدت في صحيح البخاري حديثا رواه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس.» فكتب له ألف وخمسمائة رجل. وهذا ولا شك هو أول ديوان في الإسلام. وأغلب الظن أن الرسول استمر في تسجيل ذلك فيما بعد، وأن أبا بكر اتبع سنة الرسول في ذلك، ولما جاء عمر نظمه ووسعه. وأما أقوال أبي هلال العسكري والماوردي في الأحكام السلطانية وغيرهما، أن عمر أول من فعل ذلك، فقول لا يعتمد على حجة، أو لعلهم يقصدون أنه وسعه ونظمه، وإلا فإنه كان موجودا من قبله؛ فقد رأيت في حديث البخاري أن النبي
صلى الله عليه وسلم
هو أول من طلب ذلك. (5-1) أما بيت المال
فالمشهور أيضا أن عمر هو أول من وضعه.
137
وهو غير صحيح أيضا؛ فقد ذكر السيوطي أن أبا هلال العسكري ذكر أن عمر هو أول من اتخذ بيت المال ، وعلق عليه السيوطي بقوله: قلت: بل أبو بكر كما بينته في تاريخ الخلفاء.
138
وأخرج ابن سعد عن سهل بن أبي خيثمة أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: عليه قفل. فكان يعطي ما فيه حتى يفرغ، فلما انتقل إلى المدينة حوله فجعله في داره، فقدم عليه مال فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوي بين الناس في القسم، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيجعله في سبيل الله ... فلما توفي أبو بكر ودفن دعا عمر الأمناء ودخل بهم في بيت أبي بكر؛ ومنهم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه شيئا؛ لا دينارا ولا درهما. وقال الكتاني بعد أن روى قولة ابن سعد هذه: ويمكن الجمع بأن أبا بكر هو أول من اتخذ بيت المال من غير إحصاء ولا تدوين، وعمر أول من دون ذلك. قلت: وهذا قول غريب عجيب، كيف يصدر عن مثل الكتاني في فضله وعلمه! والذي أراه أن الرسول أوجد نوعا من الديوان، فسجل فيه أسماء أصحاب الحقوق في الفيء، كما أنه اتخذ بيته مقرا للأموال، فقد رأينا أن الله لما أفاء عليه أموال بني النضير، أخذ منها لنفسه ولأهله ما يكفيهم مدة سنة، ثم جعل الباقي في الكراع والخيل والسلاح عدة في سبيل الله.
139
ثم جاء أبو بكر فاتخذ بيت المال والديوان، وجاء عمر من بعدهما فنظم ذلك وبدأ بأهل بدر وبني هاشم وبني المطلب ثم الأقرب فالأقرب. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا جاءته الأموال من الفيء قسمه في يومه، فأعطى صاحب الأهل والعيال حظين، وأعطى الأعزب حظا واحدا. وقال أبو يوسف في كتاب الخراج: لم يكن في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مرتبة معينة للجنود الذين كانوا يتألفون من جميع أمراء المسلمين، وإنما يأخذون مالهم في أربعة أخماس ما يغنمون ، وفيما يرد من خراج الأرض التي أبقيت في أيدي أهلها كأرض خيبر. ولما ولي أبو بكر أعطى الناس وسوى بينهم في العطاء قائلا: هذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة. فلما ولي عمر رأى في ذلك غير رأي أبي بكر، وقسم العطاء مفضلا الأسبق إلى الإسلام فالأسبق.
140
وكان الزبير بن العوام وجهم بن الصلت يكتبان له - عليه الصلاة والسلام - أموال الصدقات، وكان حذيفة بن اليمان يكتب له
صلى الله عليه وسلم
خوص النخل.
141
وفي الأحكام لابن العربي: أما ولاية الديوان فهي الكتابة، وقد كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
كتاب وللخلفاء بعده. والكتابة هي ضبط عدد أفراد الجيوش لمعرفة أرزاقهم والأموال لتحصيل فوائدها لمن يستحقها.
142
وكان معيقب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبي
صلى الله عليه وسلم ،
143
وكان يجعل على الأنفال والمغانم والفيء رجالا يطلب إليهم أن يحصوها ويحفظوها إلى حين قسمتها. قال الخزاعي نقلا عن ابن إسحق في أخبار يوم بدر: إن الرسول جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف الأنصاري. وقال ابن حزم: ولاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الغنائم في يوم بدر وفي يوم خيبر. وقال القضاعي في كتاب الأنباء: كان يوم خيبر من السبايا ستة آلاف، ومن الإبل والغنم ما لا يدرك عده. وروى ابن فارس في كتابه مسند الزهري: عن سعيد بن المسيب أن النبي
صلى الله عليه وسلم
144
سبى يومئذ ستة آلاف بين غلام وامرأة، فجعل الرسول عليهم أبا سفيان بن حرب ...
145
وكان
صلى الله عليه وسلم
يجعل على كل قبيلة من يأتيه بصدقاتها وأموالها، ويحاسبه على ذلك. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رجلا من الأزد على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه فقال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «فهلا جلست في بيت أبيك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا!» ثم خطب
صلى الله عليه وسلم
فحمد الله ثم أثنى عليه، وقال: أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل فيأتيني فيقول: هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه الهدية إن كان صادقا! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله عز وجل يحمله يوم القيامة.
146
وقد نقل هذا الحديث ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية»، وعلق عليه بقوله: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يستوفي الحساب على عماله يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في الصحيحين. ثم ذكر حديث أبي حميد الساعدي السابق.
147
وقد كانت موارد بيت المال في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
منحصرة في الجهات الآتية:
الجزية
وهي الأموال المأخوذة من أهل الذمة جزاء للمنة عليهم بالإعفاء من القتل. وقد أخذها النبي في عهده من نصارى نجران، وهم عرب وعجم، كما أخذها من بعض أهل اليمن النصارى من العرب والعجم. وقال ابن عبد البر في التمهيد: عن ابن شهاب، أن أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب هم أهل نجران في عملنا، وكانوا نصارى، ثم قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوسا. وممن تولى قبض الجزية في عهده
صلى الله عليه وسلم
أبو عبيدة بن الجراح كما في صحيح البخاري، ومعاذ بن جبل كما في سنن أبي داود.
148
وقال
صلى الله عليه وسلم : «ليس على مسلم جزية.» أي إنه إذا أسلم نصراني سقطت عنه الجزية، وإن مر عليه بعض الحول وهو نصراني لم يطالب من الجزية بحصة ما مضى من السنة. وقيل: إن المراد بذلك أن الذمي إذا أسلم وكانت بيده أرض صولح عليها بخراج توضع عن رقبته وعن أرضه الخراج.
149
العشر
هو زكاة الأرض وما سقته السماء وعشر أموال أهل الذمة في تجاراتهم. وفي الحديث: «ليس على المسلم عشر، وإنما العشور على اليهود والنصارى.» وتؤخذ العشور على ثلاثة أنواع: ربع العشر من المسلمين، ونصف العشر من أهل الذمة، والعشر كاملا من أهل الحرب.
150
الخراج
هو ما يؤخذ من الأرض صلحا بين أهلها والمسلمين،
151
وله أحكام مفصلة جدا في كتب الفقه لا نريد التوسع فيها ها هنا.
الغنائم
وهي ما أخذت من العدو في الحرب، وتقسم كما في الآية الكريمة:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله .
وخمس ذلك لمن سماهم الله في كتابه؛ وهم: الله والرسول ولهما سهم، ولذوي القربى وبني هاشم وبني المطلب سهم، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم، والأربعة الأخماس الباقية توزع بين المجاهدين من أهل الديوان وغيرهم. وقد استمر ذلك أيام الرسول، فلما جاء أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي قسموا الخمس على ثلاثة أسهم، فأسقطوا سهم الرسول وذوي القربى، وقسموها على ثلاثة: اليتامى والمساكين وأبناء السبيل،
152
وجعلوا السهمين الباقيين في الكراع والسلاح والعدة في سبيل الله.
153
الفيء
هو ما صالح عليه المسلمون بغير قتال، وليس فيه خمس، وإنما هو لمن سماهم الله
154
في قوله سبحانه:
إنما الصدقات ... إلخ الآية الكريمة.
الزكاة والصدقات
وهي ما يدفع المسلمون زكاة أموالهم وهم يملكون النصاب الشرعي المفصل في كتب الفقه بعد أن حول عليهم الحول، كما هو مقرر في الكتب الشرعية. (5-2) السكة والعملة في الإسلام
المشهور بين الناس أن العرب في جاهليتهم وإسلامهم ظلوا يتعاملون بالسكة الأجنبية من دنانير رومية هرقلية ودراهم فارسية كسروية، إلى أن جاء عبد الملك بن مروان فسك العملة الإسلامية، وهو أول من فعل ذلك، ولم يشر أحد إلى أن أحدا من الخلفاء سك عملة إسلامية إلا رواية نسبت ذلك إلى عهد عمر أو علي. وقد ذهب السيد عبد الحي الكتاني إلى أن السكة الإسلامية وجدت من قبل، بل قال: إنها كانت في العصر النبوي؛ حيث يقول بعد أن أورد الروايات القائلة بأن عبد الملك هو أول من فعل ذلك: وربما يعكر عليه وعلى ما سبق من أن الدراهم في الزمن النبوي لم تكن من ضرب أهل الإسلام، ما وقع في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. بوب عليه ابن ماجه بقوله: «باب النهي عن كسر الدراهم والدنانير» وأبو داود بقوله: «باب كسر الدراهم»، وأخرجه أحمد والحاكم في المستدرك ... وقال شيخ كبير من شيوخنا: هو محدث المدينة المنورة ومسندها الشيخ عبد الغني بن أبي سعيد الدهلوي في حاشيته على سنن ابن ماجه المسماة «إنجاح الحاجة»: في الحديث النهي عن الكسر بثلاث شرائط: (1)
أن تكون سكة الإسلام. (2)
أن تكون رائجة. (3)
ألا يكون فيها بأس وضرر على المسلمين، فلو أزال سكة الكفار لم يكن موردا للنهي، وكذا لو أزال السكة غير الرائجة أو المزيفة. ونقله عنه الكنكوهي في «التعليق المحمود على سنن أبي داود» وأقره، وهذا كما ترى كالصريح في أنه كان للمسلمين في الزمن النبوي سكة مضروبة كانوا يتعاملون بها، ولله در صاحبنا العلامة السيد أحمد بن محمد الحسيني الشافعي المصري حيث قال في صفحة 181 من «نهاية الإحكام فيما للنية من الأحكام» بعد أن ذكر حديث أبي داود هذا ونحوه: مقتضى هذا أن سكة المسلمين كانت معروفة ومستعملة في زمنه - عليه السلام - وليس ما يخالفه في الأقوال الدالة على أن سكة المسلمين لم تضرب إلا في عهد عمر أو عهد من بعده أولى بالقبول منه إلا بمرجح وإن هو انتهى بلفظه. وفي تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان (صفحة 138): أما النقود التي ضربت في عهد الخلفاء الراشدين، فكانت نحاسية في غاية البساطة كما جرى في الشكل، وليس عليها من الكتابة إلا صورة الشهادة بالحرف الكوفي. ولم تضرب النقود الفضية في الإسلام حتى أيام الخليفة عبد الملك ... وقد انتقده الرحالة الشيخ محمد أمين ابن الشيخ حسن الحلواني المدني في رسالته: «نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان» بقوله: لم يثبت في الرواية الصحيحة أن أحدا من الخلفاء الأربعة ضرب سكة إلا علي بن أبي طالب؛ فإنه ضرب الدرهم، على ما نقله صبحي باشا الموره لي، في رسالة له رسم فيها صورة ذلك الدرهم، وعزا ذلك إلى لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة. وأما هذه الثلاث المسكوكات التي رسمها جرجي زيدان، فلا تثبت على فرض وجودها؛ لأنها لم تكن عليها تواريخ دالة على زمنها، وأكبر شيء فيها دال على كذبها على الخلفاء كون أحدها فيها صورة شخص، وهذا مما تحرمه الديانة الإسلامية، فكيف يعقل ذلك الخلفاء، وكون هذه المسكوكات مزورة غير بدع عن الإفرنج وبياعي الأنتيكات.
