عصر الانبثاق
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
دول الحضارات الشمالية
حضارات الوسط
حضارات الجنوب
أيام النبي صلى الله عليه وسلم
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
عصر الانبثاق
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
دول الحضارات الشمالية
حضارات الوسط
حضارات الجنوب
أيام النبي صلى الله عليه وسلم
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
عصر الانبثاق
عصر الانبثاق
تاريخ الأمة العربية (الجزء الأول)
تأليف
محمد أسعد طلس
عصر الانبثاق
توطئة
انبثق سيل تاريخ الأمة العربية في حوالي القرن الأربعين قبل الميلاد في دنيا العرب الممتدة ما بين جبال زاغروس، وطوروس، واليمن، وجبال الأطلس.
ويدخل في حدود هذه «الدنيا العربية» جميع البلاد المعروفة اليوم بأسماء: اليمن، الحجاز، نجد، قطر، البحرين، الكويت، الشام، العراق، مصر، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، مراكش.
وقد كان قلب هذه «الدنيا» هو بلاد نجد والحجاز وبادية الشام، ومن هذا القلب كانت الموجات العربية تخرج، وتفيق على ما حولها من الديار والأقاليم، وأقدم هذه الموجات الموجات الإحدى عشرة الآتية: (1)
موجات ما قبل التاريخ الحضري التي انساحت نحو وادي النيل، وما بين نهري دجلة والفرات، وبلاد اليمن. (2)
موجة القبائل الأكادية التي انساحت إلى ما بين النهرين في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. (3)
موجة الكنعانيين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. (4)
موجة الآشوريين التي انساحت إلى ما بين النهرين حوالي النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. (5)
موجة الرعاة «الهكسوس» التي انساحت إلى وادي النيل في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد. (6)
موجة الآراميين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. (7)
موجة العبرانيين التي انساحت إلى أرض فلسطين في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد. (8)
موجة اليمنيين التي انساحت إلى شمالي الجزيرة العربية في فجر الألف الأول قبل الميلاد. (9)
موجة الأدوميين التي انساحت إلى جنوبي الشام في أواسط الألف الأول قبل الميلاد. (10)
موجة اليمانيين من الغساسنة والمناذرة التي انساحت إلى الشام والعراق في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد. (11)
موجة المسلمين التي انساحت في أواسط الألف الأول بعد الميلاد إلى الشام والعراق.
وقد اختلف العلماء في البقعة الأولى التي خرجت منها هذه الموجات، ولكن الأكثرين قالوا على أنها قلب الجزيرة العربية. يقول الدكتور جواد علي: تصور العلماء الذين قالوا إن الجزيرة العربية هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الواحدة منها زهاء ألف عام، بما يزيد عن طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم على صورة موجات قالوا لها: «الموجات السامية»، وقد علل القائلون بهذه النظرية الهجرات السامية من بلاد العرب سبب هذه الهجرات، بعدم استطاعة شبه الجزيرة قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصيبة في الشمال، وقد كانت الطرق الساحلية من أهم الطرق التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
رأى المستشرق الإيطالي المشهور كيتاني أن الجفاف الذي حل ببلاد العرب فحول أكثر أراضيها إلى صحاري جرد؛ كان العامل الأول في هذه الهجرات، رأى أن جو بلاد العرب قبل ألفي سنة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك، لم يكن على الشكل الذي نلاحظه الآن، وأن تغيرات وتطورات طبيعية طرأت على الجزيرة كان نتيجتها ظهور هذا الجفاف، وهي تطورات استغرقت أمدا طويلا، وقد أيد هذا الرأي ودافع عنه السير توماس أرنولد، ورأت المس ألينور كردنر التي قامت بأبحاث جيولوجية في حضرموت في عامي 1937، 1938م؛ أنه لم تحدث في الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة العربية تغيرات طبوغرافية وجيولوجية وجوية كبيرة منذ زمن الباليوزوسي، وينتهي حوالي 10000 قبل الميلاد؛ حيث كان الجو مشبعا بالرطوبة.
1
وقد لفت الأستاذ كيتاني أنظار العلماء إلى هذه الظاهرة المهمة؛ ظاهرة التغير الذي طرأ على جو بلاد العرب، والجفاف الذي حل بها في أواخر الدورة الجليدية الأخيرة، ففي الوقت الذي كان فيه معظم النواحي الأوروبية وشمالي آسيا تغطي أرضها الثلوج؛ كانت جزيرة العرب ذات جو معتدل، وأمطار غزيرة، وأشجار وزروع، وكانت هضبة إيران تغطيها الثلوج ... ثم أخذ الجو يتغير في بلاد العرب، ففقد الجو رطوبته، وسار بصورة مستمرة وبطيئة نحو الجفاف منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، فأثر ذلك بالطبع في حياة سكانها، وفي حياة حيوانها ونباتها؛ فانقرض ما لم يتمكن من تكييف نفسه مع المحيط، وظهرت الحاجة إلى هجرات ...
2
وهذه الموجات أو الهجرات التي اندفعت من قلب دنيا العرب إلى البلاد المحيطة بها، فأقامت حضارات عريقة وأصيلة، قد أثبت البحث العلمي الحديث أنها كلها ترجع إلى أرومة واحدة وعرق واحد؛ هما: الأرومة العربية، والعرق العربي الممتازين بطابع واحد وسمة واحدة، وملامح متشابهة، وأفكار متماثلة، ولغات متقاربة، وأنظمة وقوانين وتشريعات متساوية، وعقليات دينية متناظرة.
وقد اصطلح المستشرقون وعلى رأسهم العلامة الألماني اللغوي شلوتسر
Schloser
في بحث له نشره سنة 1781م، على تسمية الأقوام الذين قاموا بهذه الموجات بالساميين لا العرب، وهي في رأينا تسمية خاطئة؛ فإنهم حين بحثوا في أصول اللغات العربية والعبرانية والآرامية والسريانية والحبشية والفينيقية والآشورية والبابلية و... ووجدوا الصلات القوية بينها، وقد نسبوا إلى «سام بن نوح» لأن التوراة ذكرت في سفر التكوين
3
أن هذه الأمم كلها سامية، وأنها من نسله، وهذا خطأ لا يعتمد على واقعة تاريخية أو علمية، وإنما هو مبني - على فرض صحة هذا النسب الذي هو موضع شك كبير - على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. ثم إننا لو جاز لنا أن نقبل ذلك من حيث الاصطلاحات اللغوية، وأنهم إنما سموها سامية من قبيل الاصطلاح؛ فلا علاقة أصلا بين الأمور العرقية الأتنولوجية وبين هذه التسمية.
ولا يصح في رأينا إذن أن نطلق كلمة «سامي» أو «حامي» أو «آري»، ونحن نريد بها عرقا بعينه؛ لأنها اصطلاح لغوي بحت، وإنما يجب أن نقول إن هؤلاء الجماعات من البشر قد تحدروا من أصل واحد، سكن بقعة واحدة، هي في أصح الأقوال قلب جزيرة العرب، وإن اللغة التي يتكلم بها سكان تلك البقعة هي اللغة الأم، وإن اللغة العربية الفصيحة هي أقرب اللغات إلى تلك اللغة الأم، وقد قال بهذا القول جماعة من أئمة المستشرقين، وعلى رأسهم العلماء: سبرنجر، وشريد، وونكلر الألمانيون ، وروبرت سميث الإنكليزي، وغويدي الإيطالي، ولهم على ذلك أدلة عديدة وجيهة؛ بعضها لغوي، وبعضها اجتماعي وأخلاقي.
4
فالتقسيم الذي قال به شلوتسر واتبعه الناس من بعده لا يعتمد على حقيقة تاريخية ثابتة؛ لأنه عد من بين الشعوب السامية جماعة لا يعتبرها العلماء الثقات من الساميين، وهم العيلاميون، واللوديون، كما أنه أبعد جماعات كان يجب أن يدخلهم في الساميين؛ وهم الفينيقيون والكنعانيون.
وعلى هذا فالتقسيم المذكور في التوراة تقسيم «مصنوع»، حتى قال بعض العلماء الألمان - وهو المستشرق المرحوم بروكلمان: إن واضعي التوراة العبرانيين قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين والفينيقيين عن سلسلة النسب السامي لأسباب دينية وسياسية، مع علمهم الأكيد بأنهم على اتصال واشج بهم،
5
فهذا يدلك على سوء طوية علماء اليهود منذ الأزل، وعلى أنهم قوم لا يرعون حق قرابة أو علم أو دين، وأن الكذب والتلفيق من طبائعهم، وأن ما يتجدد اليوم في فلسطين العربية الذبيحة من المآسي المادية، واغتصاب الأراضي، وإفساد الحرث والنسل، والتعدي على الحريات، وهتك المقدسات؛ هو أمر متوارث في أصحاب التوراة منذ أقدم عصورهم إلى الآن.
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
يقول العلماء الجيولوجيون إن دنيا العرب في آسيا وأفريقيا كانت في العصر الجليدي تنعم بجو دافئ، وإن الأمطار كانت تهطل فيها بغزارة، وإن سهولها كانت مغطاة بالأعشاب والغائل، وإنه قد كان فيها عدد كبير من الحيوانات الأليفة المفيدة ... وإن هذا كله هو سبب قيام الحضارات العريقة التي قامت في ربوعها.
ولكن ما عتم العصر الجليدي أن انزاح عن أوروبا حتى هجم الجفاف على آسيا، وكان نصيب دنيا العرب منه كبير؛ فجفت بقاع كثيرة في ديارهم، وأخذ كثير من سكان أرضهم يزحفون إلى الشمال، ويحتلون الأراضي الطيبة الصالحة للسكنى، وقد كان لظهور عصر الجفاف هذا أثر كبير في نفوس الناس وأوضاعهم؛ فتبدلت أخلاقهم، وظهر الفقر والبؤس في صفوفهم، واضطروا إلى الرحيل والمهاجرة ... وبهذا يفسر حدوث العدد الكثير من الموجات التي خرجت من قلب دنيا العرب إلى ما حولها من البقاع، فذهب الهكسوس إلى مصر، وزحف الأكديون والآشوريون إلى العراق ، ودخل الآراميون إلى سوريا، وقصد الكنعانيون والعبرانيون فلسطين، وتوجه المناذرة والغساسنة إلى سوريا والعراق و...
1
وقد ظهرت الحضارات في دنيا العرب أيام كانت تتمتع بالجو الدافئ الطيب الممطر الصالح الباعث للنشاط والعمل، وأقدم هذه الحضارات هي: (1)
حضارات الشمال: وهي حضارة الدول السومرية، والأكدية، والبابلية، والآشورية، والكلدانية، والفينيقية، والمصرية، والتدمرية. (2)
حضارات الوسط: وهي حضارة الدول النبطية والتموذية والجندبية، والتيماوية، والحجازية، والنجدية، والتهامية. (3)
حضارات الجنوب: وهي حضارة دول معين، وسبأ، وقتبان، وحضرموت، وأوسان.
هذه هي حضارات دنيا العالم العربي التي قامت منذ فجر تاريخهم، وفي الحين الذي انبثق فيه سيل تاريخهم الخضم إلى أن ظهر فجر الإسلام؛ فشيد تلك الحضارة الخالدة، ووحد بين أقطارهم جميعا، وأقام تلك الإمبراطورية العظيمة التي سيطرت على حدود دنيا العرب من أقصاها إلى أقصاها، ووطدت دعائم الملك العربي.
وفي الفصول الآتية سيرى القارئ موجزا دقيقا - على الرغم من قلة إسهابه - لتاريخ هذه الدول، والحضارات التي قامت في دنيا العرب قبل الإسلام.
دول الحضارات الشمالية
(1) الدول السومرية
قطن العراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد جماعات عرفت بالسومرية؛ وهم من العرق العربي «السامي»، ويزعم بعض المؤرخين أنهم جيل آري؛ لأن رءوسهم مستديرة، وعيونهم واسعة، وأنهم كانوا يحلقون لحاهم، وأنهم قد دخلوا العراق من الجبال الفارسية؛ أي من جهة الشرق، ولكن هذه المزاعم - وإن صح بعضها - لا تقوم دليلا على أنهم (ومثلهم في ذلك مثل الأكديين) كانوا من أصل آري؛ فإن أخلاقهم، وطبائعهم، وعاداتهم، وتراثهم، وأسلوب حضارتهم، وطراز عيشهم، وآدابهم، ولغاتهم التي خلفوها لنا؛ تدل دلالة قوية على شدة شبههم بالبابليين المقطوع بكونهم من العرق العربي «السامي».