155
فكان غاية جواب جرجي زيدان عن ذلك بأنه أخذ تلك الرسوم عن مؤلف فرنسي وأحال على صفحة 26 من «تاريخ مصر» لمارسا. وفي «المواهب الفتحية» لحمزة فتح الله المصري (1: 152)، نقلا عن شرح العتبي على البخاري، أنه نقل عن المرغيناني: أن الدراهم كانت شبه النواة، ودوت في عهد عمر لما بعث معقل بن يسار وحفر نهره الذي قيل فيه: «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.» ضرب حينئذ عمر الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها: «الحمد لله»، وفي بعضها: «محمد رسول الله»، وفي بعضها: «لا إله إلا الله وحده» على وجه وعلى وجهه الآخر «عمر». فلما بويع عثمان ضرب دراهم نقشها: «الله أكبر»، فلما اجتمع الأمر لمعاوية ضرب دنانير عليها تمثاله متقلدا سيفا، فلما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة ثم غيرها الحجاج. ولما استقر أمر عبد الملك بعد ابن الزبير ضرب الدنانير والدراهم في سنة 76 للهجرة، وفي رسالة النقود الإسلامية للمؤرخ الشهير التقي المقريزي: أن معاوية ضرب دنانير عليها تمثال متقلد سيفا، وذكر أن عبد الملك بن مروان لما أمر الحجاج بضرب سكة، ضربها وقدمت مدينة الرسول وبها بقايا الصحابة، فلم ينكروا منها شيئا سوى نقشها؛ فإن فيه صورة، وكان سعيد بن المسيب يبيع ويشتري بها ولا يعيب من أمرها شيئا.
وفي وفيات الأسلاف (صفحة 361): وأقدم سكة في الإسلام فيما وجد، ما ضرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين من الهجرة بقصبة هرتك من بلاد طبرستان، وكتب فيها بالخط الكوفي: «بسم الله». وفي خلافة علي سنة 37ه ضرب درهم عليه «ولي الله»، وفي سنة 38، 39 ضرب عليه «بسم الله ربي»، وضرب على درهم بالكوفي في جانب منه: «الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد»، وفي دورته: «محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، وفي الجانب الآخر: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، وفي دورته: «ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة أربعين». وعثر على درهم فيه: «ضرب بدربيجرد في سنة سبعين»، وعلى درهم في مدينة يزد ضرب سنة 71 وعليه بالخط الكوفي: «بسم الله»، وفي الطرف الآخر بالخط البهلوي: «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين»، وقيل: إن أول من ضرب النقود مصعب بن الزبير سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله. (6) الشئون الاقتصادية والصناعية
عني النبي الكريم بالشئون الصناعية والاقتصادية والمعاشية بصورة عامة؛ فقد روى ابن القيم في «الهدي النبوي» أن النبي
صلى الله عليه وسلم
باع واشترى، وشراؤه كان أكثر، وآجر واستأجر، وإيجاره كان أكثر، وضارب وشارك ووكل وتوكل، وتوكيله كان أكثر، وأهدى وأهدي إليه، ووهب واستوهب، واستدان واستعار، وضمن عاما وخاصا، ووقف ... فلم يغضب، ولا عتب، وحلف واستحلف.
156
وكان يتاجر في الجاهلية، وخروجه مع عمه بتجارة وتجارته لخديجة بالشام أمر متواتر. وقد حض الناس على الاكتساب وطلب الرزق للعيال، وكان أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم تجارا، ولما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال - أي المال الذي يأتي إلى بيت مال المسلمين - ففرض له أبو عبيدة الذي كان يتولى أمور بيت المال ما يكفيه وعياله، وكذلك كان عمر يخرج للعمل في الأسواق والاكتساب لعياله، فلما استخلف فرض لنفسه ما يكفيه من بيت مال المسلمين. وقد استمر هذا التقليد فيما بعد، وصار الخلفاء والقضاة والعمال يتركون تجاراتهم وصناعاتهم حين يتولى الواحد منهم أمرا من الأمور العامة.
وموارد بيت المال في ذلك العصر هي ما يدخله من ضرائب التجارة والزراعة والصناعة والامتهان، قال الماوردي: أصول المكاسب التجارة والزراعة والصناعة، والأشبه في مذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، والأكثر على أن أطيبها التجارة؛ لأن النبي اتجر ولم يزرع، وكان
صلى الله عليه وسلم
يقول: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. (6-1) التجارة
التجارة في الأصل هي بيع الخمر والتاجر هو الخمار،
157
ثم أطلقوها على كل عمل يستدعى به الربح وكسب المال الحلال بالبيع والشراء والعمل في الأسواق، قال الراغب الأصفهاني: التجارة التصرف في رأس المال طلبا للربح.
158
وقد كانت للعرب قبل الإسلام رحلات تجارية مشهورة، كما كان لهم أسواق اقتصادية أمرها معروف. وللنبي أحاديث كثيرة في الحض على الاتجار، وفي تبيين مزايا التجارة وشرائطها، وما يجب على صاحبها من الأخلاق والأعمال. وقد جمعت كتب السنة طرفا من ذلك في أبواب «الكسب» و«العمل» و«البيوع»، كما ألف فيها جماعات منهم الجاحظ في رسالته: «مدح التجار وذم عمل السلطان»، ومنهم الباعلوي حسين بن محمد حسين الحبشي (782) في كتابه القيم: «البركة في فضل السعي والحركة»، ومنهم أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي صاحب «الإشارة إلى محاسن التجارة»، ومنهم الشهاب محمد بن حسن بن الصائغ الدمشقي صاحب «الألفية الميمية في التجارة والصنائع والفنون»، ومنهم محمد بن أبي الخير الأرميوني صاحب «النجوم الشارقات في بعض الصنائع المحتاج إليها في بعض الأوقات»، ومنهم الخزاعي في كتابه الجامع المفيد الذي نشره السيد عبد الحي الكتاني، وزاد عليه زيادات جليلة ونشره في القسم الثاني من «التراتيب الإدارية»، وهو أجمع ما ألف في هذا الموضوع.
التجارة في العصر النبوي
يظهر أن التجارة كانت تطلق في العصر الجاهلي وصدر الإسلام على من يسافر، أو يضرب في الأرض لجلب البضائع وبيعها، أو على من يبيع في الأسواق بيعا جليلا. أما إذا كان بيعا حقيرا فإنه ما كان تاجرا؛ فقد روى قيس بن أبي غرزة قال: كنا نسمى في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
السماسرة، فمر بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسمانا باسم هو أحسن منه فقال: «... يا معشر التجار، إن البيع يحضره الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة.» فكان أول من سمانا تجارا.
159
وهذا يدلنا على أن صغار الباعة كانوا يسمون سماسرة، وأن الرسول سماهم تلطفا وتحببا تجارا. قال ابن الأثير: السماسرة جمع سمسار، وهو القيم بالأمر الحافظ له، وهو في البيع الذي يدخل بين البايع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع، والسمسرة البيع والشراء.
160
وأهم أنواع التجارة في ذلك العصر هي تجارة الملبوسات والمأكولات والعطارية والسلاح وما إلى ذلك، أما تجارة الملبوسات: فكانت تعرف بالبزازة، وقد كانوا يجلبون أصناف البز من بلاد الشام والروم واليمن وعمان وصحار، ويجعلون منه قلانسهم وعمائهم وقمصانهم وسراويلهم وأرديتهم وجببهم ومآزرهم وأكسية نسائهم وأمتعة بيوتهم، فقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ترك يوم مات ثوبي حبرة، وإزارا عمانيا، وثوبين صحاريين، وقميصا صحاريا، وقميصا سحوليا، وجبة يمنية، وقميصا وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطية ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة مورسة.
161
ويذكرون أيضا أنه كان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمائم، وأن هذه القلانس كانت يمانية بيضاء مضرية، كما كان بعضها شاميا أبيض، وكانت له جبة شامية من صوف ضيقة الكمين.
162
ومن مشهوري البزازين في العصر النبوي عثمان بن عفان؛ فقد ذكر ابن قتيبة في المعارف في فضل صنائع الأشراف أن عثمان كان بزازا، وقد أثرى من وراء هذه التجارة ثراء عظيما، حتى إنه استطاع أن يقدم لجيش العسرة تسعمائة وخمسين بعيرا.
163
ومنهم طلحة بن عبيد الله، فقد كان من كبار التجار البزازين كما قال ابن قتيبة وابن الجوزي،
164
وذكر ابن الزبير أنه سمع سفيان بن عتيبة يقول: كانت غلة طلحة بن عبيد الله ألف واقية كل يوم، والواقي وزنه وزن الدينار.
165
ومنهم عبد الرحمن بن عوف
166
وهو ممن كانوا يتاجرون بالبزازة والخزازة، وهي بيع الخز المنسوج من الصوف والإبريسم، ومنهم أيضا الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وعامر بن كريز.
167
وقد كان للبزازين سوق خاصة في زمن النبي، فقد روى أبو هريرة قال: دخلت السوق مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فجلس إلى البزازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزان يزن لهم الأثمان، فقال له
صلى الله عليه وسلم : «زن وأرجح.» فقال الوازن: إن هذه كلمة ما سمعتها من أحد.
168
وكما كان العرب يستوردون الثياب والأقمشة القطنية والصوفية والحريرية من الخارج، فكذلك كانوا يحيكونها وينسجون بعضها في ديارهم، فقد روى البخاري عن سهل بن سعد: أن امرأة جاءت ببردة منسوجة قال: أتدرون ما البردة؟ كساء مخطط، وقيل كساء مربع أسود، فقيل: نعم، هي الشملة منسوج في حاشيتها. فقالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي فجئت أكسوكها. فأخذها. وفي كتاب الإحياء في باب الفقر والزهد من ربع المنجيات: عن سنان بن سعد قال: حكت للنبي
صلى الله عليه وسلم
جبة صوف وجعلت حاشيتها سوداء، فلما لبسها قال: «انظروا، ما أحسنها وما أبهجها!» فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله، هبها لي. قال: فكان إذا سئل شيئا فلم يبخل به، فدفعها وأمر أن تحاك له جبة أخرى، فمات وهي في المحاكة.
169
وروي عن سهل بن سعد أيضا أنه
صلى الله عليه وسلم
قال: «عمل الأبرار من الرجال الخياطة، وعمل النساء المغزل.»
170
وقال: «علموا أبناءكم السباحة والرماية، ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل.»
وأما تجارة المأكولات، فقد كانت تجارة عامة رابحة، وكانوا يجلبون الحبوب والفاكهة والزيت من الشام واليمن، ويأخذون إليها الأغنام والخيول والطيور والعطور والأصواف والجلود. فقد روى البخاري في «كتاب البيوع» قال جابر: بينما نحن نصلي مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاما، فالتفتوا حتى ما بقي مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت الآية:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما .
171
وفيه أيضا: أنهم كانوا يجلبون دقيق الحواري - الأبيض - والسمن والعسل من الشام إلى المدينة، وأن عثمان كان يتاجر بذلك. ولم تكن تجارة العرب مقصورة على التجارات البرية، فقد كانوا يركبون في البحر الأحمر، والبحر الأبيض. يذكر البخاري في باب البيوع بابا عن التجارة في البحر وأنه لا بأس بها ،
172
وأن ممن كانوا يتجرون ببحر الشام طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد.
173
وأما تجارة العطارية فهي تجارة عريقة في الحجاز واليمن، وكانت ترد إلى اليمن شحنات من العطور والطيوب الهندية عبر البحر الأحمر إلى اليمن، كما كان في اليمن نفسه كثير من العطور، وكانوا يحملونها معهم إلى الحجاز وبلاد الشام وبلاد الروم. وصناعة العطارية صناعة محبوبة، حتى روى ابن عمر عن النبي أنه قال: لو أذن الله لأهل الجنة في التجارة لاتجروا في البز والعطر. وكان عمر يحب تجار الطيب. وروى الثعالبي في التمثيل والمحاضرة عن عمر أنه قال: لو كنت تاجرا لما أخذت على العطر شيئا، فإن فاتني ربحه لم يفتني ريحه. وكانوا يضربون المثل بنظافة العطار وتقاوة مجلسه. وقد بوب البخاري في كتاب البيوع بابا عنوانه: «باب العطار وبيع المسك»، وخرج فيه عن أبي موسى الأشعري عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أن مجلس الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، وما يعديك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق ثوبك، وتجد منه ريحا خبيثة. وكانت العطور المفضلة عندهم: الزعتر والعنبر والمسك والعود والكافور، وكانوا يتاجرون بها ويتطيبون بها ويصنعون منها صناعات حسنة، ويجعلون منها معجنات. قال الجاحظ: ومعجونات العطر كلها عربية، مثل الغالية والشاهرية والخلوق واللخلخة والقطر، وهو العود المطري والدربرة. وممن كان يتاجر ببيع الطيوب أسماء بنت مخربة؛ فقد ترجم لها ابن حجر وذكر أن ابنها عباس بن عبد الله بن ربيعة كان يبعث إليها من اليمن بعطر فكانت تبيعه في المدينة، وذكر منهن الحولاء بنت تويب العطار، ومليكة والدة السائب بن الأقرع.
174
وأما تجارة السلاح، فقد كانت تجارة رابحة، وكانت سيوف الشام والهند تنقل إلى الجزيرة، ويتغالى التجار في أثمانها، كما كانت في الخط والرماح الخطية تصدر إلى الخارج. وكانت في الحجاز جماعة من الحدادين والقيون المشهورين بصنع الأسلحة من سيوف وأسنة ورماح ودروع؛ ومن أشهرهم أبو يوسف القين الذي أرضعت زوجته إبراهيم ابن النبي
صلى الله عليه وسلم
والخباب بن الأرت، والأزرق بن عقبة الثقفي مولى الحارث بن كلدة. وكانت هذه الصناعة مشهورة بين يهود الحجاز أيضا، ويروى أن النبي لما فتح خيبر صادر ثلاثين قينا منهم، وقال اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعاتهم ويتقوون بها على جهاد عدوهم. فتركوهم وتعلموا منهم الحدادة.
وممن كان يتجر في الرماح نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسر يوم بدر، فقال له النبي: «أفد نفسك برماحك التي بجدة.» فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ففدى نفسه بها وكانت ألفي رمح. وفي طبقات ابن سعد: أن نوفلا أعان النبي يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «كأني أنظر إلى رماحك يا أبا الحارث تقصف في أصلاب المشركين.»
175 (6-2) الزراعة
على الرغم من قلة عناية العرب بصورة عامة، الرحل بصورة خاصة، بالزراعة لطبيعتهم البدوية، وكرههم للبقاء في مكان واحد وحبهم للانتقال من مكان إلى آخر. والزراعة تقضي بالاستيطان وعدم الرحلة، فإن الإسلام دعا إليها وحرض عليها ودعا إلى التحضر وكره التبدي؛ لما في ذلك من البعد عن حياة الفوضى، والدعوة إلى حياة منتظمة ثابتة. وقد كان للزراعة أهمية كبرى في نظر الإسلام، ففي صحيح البخاري: أن النبي دخل على أم فشر الأنصارية في نخل لها، فقال: «لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو دابة أو طير أو سبع إلا كانت له صدقة.» وفي مسند عمر بن عبد العزيز قال ابن شهاب: أرسل إلي عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: جاء سعد بن خالد بن عمرو بن عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أقطعني الشديد فإنه بلغني عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: ما من رجل غرس غرسا إلا أعطاه الله من الأجر عدد الغرس والثمر.
176
وكان بعضهم يتولى زراعة أرضه بيده، فقد روي عن علي أنه كان يتولى أرضا له بنفسه، كما كان بعضهم يعطيها بالربع أو الثلث، ومنهم سعد وابن مسعود وجبر بن عتيك.
177 (6-3) وأما الصناعة
فقد عنوا ببعض الصناعات التي يحتاجون إليها، والتي تساعد عليها طبيعة بلادهم، وتدفع إمكانية أرضهم إليها، وقد رأينا أنهم أتقنوا الحدادة لحاجتهم إليها في صنع أوائل الحرب والحرث، وهناك صناعات أخرى. ومن الصناعات التي عرفوا بها: التجارة والدباغة والصياغة والبناء والصباغة والحياكة والنسيج والخياطة وما إلى ذلك، وفي كتب السيرة والحديث والأدب أخبار كثيرة عن الصناعات العربية وعن أربابها، فمن ذلك ما ذكره صاحب الإصابة في ترجمة الضحاك بن عرفجة (وفي رواية طرفة بن عرفجة أو عرفجة بن سعيد): أنه أصيب أنفه يوم الكلاب، فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يتخذ أنفا من ذهب. ويروى أن جماعة من الصحابة قد فسدت أسنانهم فشدوها بالذهب. وروى الكاشاني في بدائع الصنائع (1: 117) عن ابن عباس أنه نهى مصورا عن التصوير فقال: كيف أصنع وهو كسبي؟ فقال: إن لم يكن بد فعليك بتمثال الأشجار. وذكر فيه أن الصورة إذا كانت صغيرة لا تبدو من بعيد فلا بأس بها؛ لأن من يعبد الأصنام لا يعبد الصغير منها.
ويروى عن النبي أنه كان يحتقر بعض الصناعات، فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله يقول: «وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها ألا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما.» أما الحجام والقصاب فللنجاسة التي يباشرانها مع تعذر الاحتراز، وأما الصائغ فلما يدخل في الصياغة من الغش أو لكثرة الوعد والكذب في كلامه.
178
ومن الصناعات التي كانت تباح للنساء: التجارة. وممن عرفن بها خديجة، وقيلة الأنمارية، «والقبالة»، و«الخفاضة» وهي ختانة النساء، و«الرضاعة»، و«الغزل»، و«الغناء». ومن جواري الأنصار المغنيات حمامة وأرنب.
179 (7) الشئون القضائية
عني العرب منذ جاهليتهم بشئون القضاء والعدل بين الناس، واختاروا له حكماء وهم عقلاؤهم، فحكموهم بينهم لا يخالفونهم فيما يقضون. وقد أثر عن عرب الجاهلية كثير من أحكام القضاء العادلة الصالحة، ولو جمعت لكانت مجموعة طيبة تعطينا صورة صادقة عن عدلهم وحسن قضائهم وبراعتهم في الفصل بين المتخاصمين. ولما جاء الرسول الكريم استبقى ما وجده طيبا من ذلك، واستبعد القبيح المستهجن، وحرض القضاة على الحكم بين الناس بالإنصاف، وأوجب عليهم أن يحكموا بين الناس بالعدل إذا حكموهم. وقد أثرت عنه
صلى الله عليه وسلم
أحاديث جليلة وقصص متواترة تدل على شدة استمساكه بحبل العدالة والحفاظ عليها وتهديد قضاة السوء والظلم والجور، فمن ذلك ما روي عن بريدة أنه
صلى الله عليه وسلم
قال: «القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد منهم في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به فهو بالجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار في الحكم فهو بالنار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار.» رواه الأربعة وصححه الحاكم. وقال أبو هريرة: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين.» رواه الأربعة وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال علي: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي.» قال علي: فما زلت قاضيا بعد. رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقالت أم سلمة: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار.» حديث متفق عليه.