والسومريون قوم سكنوا وادي الفرات الشرقي في الألف الرابع قبل الميلاد، بالقرب من أرض السماوة وما حولها، وأسسوا عدة مدن تكون كل مدينة دويلة مستقلة بتاريخها، وكانوا يتنازعون السلطة، فقد تتوسع دويلة وتضعف دويلة، وقد تعظم سلطة بعض الدويلات على الأخرى، ولكن لم يتح لهذه أن تتحد وتشكل دولة واحدة تحت سلطان واحد إلا بعد أن سيطر عليها الملك الأكدي العظيم سرجون ، في حدود منتصف الألف الثالث قبل الميلاد على ما سنراه بعد.
وما تزال معلوماتنا العلمية الصحيحة عن هذه الدويلات جد ضئيلة، ولعل التنقيبات الأثرية الجديدة تكشف لنا عن معلومات أوفى وأوضح.
1
وأشهر تلك الدويلات هي:
دويلة لكش.
دويلة الوركاء.
دويلة أور.
دويلة أوما.
وقد كشفت التنقيبات عن حضارة عريقة لهؤلاء القوم، أول مظاهرها: كتابتهم، وتنظيمهم شئون الزراعة والتجارة والصناعة والحرب، والحياة الاجتماعية، وتقدم الفنون الجميلة، والمعارف العامة.
أما كتابتهم، فكانت تتألف من صور وعلامات خاصة عرفت بالكتابة المسمارية؛ لأن أحرفها تشبه شكل المسامير، وكانوا يكتبون هذه الصور والعلامات بقلم من القصب على قطع من الطين الطري الذي يجفف بالشمس أو بالنار، وتعود أقدم هذه الآثار المكتوبة بهذه اللغة إلى الألف الرابع قبل الميلاد، ولم تلبث هذه الكتابة التصويرية أن تحولت إلى كتابة صوتية في حضارة دولة «أوغاريت» التي اكتشفت آثارها مؤخرا قرب مدينة اللاذقية عند رأس الشمرة، وكان هذا التحول مقدمة لاختراع الفينيقيين حروف الكتابة التي نشروها في العالم المتمدن كله فيما بعد.
وأما تنظيم شئون الزراعة، فقد دل عليه عنايتهم بشئون الري، وتجفيف المستنقعات، وردم الأهوار، وإقامة السدود، واختراع الآلات المتقنة للحراثة، ومن بينها آلة تشق الأرض وتلقي البذور في آن واحد، كما أنهم اعتنوا بزراعة النخيل، وتنويعه، وتحسين أجناسه، وقد عثر على بعض الألواح السومرية التي تحض الناس على الاهتمام بتنظيم شئون الزراعة ووقاية المزروعات، والعناية بتحسين أنواعها وأجناسها.
وأما رقي الصناعة والتجارة عندهم، فيدل عليه ما اكتشف من الآثار المصنوعة من النحاس والذهب والفضة والبرونز، فقد صنعوا من هذه المعادن آلات الزراعة والحراثة، وأدوات المنازل والزينة، وعدد الحرب والقتال، وقد كان للسومريين علاقات تجارية واسعة مع سكان سائر العالم العربي والخارجي في الشام والجزيرة وشمال أفريقيا وآسيا الصغرى وبلاد فارس والهند.
وأما تفوقهم في فنون الحرب وصناعة القتال وتعبئة الجيوش، فيدل عليه ما عثر في مدنهم من آلات القتال المتقنة والخناجر والدروع، والرماح والسيوف والخوذ والتروس، وقد كشفت التنقيبات في مدينة «لكش» عن معلومات جد قديمة تتعلق بالأسلحة، وتنظيم حركات الجيوش، وحركات الكر والفر، وعربات القتال.
وأما تقدمهم في الحياة الاجتماعية، فيتجلى ذلك في تقسيم المجتمع عندهم إلى طبقات:
أعلاها:
طبقة الكهنة، ورجال الدين، وقادة الدولة، ورجال السياسة.
وثانيها:
طبقة كبار الموظفين، وعظماء الأحرار، وملاك الأرض، وأصحاب الأطيان.
وثالثها:
طبقة الصناع، والفلاحين، والعبيد.
وقد كان الملك أركاجينا مشهورا بإصلاحاته الاجتماعية والقانونية، ويعد أول مشرع عادل قبل حامورابي لقرون عديدة، وقد كانت قوانينه العادلة تهدف إلى إزالة الظلم عن الطبقات الفقيرة، ونشر العدل بين الطبقات العامية من أرباب الصناعة والفلاحة والرق، وتمنع كبار الموظفين وملاك الأرض وأصحاب الأطيان ورجال الدين والكهنة والقادة ورجال الدولة من ابتزاز أموال الطبقة الثالثة.
وأما تقدم الفنون الجميلة، فلا أدل عليه من التماثيل الرخامية المدهشة التي عثر عليها في مدنهم، كما يدل عليه تقدمهم في فن الريازة وزخرفة المعابد والقصور والقلاع زخرفة فائقة، وقد كانوا على جانب عظيم في علم الهندسة وبخاصة المعمارية، وقد ظهرت آثار ذلك في تخطيط مدنهم وتنظيم شوارعها ومرافقها العامة وقلاعهم، وهم أول من استعمل أسلوب «العقد» في البناء، كما أنهم أول من اخترعوا طرائق صنع «القباب» في العمران.
وتدل ملحمة «جلجامش» أحد ملوكهم في مدينة الوركاء على مبلغ تقدمهم في الفنون الجميلة من نحت وحفر، وصياغة وأدب من شعر ونثر وخطابة، وقد وجدت في المقبرة الملكية في «أور» كنوز ثمينة في تفوقها الفني ونقوشها البارعة، سواء في الرسم، أو في الحفر، أو في النقش، أو في التكفيت.
وأما معارفهم الثقافية العامة، فقد كانت جد مدهشة بالنسبة لزمانهم؛ لأنهم برعوا بالحساب وعلم الفلك، وكانوا يوقتون بالشهر القمري، ويقسمون السنة إلى اثني عشر شهرا قمريا، وكان نظام التعداد عندهم يقوم على الأساس الستيني.
والحق أن الحضارة السومرية هي حضارة جد عريقة، وجد مدهشة، تبهر المرء، وتدل على ما وصل إليه العقل في وادي الرافدين من التقدم، كما تدل على أن العرب قد كان لهم قبل ذلك العصر تاريخ أعمق، ولعل التنقيبات ستكشف عن ذلك. ويذهب بعض المؤرخين المدققين إلى أن هذه الحضارة تفوق الحضارة المصرية القديمة وتسبقها.
2
ويقول البروفسور ديورانت في كتابه القيم عن «قصة الحضارة»: ويمكن أن نلخص الحضارة السومرية تلخيصا موجزا في هذا التناقض بين خزفها العج الساذج وحليها إلى أن أوفت على الغاية في الجمال والإتقان، لقد كانت هذه الحضارة مزيجا مركبا من بدايات خشنة، وإتقان بارع في بعض الأحيان، في تلك البلاد (على قدر ما وصل إليه علمنا في الوقت الحاضر) نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات، وأول تنظيم الري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول العقود التجارية، وأول نظام للائتمان، وأول كتب القوانين، وأول استخدام للكتابة في نطاق واسع، وأول قصص الخلق والطوفان، وأول المدارس والمكتبات، وأول الأدب والشعر، وأول أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين، وهنا نجد في البناء أول العقود والأقواس وأول القباب، وهنا كذلك تظهر لأول مرة في التاريخ المعروف بعض مساوئ الحضارة في نطاق واسع؛ يظهر الرق والاستبداد، وتسلط الكهنة، وحروب الاستعمار، ولقد كانت الحياة في تلك البلاد متنوعة مهذبة موفورة النعم متعددة، وهنا بدأت الفوارق الطبيعية بين الناس تنتج حياة جديدة من الدعة والنعم للأقوياء، وحياة من الكدح والعمل المتواصل لسائر الناس، وفي تلك البلاد كانت بداية ما نشأ في تاريخ العالم من اختلافات يحيطها الحصر ...
3
وبعد، فهذه هي الحضارة السومرية، وهي أول حضارة عربية عريقة بلغت الأوج، ودلت على أن مثل هذه الحضارة بواكير حضارات أعرق ستكشف عنها التنقيبات الدائبة التي يعمل العراق الحديث على كشفها. (2) الدولة الأكادية
خرج الأكاديون (الأكديون) من قلب الجزيرة العربية إلى وادي الرافدين في العراق، وجاوروا السومريين في حوالي بداية الألف الثالث قبل الميلاد، وكونوا دولتهم فيه، وقد عاشوا في بادئ أمرهم إلى جانب السومريين، واقتبسوا منهم حضارتهم وعلمهم وثقافتهم، ثم أخذوا يتكتلون حتى تمكنوا من التغلب عليهم في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، حين نبغ فيهم الملك المصلح سرجون، فقضى على الدويلات السومرية، ووحد العراق كله، ثم توسع في ملكه حتى غدا ملكه إمبراطورية واسعة، كانت أول إمبراطورية في تاريخ حضارة الإنسان؛ فقد استولى على كافة الهلال الخصيب، وديار عيلام، وآسيا الصغرى، وشيد مدينة عظيمة جعلها عاصمة ملكه الواسع سماها «أكد»، وبها سميت الدولة.
وقد خلف الملك «سرجون» العظيم ملوك كبار، ساروا في سبيل رفع شأن أمتهم وتعزيز مكانتها، ومن أجل هؤلاء الملوك «نرام سن» الذي سار سيرة سرجون في الفتح حتى بلغت جيوشه إلى قبرص، ولكنه ما لبث أن مات فتقهقرت الدولة الأكدية، وأخذ نفوذها يتقلص بهجوم «الكوتيين» عليها؛ وهم أقوام من برابرة الجبال الشمالية والشرقية في العراق، فقضوا على الدولة الفتية القوية السائرة في سبيل الحضارة، واستولى على ديارهم ملوك الكوتيين الجهال الحفاة؛ فاختل حبل الأمن، وعمت مساوئ الجهالة مدة حكمهم التي دامت نحوا من قرن، وكادت شعلة الحضارة الأكدية بجذورها السومرية أن تنطفئ لولا قيام دويلة سومرية في مدينة «لكش» وما حولها، وقد خلفت لنا «لكش» آثارا جليلة في الأدب السومري، ومآثر جليلة في المعابد والقصور والمحلات العامة، وقد كان أحد ملوك هذه الدويلة وهو الملك «كودية» من عظماء الملوك لآثاره الجليلة، وقد حفظ لنا الدهر نماذج رائعة من الأدب السومري من عهد «كودية».
ولما اشتد ضغط الكوتيين على أهل المدن الأكدية تجمعوا بزعامة البطل «أوتو جكال»، فقضى على الكوتيين، وأسس مملكة جديدة في مدينة «وركاء»، ولكن عهده لم يطل؛ إذ ثار عليه أحد أتباعه، وهو حاكم مدينة «أور»، فأسس أسرة حاكمة دامت فترة غير قصيرة من الزمن، عرفت بأسرة «أور الثالثة».
وقد كان عهد هذه الأسرة الحاكمة من أزهى عصور الأكديين؛ لما بلغوه في عهدها من التقدم العلمي والاجتماعي والسياسي، وقد كان عدد ملوك هذه الأسرة خمسة، اشتهروا كلهم بالعمل المثمر والعمران الراقي، والسير في سبيل الحضارة، وخلفوا آثارا فنية قيمة، كما شادوا كثيرا من القصور الفخمة، والمعابد المدرجة الضخمة (الزكورات)، والتي ما تزال أطلالها ماثلة إلى أيامنا هذه.
وعلى الرغم من عظمة ملوك هذه الأسرة، فإنهم لم يستطيعوا إعادة الدولة إلى ما كانت عليه من قبل من القوة والوحدة والسلطان.
ومما هو جدير بالذكر أنهم فكروا جديا بالتآلف مع إخوانهم السومريين، فاتحدت الدولتان وامتزجت حضارتاهما، فكونتا حضارة عظيمة خالدة عرفت بالحضارة السومرية-الأكدية، وقد ظلت في ازدهار نحوا من عشرين قرنا، وهيئت الجو للحضارة البابلية العظيمة، وما جاء بعدها في وادي الرافدين من حضارات. (3) الدولة البابلية
دخل العراق في الألف الثالث قبل الميلاد جيل من العرب يعرف بالعموريين، زحفوا من غربي الجزيرة العربية في سوريا إلى العراق، ويظهر أن الأكديين حين فقدوا نفوذهم السياسي، واشتد خلافهم مع السومريين، ورأوا اضمحلال دولتهم استنجدوا بالعموريين؛ فقدم هؤلاء عليهم بسيول جرارة، سائرين مع الفرات مخلين سهل شنعار بمدنه وقراه، وفي سنة 2050 قبل الميلاد احتلوا بابل، وكانت قرية لطيفة أعجبتهم بحسن موقعها وطيب مناخها، فاعتنوا بها، وجعلوها عاصمة مملكتهم حتى عدت في فترة قصيرة مدينة عظيمة، وتتابع على بابل نفر من الأملاك كان أعظمهم سادسهم الملك حمورابي الذي حكم البلاد من سنة 1948 إلى سنة 1905 قبل الميلاد، فوحد العراق، وقضى على العيلايين الذين احتلوا بلاد السومريين، كما استولى على أراضي آشور والفرات، ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان عهده الذي دام ثلاثة وأربعين عاما من أزهر عصور بلاد الرافدين، ثم خلف من بعده ملوك لم يستطيعوا أن يتمموا ما بدأ به وما شيد، فأخذت الإمبراطورية البابلية تنحدر قليلا فقليلا حين ثار الكاشيون من سكان سواحل الخليج العربي وجبال إيران على الدولة البابلية، واقتطعوا منها جزءا، كما تقدم الحثيون من سكان آسيا الصغرى إليها، واستولوا على جزء آخر منها، ولم يستطع الملك شمسوديتاثا الوقوف أمام الغزو الحثي؛ فسقطت بابل في يد الحثيين القساة، وأمعنوا فيها تخريبا وسلبا.