180
وللنبي أقوال في أحكام الشهادات والدعاوى والبيانات تدل على براعته في حسن التوجيه، وعمله على تحري الحق والحكم بالعدل. (7-1) أما في الشهادات
فقد نهى عن قبول شهادة المطعون في دينهم وخلقهم، ومن يتهمون بالخيانة، وأوجب في الشهادة أن يكون صاحبها أمينا عادلا صادقا شريفا غير حقود ولا مزور، ولا بأس بمستور الحال، وخير الشهود هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها؛ ففي الحديث عن زيد بن خالد الجهني أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.» رواه مسلم. وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.» حديث متفق عليه. وقال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت (أي خادمهم).» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة: أنه
صلى الله عليه وسلم
قضى بيمين وشاهد. رواه الترمذي وأبو داود. وعن أبي بكرة: أنه
صلى الله عليه وسلم
عد شهادة الزور في أكبر الكبائر. حديث متفق عليه. وعن ابن عباس: أنه
صلى الله عليه وسلم
قال لرجل: «ترى الشمس؟» قال: نعم. قال: «على مثلها فاشهد أو دع.» حديث أخرجه عدي بإسناد ضعيف. (7-2) وأما في البينات
فإنه أمر
صلى الله عليه وسلم
بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحذر من اليمين الكاذبة. وحكم بأن البينتين إذا تعادلتا حكم لحائز الشيء، وإذا انعدمت البينة نصف الشيء بين الخصمين، وفي ذلك يقول
صلى الله عليه وسلم : «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه.» حديث متفق عليه، ورواه البيهقي هكذا: «ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.» وقال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة.» فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيبا من أراك.» رواه مسلم. وعن أبي موسى: أن رجلين اختصما في دابة، وليس لواحد منهما بينة، فقضى بها رسول الله بينهما نصفين. رواه أبو داود وأحمد والنسائي. وعن جابر أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي. وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله لمن هي بيده. رواه الدارقطني. وعن ابن عمر: أن النبي رد اليمين على طالب الحق. رواه الدارقطني أيضا. (7-3) القضاء
كان الرسول الكريم يتولى أقضية الناس فيحكم فيها بما أنزل الله، وقد كانت حياته
صلى الله عليه وسلم
كلها حياة قضاء بين الناس وهداية إلى وجه الخير والصلاح والعدل، قال الحافظ الشامي: جماع أبواب سيرته
صلى الله عليه وسلم
في أحكامه وأقضيته. وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام، وإن كانت قضيته الخاصة شرعا عاما، وإنما الغرض ذكر سيرته
صلى الله عليه وسلم
في الأحكام الجزئية التي فصل فيها بين الخصوم، وكيف كانت سيرته
صلى الله عليه وسلم
في الحكم بين الناس.
181
وقد ألف جماعة من العلماء في أقضية رسول الله، أجمعها ما ذكره الحافظ الشامي في «السيرة الشامية»؛ ومنها «أقضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم » لمحمد بن فرج المشهور بابن الطلاع (497)، و«كتاب أقضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم » لأبي بكر بن أبي شيبة، و«كتاب أقضية الرسول» لعلي بن عبد العزيز المرغيناني الحنفي (506)، و«الفتاوى النبوية في المسائل الدينية والدنيوية» لأبي علي الحسين بن المبارك الموصلي (742)، وفي آخر «إعلام الموقعين» لابن القيم فصل مطول جمع فيه مصنفه أحكام الرسول وفتاويه، وقد جردها منه وعلق عليها السيد صديق حسن خان ملك بهوبال وسماه «بلوغ السول في أقضية الرسول». وقد كان في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
جماعة يقضون بين الناس؛ منهم أبو بكر وعمر وعلي ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري ومعقل بن يسار. وقد بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
عليا إلى اليمن ليقضي بين أهلها، وأوصاه ألا يقضي بين الخصمين حتى يسمع منهما، وأمره أن يعلمهم الشرائع. كما بعث معاذا إلى الجند يعلم الناس القرآن وشرائعه ويقضي بينهم، وجعله على الصدقات، وبعث معاذا قاضيا إلى اليمن وأميرا وجابيا للصدقات، كذلك أبا موسى قاضيا على اليمن ومصدقا، وكان يقضي ويفتي على عهد رسول الله وفي أيام الخلفاء الراشدين.
وفي صبح الأعشى: أن القضاء وظيفة قديمة كانت في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر القضاعي أنه
صلى الله عليه وسلم
ولى القضاء باليمن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، وأن أبا بكر ولى القضاء عمر. وفي أوائل السيوطي : أول قاض في الإسلام عمر بن الخطاب، قضى لأبي بكر؛ كذا قال العسكري، قلت: لكن أخرج الطبراني بسند حسن عن السائب بن يزيد قال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر لم يتخذا قاضيا، وأول من استقضى عمر، قال: يرد عني الناس في الدرهم والدرهمين. وأخرج أبو يعلى في مسنده بسند صحيح عن ابن عمر قال: ما اتخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قاضيا ولا أبو بكر ولا عمر حتى كان في آخر زمانه. قال للسائب بن يزيد ابن أخت نمر: اكفني بعض الأمور - يعني صغارها. وأخرج ابن سعد عن الزهري قال: ما اتخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قاضيا ولا أبو بكر ولا عمر حتى قال للسائب ابن أخت نمر: لو روحت عني بعض الأمر حتى كان عثمان.
182
والحق أن ما ذهب إليه السيوطي غير صحيح، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
أذن لبعض كبار صحابته بالقضاء في زمنه. ويظهر أن السيوطي ومن نقل عنهم ذهبوا إلى أن عمر هو أول من استحدث وظيفة القاضي وسمى لها إنسانا بعينه وجعل لها جعلا. أما أيام الرسول وأيام أبي بكر، فقد كانوا أمراء وفقهاء يقضون بين الناس بحكم عملهم، وفي وفيات الأسلاف: أول من نصب القاضي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ حيث بعث عليا ومعاذا إلى اليمن، وأول من دفعه إلى غيره من الخلفاء عمر ولى أبا الدرداء بالمدينة، وأبا موسى الأشعري بالكوفة، وشريحا بالبصرة؛ تخفيفا لنفسه من القيام بأعباء الخلافة والسياسة.
183
المظالم
النظر في المظالم هو نوع من أنواع القضاء، إلا أنه أجل وأوسع؛ فإن صاحب المظالم يكون ذا سلطة يقمع بها من لم يستمع إلى قضائه، قال المرجاني صاحب وفيات الأسلاف: النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي، ممتزجة مع السطوة السلطانية وتصفية القضاة بعلو بين وعظيم رغبة، تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي، وتمضي ما عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن والأمارات، وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق، وحمل الخصم على الصلح، واستحلاف الشهود. وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم إلى المهتدي بالله، وربما سلموها إلى قضاتهم.
184
وقال السيد الكتاني معلقا على كلامه: هذه الوظيفة كان يليها المصطفى بنفسه؛ لأنه كان ينتقد أحكام قضاته وعماله ويناقشهم.
185
والحق أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يرعى هذه الأمة بقلبه وعينيه ويديه، ويحرص على حفظ حقوق أرباب الحقوق، ويضرب على يد الظالمين بالقصاص والعقوبات الشديدة والسجن والتعذيب والنفي والتعزير.
186
التوثيق
لم يعرف أن القضاة في عهد النبي كانوا يدونون المحاضر والسجلات، ولم أر أحدا أشار إلى ذلك، بل قال الإمام الرافعي في شرح الوجيز في الفقه الشافعي: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
ومن بعده من الأئمة يحكمون ولا يكتبون المحاضر والسجلات،
187
وهذا يدل على ما قلناه. وإنما عرف أن النبي وقضاته كانوا يوثقون بعض قضاياهم من عتق وطلاق وبيوع بوثائق يكتبونها ويعطونها لصاحب العلاقة، وقد حفظ لنا التاريخ نص أقدم وثيقة شرعية أوردها السيد الكتاني وافتخر بإيرادها، واعتز بأن المغاربة هم الذين حفظوها وتوارثوها، ولم يفطن إليها أحد من المشارقة، فقد نقل في كتابه عن العمدة لأبي عبد الله التلمساني نص كتاب عتق «أسلم» مولى رسول الله، وذكر أنه وحده بخط الحكم المنتصر بالله أمير المؤمنين ابن عبد الرحمن الناصر المرواني، وهذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من محمد رسول الله لفتاه أسلم. إني أعتقك لله عتقا مبتولا إليه، أعتقك وله المنة علي وعليك، فأنت حر لا سبيل لأحد عليك إلا سبيل الإسلام وعصمة الإيمان، شهد بذلك أبو بكر وشهد عثمان وشهد علي وكتب معاوية بن أبي سفيان» ... فهذا عقد في عتق نبوي بنصه من الذخائر المكتوبة والكنوز الثمينة، فتلقه شاكرا وللمغاربة ذاكرا؛ حيث إن كلا من الحكم المنتصر وصاحب العمدة وفرائد الدرر مغاربة، وكأنه لم يقف عليه أحد من أعلام المشرق، فلذلك لا تراه في مدوناتهم الأثرية.
188
وممن كان يكتب الوثائق في العهد النبوي المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير، كانا يكتبان المدينات والمعاملات، والعلاء بن عقبة وزيد بن أرقم، وكانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
189
وكان زيد بن ثابت يقسم الفرائض ويكتبها لهم، وقد أثنى عليه الرسول
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «أفرضكم زيد.» وكان عثمان بارعا في الفرائض أيضا. وفي المسند للدارمي: قال ابن شهاب الزهري: لو هلك عثمان وزيد في بعض الزمان لهلك علم الفرائض، لقد أتى على الناس زمان وما يعلمه غيرهما. وكانت عائشة تحسن الفرائض، قال مسروق: والله الذي لا إله غيره، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض.
190 (8) الشئون الثقافية
لم يعرف عن نبي اهتم بالعلم وتشجيع أهله اهتمام الرسول الكريم محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لما رآه من تقهقر الحالة الثقافية التي كان عليها قومه، على الرغم مما حباهم الله من ذكاء فطري ولغة غنية وملكات فطرية رائعة وخيال خصب وأدب رفيع من شعر ونثر وحكمة ومثل. ولكنهم على الرغم من ذلك كله كانوا أقل ممن كانوا حولهم من الأمم عناية بالعلم واحتفالا بالدرس، حتى أطلقوا عليهم لقب «الأميين»، وسماهم بالأميين، ولكن غلبة الجهل وسيطرة البداوة على الحضارة جعلهم ينبذون بهذا اللقب ويعرفون بين الناس بالأمية. رأى محمد قابليات قومه العرب من ذكاء وفهم ونباهة وحب استطلاع وحرص على طلب معالي الأمور، فدفعهم إلى طلب العلم دفعا، وقذف في قلوبهم حب العلم وأهله، وطلب الفضل وتقدير رجاله، وتلقف الحكمة من أي مصدر أتت، وكان
صلى الله عليه وسلم
يحلق حلقات العلم في مسجده ويدعو أصحابه إلى طلبه، وكان يفضل طالبي العلم على العباد والزهاد ويقول: «إنما بعثت معلما.» وقال عبد الله بن عمر: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مر برجلين في مسجده فقال: «كلاهما خير، وأحدهما أفضل من صاحبه. أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم ويعلمون الجاهل فهم أفضل، وإنما بعثت معلما.» وجلس معهم. وهناك أحاديث عديدة وردت عن النبي في الحض على طلب العلم وحفظه والنهي عن الأمية والجهل، وقد نبغ في عهد النبي جماعة من جلة الصحابة بالعلم، وشهد النبي لهم بذلك؛ فقد روى حذيفة عنه أنه قال: «اقتدوا بالذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر - واهتدوا بهدي عمر، وإذا حدثكم ابن أم معبد فصدقوا.» وقال: «استقرئوا القرآن من أبي وابن مسعود.» وقال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم بأمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأقضاهم علي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأبو ذر أزهد أمتي وأصدقها، وأبو الدرداء أعبد أمتي وأتقاها، ومعاوية أحكم أمتي.»