وقد اغتنم الكاشيون في الجنوب فرصة انشغال الحثيين في الشمال بالسلب والنهب والتخريب، فأغاروا عليهم، واستولوا على بابل، وطردوهم من البلاد، وأقاموا أنفسهم حكاما على الديار البابلية في سنة 1750 قبل الميلاد. وكان استيلاء الكاشيين هؤلاء سببا من أهم أسباب التأخر العمراني والانحطاط السياسي في البلاد، وخسرت بابل مركزها العالمي الذي لم تستطع أن تسترده إلا في أيام الكلدانيين بعد عصور.
وقد ظل الكاشيون مسيطرين على البلاد إلى أن طردهم الآشوريون منها، وضموها إلى مملكتهم، وعلى الرغم من أن بابل قد حاولت عدة مرات التخلص من النفوذ الآشوري، فإنها لم تستطع الإفلات من أيدي الآشوريين، وظلت خاضعة لحكمهم إلى أن سقطت مدينة نينوى.
وقد بلغت بلاد الرافدين في عهد البابليين حدا رفيعا في العلم والحضارة تممت به ما بدأه السومريون والأكديون من قبل، وغدت هذه الديار سيدة دول الدنيا، وركيزة حضارات آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ فقد وجد البابليون قبلتهم في بلاد الرافدين حضارة راقية في عمرانها وعلمها وفنها وهندستها وزراعتها وصناعتها وتجارتها وقوانينها وأنظمة حكومتها، فأكملوا ذلك وتمموا من عندهم ما لم يجدوه عن أسلافهم من السومريين والأكديين، ولولا الحضارتان القديمتان في «أكد» و«سومر»، لما استطاع البابليون أن يبدعوا ذلك الإبداع الخلاق في حضارتهم خلال أربعة قرون؛ لأن دولتهم قامت - كما رأينا - حوالي أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وبلغت أوجها في عهد حمورابي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد.
وإن أجل آثار البابليين في حضارتهم هو العلم بمظاهره كلها، من تأليف وبحث وتطور وترجمة وكتابة.
يقول جرجي زيدان في وصف أقدم مكتبة في العالم عثر عليها في بابل: عثر النقابون على قرميدة بابلية عليها كتابة مسمارية فيها قائمة بأسماء ملوك بابل منذ أكثر من ستين قرنا، ويدل ذلك على قدم التمدن في ذلك البلد المبارك، وفي جملة أولئك الملوك ملك اسمه «شرجينا»، وكان محبا للعلم والعلماء، راغبا في العمارة، أنشأ مكتبة في «الوركاء» من أعمال العراق سماها مدينة الكتب، وعهد إلى رجال من خاصته في جمع الكتب قديمها وحديثها، وأن يفسروا بعضها بالترجمة أو التعليق، واستعان بالعلماء من سائر الأقطار لينقلوا علوم الآخرين إلى لسانهم وتدوين علومهم، واشتغل آخرون بالشرح والتعليق، كما فعل بطليموس فيلادلفوس بالإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكسرى أنوشروان في جنديسابور في القرن الخامس للميلاد، وكما فعل الرشيد والمأمون في بغداد في القرن الثاني والثالث للهجرة.
وقد دون «شرجينا » هذه العلوم بالحرف المسماري نقشا على الطين، وهي القراميد الآشورية المعروفة، فكانت مكتبة «وركاء» هذه مملوءة بالكتب اللغوية والفلكية والشرعية والأدبية وغيرها، ثم نسخت بعد إنشائها بخمسة عشر قرنا بأمر من أمير آشوري، وحفظت في دار خاصة بها كما تحفظ المكاتب اليوم، وعثر النقابون بالأمس على بقايا هذه المكتبة بين النهرين، ونقلوها إلى المتحف البريطاني في لندن، فهي هناك إلى هذه الغاية ...
4
فمكتبة «وركاء» هذه أول مكتبة بل دار كتب في العالم، اهتم بها الملوك والعلماء البابليون، فزودوها بنتائج تراثهم العلمي، وخير بحثهم العقلي، ونقلوا إليها مباحث قرائح العالم القديم، ولا ريب في أنه قد كان إلى جانب هذه الدار العمومية دور كتب خصوصية جمعها علماء الدولة وكتابها ومؤلفوها وأغنياؤها وأمراؤها، ولا عجب إذن أن نقول إن بحوث الأدب والعلم والتشريع قد ازدهرت في أيام البابليين ازدهارا مدهشا.
أما الأدب، فقد ضربوا فيه بسهم كبير، وخلفوا لنا آثارا رائعة من الأدب الديني، من شعر ونثر، ومن القصص الوعظي المنظوم على ألسنة الحيوان، الذي انتقل إلى اليونان عن طريق أيسوب؛ ذلك الأسير الشرقي الذي عاش في البيئة اليونانية، ومن القصص الشعري المسرحي الذي يتجلى بأروع مظاهره في «ملحمة جلجامش».
وأما العلم، فقد أبدعوا فيه أشياء كثيرة؛ منها «علم التاريخ» وسير الأولين، وقد برعوا في هذا العلم، وعرفوا كثيرا من تاريخ الإنسانية الأولى من بدء الخليقة وتكون العالم، وأحوال كثير من الأمم والشعوب والمدن والأقوام، وأحوالهم ممن سبقوهم أو عاصروهم في شتى بقاع الأرض؛ ومنها «علم اللغة»، فقد اهتموا بدراسة سنون لغتهم من نحو وصرف وعروض وبيان وما إلى ذلك؛ ومنها «علم الطب»، فقد توصلوا فيه إلى معرفة كثير من العلل ومداواتها، ومعرفة النباتات والأدوية والعقاقير والأطعمة الصحية المفيدة والأطعمة الضارة، وقد تضمنت شريعة حمورابي كثيرا من آداب الطب وشرائط الأطباء، وما يجب للمرضى وعليهم؛ ومنها «علم الفلك»، فقد ازدهر على أيديهم وتقدم تقدما باهرا، واعترف اليونان لهم بهذا العلم والتقدم فيه، وبأنهم أصحاب الفضل في معرفة كثير من نظرياته، ولا تزال الإنسانية تتمتع بفضل مكتشفاتهم وبحوثهم فيه، فهم الذين عرفوا النجوم الثابتة، والنجوم المتحركة، ورسموا لها الخرائط والمخططات، وبنوا طرائق سيرها، وحددوا مواضع الفلك، وأمكنة الكواكب، وعرفوا الأبراج الاثني عشر، وأدركوا الفرق بين الدورة الشمسية والسنة القمرية، وقسموا الشهر إلى أربعة أسابيع، واليوم إلى اثنتي عشرة ساعة، والساعة إلى ستين دقيقة.
وأما التشريع، فقد بلغوا فيه درجة رفيعة جد سامية تدل على ما وصلوا إليه من سعة في الثقافة وتنظيم في العقل، وسمو في التشريع؛ وأوضح دليل على ذلك هو قانون حمورابي،
5
وإن الإنسان ليدهش أمام ذلك العقل العربي الذي أبدع هذا القانون الرفيع، الذي إذا قورن بقوانين الرومان التي صيغت في أزهى عصورهم في القرن الثالث قبل الميلاد، تبين الفرق الشاسع بينه وبين القوانين الرومانية السطحية، على الرغم من الزمن السحيق الذي صيغت فيه مواد قانون حمورابي، وهو القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد.
6 (4) الدولة الآشورية
قدم الآشوريون إلى وادي الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد، من قلب الجزيرة العربية، واستوطنوا المنطقة الواقعة على جانبي نهر دجلة شمالي نهر «الهضيم»، واتخذوا لأنفسهم مدينة سموها باسم إلههم «آشور»، وبنوها بالحجارة الضخمة، وهي معروفة اليوم باسم «شرقاط»، وقد شادوا حولها عددا من المدن والقلاع، وأشهرها «كالح» و«نينوى».
وينقسم تاريخهم إلى قسمين:
الأول:
هو العهد الذي سبق تاريخهم لتأسيس الإمبراطورية.
والثاني:
هو العهد الإمبراطوري.
أما العهد الأول، فيمتاز بأنهم أخذوا يهيئون أنفسهم تهيئة عسكرية قوية يستطيعون بها التغلب على خصومهم «الحثيين» الذين كانوا يقطنون في شماليهم، والميتانيين الذين كانوا يقطنون في غربيهم، و«الأكدين» و«العموريين» الذين كانوا يسكنون في شرقيهم، وقد نبغ منهم في هذا العهد جمهرة من الأمراء، أشهرهم «شلم نصر الأول» الذي نظم صفوفهم، وأفاد من الحضارة السومرية فوائد كثيرة؛ فجعل شعبه شعبا قويا، واستطاع أن يستولي على بابل وما حولها من أملاك السومريين، كما استطاع أن يتغلب على الأكديين حتى لقب نفسه «ملك سومر وأكد». ثم خلفه الملك «تكلات بيلاسر الأول»، وقد بلغت الدولة في عهده مبلغا ساميا في القوة والرقي ، والتمهيد للعهد الإمبراطوري، ولكن ما عتم أن مات حتى خلفه ملوك ضعفاء، وتوقفت حملات الفتح، ودب الانحلال إلى الدولة، واستطاع خصومها من «الآراميين» أن يستولوا على بعض أجزائها، إلى أن ظهر الملك «شلم نصر الثالث» الذي جدد عهد سميه الأول، فقام بعدة حملات موفقة جعلته الآمر المطاع في كل آسيا الغربية، من حدود فارس حتى أرمينية حتى البحر الأبيض المتوسط، وقد دون فتوحاته في المسلة الخالدة التي نصبها في عاصمته «كالح» المعروفة اليوم باسم مدينة «نمرود»، وقد سجل على هذه المسلة أسماء الملوك الذين أخضعهم، وأخذ منهم الجزية. ثم خلفه الملك «تكلات بيلاسر الثالث»، وكان كسميه الأول؛ محاربا قويا وفاتحا موفقا، وقد توصلت الدولة في عهده إلى أسمى درجات المجد، وبلغت فتوحه إلى دمشق وفلسطين وسائر أجزاء الهلال الخصيب والمشرق وغيرهما من العالم المتمدن القديم.
وأما العهد الثاني، فيبدأ بعهد الملك «سرجون الثاني» المعروف بلقب «شيروكين»؛ أي الملك الصالح، وقد ارتقى عرش الدولة في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وظل فيه سبعة عشر عاما (722-705 قبل الميلاد) أخضع فيها بلاد بابل إخضاعا كليا، كما استولى على مملكة إسرائيل في فلسطين، واستولى على عاصمتها مدينة السامرة.
ولم يستقر «سرجون» في عاصمة واحدة؛ فاتخذ مدينة «آشور» عاصمة له، ثم انتقل إلى «كالح» ثم إلى «نينوى»، ثم بنى مدينة جديدة سماها «دور شيروكين» أي مدينة الملك الصالح شمالي مدينة نينوى، وقد تفنن في بنائها على شكل مربع ضلعه ألفا ياردة، وجعل لها سورا ذا أبراج عالية تنيف على المائة والخمسين، وجعل لها ثمانية أبواب كبرى، كل باب يحمل اسما من أسماء الآلهة الآشورية، وزين جوانب الأبواب بصور ثيران مجنحة ذات رءوس بشرية، وجعل شوارع مدينته مستقيمة واسعة، وشيد في وسطها قصره الفخم العظيم، وبجواره ثلاثة معابد صغيرة، وصرح مدرج «زقوره»، ولكنه لم يتمتع بذلك طويلا؛ إذ اغتيل بعد سنتين، فخلفه ابنه «سنحاريب»، وكان فتى عسكريا صارما عاقلا، وأول عمل قام به هو عودته إلى «نينوى» العاصمة القديمة إرضاء لرجال الدين الذين نقموا على أبيه لانتقاله عنهم، وما استقر في نينوى حتى أخذ يرتب أموره، وينظم شئون الدولة، ويعمر المدينة، ويبني لنفسه قصرا ضخما زينه بكثير من النقوش والتماثيل الجليلة التي نقلها من مدينة أبيه «دور شيروكين»، كما شاد كثيرا من الأمكنة العامة التي جعلت عاصمته زينة مدن الدنيا في عهده، ولكنه لم يتمتع بالأمن والسكينة طويلا؛ إذ فوجئ بقيام الثائر «مردوخ بلادان» عليه وإعلان الثورة في بابل، فخرج سنحاريب لمحاربته، واحتل بابل، ولاحق مردوخ الذي التجأ إلى إقليم الأهوار حتى قضى عليه، ثم قضى على الفتن التي قامت في الأقاليم الخاضعة لسلطانه في بلاد قليقية، وفينيقية، وسوريا، وفلسطين، وكان سنحاريب شديد العنف والقسوة في أعماله الحربية، وبخاصة في حرب بابل ويهودا بفلسطين، فقد لاقى أهل هذين البلدين منه ظلما شديدا.
ولما هلك خلفه ابنه «أسر حدون» وكان سياسيا حكيما، فاتبع طريقة الحكمة واللطف والسياسة، وأعاد بناء بابل، ونظم البلاد تنظيما عمرانيا حسنا، حتى استقرت الأوضاع العامة في عهده استقرارا جعله يفكر في توسيع ملكه، وفتح ديار مصر التي تنافسه في فينيقية وسوريا وفلسطين، فسار يريد الاستيلاء عليها، ومر بطريقه على صيدا التي أعلنت ثورتها عليه فدمرها، ثم سار نحو مصر في سنة 674 قبل الميلاد، ولكنه لم يوفق في حملته هذه؛ فرجع وأخذ يهيئ نفسه لحملات أكبر، وظل ثلاث سنوات يهيئ نفسه وجيشه، وسار إليها في سنة 671 قبل الميلاد، فدخل أرض مصر، واستولى على عاصمتها «منفيس»، وألحق الدولة المصرية بالإمبراطورية الآشورية.
ولما مات خلفه ابنه «آشور بانيبال» العظيم الذي وطد أقدام الإمبراطورية، وأخمد ثورات المصريين، وأعاد جميع بلادهم إلى سلطته بعد أن قل نفوذه في بعض بلادهم، واستولى على مصر من الدلتا إلى أعالي النيل، واحتل مدينتي «طيبة» و«الأقصر» في الجنوب، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع إلى مصر الشمالية، ورحل إلى بلاده بعد أن أقام في مصر جيشا كبيرا، ولكن تكاليف هذا الجيش الضخم والثورات العديدة التي كانت تقوم في أنحاء الإمبراطورية الواسعة أضعفت مركزه؛ فأخذت الدولة تتقلص، وكان لحملات «الماديين» في الشرق، و «الكلدانيين» في الغرب أثر قوي في ضعضعة الإمبراطورية وانكسارها.
وقد استطاع ملك الكلدانيين «بنو يولاسر» في سنة 612 قبل الميلاد أن يستولي على نينوى، ويقضي على الإمبراطورية الآشورية العظمى.
إن الآشوريين خلفوا من ورائهم حضارة جليلة لا تقل عن أخواتها السابقات اللواتي قمن في وادي الرافدين، وقد كان لملوك هذه الدولة وبخاصة «آشور بانيبال» أثر قوي في نشر روح العلم وإحياء العرفان؛ لما كان يتمتع به من حب الأدب والمعرفة، وقد جمع في قصره كثيرا من الآثار الأدبية، والكتب العلمية المختلفة، وقد عثر النقابون في سنة 1853م في حضائر قصره الفخم الذي شيده في نينوى على خزانة كتبه المملوءة بالسجلات والوثائق والبحوث العلمية والأدبية المدونة على رقم الطين، والتي يبلغ عددها عشرات الآلاف، كما عثروا على كثير من المنحوتات والتماثيل الفنية الرائعة، وأواني الزينة والتجميل والحلي البديعة. قال البروفسور ديورانت في الفصل النفيس الذي عقده في كتابه قصة الحضارة عن مكتبة آشور بانيبال: أهم ما يخلد ذكر آشور في تاريخ الحضارة هو مكتباتها؛ فقد كانت مكتبة آشور بانيبال تحتوي على ثلاثين ألف لوحة من الطين مصنفة ومفهرسة، وعلى كل واحدة منها رقعة يسهل الاستدلال بها عليها، وكان على كثير منها تلك العبارة التي كانت من شارات الملك الخاصة: «فليحل غضب آشور وبليت ... على كل من ينقل هذا اللوح من مكانه ... وليمحوا اسمه واسم أبنائه من على ظهر الأرض.» وكثير من هذه الألواح منسوخة من أخرى أقدم منها لم يبين تاريخها، وتكشف أعمال الحفر في كل يوم.
وقد أعلن آشور بانيبال أنه أنشأ مكتبة ليمنع الآداب البابلية أن يجر عليها النسيان ذيله، ولكن الألواح التي يصح أن تسمى الآن أدبا لا تتجاوز عددا قليلا منها، أما معظمها فسجلات رسمية وأرصاد يقصد بها التنجيم والفأل والطيرة والتنبؤ بالمستقبل، ووصفات طبية، وتقارير ورقى سحرية، وترانيم وصلوات، وأنساب الملوك والآلهة. وأقل هذه الألواح مدعاة إلى الملل لوحان يعترف فيهما آشور بانيبال بحب الكتب والمعرفة، وهو اعتراف يزري به في أعين مواطنيه، والغريب أن يكرر فيهما هذا الاعتراف، ويعبر عليه إصرارا: «أنا آشور بانيبال، فهمت حكمة نابو، ووصلت إلى فهم جميع فنون كتابة الألواح، وعرفت كيف أضرب القوس، وأركب الخيل والعربات، وأمسك أعنتها ... وحباني مردوخ حكيم الآلهة بالعلم والفهم هدية منه، ووهب لي إثورت وشرجال الرجولة والقوة والبأس الذي لا نظير له، وعرفت صنعة آداب الحكم، وما في فن المكتبة كله من أسرار خفية، وقرأت في بناء الأرض والسماء وتدبرته، وشهدت اجتماعات الكتبة، وراقبت البشائر والنذر، وشرحت السموات مع الكهنة العلماء، وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة التي لا تتضح لأول وهلة. وكان من أسباب سروري أن أكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الأكدية التي تصعب قراءتها، وامتطيت الأمهار، وأطلقت السهم، وتلك سمة المحارب، ورميت الحراب المرتجفة كأنها رماح قصيرة ... وأمسكت بالأعنة كسائق المركبات ... ووجهت ناسجي دروع الغاب وبحنانه، كما يفعل الرائد، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف أصنافهم حينما يحين وقت نضجهم، وتعلمت في الوقت نفسه ما يتفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية ...»
7
ولم يكن آشور بانيبال وحده من ملوك آشور الذين سلكوا مسلك العلم وإحياء الفنون، بل كان أكثر ملوك هذه الدولة من أهل المعرفة وحب الفضائل، وقد قربوا العلماء، وساروا على النهج الصالح الذي سنه البابليون في علوم الدين والسياسة والآداب والفنون، والتشريع والنسخ والترجمة.
وليس هذا وحده ما خلفه الآشوريون من أثر علمي، بل إنهم اشتغلوا أشغالا علمية ميزت حضارتهم، ويمكننا إجمال ذلك بالنقاط الآتية: (1)
اعتنوا عناية شديدة بعلم الطب وعقاقيره ونباتاته، وقد حفظت لنا الرقم الطينية التي خلفوها كثيرا من بحوثهم في هذا الباب، وتجاربهم في العلاج، وقد كان عملهم هذا البداية الصالحة لعلم التاريخ الطبيعي، وقد أفاد اليونان والرومان أجل الفوائد من بحوثهم هذه. (2)
بحثوا بحوثا عميقة في علم اللاهوت، فقد كانوا يعرفون بوجود إله أعظم هو رب السموات والأرضين، وأنه سبحانه قد خلق آلهة من دونه يتسلسلون في القوة والإمكانيات حتى بلغ عددهم في القرن التاسع قبل الميلاد خمسة وستين ألف إله
8
وأن لهؤلاء الآلهة أنسابا وتواريخ، وأنهم يتناسلون، ويكونون مجمعا خاصا له نظامه وسياسته، وقد انتقلت أكثر هذه المعلومات اللاهوتية والميثولوجية إلى اليونان والرومان، فبنوا عليها عقائدهم، ولا شك في أن الصلة قوية بين الآلهة اليونانيين المتعددين وبين الآلهة الآشوريين الذين لا يكادون يحصون.
9 (3)
تفوقوا تفوقا خاصا في علوم الهندسة والفلك والتشريع، وقد ضارعوا بذلك إخوانهم البابليين، وهم وإن لم يبدعوا في هذه العلوم إبداع البابليين فإنهم قد أكثروا من التأليف فيها، وتمموا بعض بحوثها. (4)
ولقد بذوا البابليين بالإكثار من الكتب، وجعل الخزائن لها، وتأسيس المكتبات، وإنشاء دور العلم، ووضع الفهارس للكتب، وتنظيم القوانين الخاصة بالمكتبات وبحفظها، وتسهيل مراجعتها، وتشجيع العلماء على وضع الكتب، والمتعلمين على المطالعة. (5)
اهتموا اهتماما شديدا بنسخ آثار من قبلهم من علماء السوريين والبابليين، فقد كان آشور بانيبال شبيها بحمورابي في هذا الاهتمام، فإنه كان يبعث البعوث العلمية إلى أقاصي الإمبراطورية والعالم الخارجي ينسخون له الكتب ويترجمونها. (5) الدولة الكلدانية
رأينا في الفصل السابق أن نهاية الآشورية في سنة 612 قبل الميلاد كانت على يد ملك الكلدانيين «بنو بولاسر» الكلداني الذي ولاه الآشوريون فانتهز ضعف دولتهم، وقضى عليها وأسس الدولة الكلدانية.
وقد ظل حكم الأسرة الكلدانية في وادي الرافدين نحو قرن، نبغ فيه عدد من الملوك العظام، أجلهم «نابولاصر»، وابنه «نابوخذ نصر»، و«نابونائيد».
والكلدانيون هم من الآراميين العرب الذين اتجهوا إلى شرقي وادي الرافدين، وأسسوا لهم مدينة في الجزء الجنوبي من وادي الرافدين سموها «كلدة» وإليها نسبتهم، وقد كان ذلك في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وظل نفوذهم يقوى حتى اضطر الآشوريون أن يولوا الملك الكلداني عليهم، فلم يلبث أن قضى على دولتهم، وأسس الدولة الكلدانية كما سلف.
وقد اغتنم الفراعنة المصريون سقوط الدولة الآشورية، فحاولوا غزو سوريا الشمالية والجنوبية، إلا أن «نابوبولاصر» جهز حملة قوية برئاسة ابنه «نابوخذ نصر»، والتحم الجيشان الفرعوني والكلداني عند قرقميش «جرابلس»، وانكسر الجيش الفرعوني، وهكذا ظل سلطان الكلدانيين نافذا على بلاد الرافدين وسوريا بجزأيها، واحتل الملك نابوخد نصر مدينة أورشليم، وأمعن في أهلها قتلا وتخريبا، وأسر ملكها، وسبى أهلها وساقهم أسرى أرقاء إلى بابل، وظلت الدولة الكلدانية في عهده ترفل في ثياب العزة ثلاثة وأربعين سنة.
فلما هلك خلفه ابنه، وكان ضعيفا؛ استولى عليه رجال الدين، وتداخلوا في إدارة الملك، واستطاعوا أن يجعلوا أحدهم «نابونائيد» ملكا، ولكنه لم يوفق للإمساك بزمام الأمور، فتضعضعت الدولة، وأحس الفرس بضعضعتها؛ فأغاروا عليها بزعامة ملكها قورش في سنة 538 قبل الميلاد، وسقطت الدولة، وبسقوطها انتهى حكم العرب في بلاد الرافدين، وانتقلت السلطة والسيادة إلى الآريين الذين ظلوا يتحكمون فيها إلى ظهور الدولة العربية الكبرى في ظل الإسلام. •••
أما آثار هذه الدولة العظيمة في ميادين الحضارة والعلم، فلم تكن أقل من آثار سابقاتها في وادي الرافدين، فلقد كان الكلدانيون أصحاب عناية شديدة بالفلك والتنجيم والرياضيات والهندسة والطب والزراعة والطبيعيات والإلهيات، وقد انتفعوا بالحضارة البابلية القديمة، وأضافوا إليها كثيرا من بحوثهم الخاصة، وقد كان للكلدانيين هؤلاء أثر قوي جدا في تثقيف عرب قلب الجزيرة قبل الإسلام، فإن صلاتهم بهم كانت جد قوية، وقد أفادوا منهم كثيرا من معلوماتهم في الأنواء والنجوم والطب والطبيعيات والإلهيات، ولا أدل على ذلك من قصة إبراهيم - عليه السلام - وأبيه اللذين كانا من هؤلاء الكلدانيين، والتي ذكرها القرآن الكريم مفصلة.