191
وكان
صلى الله عليه وسلم
يعنى بأذكياء صحابته، وخصوصا الشبان الأحداث ذوي القابليات والمواهب، فيثقفهم ويحرضهم على اكتساب العلم، وكان يطرح عليهم الأسئلة ليختبر ما عندهم من العلم، وربما ألغز لهم الألغاز ليرى استعدادهم وفطانيتهم؛ فقد عقد البخاري في صحيحه بابا عنونه بقوله: «باب طرح الإمام الأسئلة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم»، ثم روى عن عبد الله بن عمر عن النبي أنه قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البوادي - أي إنهم أخذوا يسردون أسماء الشجر فلا يصيبون. قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله. قال: «هي النخلة.»
192
وكان ابن عمر أصغر الحاضرين، وكان عاشر عشرة منهم أبو بكر وعمر وأبو هريرة وأنس، وكان عمر يقول لابنه: إن تكن قلتها أحب إلي من حمر النعم. وكان يحض أصحابه على نقل العلم إلى من وراءهم ويقول: «رب مبلغ أوعى من سامع.»
193
وكان يتخولهم بالعلم والموعظة كي لا ينفروا كراهة السآمة.
194
ويقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.»
195
وكان يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
196
وكان
صلى الله عليه وسلم
يقول: «حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي.» (8-1) التدوين
أمر الرسول الكريم بتدوين القرآن، وقد رأيت تفصيل ذلك في بحثنا عن الكتابة في الباب السابق. أما كتابة الحديث النبوي، فقد ابتدأت منذ زمن مبكر أيضا، ولكن بعضهم كان يكره ذلك خوف اختلاطه بالقرآن. ولكن بعضهم كان يكتب ما يسمعه من الرسول لحرصه على حفظ كلامه؛ فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رجل يجلس إلى الرسول فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى الرسول فقال: «استعن بيمينك.» وأومأ بيده إلى الخط، وقال ابن عمر: قلت يا رسول الله إني أسمع منك أحاديث، أفتأذن لي أن أكتبها؟ قال: «نعم.» فكان أول كتاب كتبته بيدي كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل مكة. قال ابن سعد: وكان ابن عمر يسمي صحيفته تلك «الصادقة»، وكذلك فعل عبد الله بن عمر، فقد روي عن أبي هريرة قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر. وقال: كان يكتب بيده ويعيه بقلبه، وكنت أعيه بقلبي ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله في الكتابة فأذن له. ويظهر أن أبا هريرة قد أخذته الغيرة فكتب أيضا؛ فقد روى الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدث عند أبي هريرة بحديث! فأخذ بيدي إلى بيته فأراني كتبا من حديث رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فقال: هذا هو مكتوب عندي. قال ابن عبد البر: ويمكن الجمع بين خبر عدم كتابة أبي هريرة وكتابته بأنه لم يكتب في العهد النبوي، ثم كتب بعده، وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبا بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب فتيقن أن المكتوب عنده بخط غيره. وقال السيوطي في كتابه «تدريب الرواة»: وأباح كتابة الحديث طائفة وفعلوها؛ منهم عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمر وأنس وجابر وابن عباس وعمرو.
197
وقال أستاذ أساتذتنا الإمام الشيخ طاهر الجزائري في كتابه «توجيه النظر إلى أصول الأثر»: توهم أناس أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شيء غير الكتاب العزيز، وليس الأمر كذلك، فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في الفرائض، وذكر البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث، وذكر مسلم في صحيحه كتابا ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي فقال: حدثنا داود بن عمرو الضبي، حدثنا نافع عن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني. فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه. فقال: فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل.
198
ويذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الحارث بن كلدة الثقفي الطبيب الحكيم الذي اختلف في إسلامه وصحبته: أن له آثارا مدونة؛ منها «كتاب المحاورة في الطب» بينه وبين كسرى أنو شروان،
199
ومما يذكر عنه أنه ألف ودون عروة بن الزبير، فقد ذكر عنه ابن سعد في ترجمة الطبقات أن هشام بن عروة بن الزبير قال: أحرق أبي يوم الحرة (سنة 63ه) كتب فقه كانت له، وكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي.
200 (8-2) علماء الصحابة
كان الخلفاء الأربعة أئمة مشارا إليهم بالعلم والدين والعربية، وكان أبو هريرة وابن عباس أحفظ الصحابة لحديث رسول الله، وكان عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وعائشة أعلم الناس بالفتوى، ويمكن أن نجمع من فنون كل واحد مجلدا كبيرا، ويليهم في ذلك أبو بكر وعثمان وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وسلمان وجابر وأبو سعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن الحصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت وابن الزبير وأم سلمة، ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم جزء صغير. وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسا مقلون في الفتيا جدا، لا تروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث، كأبي بن كعب وأبي الدرداء والمقداد.
201
الباب السادس
في تنظيم أحوال النبي وشئونه الخاصة به صلى الله عليه وسلم
الفصل الأول
في أحوال النبي الخاصة
رأينا في الأبواب السابقة أن النبي الكريم قد عني بشئون الأمة عناية كبيرة، ولم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بأحوالها ومرافقها الخاصة والعامة إلا درسها ومحصها وفحصها فحص المدقق الخبير، وعالجها معالجة الحكيم الحذق، وجاء بما تحتاج إليه المصلحة وتلائمه ظروف الوقت. ونريد في هذا الباب أن نبين أنه - عليه الصلاة والسلام - اهتم بشئونه الخاصة كرئيس أعلى لهذه المجموعة التي أراد بنيان مجدها وشرع في تأسيس قواعد عزها، وانتشالها من العمه والضلالة إلى العزة والكرامة.
ونحن إذا أردنا أن ندقق في أحوال النبي الخاصة بشخصه وجدناها بسيطة أبسط ما تكون، ساذجة كل السذاجة، ووجدناها متواضعة لله العلي القدير، عزيزة بالمؤمنين المصطفين، قوية على الطغاة الجبارين. وقد كان النبي العظيم لا يفتر عن ذكر الله والانصراف بكليته إليه سبحانه، والعزوف عن الدنيا ومظاهرها وزخرفتها وباطلها ولهوها، ولكنه
صلى الله عليه وسلم
لم ينس نصيبه من الدنيا؛ لأنه بشر، ولأنه ما جاء بدين صوفي رهباني، ولكنه جاء بدين فيه ملاك الدين والدنيا، وفيه صلاح المعاش والمعاد.
كان
صلى الله عليه وسلم
إنسانا كاملا يضع كل شيء موضعه، وكان على كثرة ما أفاء الله عليه لا يجد ما يطعم أهله من التمر والشعير، وكان يخصف نعله بيديه، ويرقع ثوبه، ويخدم أهله، ويقطع اللحم معهم، ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ويلبس ما يجد من شملة أو جبة، وتواترت هذه الأخبار عنه. ولكن على الرغم من هذا كان يتظاهر بكل ما فيه عز الإسلام، ويعمل على إعلاء شوكة الإيمان. ولم يترك
صلى الله عليه وسلم
ظاهرة يظهر بها الدين، ولا شعيرة يرتفع بها شمل المسلمين إلا جاء بها، وحض عليها وفعلها بنفسه.
فمن المظاهر الدنيوية التي كان يهتم بها
صلى الله عليه وسلم : أنه إذا جاءه وفد لإعلان إسلام من وراءه أو إبلاغ بعض الأمور الخارجية، يتجمل لذلك الوفد. فقد أخرج أبو نعيم وابن سعد في طبقاته: عن جندب بن مكية أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان إذا قدم عليه وفد لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، وقد رأيته وفد عليه وفد كندة وعليه حلة يمانية. وقال علقمة بن سفيان الثقفي: إنهم لما وفدوا عليه
صلى الله عليه وسلم
ضرب لهم قبة، وكان بلال يأتيهم بفطرهم.
1
وقد ألف الإمام محمد بن عمر الأسلمي شيخ ابن سعد «كتاب الوفد» ولم نره، ولكن الحافظ الشامي ذكره في سيرته وقال: إن فيه فوائد لم يلم بها ابن سعد.
2
ومن تلك المظاهر أنه كان إذا أراد القيام من بعض المجالس العامة، قام عبد الله بن مسعود فألبسه نعليه وسار بين يديه وهو يحمل العصا أو المحجن أو العنزة التي يقال إن النجاشي أهداها إليه. قال الجاحظ: إنه كان له
صلى الله عليه وسلم
مخصرة وقضيب عنزة تحمل بين يديه، وهكذا كانت عادة عظماء العرب.
3
وقال السيد الكتاني: ذكر أبو محمد بن حبان الأصبهاني عن ابن يزيد قال: بعثني نجدة الحروري إلى ابن عباس أسأله: هل سير بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بحربة؟ قال: نعم، مرجعه من حنين. قلت: تقدم أن النجاشي ملك الحبشة أهدى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
بها، وكانت تقدم بين يديه إذا خرج إلى المصلى يوم العيد، وتوارثها الخلفاء، وأنها الحربة التي قتل بها النبي
صلى الله عليه وسلم
أبي بن خلف بيده يوم أحد، وتسمى العنزة أيضا. وكان الضحاك بن سفيان بن كعب، أحد الأبطال، يقوم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بسيفه، وكان يعد بمائة فارس. وذكر ابن بدر: أن الضحاك كان سياف النبي قائما على رأسه متوشحا بسيفه، وفي قصة صلح الحديبية أن عروة كان يكلم النبي
صلى الله عليه وسلم
والمغيرة بن شعبة قائم على رأسه ومعه السيف وعليه المغفر. وقال المجد بن تيمية في المنتقى معلقا على هذا الخبر بقوله: وفيه استحباب الفخر والخيلاء في الحرب لإرهاب العدو، وأنه ليس بداخل في ذمة لمن أحب أن يتمثل له الرجال قياما.
4
ومن تلك المظاهر: أنه كان
صلى الله عليه وسلم
يعنى بحراسته ويطلب إلى الأشداء المخلصين من صحابته أن يحرسوه من الغدارين والفتاك، سواء أكان في وقت الحرب أو وقت السلم، فممن حرسه
صلى الله عليه وسلم
يوم بدر، سعد بن معاذ؛ فقد كان على باب العريش الذي نزله
صلى الله عليه وسلم
متوشحا بسيفه في نفر من الأنصار. وممن حرسه، حين أعرس بالسيدة صفية، أبو أيوب الأنصاري؛ فقد بات الرسول وأبو أيوب يطوف بقبة النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى أصبح النبي، فلما رآه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: خفت عليك من هذه المرأة - أي صفية - وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «اللهم احفظ أبا أيوب كما كان يحفظني.» وذكر ابن هشام في غزوة ذات الرقاع: أن رسول الله لما نزل قال: «من يكلأنا الليلة؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: «فكونوا عند الشعب.» وكان رسول الله في أصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي؛ وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر. وذكر في غزوة بني قريظة أنه
صلى الله عليه وسلم
أخرج من تلك الليلة التي نزل في صبيحتها بنو قريظة على حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن عمرا القرظي لما قدم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
تلقاه حرس النبي وعليه محمد بن مسلمة.
وذكر في غزوة حنين: أنهم ساروا مع رسول الله يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الفتوي: أنا يا رسول الله.
وممن كان يحرسه وهو يصلي بمكة، عمر بن الخطاب؛ فقد رووا أنه كان يقوم بالسيف على رأسه
صلى الله عليه وسلم
وهو يصلي؛ خوفا من أن تتعدى عليه قريش. وممن كان يحرسه أيضا الخشرم بن الحباب الأنصاري ومحمد بن مسلمة والأدرع السلمي وعمار بن ياسر وعباد بن بشر. ولا شك في أن الرسول الكريم كان مع اتكاله على الله، الذي هو خير حافظا، ولكنه
صلى الله عليه وسلم
يحتاط ويتخذ كافة الوسائل لئلا يفتك به الفجار من المنافقين أو الكفار.
ومن تلك المظاهر أيضا أنه كان يتخذ الخدم والموالي والبوابين والحجاب. أما الحجاب فقد قدمنا الكلام عن ذلك في الفصل الخاص بالشئون الإدارية، وأما الموالي والخدم والبوابون، فقد كان له
صلى الله عليه وسلم
عدد كبير من الغلمان والجواري والخدم الذين كانوا يعتنون بشئونه الخاصة من وضوء وطهارة وإمساك ركاب، وتظليل، وقضاء مصالح، وما إلى ذلك. ومن أشهرهم أنس بن مالك، وربيعة بن كعب، وزيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وشقران، ورباح، وقد أوصلهم صاحب المواهب اللدنية إلى 43 خادما، كما ذكر أن عدد إمائه إحدى عشرة، ولم يكن كل هؤلاء مجموعين في وقت واحد.
5
ومن تلك المظاهر أيضا: اتخاذه
صلى الله عليه وسلم
جماعة من الشعراء والخطباء والحداة يشيدون بمحامد الإسلام، وقد اقتضتهم الإشادة بمبادئ الإسلام أن يشيدوا بالنبي والافتخار بما كان يتحلى من مزايا وتعديد صفاته الجليلة. وقد حفظت كتب التاريخ والسيرة والأدب الإسلامي طرفا جليلا من ذلك. ومن أشهر من عرف من الشعراء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك والنابغة الجعدي والزبرقان والعباس بن مرداس ولبيد وغيرهم، ومن خطبائه علي بن أبي طالب وثابت بن قيس بن شماس وأبو بكر الصديق، ومن حداته
صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن رواحة وأنجشة والبراء بن مالك.
ومما يتعلق بهذا الأمر أنه
صلى الله عليه وسلم
تملك بعض العقار الكراع والأموال، وكانت أموال بني قريظة وخيبر والنضير التي استصفاها النبي لنفسه أجل مال ملكه
صلى الله عليه وسلم ، فكان
صلى الله عليه وسلم
يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما يبقى في الخيل والسلاح عدة في سبيل الله، وكان بلال الحبشي المؤذن هو القائم على شئون أمواله ونفقاته، وفي سنن أبي داود عن عبد الله الهوزني قال: قلت لبلال: حدثني كيف كانت نفقات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ما كان له شيء، وكنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله حتى توفي، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا أتاه إنسان مسلما يراه عاريا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، وكان
صلى الله عليه وسلم
يقول: «أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا.»
الفصل الثاني
في زوجاته وأولاده
(1) إباحة الإسلام تعدد الزوجات
ينتقد المبشرون وأكثر المستشرقين ما أباحه الإسلام من تعدد الزوجات، ويزعمون أن الإسلام بإباحته هذه «النقيصة الاجتماعية» قد أفسد كيان الأسرة، وأدخل عليها الشقاق بما أثار بين الزوجات من عوامل الحقد والحسد والغيرة وقطع أوصال الأخوة بما يكون بين أبناء الضرائر من تنافر، وأن الإسلام الذي يزعم أصحابه أنه جاء لإصلاح ما فسد من أوضاع العرب الاجتماعية قد أبقى النقيصة الكبرى، فكأنه لم يعمل شيئا في سبل الإصلاح. والحق أن القرآن قد أباح تعدد الزوجات وسمح للمرء أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، ولكنه قد قيد هذا الأمر بقوله:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . فأنت ترى أن الإسلام قد قيد هذه الحرية بقيد يصعب الانفلات منه، فإن مجرد الخوف من عدم استطاعته العدل بين الزوجات يجعل تعدد الزوجات محرما. على أن بعض الفرق الإسلامية، وهم المعتزلة، ذهبوا إلى تحريم هذا الأمر لعدم إمكان «العدل»، ولتعسر تطبيق الشروط الإلهية فيه،
1
ثم إن مجرد الإباحة ليس معناها التحريض على فعل الأمر أو الوقوع فيه؛ فإن هناك كثيرا من الأمور التي أباحها الإسلام من باب التسهيل على الناس كتعدد الزوجات وإباحة الطلاق، فقد تمر ببعض الناس ظروف طارئة وأحوال قاهرة تضطرهم إلى فعل هذا الأمر. ونرى ونحن في صدر هذا الموضوع، أن نشير إلى موضوع شديد التماس به، وهو إباحة تعدد الزوجات؛ فقد زعم بعض الناس من رجال ونساء أن الإسلام لم يكن منصفا في إباحته تعدد الزوجات وتحريمه تعدد الأزواج، وكان ينبغي عليه تمشيا مع خطة العدل والإنصاف التي جاء بها أن يبيح للمرأة الواحدة أن تتزوج أكثر من زوج واحد، كما كان بعض العربيات يفعلن ذلك في الجاهلية. وقد تعرض الأستاذ عبد العزيز الجاويش في رسالته القيمة «الإسلام دين الفطرة» إلى هذه النقطة، وأجاب عنها بما نرى فيه المقنع الكافي، قال: وهنا مسألة أولع بإيرادها كثير من أحداث هذا الزمان، قالوا: لم جاز تعدد الزوجات على شرط دون تعدد الأزواج؟ ما أعلم أن ذلك يقضي بداهة إلى اختلاط الأنساب فيقع اللبس في نسبة النسل، ولا يخفى أن ذلك يقضي إلى تعطيل كثير من الأحكام الدنيوية كالنفقة والإرث وغيرها.
2
وأضيف إلى ما قاله أن العربيات المستهترات اللواتي كن يفعلن ذلك في الجاهلية كن بعض النساء البرزات اللواتي اتهمن من أخلاقهن، كسمية أم زياد
3
وأمثالها؛ فقد رووا أن جماعة من الرجال تزوجوها، فقد كان من عادة العرب في الجاهلية إذا تزوجت المرأة هذا التزوج وولدت ولدا ألحقت ولدها بمن تختار من أزواجها، ولا يخفى ما لهذا الإلحاق من العار للولد، وهذا أمر تأباه روح الإسلام السمحة النبيلة. (1-1) زوجات النبي
كما أثارت فكرة تعدد الزوجات في الإسلام كثيرا من حملات الانتقاد، كذلك أثارت قضية تعدد زوجات النبي حملات من أعداء الإسلام وزنادقته؛ فقد اتخذوا هذا الأمر وسيلة للطعن في النبي ووصفه بالشهوانية والإفراط في حب الدنيا واللذة الجسدية والجنسية. وقد رأيت لزاما على نفسي في هذا الموضوع أن أعرض لمناقشة هذه القضية، لا دفاعا عن النبي الكريم ولا إشادة بمحاسن أخلاقه وتنزيهه عن النقائص؛ فإن هذه الأمور ليست مجال مناقشة، وإنما تعرضت إليها لأبين الظروف التاريخية والمناسبات التي تزوج فيها النبي زوجاته، مع الإلمام بطرف من أحوال كل سيدة من زوجاته، وما أثر عنها، وما أثرت في الدين، وما خلفت للنبي الكريم من بنين وبنات وحفدة، وما كان لآل البيت النبوي الطاهر من أثر في الإسلام في العروبة خاصة، وفي الإسلام عامة.
السيدة خديجة
قد قدمنا الكلام عنها في الفصل الثالث من الباب الثاني.
السيدة سودة
وهي بنت زمعة بنت قيس بن عبد شمس القرشية، وهي ثاني امرأة تزوجها رسول الله، وكان أبوها من وجوه قريش، أما أمها فهي الشموس بنت قيس بن زيد بن عمر من وجوه بني النجار.
كانت قبل تزوج النبي بها تحت ابن عمها السكران بن عمرو، ولما جاء الإسلام أسلمت وزوجها في أوائل من أسلموا، وهاجرت مع زوجها إلى أرض الحبشة، فبقيت هناك إلى أن رجع المسلمون، وقد هلك زوجها هناك، وقيل: بل رجع بعد وصولهم إلى مكة. وكانت السيدة خديجة قد توفيت وليس في بيت النبي أحد يقوم بأمره، فجاءته خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت له: يا رسول الله، ألا تزوج؟ فقال: «ومن؟» قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا. فقال: «من البكر ومن الثيب؟» فقالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأما الثيب فسودة بنت زمعة وقد آمنت بك واتبعتك. قال: «فاذكريهما علي.» قالت: فأتيت أم رومان زوج أبي بكر فقلت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من خير؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: رسول الله يذكر عائشة. قالت: انتظري فإن أبا بكر آت. قالت: فجاء أبو بكر فذكرت ذلك، فقال: أوتصلح له وهي ابنة أخيه؟ فذهبت إلى رسول الله وقالت له: إن أبا بكر يقول: وهل تصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله: «أما أنا فأخوه وهو أخي، وابنته تصلح لي.» فأتت أبا بكر وقالت له ما قال رسول الله، فقالت أم رومان لأبي بكر: وابن المطعم بن عدي، ما تصنع به؟ وقد كان ثمة حديث بين آل أبي بكر وآل المطعم في تزويج عائشة بابن المطعم، فقام أبو بكر من ساعته فأتى المطعم بن عدي فقال له: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل المطعم على زوجته فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبيه وتدخله في دينك والذي أنت عليه. فقال أبو بكر لمطعم: وأنت ما تقول؟ فقال بمثل قول زوجته، فقام حينئذ أبو بكر وأتى بيته وقال لخولة: قولي لرسول الله فليأت. فجاءه رسول الله فملكها وأصدقها أربعمائة درهم. ثم ذهبت خولة إلى سودة فقالت: ما دخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: إن رسول الله بعثني إليك. فقالت: وددت ذلك، ولكن أدخل على أبي. وكان أبوها شيخا، فحيته بتحية أهل الجاهلية فقالت: أنعم صباحا. فقال: من أنت؟ قالت: خولة بنت حكيم. فرحب بها فقالت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة. فقال: هو كريم، فما تقول صاحبتك؟ فقالت: تحب ذلك. قال: فقولي له فليأت. فجاء رسول الله فملكها وتزوجها ودخل بها.