10
ومن آثار الكلدانيين الخالدة على حضارة وادي الرافدين تأثيرها في لغات أهل هاتيك الأقاليم، فقد أثرت اللغة الكلدانية في اللغات التي كانت منتشرة في ذلك الوادي، وطبعته بطابعها؛ النحوي والصرفي والبياني والأدبي، بل إنها تغلبت على تلك اللغات جميعا، وغدت لغة التخاطب في الوادي وسوريا وفينيقية وشبه جزيرة سيناء وبعض ديار مصر، والسر في ذلك أن هذه الكلدانية كانت لغة غنية في مفرداتها، سهلة في تعبيراتها، مرنة باستعمالاتها، غنية في آدابها من شعر ونثر، منيعة في نحوها وصرفها، منطقية في قواعدها.
11 (6) الدولة الفينيقية
الفينيقيون هم من الكنعانيين والآراميين الذين تركوا قلب الجزيرة العربية، وانساحوا إلى بلاد الشام في فجر الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل، وكانوا قبائل رحلا يقطنون السهول الخصبة في ديار الشام ، ولما توطدت أقدامهم في تلك الديار أسسوا لهم في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد دولة عريقة ذات حضارة، فبنى الكنعانيون مدينة صور في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وبنى الآراميون مدينة جبيل في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، كما بنوا مدينة بيروت (بيريت) في القرن الثاني والعشرين ق.م.
وكانت حدود دولتهم تبدأ من حدود جبال طوروس شمالا إلى نهر الدامور جنوبا، وفي أوائل القرن الأول من الألف الثاني اتحد الشعبان من الكنعانيين والآراميين، وكونا دولة واحدة هي الدولة الفينيقية العظمى الممتدة من شمالي سوريا إلى جنوبيها.
وقد كانت هذه الدولة مؤلفة من عدة مدن، وكل مدينة تكون مملكة مستقلة عن الأخرى، وأجل هذه الممالك مملكة جزيرة أرواد، ومملكة مدينة جبيل، ومملكة مدينة بيروت، ومملكة مدينة صيدا، ومملكة مدينة صور، وكانت مملكتا صور وصيدا في عراك دائم، وتنافس قوي على السيادة.
وكانت حكومة صيدا في أيام قوتها تحكم الأهلين حكما مطلقا استبداديا إلا في بعض الفترات؛ فإنها كانت تتقيد بمجلسين؛ أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب، كما كانت حكومة صور في أول أمرها حكومة مستبدة، ثم تقيدت بمجالس عامة مؤلفة من أغنياء الشعب، ومرتبطة بمشورة رجال الدين والقضاء، ويذكر بعض المؤرخين أنها كانت جمهورية خلال فترة من الزمن، وستظل هذه الأمور غير واضحة إلى أن يكتشف ما يثبتها.
ومن أشهر ملوك هذه الدولة الملك «حيرام»، الذي كان في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، وكان حليفا للنبي سليمان الحكيم - عليه السلام - وهانيبال بطل قرطاجة، وقد كان لهذه الدولة سلطان عظيم في البحر، واتصلوا عن طريق سفنهم وتجاراتهم بأوروبا وأفريقيا وآسيا.
أما في أوروبا، فقد اتصلوا ببلاد الغال في فرنسة، وحملوا إليها تجاراتهم، كما اتصلوا بإيطالية وإسبانية واليونان، وكثير من جزائر البحر الأبيض المتوسط، كقبرص وأقريطش وصقلية ورودوس، وكان لهم في موانئ هذه البلاد مستعمرات ومتاجر وأسواق وممثليات، وأما في أفريقيا فقد اتصلوا بمصر، ولكن المصريين أقصوهم عنها، فساروا إلى تونس، وأسسوا فيها مدينة عظيمة هي مدينة قرطاجة التي ضارعت مدائن صور وصيدا وجبيل ، ولعبت دورا هاما في تجارة البحر الأبيض المتوسط، وفي السيطرة على أسواق أوروبا وأفريقيا.
وأما في آسيا، فقد استولوا على أكثر موانئ آسيا الصغرى، واتخذوها مراكز لتجاراتهم، ونقلوا إليها منتجات بلاد الشام وشمال أفريقيا، واستبدلوها بمنتجات آسيا الصغرى وموانيها، من المنسوجات والأوائل البيتية، وقد ظلوا كذلك إلى أن تغلب عليهم اليونان، وتفوق أسطولهم التجاري عليهم.
لقد ضرب الفينيقيون بسهم وافر في الرقي والسلطان، وكانت مملكتهم مشتهرة بالملاحة وعلم البحر، ومعرفة السواحل في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، واجتاز ملاحوها جبل طارق، وصعدوا في المحيط الأطلسي حتى وصلوا إلى جزر «القصدير» جنوبي إنكلتره، وكانوا حوالي أفريقيا من البحر الأحمر إلى مضيق جبل طارق، وأسسوا المستعمرات العديدة في المراكز التي وطئوها، وبرعوا في الصناعات، وبخاصة الزجاج الشفاف الملون، والأنسجة الجميلة الملونة المصبوغة بالأرجوان.
وكانت بلادهم ممتدة على الساحل السوري، الممتد من مصب الدجى شمالي مدينة أوغاريت العظيمة إلى جنوبي مدينة عكا. وأصل مدنهم أوغاريت «رأس الشمرة» و«صيدا» و«صور» و«جبيل» و«أرواد» و«طرابلس» و«جبيل» وبيروت و«عكا».
وكانت مملكتهم على جانب عظيم من المعرفة والتفوق في العلوم والآداب والصناعة والتجارة؛ أما العلوم والآداب فقد ضربوا فيها بسهم عظيم، ووضعوا الحروف الهجائية، واختصروها إلى اثنين وعشرين حرفا بعد أن كانت عند البابليين والمصريين تعد بالمئات، ونشروا ذلك في العالم المتمدن القديم، فأخذها عنهم اليونان وسائر دول أوروبا وآسيا؛ وأما الصنائع والفنون فقد أتقنوهما، وبخاصة فنون التجارة البحرية، والحدادة، والنجارة، وبخاصة نجارة السفن والأساطيل، واستطاعوا أن يؤسسوا أسطولا تجاريا ضخما جابوا به البحار، ووصلت سفنهم إلى شمال أوروبا، وأقصى موانئ الهند والصين، والمحيط الأطلسي، وبحر البلطيق، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يعرفون «البوصلة» ولا «الخرائط الجغرافية»، فإنهم كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم والكواكب لبراعتهم في علمي الفلك والنجوم.
وقد برع الفينيقيون بالتعدين، ولا زالت الحفائر والتنقيبات الأثرية التي تجري في الجمهوريتين السورية واللبنانية، تثبت أنهم كانوا يقومون بحفريات يستخرجون بها الذهب والفضة والحديد والنحاس في بلادهم وفي جزائر البحر الأبيض المتوسط التي سيطروا عليها، أو أقاموا لهم فيها ممثليات.
وأجل آثار الفينيقيين على الحضارة الإنسانية هي في نقلهم العلم والحضارة والصناعة الراقية من الشرق إلى الغرب؛ فهم الذين نقلوا صناعات النسيج والصباغة والتعدين، وعمل الزجاج، والفخار الملون من ديارهم إلى أوروبا، وكان ذلك بذرة حضارة الدوحة الحضارية الأولى في أوروبا.
وقد كشفت حفريات «أوغاريت» في ديارهم قرب اللاذقية عند رأس الشمرة عن تقدم فائق في الهندسة وفنون البناء، وعن الأبجدية التي يرجع عهدها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي أبجدية فينيقية بحروف مسمارية، كما كشفت حفريات جبيل (بيبلوس) شمالي بيروت عن أقدم المدن الفينيقية، عن المقبرة الملكية بسراديبها المحفورة في الصخر حفرا رائعا، وقد عثر فيها على ناووس الملك «حيرام»، نقشت على جوانبه كتابة بحروف فينيقية ترجع إلى عام 1250ق.م، كما عثر في المدينة على مسرح تمثيلي عظيم، كما كشفت حفريات صور (تير) عن أنها كانت مدينة منذ الألف الثالث قبل الميلاد مدينة محصنة، وأنها قسمان؛ أحدهما الجزيرة المحصنة، وثانيهما الساحل التجاري، وأنها كانت ذات صلات تجارية عريقة متينة مع مصر الفرعونية، وأن أزهر عصورها كان حوالي سنة 1100ق.م، وأن منها هاجرت الملكة «إليسا» إلى شمال أفريقيا، وأسست مدينة قرطاجة حوالي سنة 800ق.م، وقد حاول الآشوريون والبابليون القضاء عليهم فردتهم على أعقابهم. وكشفت حفريات على أنها كانت مدينة كبيرة منذ القرن الخامس عشر ق.م، وأن الآشوريين فتحوها ودمروها سنة 840ق.م. كما دمروها في سنة 677ق.م، ثم صارت تحت النفوذ البابلي، ثم الفرس، ثم استعادت مجدها الغابر في استقلال داخلي إداري إلى أن استسلمت للإسكندر المقدوني في سنة 333ق.م. (7) الدولة المصرية
قامت في وادي النيل حضارة راقية حين توحدت إماراتها المتفرقة في الشمال والجنوب تحت تاج واحد في أواسط الألف الخامس قبل الميلاد، على يد الملك «مينا الأول» مؤسس الأسرة المصرية الأولى والأسر التي تعاقبت بعدها وبنت الأهرام، والتي نبغ منها ملوك عظماء أمثال «خوفو» و«خفرع» و«رمسيس» و«إخناتون» وغيرهم من عظماء الملوك الذين تعاقبوا على حكم مصر من سنة 4400ق.م. إلى سنة 2266ق.م.
وكانت المملكة المصرية على جانب عظيم من الرقي والحضارة في العلم والعمران والفنون، ثم أخذت تنحط قليلا فقليلا إلى أن استولى على الأمر ملوك الأسرة الثانية عشرة، فضعف أمرها بسبب الخلاف الداخلي بين الملوك والأمراء والنبلاء من أصحاب الإقطاعات. وقد حكمت الأسرة الثانية عشرة من سنة 2466ق.م. إلى عهد الملك «أمنمهات الرابع» سنة 2200ق.م، وقد استغل هذا الضعف أمراء العمالقة المعروفين باسم الشاسو (أي الرعاة) وباسم «الهكسوس» أي أمراء الصحراء، وقد كان هؤلاء الأمراء من عرب شبه جزيرة سيناء الأقوياء البارعين بالحرب، فاستولوا على أرض مصر، وأخضعوها لنفوذهم، وأدخلوا إليها ما كان عندهم من أسباب الحضارة؛ كالعربات الحربية، والخيول، وعدد القتال وما إليها من شئون الحرب والتجارة، وقد حكم هؤلاء الأمراء أرض مصر نحوا من خمسة قرون. يقول المؤرخ جورج دالس يدج في كتابه تاريخ سكان أرض النيل: وكان آخر ملوك الدولة الثانية عشرة أمنمها الرابع، ومن عصره [...] وذلك في نحو سنة 2200ق.م. إلى عصر الدولة الثامنة عشرة نحو خمسمائة سنة، ملك مصر فيها الهكسوس أو الملوك الرعاة، وهؤلاء هاجروا إلى مصر من الشرق، وأقاموا بمنفيس، وتسلطوا على كل البلاد المصرية ...
12
ولم يكن هؤلاء الملوك جفاة بداة كما يزعم بعض المؤرخين، بل كانت لهم حضارة وكان لهم تاريخ عريق، وحكومة منظمة؛ فقد جاء في آثار بابل أن الملك «نرام سن بن سرجون» حارب بعض سكان جزيرة سيناء، وأراد الاستيلاء على مدينة «معان»، وأنه أسر أميرها، وحمل بعض آثارها الجميلة إلى بلاده حين عاد إليها،
13
وجاء أيضا في بعض النصوص: أن عرب شبه جزيرة سيناء كانوا يحترفون التجارة، ونقلها من الشمال إلى الجنوب، وأنه كانت لهم صلات تجارية كبيرة مع بابل ومصر في سنة 2500ق.م.