وكانت السيدة سودة سيدة كريمة تحب الصدقة والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وكانت تحب عائشة كما أن عائشة كانت تحبها، وكانت تهب يومها لعائشة تلتمس بذلك رضاء برسول الله؛ فقد روي عن عائشة أنها قالت: لما كبرت سودة جعلت يومها من رسول الله لي، وقالت: يا رسول الله، جعلت يومي منك لعائشة. فكان رسول الله يقسم لعائشة يومين؛ يومها ويوم سودة. وكانت عائشة تقول: ما رأيت امرأة أحب إلى أن أكون في سلاحها - جلدها - من سودة بنت زمعة.
4
وكانت سودة من حزب عائشة، فقد كان نساء النبي حزبين: حزب عائشة؛ وفيه حفصة وصفية وسودة، وحزب أم سلمة؛ وفيه سائر أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم . وقد تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يعقد على خديجة، وقيل غير ذلك.
5
وتوفيت السيدة سودة في أواخر عهد عمر، وقيل: بل ظلت إلى سنة 54ه.
السيدة عائشة
أما ثالث امرأة دخل بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فهي عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة الصديق، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس من بني مالك بن كنانة. وقد رأينا كيف خطبتها السيدة خولة بنت حكيم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان عقد النبي عليها بعد وفاة السيدة خديجة في السنة العاشرة للبعثة النبوية، وكان لها ست سنوات، ولم يدخل بها إلا في السنة الثانية من الهجرة ولها تسع سنوات، وهي البكر الوحيد التي تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومنحها قلبه وحبه، فأدبها بأدب الإسلام ومنحها عناية، فتفقهت في الدين ووعت علم سيد المرسلين حتى صارت مرجع المسلمين. قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا، أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. وقال الحافظ عبد الغني المقدسي: روي لها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ألف وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على 174 حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين.
6
وكان عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء - الذي تكنت به - وعروة بن الزبير أكثر الذين نقلوا عنها العلم والدين. قال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن ولا بفرائضه ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسب، من عائشة. وكان يقول: ما رأيت أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة. وقيل له: ما أرواك يا عبد الله! وكان أروى الناس للشعر، فقال: وما روايتي من رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا.
7
وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يحبها كثيرا ويفضلها عن نسائه، وكانت نساؤه يغرن منها، ويعملن على إغاظتها؛ فقد روت عائشة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن أزواج النبي أرسلن فاطمة بنت رسول الله إليه تكلمه في أمر، فاستأذنت عليه وهو مضطجع مع عائشة وهي في مرط، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت عائشة: فسمعت ذلك وأنا ساكتة. فقال رسول الله: «أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟» قالت: بلى. قال: «فأحبي هذه.» فقامت فاطمة حين سمعت ذلك فخرجت إلى أزواج النبي فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها، فقلن: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله فقولي له: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها. فأرسلن زينب بنت جحش وهي التي كانت تسامي عائشة عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنت على رسول الله فأذن لها، فقالت له: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت عائشة: إن فاطمة قالت ذلك ووقعت في واستطالت وأنا أراقب رسول الله وأراقب طرفه، هل أذن لي فيهما، فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله لا يكره أن أنتصر لها، فلما وقعت بها لم أنشب حتى أثخنتها، فقال رسول الله: «إنها ابنة أبي بكر.»
8
وكان الرسول يداعبها ويسامرها ويسابقها ويكبر فيها العقل وحسن الفهم والإدراك وسعة الرواية وحسن التلقي وإفراط التعبد والحياء، ولما اتهمت بحادثة الإفك وأنزل الله براءتها في القرآن الكريم فرح النبي بذلك، ولما مرض الرسول مرضة الموت اختار بيتها ليمرض فيه ومات عندها. ولم يؤخذ عليها شيء سوى انغماسها في غمرة السياسة وخروجها إلى البصرة لمحاربة علي، وقد كانت تذكر ذلك وهي نادمة مستغفرة، وظلت في بيتها إلى أن ماتت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان (سنة 58ه) ولها من العمر ست وستون، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع رضوان الله عليها.
حفصة بنت عمر بن الخطاب
وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي، أخت عثمان بن مظعون. ولدت قبل النبوة بخمس سنين، وتزوجها قبل النبي خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أوائل من هاجروا إلى المدينة وأبلوا في الغزوات وهلك يوم بدر، وتأيمت حفصة فعرض أبوها زواجها على عثمان، فقالت: ما أريد أن أتزوج يومي هذا. فعرضها على أبي بكر، فلم يرجع إليه بشيء. ولبث ليالي، فخطبها رسول الله فأنكحه إياها، وقال أبو بكر لأبيها: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا. فقال عمر: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكرها ، ولم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها لنكحتها. وكان نكاح رسول الله إياها على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وقد طلقها النبي تطليقة واحدة ثم راجعها، وظلت حفصة حتى ماتت في شعبان سنة 45ه في خلافة معاوية وهي ابنة ستين سنة.
9
السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية
وأمها هنيد بنت عوف بن زهير بن الحارث، وكانت سيدة نبيلة كريمة، وكان اسمها في الجاهلية «أم المساكين»؛ لإحسانها إليهم وعطفها عليهم. تزوجها أول الأمر عبيدة بن الحارث، وقتل يوم بدر، فتزوجها رسول الله بعد ذلك وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وذلك على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة قبل وقعة أحد بيوم واحد، ولم تلبث عنده
صلى الله عليه وسلم
إلا شهرين، وقيل: بل ثلاثة. وقيل: بل ثمانية. ثم توفيت في ربيع الآخر من سنة أربع للهجرة، فصلى عليها ودفنها بالبقيع.
10
السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة الجواد الملقب بزاد الراكب
وأمها السيدة عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن عبد المطلب، تزوجها أول الأمر أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد القرشي، فولدت له سلمة، وعمر، ورقية، وزينب. ولما ظهر الإسلام اعتنقته وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، ثم رجعا ومات أبو سلمة سنة أربع للهجرة، ولما مات خطبها أبو بكر فرفضت، وخطبها عمر فأبت، ثم خطبها النبي فقالت: مرحبا برسول الله. وكانت من أجمل النساء، وكان زواج النبي بها في ليال بقين من شوال من السنة الرابعة للهجرة.
وكانت أم سلمة سيدة نبيلة جليلة، عاقلة فاضلة، وكان النبي يجلها، ويقبل مشورتها، وقد ظلت إلى خلافة يزيد بن معاوية وماتت في سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين. وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع ولها أربع وثمانون سنة.
11
السيدة زينب بنت جحش بن رباب
وأمها السيدة أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، زوجها النبي أول الأمر من غلامه زيد بن حارثة الذي تبناه، ثم طلقها فتزوجها الرسول، وفيها نزلت الآية:
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ... ولما تزوج بها النبي في السنة الخامسة تكلم المنافقون في ذلك، وقالوا: حرم محمد نساء الولد وتزوج امرأة ولده. فأنزل الله الآية:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ،
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، فدعي يومئذ «زيد بن حارثة»، وكان يدعى «زيد بن محمد». وبسبب زينب نزلت آية الحجاب:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي . وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يحب زينب حبا كثيرا، وكانت تسامي السيدة عائشة عند رسول الله، وكانت عائشة تغار منها، ولكنها تصفها بالدين والتقوى وصدق الحديث، والصدقة، والزهد.
وقد ماتت زينب في سنة عشرين للهجرة في خلافة عمر، عام فتح مصر، فكانت أول امرأة للنبي تموت بعده ولها من العمر 53 سنة، وصلى عليها أمير المؤمنين عمر.
12
السيدة جويرية بنت الحارث بن ضرار الخزاعية المصطلقية
كانت قبل زواجها بالنبي تحت مسافع بن صفوان المصطلقي، ولما غزا النبي
صلى الله عليه وسلم
بني المصطلق وسباهم وقعت في سهم ثابت بن قيس الأنصاري في سنة خمس للهجرة، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت إلى رسول الله فقالت: أنا جويرية بنت الحارث، وقد كاتبت نفسي فجئت أسألك. فقال رسول الله: «فهل لك إلى ما هو خير؟» قالت: ما هو؟ قال: «أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك.» فقبلت، وأصدقها النبي أربعمائة درهم.
وتوفيت ولها خمس وستون سنة في ربيع الأول سنة خمسين للهجرة.
13
السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان القرشية
وأمها صفية بنت أبي العاص القرشي، تزوجها قبل النبي
صلى الله عليه وسلم
عبيد الله بن جحش وأسلم ثم هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ولما أقام في الحبشة اعتنق النصرانية ومات عليها هناك، وبقيت هي على الإسلام، فكتب الرسول إلى النجاشي أن يزوجه إياها ويبعث بها إليه، فأخبرها النجاشي بذلك فقبلت، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار، ثم بعث بها إلى النبي مع شرحبيل بن حسنة، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة.
وماتت بالمدينة المنورة في سنة أربع وأربعين للهجرة، وقيل: بل في سنة اثنتين وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
14
السيدة ميمونة بنت خزيمة بن الحارث الهلالية
وأمها السيدة هنيدة بنت عوف بن زهير بن الحارث، وهي أخت السيدة زينب بنت خزيمة.
وقد خطبها النبي في السنة السابعة من الهجرة من زوج أختها جعفر بن أبي طالب بعد موت زوجها أبي رهم بن عبد العزى القرشي، فأنكحه إياها، وتزوجها بسرف وهو على عشرة أميال من مكة. وماتت في هذا المكان في سنة إحدى وخمسين للهجرة، وصلى عليها ابن عباس.