14
فسكان شبه جزيرة سيناء في ذلك العصر من هؤلاء الرعاة كانوا على جانب من الحضارة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وإنهم لما احتلوا مصر كانت لهم من القوة ما يمكنهم من الاحتلال؛ من تنظيم عسكري، وتدريب حربي. ولا يمكن أن يوصفوا بأنهم بدو جفاة أجلاف مخربون، وأنهم قد أخروا مصر حين احتلوها، ثم إن هؤلاء القوم لم يدخلوا مصر إلا حين أراد الفراعنة الاستيلاء على مملكتهم في شبه جزيرة سيناء، فتغلبوا هم على المصريين، وأخضعوهم لسلطانهم في أواخر عهد الأسرة الثانية عشرة؛
15
وذلك أنه لما مات الملك «أمنمهات الأول» في سنة 2466ق.م. وتملك ابنه «بوسرتسن الأول» لجأ أخوه «سنهات» إلى كنف الملك «عم وانشي» ملك سيناء؛ فأكرمه وزوجه ابنته، وعهد إليه بإمارة بعض المقاطعات التابعة له، ولما كبر سنهات رجع إلى مصر، وقويت العلاقات بين مصر وسيناء، وفي عهد الملك «يوسرتسن الثاني» شخص إلى مصر «الملك الجاشع» ملك سيناء، ونزل ضيفا معززا على الملك «ختو ممنت» أمير مصر الوسطى، وقويت صلات الود والقربى بين الأسرتين في مصر وسيناء، وما تزال آثار هذه الصلات مسجلة منقوشة على قبر هذا الملك. وفي عهد الملك «يوسرتسن الثالث» سنة 2333ق.م. طمع المصريون في الاستيلاء على شبه جزيرة سيناء، فغضب ملكها، وزحف على مصر، فاستولى عليها، وأسس العمالقة الهكسوس ملكهم في مصر سنة 2266ق.م. إلى سنة 1700ق.م، وكونوا الأسرة الرابعة عشرة، والخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة في أسر التاريخ المصري العريق.
16
فلم يكن العمالقة الهكسوس إذن طغاة ولا جفاة ولا غاصبين، ولكنهم كانوا ملوكا حلفاء أوفياء للفراعين، ولكنهم حين أرادوا السيطرة على ديارهم فتحوا أرض مصر كما فتحها عمرو بن العاص من بعدهم.
يقول المؤرخ يوسيفوس اليهودي المتوفى في أواخر القرن الأول للميلاد، نقلا عن المؤرخ الإسكندري المتوفى في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد، أثناء كلامه عن نشوء دولة الهكسوس، ما ترجمته: واتفق على عهد تيماوس أحد ملوكنا أن الإله غضب علينا، فأذن لقوم لا يعرف أصلهم جاءوا من الشرق، وتجاسروا على محاربتنا، وغلبونا على بلادنا، وأذلوا ملكونا، وأحرقوا مدننا، وهدموا هياكلنا وآلهتنا، وساموا الناس ذلا وخسفا، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، ثم نصبوا عليهم ملكا اسمه سلاطيس أقام في منفيس، وضرب الجزية على مصر أعلاها وأسفلها، وأقام الحامية في المعاقل لدفع الآشوريين عن وادي النيل إذا طمعوا فيه، وبنى مدينة «أوراس» في ولاية «صان» لهذه الغاية، وحصنها بالأبراج والقلاع والأسوار، وأكثر من حاميتها حتى بلغ عددهم «240000»، وكان سلاطيس يأتي إليها في الصيف؛ لجمع الحنطة، ودفع رواتب الجند، وتمريسهم بالحرب، وبعد ثلاث عشرة سنة من حكمه خلفه ملك اسمه بيون، وحكم أربعا وأربعين سنة، وجاء بعده «أبا خناس» وحكم ستا وثلاثين سنة، ثم «أيوفيس» وحكم إحدى وستين سنة وشهرين، وهؤلاء الستة هم أول من حكم من ملوكهم، ولم يكفوا عن محاربة المصريين؛ لأنهم كانوا يلتمسون إبادتهم. وكانت هذه الأمة تسمى هكسوس
Hyksos ؛ أي الملوك الرعاة لأنها مؤلفة من: هيك
Hyk
ومعناه باللغة المقدسة المصرية «الهيروغليفية»: «ملك»، و
Sos
ومعناه: «راع»، ولكن البعض يقول إنهم عرب.
17
ولقد تعمق في دراسة تاريخهم المستشرق البروفسور بروغش
Brugcsh
بك في كتابه القيم عن الفراعنة،
18
وخلاصة رأيه فيهم أن الأقوام الذين يسميهم الفراعنة في آثارهم منتى، والذين حكموا مصر أحقابا طويلة هم الهكسوس، وأنهم شيدوا بمصر مدنا أجلها «زوان» و«هواز» و«أوارس»، وجعلوا فيها حصونا وقلاعا، وأنهم كانوا أذكياء عقلاء، أعجبوا بحضارة المصريين وعلمهم ولغتهم؛ فاقتبسوها وتكلموا اللسان المصري وكتبوه، واقتبسوا من الحضارة المصرية ما لاءمهم، وأنهم كانوا يحبون العمارة والبناء، فاستخدموا المصريين في بناء المدن على الأسلوب المصري، وأمروهم أن يجعلوا لهم التماثيل وأن يميزوها عن تماثيل ملوكهم الفراعنة؛ فميزوهم بإبقاء شعر الرأس واللحية، وبثيابهم الخاصة وحليهم، ولم يقبلوا أن يعبدوا آلهة المصريين، بل عبدوا آلهتهم «نوت» و«ست» و«سوتخ»، وبنوا لهذه الآلهة معابد ضخمة، وأقاموا لها تماثيل فخمة في مدينتي «زوان» و«أوارس»، وكانوا يؤرخون بزمن ملكهم العظيم «نوب»، ودام عهد حكمهم من عهده إلى أن انقرضوا أربعمائة سنة.
وقد أفاد الفراعنة المصريون فهم أشياء كثيرة، أهمها التغيير في طراز البناء الفرعوني القديم، ويعد بناء أبي الهول المجنح من مبتكرات الهكسوس، ويقول بروغش بك: إن الآثار التي عثر عليها مما يتعلق بهم هي آثار قليلة جدا، والسبب في ذلك هو أن الفراعنة بعد أن تغلبوا عليهم محوا أسماءهم عن تلك الآثار، إلا اسمين اثنين تمكن النقابون المحدثون من قراءتهما، وهما «دوعاكنن» و«نوبتي».
ويقول بروغش بك أيضا: أن النبي يوسف - عليه السلام - جاء إلى مصر في زمن الملك الهكسوسي نوبتي، وكان ذلك في سنة 1750ق.م.
وقد ظل هؤلاء الملوك يحكمون ديار مصر إلى سنة 1700ق.م، ثم تمكن الفرعون أحمس ملك طيبة أن يقضي على آخر ملوكهم، وحكم مصر اثنين وعشرين سنة، حاول فيها أن يطمس كل آثارهم.
19
وبعد القضاء على حكم الهكسوس ظهرت أسر قوية أعظمها الأسرتان التاسعة عشرة والعشرين، وأشهر ملوكها «رعمسيس الأول» رأس الأسرة التاسعة عشرة، وكان حوالي سنة 1315ق.م؛ و«رعمسيس الثاني» حفيده، وابن «بسامانيك الأول»، وحكم من سنة 1292ق.م. إلى سنة 1225ق.م، وقد حارب الحثيين في سوريا، وكسرهم في قادش، وكان عظيما ميالا إلى العمران فشيد القصور الفخمة، والهياكل الجبارة، وأعظمها في بلاد النوبة، وطيبة، والأقصر، والكرنك؛ و«رعمسيس الثالث» الذي حكم مصر من سنة 1200ق.م. إلى سنة 1179ق.م، وقد حارب أهل ليبيا، وصد هجمات شعوب البحر.
ثم جاءت الأسرة الحادية والعشرون، وحكمت من سنة 1110ق.م. إلى سنة 980ق.م، وأولها الكاهن صرصور الذي اختلس الملك من الأسرة العشرين بأسلوب دنيء منقوش على هيكل «خوفو» بطيبة، وتولى بعده أبيه الكاهن «يعن خي»، فتزوج بابنة ملك سوريا، ووطد العلائق بين الأسرتين، وفي عهد هذه الأسرة قصد غرود ملك آشور في وادي الرافدين أرض مصر مدافعا عن أسرة رعمسيس، فطرد أسرة الكهنة، واستولى على مصر، وتلقب بملك آشور ومصر، واتخذ مدينة «تنيس» عاصمة له، وتأسست به الأسرة الثانية والعشرون، وأول ملوكها ابنه «ششنق بن نمرود» أو «شيشق» كما في التوراة، وقد ولد في مصر، وتربى على التقاليد المصرية، وأسس لنفسه عاصمة في «تل بسطة» بالشرقية قرب مدينة الزقازيق الحالية، ودامت هذه الأسرة من سنة 980ق.م. إلى سنة 810ق.م، وقد خلفت آثارا جليلة في البناء والفتوح.
وفي سنة 810ق.م. تغلب الأمير «بتوباستيس» على الحكم، وأسس الأسرة الثالثة والعشرين، وفي أيامه انقسمت ديار مصر إلى عشرين إقليما، فتوزع السلطان، وضعفت البلاد ، ودام ذلك إلى سنة 721ق.م. حين قام الأمير «تفن خت» أحد أمراء الأقاليم، فاستولى على مصر كلها بحريها وشرقيها، وخلفه ابنه «باكوريس»، وكان ملكا حازما عالما فاضلا، أراد النهوض بالبلاد، ولكن الأحباش تغلبوا عليه في سنة 715، وأسسوا الأسرة الخامسة والعشرين، وكان أولهم الملك «سباقون»، فاستولى على البلاد كلها، ونظم أمورها، وأبقى حكام البلاد الأصليين بإضافة مشاورين أحباش، وكادت البلاد أن تستقر لولا قيام شلم نصر ملك آشور بالهجوم على الفينيقيين والفلسطينيين، فاستنجد هؤلاء بالمصريين، فقدم إليهم سباقون وجنوده، ولكنهم انهزموا أمام الآشوريين، ورجع إلى مصر، وتعاقب الملك في أبنائه إلى سنة 665ق.م.
وفي سنة 665ق.م. حكمت مصر أسرة قوية عرفت بالأسرة الصاوية، وأولها الملك «بساماتيك الأول»، وقد تولى على الأمر والبلاد تئن من العنف والفوضى؛ لما قاسته من الحروب الطويلة مع الآشوريين والأحباش، فعمل على إحياء معالمها، وجدد معابدها ومعاهدها، وحصن قلاعها، وظفر على أعدائها، وحبب إليه الناس في الداخل والخارج؛ فقصدها العلماء والفنانون من البلدان المجاورة، وبخاصة اليونان الذين أعجبتهم مصر، وطاب لهم المقام فيها، فتعلموا لغتها وعلومها، واعتنقوا ديانتها، واصطنعوا لهم آلهة على نمط الآلهة الفرعونية، ونبغ منهم علماء فلاسفة عظام كان لهم أثر خالد في الحضارة الإنسانية وتاريخ العقل البشري؛ مثل: أفلوطن، وفيثاغورس، وصولون، وغيرهم، وكان بساماتيك يحبهم ويقربهم، وخلفه ابنه «نخاو» فوسع رقعة البلاد، وتعاقب الأملاك من بعده إلى سنة 527ق.م.
ثم استولى على الحكم قمبيز الفارسي، فأسس الأسرة السابعة والعشرين في سنة 527 حين سيطر على مصر، ودام حكم هذه الأسرة إلى سنة 406ق.م. حين استرد المصريون بلادهم وطردوا الفرس، وقامت الأسرة الثانية والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون من سنة 406ق.م. إلى سنة 340ق.م، حين استولى على مصر «أوخوس» الفارسي فأعاد النفوذ الفارسي على البلاد، إلى أن كانت سنة 332ق.م. فاستولى اليونان على مصر وطردوا الفرس، وكان ذلك على يد الإسكندر المقدوني العظيم.
ولما تغلب الإسكندر الأكبر على الفرس، وأخرجهم من مصر، واستولى عليها؛ شيد مدينة الإسكندرية، وأسس الأسرة الثانية والثلاثين، وقام بأعمال عمرانية وثقافية إصلاحية في البلاد إلى أن هلك سنة 323ق.م.
فلما مات الإسكندر تولى بطليموس الأول على مصر، وأسس أسرة البطالسة، وهي الأسرة الثالثة والثلاثون، وقد دام سلطانها في مصر من سنة 323ق.م. إلى سنة 30ق.م، وقد كان عهد البطالسة عهدا ميمونا مباركا عمرانيا، ازدهرت فيه البلاد، واختلطت الثقافة المصرية بالثقافة اليونانية، فأنتجت أطيب النتائج. ومن مآثر هذه الأسرة: مدرسة الإسكندرية العظيمة، وخزانتها الكتبية الخالدة، وعدد لا يحصى من المعابد والهياكل الرائعة.