15
السيدة صفية بنت حيي بن أخطب اليهودية
كانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، الشاعر الوجيه اليهودي الذي قتل يوم خيبر، تزوجها الرسول بعد مقتل زوجها في سنة سبع للهجرة، وكان بينها وبين السيدة حفصة كلام وعتاب، وكان النبي يلاطفها ويجاملها. ويروى أن عمر بعث إليها أنه بلغه من جارية لها أنها تحب السبت، وأنها تصل اليهود، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن بنى بي رسول الله يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها. ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. فقالت صفية: اذهبي فأنت حرة. وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة.
ماتت في رمضان سنة خمسين في زمن معاوية، ودفنت بالبقيع، وخلفت ما قيمته ألف درهم من أرض وعرض، وأوصت لابن أختها، وقيل: بل لأخيها، بثلث مالها، وكان يهوديا.
16
هؤلاء هن زوجاته
صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج بهن إلا بعد وفاة السيدة خديجة، ولم يتزوج بواحدة منهن إلا لسبب من مصلحة عامة أو غيرة أو غير ذلك من الأساليب التي كان هو
صلى الله عليه وسلم
أدرى بها، لا لأسباب جنسية بحتة كما يزعم ذلك بعض الضالين من الزنادقة أو المغرضين من المستشرقين. فأول امرأة تزوج بها بعد وفاة خديجة كانت سودة، وإنما تزوج بها لتقوم بأمور بيته، ثم تزوج بالسيدة عائشة، وما كان تزوجه بها إلا لأنه كان يحب أن يرتبط بأبي بكر ارتباطا تقويه وشائج الدم مع وشائج الأخوة والإسلام، وكذلك كان أمر زواجه بحفصة بنت عمر. وأما زينب بنت خزيمة فقد كانت سيدة نبيلة أصيبت بزوجها واشتد ولهها عليه، فلم يجد النبي بدا من التزوج بها، ولم تلبث عنده إلا شهرين حتى لحقت بزوجها، وقد ظل النبي الكريم وفيا لها ولأسرتها فتزوج بأختها ميمونة. وأما أم سلمة فقد كانت امرأة كهلة، ولما مات زوجها يوم بدر اشتد حنينها إليه فواساها النبي قائلا: «سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك، وأن يخلفك خيرا.» فقالت: ومن يكون خيرا من أبي سلمة! فأدرك النبي
صلى الله عليه وسلم
أنها تريده بعد أن رفضت الزواج بأبي بكر وعمر وتزوجها. وأما زينب فإنما تزوجها ليزيل ما علق بأذهان الناس يومئذ من أن مطلقات المتبنين حرام على المتبني، كما بينا ذلك وكما أشارت إليه الآية الكريمة. وأما زواجه برملة بنت أبي سفيان فقد كان شاهدا على النجدة والمروءة والشرف؛ لأنه رآها بعد مخالفتها لأبيها وهجرتها مع زوجها إلى الحبشة فرارا بدينها، وفجيعتها بزوجها، أهلا لأن تصان ويكون لها عضد يحميها، فكان هو ذلك العضد. وأما جويرية فقد كانت بنت سيد قومها، فلما وقعت سبية واستعطفته، عطف عليها ورحمها وتزوجها، وكان زواجه بها سببا في عتق أسرى قومها. وأما صفية فكان أمرها كأمر جويرية.
هذا هو السر في تعدد أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
لا ما يزعمه المغرضون والضالون.
وهناك أيضا عدد من السراري المملوكات تزوج بهن رسول الله؛ وهن أربعة: «مارية القبطية»، وهي التي أهداها إليه المقوقس صاحب مصر والإسكندرية في سنة سبع، وكان معها أختها سيرين وهدايا أخرى، وكان النبي معجبا بها. وقد ولدت له ابنه إبراهيم في ذي الحجة من السنة الثامنة، وماتت في خلافة عمر سنة ست عشرة للهجرة، فصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع. و«ريحانة ابنة شمعون» القرظية، وقيل: النضرية، ملكها النبي بعد غزو قومها بني قريظة أو بني النضير، فلم تزل عنده حتى ماتت بعد رجوعه من حجة الوداع ودفنها بالبقيع. وكانت له
صلى الله عليه وسلم
سريتان أخريان: إحداهما أهدتها إليه زوجته السيدة زينب بنت جحش، والثانية أمة يهودية من بني قريظة اسمها زليخة. (2) أولاده
صلى الله عليه وسلم
اضطربت روايات المؤرخين في عدد أولاد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم أجمعوا على ستة؛ هم: القاسم، وإبراهيم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وزاد ابن هشام في السيرة: الطاهر، والطيب. وزاد الزبير بن بكار: أنه ولد له ولد أيضا اسمه عبد الله، وأنه مات صغيرا بمكة وهو الملقب بالطيب. ويقال: إن الطاهر والطيب وعبد الله اسم لمسمى واحد، وهو قول الأكثرين، وقيل غير ذلك، حتى أوصلهم بعضهم إلى اثني عشر مولودا.
17
وقد ولدوا كلهم قبل الإسلام من السيدة خديجة، إلا إبراهيم فإنه ولد بعد الإسلام من السيدة مارية. ومات البنون منهم قبل الإسلام أيضا وهم يرتضعون، وكان القاسم هو أول ولد ولد له قبل النبوة، وبه كني، وعاش حتى مشى ثم مات.
أما أكبر البنات فهي «زينب»، ولدت سنة ثلاثين من مولد النبي، وأدركت الإسلام فأسلمت، وأبى زوجها أبو العاصي بن الربيع أن يسلم، فتركته وهاجرت إلى الحبشة، ثم ماتت في السنة الثامنة للهجرة.
18
وتليها «رقية»، وقد ولدت في سنة ثلاث وثلاثين من مولده، وقد تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل البعثة النبوية، وقد طلقها بعد أن نزلت سورة:
تبت يدا أبي لهب
على رسول الله. وكذلك «أم كلثوم»، فقد كانت تحت عتيبة بن أبي لهب، أخي عتبة، وقد طلقها أيضا بعد أن نزلت سورة «تبت».
وأما ابنته السيدة فاطمة، فقد ولدت سنة إحدى وأربعين من مولده، وزوجها النبي من ابن عمه علي بن أبي طالب في السنة الثامنة، وقد ظلت معه طوال عمره وبقيت بعد قتله بستة أشهر، وهي أم ريحانتي رسول الله الحسن والحسين رضوان الله عليهما. (3) أمواله وتركته وميراثه
صلى الله عليه وسلم
المتواتر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه كان زاهدا في الدنيا وأموالها ومتعها، وأنه إنما كان ينال منها ما يسد به أوده، ويكفي به عياله من خبز الشعير ومتواضع الإدام، وخشن الثياب، وهذا جعل بعض أهل بيته يضجون من كثرة التضييق عليهم؛ فقد ذكر المؤرخون أن نساء النبي ضقن ذرعا بحياة الخشونة، فأجمعن على أن يسألنه ما يترفهن به، فغضب لذلك أشد الغضب، ورأى أن يطلقهن كلهن، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما . وقد روى جابر بن عبد الله أن أبا بكر الصديق جاء يوما إلى رسول الله يستأذن عليه والناس ببابه جلوس، والنبي جالس، فلم يؤذن له، ثم جاء عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لهما ودخلا عليه وهو جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن رسول الله لعله يضحك. فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها. فضحك النبي حتى بدت نواجذه، وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة.» فقام أبو بكر إلى عائشة يضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان رسول الله ما ليس عنده! فنهاهما رسول الله، فقالت نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله آية التخيير:
يا أيها النبي قل لأزواجك ، فبدأ رسول الله بعائشة فقال لها: «إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك.» فقالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية، فقالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله. ثم طاف رسول الله بحجر زوجاته فكلهن قلن مثل قولها ...
إن هذه القصة تدلنا على أن الرسول الكريم كان شديد الزهد في مفاتن الدنيا ومباهجها ومتعها وملاذها، وأنه كان يريد أن يجعل أهل بيته كنفسه، ويظهر أنهن لما اشتدت عليهن قسوة تلك الحياة الخشنة لجأن إلى الإلحاف، فلجأ هو
صلى الله عليه وسلم
إلى فكرة الطلاق، ثم كان ما كان مما رأيت. وهكذا قضى رسول الله عمره كله حتى بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وتواردت إليه المغانم، ولكنه
صلى الله عليه وسلم
آثر ما عند الله على ما في الدنيا.
ولما توفي الرسول لم يخلف دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا شيئا إلا بغلته، وثيابه، وسلاحه، وقطعة أرض في خيبر وفدك. أما البغلة فهي التي أهداها إليه المقوقس، فلما وصلته استحسنها، وكان يركبها في أسفاره وفي المدينة المنورة، ويقال إنها كسرت حتى زالت أضراسها، فكان يحش لها الشعير، وكان يركبها بعده
صلى الله عليه وسلم
علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم محمد بن الحنفية، حتى عميت من الكبر.
19
وأما السلاح فقد رووا أنه كان له
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة سيوف وبعض الأرماح وبعض القسي والدروع والتروس، وأن كثيرا من هذه العدد أخذها من سلاح بني القينقاع.
20
وأما الثياب، فيقال إنه
صلى الله عليه وسلم
توفي وله ثوبا حبرة، وإزار عماني، وثوبان صحاريان، وقميص صحاري، وقميص سحولي، وجبة يمنية، وقميص، وكساء أبيض، وقلانس صغار ثلاث أو أربع، وإزار طوله خمسة أشبار، وملحفة مورسة.
21
وأما الأرضون، فهي التي اصطفاها لنفسه من أرض خيبر وأرض فدك، وبقعة في المدينة جعلها صدقة على فقراء المسلمين.
ولما توفي رسول الله وتولى الأمر من بعده أبو بكر الصديق، جعل جميع ما تركه النبي صدقة، فجاءت السيدة فاطمة إليه فقالت له: من يرثك؟ فقال: «أهلي وولدي.» فقالت: فما لي لا أرث أبي؟ فقال أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» ولكني أعول من كان رسول الله يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه. وأبى أن يدفع لها شيئا، فوجدت عليه وهجرته، ولم تزل مهاجرته إلى أن مرضت. ويقال إن أبا بكر لما سمع باشتداد مرضها زارها ورضاها فرضيت عنه بعد أن اعتذر إليها وأقنعها بوجهة نظره.
22
والرواية المشهورة في ذلك تقول إن فاطمة رفضت أن يدخل عليها في مرضها، وإنها طلبت من علي ألا يصلي عليها أبو بكر، وإنه فعل ذلك، حتى إنه دفنها ليلا، ولم يؤذن بذلك أبا بكر.
अज्ञात पृष्ठ