وفي سنة 30ق.م. استولى الرومان على مصر، وألحقوها بإمبراطوريتهم في روما، ودام سلطانهم على مصر إلى سنة 380م. وفي عهد الأسرة الرومانية - وهي الأسرة الرابعة والثلاثون - دخلت المسيحية إلى مصر، وكان ذلك في سنة 381م، وظل ذلك إلى الفتح الإسلامي. (8) الدولة التدمرية
تنسب الدولة التدمرية إلى مدينة تدمر (بالميرا) الواقعة في أطراف البادية التي تفصل الشام عن العراق، على بعد مائة وخمسين ميلا عن دمشق نحو الشمال الشرقي، وهي من المدن القديمة، ذكرتها التوراة باسم «تدمر» أو «تدمورا»،
20
وقد اشتهر أمرها في النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، حين كانت القوافل التجارية تجتاز بها حين تخرج من الحبشة واليمن إلى العراق، فتمر بها، ثم تقصد العراق ففارس، وكانت مدينة الحجر (بطرا) تنافسها، ولم يلمع نجمها إلا بعد أفول نجم الحجر في أوائل القرن الثاني للميلاد، فتحولت التجارة العربية إليها وحدها، وأخذت شهرتها تطبق الآفاق في المشرق كله منذ ذلك الحين، وتسامع الرومان بها، فطمعوا في السيطرة عليها، وإدخالها تحت حوزتهم، وتم ذلك للإمبراطور أدريان من سنة 130 للميلاد، وذهب إليها، وبدل اسمها، فسماها باسمه «أدريا بوليس»، وقد عثر في التنقيبات التي أجريت فيها على نقوش مؤرخة بسنة 137 للميلاد، ذكر فيها تفصيل الضرائب والمكوس التي وضعتها الحكومة الرومانية المحتلة على التجار وأرباب الصنائع فيها.
وكان في تدمر حكومة منظمة لها مجلس شيوخ، ورئيس، و... ولما نشبت الحروب العظمى بين الفرس والرومان عظم أمر تدمر، وأصبحت مدينة كبرى ذات ثروة ضخمة، حتى صارت سيدة مدن المشرق الرومانية، وتولى زعامتها بنو نصر الذين أسسوا فيها أول دولة عربية قوية عرفت بالدولة التدمرية، وكان أول ملوك هذه الدولة الملك أذينة بن حيران بن وهب اللات بن نصر، ولكن هذه الدولة لم تستطع أن تتخلص من النفوذ الروماني، ولما أراد أذينة إقصاء الرومان عن بلاده عملوا على قتله، وتم لهم ذلك في أواسط القرن الثالث للميلاد.
وخلفه من بعده ابناه أذينة الثاني وحيران، وكان أذينة الثاني شديد التحمس لقومه ينتقص الرومان، ويعمل على الانتقام من قتلة أبيه، فجمع نخبة كبيرة من شبان العرب ورجالات القبائل العربية المجاورة لتدمر، وجعل منهم فرقا محاربة قوية، واتخذ فرصة خروج فاليريان الروماني لمحاربة سابور الفارسي، فهيأ نفسه للانقضاض على الرومان، على الرغم من أن فاليريان أنعم عليه بلقب قنصل؛ وهو من أكبر ألقاب الدولة الرومانية، فتغلب عليه، وما زال أمره يعظم حتى صار سيد الشرق، وامتدت سلطته إلى سوريا كلها وجميع مدن آسيا، وفي سنة 264م منحته روما لقب حاكم عام على المشرق، من حدود أرمينية إلى جزيرة العرب، كما منحت امرأته السيدة الجليلة الزباء «زينوبيا» لقب «سبتيما»؛ وهو من أجل ألقاب التشريف والسلطان لدى الرومان.
في سنة 267 مات الملك أذينة، فخلفه ابنه وهب اللات الذي يسميه الرومان «أثينو دوروس»، وكانت أمه السيدة الجليلة الزباء هي التي تدير أمره، وتدير شئون الدولة، وتداري إمبراطور روما، ولكنها لما علمت هي وابنها أن روما تمر بفترة اضطراب داخلية في سنة 271م، خلعت الطاعة، وثارت على أورليان إمبراطور الرومان، وأزالت اسمه من نقودها، ونصبت نفسها قائدة عليا على الجيش العربي في المشرق، ولقبت ابنها بلقب ملك الملوك ومحيي الدولة، وسمته باسم «أغسطس»، وسارت على رأس جيش كبير فاستولت على العراق والشام ومصر وآسيا الصغرى حتى بلغت أنقرة، فلما سمعت تجمع الرومان عليها، اضطرت إلى الرجوع للشام، ولحق بها الرومان، والتقى الجيشان عند أنطاكية، فتغلب الرومان عليها، ثم جددت عزمها فلقيتهم ثانية عند حمص، ولكنها لم تستطع قهرهم، فكتبت إلى أورليان تعلمه أنها لم تخسر أحدا من رجالاتها؛ لأن الذين قتلوا من جندها كانوا من الرومان الذين انضووا تحت لوائها، فأثار هذا القول غيظ أورليان، وبعث إليها جيشا قويا وحاصرها في تدمر، فاضطرت أن تنجو بنفسها، وهربت إلى فارس، فلحق بها الرومان، وأمسكوا بها، وأخذوها أسيرة، واضطر التدمريون إلى الاستسلام في سنة 272م، وقبض أورليان على خزائن تدمر، وأذن للزباء أن تعيش أسيرة في كنفه، وهكذا قضي على الدولة التدمرية وهي في إبان فتائها. •••
إن لهذه الدولة الفتية آثارا جليلة في العمران والحضارة، وبخاصة في البناء والزخرفة، فقد اكتشف النقابون في أطلال تدمر الفخمة الضخمة العظيمة تماثيل ونقوشا رائعة، كما وجدوا فيها كثيرا من الهياكل والتماثيل، وأجمل هذه الهياكل هيكل الشمس العظيم في بنائه وهندسته وزخرفته ونقوشه.
وقد خلفت هذه الدولة كثيرا من النقوش والكتابات المسطورة باللغة التدمرية، وهي من بنات اللغة الآرامية الغنية في نحوها وصرفها وقواعدها، وتضمنت هذه النقوش بعض القوانين الشرعية والأنظمة التجارية؛ لأن عاصمتها كانت مركزا من أهم مراكز التجارة في الشرق، كما كانت سوقا من أعظم أسواق الاقتصاد في تلك البقعة، وكان تجارها يحملون من جزيرة العرب والحبشة ومصر ما تخرجه أرضوها من الذهب والطيوب والأنسجة الفاخرة، ويستجلبون من العراق والمشرق لآلئ البحرين وتحف الهند، وأنواع العطور والبخور والتوابل والفولاذ والعاج وغيرها، وكانوا ينقلونها إلى الشام ومصر وأوروبا.
حضارات الوسط
(1) الدولة النبطية
قامت هذه الدولة في جنوبي الشام وشمالي شبه جزيرة سيناء، وكان اليونان يسمونها الدولة العربية الحجرية
Arabia Petro ، وأول من سكن تلك الديار من العرب هم «الحوريون» الذين كانوا يسكنون الكهوف، وهم الذين يسميهم اليونان «تروغلوديت
Troglodytes »، وكانوا على جانب عظيم من القوة؛ ينحتون من الجبال بيوتا، ويتخذون الكهوف مساكن وهياكل، وليست لدينا معلومات مفصلة عن تاريخهم وأحوالهم السياسية والعلمية.
1
وقد انقرضوا وضاعت أخبارهم، وخلفهم في تلك الديار «الأدوميون»؛ وهم من أبناء أدوم، وهو عيصو بن إسحاق - عليه السلام - بعد أن غلبوهم، ولا نعرف بالضبط الزمان الذي استولوا فيه على ديارهم، إلا أن في التوراة إشارات إلى ذلك؛ ففي سفر التكوين
2
آيات تدل على أن هؤلاء الأدوميين قد حاربوا الإسرائيليين في عهد الملك شاوول (طالوت)، وكان ذلك في القرن العاشر ق.م، ولكن طالوت لم يستطع التغلب، فلما تولى أمر بني إسرائيل «داود» - عليه السلام - حمل عليهم، وأغار على بلادهم وأخضعهم، ورجع إلى فلسطين بعد أن أقام في بلادهم حامية، ولكن زعيم الأدوميين جمع قواه، وأراد التخلص منهم، وإقصاء النفوذ اليهودي فلم يفلح. قال جرجي زيدان: «وهم قائد من الأدوميين في عهد سليمان بخلع الطاعة فلم يفلح، فما زالوا تحت سيطرة الإسرائيليين إلى أيام «يهو شافاط» فحالفوا أعداءه، وأعانوهم على حربه، فلم يفوزوا، ولكنهم اغتنموا ضعف الإسرائيليين، وعادوا إلى الاستقلال ... حتى إذا حمل نبوخذ نصر على أورشليم كان الأدوميون عونا له على أهلها، واشتركوا في نهبها وذبح أهلها؛ فكافأهم نبوخذ نصر على نصرته بتأييد سلطتهم في أدوم وتوسيعها إلى حدود مصر وشواطئ البحر المتوسط ...»
3
فقوي منذ ذلك الحين نفوذهم، وأخذوا يتوسعون حتى بلغوا حوران ودمشق وحدود العراق ومصر، ولكنهم فوجئوا بزحف إخوانهم الأنباط على ديارهم، فتفاهموا وإياهم، واندمجوا في صفوفهم، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد.
وبهذا الاندماج تم تأليف الدولة النبطية القوية التي ظلت إلى أوائل القرن الثاني للميلاد، حين استولى الرومان عليها في سنة 106م، فأصبحت خاضعة لنفوذهم.
وقد خلفت دولة الأنباط هذه حضارة عريقة وعمرانا، وكانت عاصمتهم مدينة سلع (بطرا - البتراء) في وادي موسى عند ملتقى الطرق التجارية بين تدمر وغزة وأورشليم، واليمن والخليج العربي.
وما تزال أطلال هذه المدينة الجبارة، وبخاصة في «الحجر»، شاهدا على ما بلغه أهلها من الرقي العمراني والهندسي والفني، وأجل هذه الأطلال القصر المعروف اليوم ب «خزينة فرعون»؛ وهو بناء شامخ منقور في الصخور ذات اللون الوردي البديع، وقد نقشت واجهة هذا القصر نقشا بديعا، وزينت بالكتابات النبطية الجميلة ،
4
وأقيم إلى جانب القصر مدرج صخري كان يتخذ مسرحا للألعاب العامة، يذكرنا بمسارح روما وأثينا. ومن آثارها أيضا «قصر الدير» وهو كهف ضخم بارع الهندسة، كثير النقوش، غني الزخارف.
وقد ظلت عاصمتهم «سلع» مركزا تجاريا عظيما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب منذ عهد ملكهم الحارث الأول الذي حكم من سنة 169ق.م. إلى عهد آخر ملوكهم مالك الثالث، الذي حكم إلى سنة 106م،
5
وفي تلك السنة جرد الإمبراطور تراجان إمبراطور الرومان حملة على الدولة النبطية؛ فخضعت لنفوذه من ذلك الحين.
وقد وصف المؤرخ ديودوروس الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد هؤلاء القوم، وما كانوا عليه من حضارة، وما شاهده بنفسه في ديارهم فقال: «إن الأنباط يعيشون في البادية الجرداء التي لا أنهار فيها ولا سيول ولا ينابيع، ومن أمهات قوانينهم: منع زراعة الحبوب أو استثمار الأشجار، وتحريم الخمر، وبناء المنازل، ويعاقبون من يخالف ذلك بالقتل مع التشديد في العمل بهذه القوانين، ويقتات بعضهم بلحوم الإبل وألبانها، وبعضهم بالماشية أو الغنم، وإنهم يشربون الماء المحلى بالمن، ومنهم قبائل عديدة تقيم في البادية، ولكن النبطيين أغنى تلك القبائل، وإن كان رجالهم لا يزيد عددهم على عشرة آلاف، وثروتهم من الاتجار بالأطياب والمر وغيرهما من العطريات يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ولم تكن تمر تجارة في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على يدهم، ويحملون إلى مصر - على الخصوص - القار لأجل التحنيط، وهم ضنينون بحريتهم؛ فإذا دهمهم عدو يخافون بطشه فروا إلى الصحراء، وهي أمنع حصن؛ لأنها خالية من الماء، فلا يدخلها سواهم إلا مات عطشا، أما هم فيشربون من صهاريج سرية مربعة الشكل منقورة في الصخر تحت الأرض يخزنون الماء فيها ...»
6
وكان للقوم عناية شديدة بالآداب من شعر ونثر وحكمة، وكانوا يعظمون الشعراء وأهل المعرفة، ولكن آثارهم قد ضاعت، وإن كانت النقوش الحجرية التي أبقوها تدل على شيء من ذلك.
أما لغتهم فهي اللغة العربية، ولا تكاد تختلف عنها، وبخاصة عن لغة الشعر الجاهلي إلا قليلا، على ما تقتضيه سنن النشوء والارتقاء، إلا أنهم لم يكونوا يكتبون بالحروف العربية، وإنما كانوا يكتبون بحروف أبناء عمومتهم الآراميين؛ لأن حروف هؤلاء كانت أشهر.
7
وقد خلفوا مدنا خالدة أجلها سلع، وتسمى بطرا والبتراء، وهي عاصمتهم، وموقعها بين بحيرة لوط والبحر الأحمر، وفيها آثار عريقة تبين عن مقدار المدنية النبطية، وبخاصة مدافنها ومعابدها ومعاهدها.
ومن مدنهم الغنية التي بقيت عامرة إلى العصور المتأخرة؛ مدينتا بصرى الشام، وصلخد، وكانت هذه المدن حصونا وملاجئ ومخازن لتجاراتهم الكبيرة. (2) الدولة الثمودية
قامت الدولة الثمودية في فجر الألف الأول قبل الميلاد من شمالي الحجاز إلى جنوبي ديار الأنباط، وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من تاريخهم وأحوالهم، فقال تعالى:
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ... إلخ تلك الآيات
8
التي تدل على أن القوم كانوا أشداء ذوي حضارة وبناء ونعم وآلاء، وقد ظل تاريخ الثموديين مجهولا حتى قامت حركة الاكتشافات والتنقيبات الأثرية في القرن التاسع عشر، فأثبتت أن سلطانهم كان ممتدا من جنوبي الشام إلى ساحل البحر الأحمر، وأنهم كانوا ذوي حضارة وعلم ورقي، واهتمام كبير بشئون التجارة ونقلها من ممالك جنوب العالم المتمدن القديم إلى ممالك الشمال الممقدنة، وقد عثر على كتابات ثمودية يرجع تاريخها إلى القرن السابع ق.م. في اليمن والحجاز ونجد.
9
ولكن معلوماتنا - مع الأسف الشديد - عن هؤلاء القوم جد قليلة، فإن النقوش الكثيرة التي اكتشفت لا تدلنا مع أهميتها على أحوالهم السياسية، وإنما تدل على أحوالهم الشخصية والدينية والاقتصادية واللغوية، وقد قسم علماء الآثار هذه الآثار المكتوبة بالقلم الثمودي إلى قسمين:
الأول:
المكتوب باللسان الثمودي القديم.
والثاني:
المكتوب باللسان الثمودي الحديث.
وقد درس علماء المشرقيات هذه اللغة دراسة دقيقة، وأثبتوا أنها كانت لغة رفيعة في نحوها وصرفها وآدابها، وأنها كانت متناشرة بالخطين المسند الجنوبي، والآرامي الشمالي،
10
وقد كان الثموديون خلفاء لقوم عاد الذين سكنوا ديارهم، وضاعت عنا تفصيلات أخبارهم، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، وقال إن الله سبحانه قد أحل الثموديين محل قوم عاد لما طغوا وعبدوا الأصنام، وخرجوا عن طاعة الله، واستبدوا فبوأهم وأعزهم حتى بلغوا درجة رفيعة في الحضارة، وشيدوا القصور في السهول، ونحتوها في الجبال.
وقد عبد الثموديون الأصنام وألهوها، ومن أصنامهم المشهورة «ود» الذي أشار إليه القرآن الكريم، وقد كانت له مكانة رفيعة عند جميع قبائل العرب الشمالية والجنوبية، والظاهر أنه كان من الآلهة القديمة جدا، ولعله كان من آلهة العرب العظمى في الألف الثاني قبل الميلاد، وذهب المستشرق الألماني البروفسور هومل إلى أنه هو الإله «هدد» أو «أدد» الذي عبد في الشمال أيضا، وأنه هو القمر، وقد ظل هذا معبودا إلى ما بعد ظهور الإسلام عند العرب الجاهلية حتى حطمه الإسلام، ومن أصنامهم أيضا الإلهة «شمس» التي كانوا يعبدونها، وقد كانت معبودة أيضا في الشمال عند البابليين، وفي الجنوب عند اليمنيين، ومن أصنامهم أيضا الآلهة «مناف» و«مناة» و«كاهل» و«بعلت» و«يهو».
11
والحضارة الثمودية حضارة تتجلى اليوم أكثر ما تتجلى في آثارها الكتابية وخطوطها، وبخاصة الخط المتأثر بالخطين المسند والآرامي، أما عدا الآثار الكتابية وبعض الآثار العمرانية فإنها تكاد تكون مجهولة حتى الآن.
وقد خلفوا مدنا خالدة، أجلها «الحجر»، وهي مدينة عظيمة جنوبي مدينة تيماء، وعلى بعد يوم من وادي القرى، ويقال لها اليوم: «الخريبة» و«فج الناقة»، وهي التي يسميها بطليموس بدنتا
Badanta ، ولما احتل سرجون الثاني بلاد العرب في سنة 715ق.م. احتلها وأراد تهديمها، ولكنه لم يتمكن، ثم تركها بعد أن جلا عن البلاد العربية جمعاء.
وقد ظل الثموديون معروفين إلى القرن الخامس للميلاد، فقد ورد في بعض المصادر التاريخية الرومانية أن الجيش الروماني في هذا القرن كان يحتوي على فرقة عرفت باسم الثموديين، وأنها كانت من سكان تلك المدينة.
12
وصفوة القول أن تاريخ ثمود ما يزال بعد غامضا، ولكن التنقيبات الأثرية المستقبلة تكشف لنا عن الكنوز المدفونة المجهولة عن تاريخهم. (3) المملكة الجنوبية
قامت المملكة في فجر القرن التاسع قبل الميلاد جنوبي شرقي دمشق، ولا نكاد نعرف شيئا مفصلا حقيقيا عن هذه المملكة ولا عن أحوالها السياسية، وإنما تذكر المصادر التاريخية أن ملك آشور «شلم نصر» لما زحف إلى سوريا وأراد احتلالها، تجمع ملوكها وأمراؤها بزعامة الملك بر أردي
13 «بن هدد» الثاني ملك دمشق الآرامي؛ للوقوف في وجه الملك الآشوري، وكان من بين هؤلاء الملوك «جنديبو ملك عريبي»؛ أي جنوب ملك العرب، ولما انتصر «شلم نصر» على خصومه هؤلاء، ودمر ديار الشام وبخاصة مدينة قرقر الواقعة شمالي حماة؛ سجل هذا الانتصار، وصار في ذلك التسجيل ذكر اسم اثني عشر ملكا كان ملك دمشق الآرامي استغاث بهم لنصرته على شلم نصر، وكان من بينهم ابن «جنديبو»، ولكن الملك «بن هدد» لم يستكن للآشوريين، وظل يقاومهم حتى غلبهم، واستطاعوا أن يحتلوا سوريا ثانية في عهد «تكلات بيلاسر الأول» 745-727ق.م،
14
وهذه أول مرة نجد في الوثائق والآثار التاريخية لفظ: «عربي» أو «عرب» أو «عريبي».
يقول المحقق الدكتور جواد علي في الفصل القيم الذي ذكر فيه صلات العرب بالآشوريين: إن أول إشارة إلى العرب وردت صراحة في النصوص هي الإشارة التي وردت في كتابات الملك سلمناصر (شلم نصر الثالث) ملك آشور، عن معركة قرقر التي وقعت حوالي سنة 853ق.م، فقد قاد هذا الملك في السنة السادسة من حكمه حملة على ملك دمشق الآرامي، وعلى حليفيه آخاب ملك إسرائيل، وجنديبو
Zundibu
جندب ملك عريبي (أريبي) الذي انضم إلى صاحبيه، وقدم إليهما ألف جمل، واشترك في الحرب. انتصر شلم نصر الثالث كما يظهر من كلماته التي سجلها لهذه المناسبة على ملك دمشق وعلى حلفائه، فأحرق ودمر مدينة قرقر ودكها دكا، وأوقع بالجيوش الحليفة خسائر كبيرة، وقد جاء في كتابته ذكر اثني عشر ملكا استقدمهم ملك دمشق لمعونته، وملك دمشق الذي ألف الحلف للوقوف في وجه الآشوريين هو الملك بيرادري
Biridri
المعروف في التوراة باسم بنهدد
Ben Hadad
الثاني، وقد هاله توسع الآشوريين، وتدخلهم في شئون الممالك الصغيرة والمشيخات، ودخولهم مملكة حلب التي خشيت المصير السيئ الذي لاقته المدن والممالك التي قاومت جيوش شلم نصر الثالث؛ فقررت الإذعان للأمر الواقع وتأدية الجزية والاعتراف بسيادة آشور عليها، فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، وتأليف حلف من الملوك السوريين ومشايخ البادية؛ لدرء هذا الخطر الداهم من اثني عشر ملكا من ملوك سوريا إليه، وهم في الواقع مشايخ إقطاعيون وأمراء مدن انضم إليهم ملك حماة الذي جثم الخطر أمام مملكته، وأحآب ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين ومشايخهم، وجندب ملك العرب الذي أمن الحلف بألف جمل؛ فأغرقت هذه القوة سبيل الآشوريين ... أما النصر فكان حليف شلم نصر، انتصر عليهم على حد روايته بسهولة ويسر، وأوقع فيهم 140000 إصابة أو 25500 على رواية أخرى، وغنم منهم غنائم كثيرة، وتفرق الشمل ...
تبين من كتابة سلم نصر هذه أن الملك أحرز انتصارا باهرا حاسما على الحلفاء، وأنه أوقع بينهم خسائر جسيمة، غير أن أخبار الحروب التي قام بها فيما بعد على سوريا ومقاومة «بنهدد» له مرارا، كل هذه لا تؤيد أقوال ملك آشور في جسامة الخسائر وفي النصر الحاسم العظيم على الآراميين ومن انضم إليهم من مشيخات ورؤساء، وعلى المؤرخ الحديث ألا يثق بهذه الأرقام والكتابات التي يسجلها الملوك عامة عن انتصاراتهم وأعمالهم، فقد عودنا الملوك تدوين المبالغات والزيادات في أخبارهم، والغض من تدوين أخبار الانتكاسات أو الهزائم التي تقع بهم ... و«جنديبو» الذي ملك دمشق وحلفاءه بألف جمل هو أول ملك «عربي» يصل إلينا خبره، وجنديبو هو «جندب»، وجندب من الأسماء المعروفة عند الإسلاميين، ومهما يكن من أمر فإن جندبا هذا كان من الملوك الأقوياء الذين شادوا ملكا في الجنوب الشرقي من مملكة دمشق على ما يحدثنا به المؤرخ موزيل النمسوي الذي جاب البادية العربية، واتصل بأعرابها اتصالا قويا، وعرف أخبارهم، وأخبار ديارهم، وعرف بينهم باسمه الشيخ موسى الرويلي؛ لأنه أقام طويلا في قبائل الرولة، فعرف بهم ...
15
ولم يكن جندب هذا هو الملك «العربي» الوحيد الذي ورد اسمه في الحملات التي قام بها الملوك الآشوريون على الشام، وإنما هناك اسم لملكة عربية تسميها المصادر القديمة زبيبى (زبيبه)، وإنها كانت ملكة أرض «عريبي»، وإنها اضطرت أن تدفع الجزية أيضا للملك «تكلات بيلاسر الثالث» لما زحف إلى سوريا في سنة 738ق.م. كما نجد اسم ملكة عربية أخرى اسمها «شمسة» في تسجيل زحفه على سوريا في سنة 732ق.م، وإن هذه الملكة قد عوقبت عقابا شديدا من قبل الآشوريين؛ لأنها حنثت بيمينها ألا تتعرض للآشوريين، ولكنها حنثت، وكفرت بالعهد الذي قطعته على نفسها، فاستولى الملك الآشوري على ديارها، وأخذ منها الجزية، وأقام في ديارها مندوبا عنه الأمير كيبو
Kepu ، وكان هذا المندوب يرسل تقارير عن حالة هذه الملكة إلى الحاكم الآشوري العام الذي أقامه الآشوريون في سوريا، ويذكر النص الآشوري الذي تحدث عن هذه الحملة: أن الملكة شمسة قد أصيبت بخسائر فادحة جدا، وهي مائة ألف رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألفا من الماشية، وقد صور على اللوحة التي ذكر فيها هذا الخبر منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين يتعقبان بدويا راكبا جملا، وتحت أقدام الفارسين وأمامهما جثث القتلى من العرب قد صوروا بشعورهم الطويلة المعقوصة إلى الخلف، ولحاهم الكثة، وأجسامهم العارية إلا من مئزر يستر عورتهم، وقد حرص الفنان الآشوري على تصوير العربي الراكب قريبا من الفارسين، وهو يمد يده اليمنى إليهما متوسلا، وصورت الملكة شمسة حافية ناشرة شعرها، تحمل جرة، وقد أضناها الجوع، وخارت قواها.
16
والخلاصة أن تاريخ هذه الأسرة ما يزال غامضا، فلعل الحفريات القادمة تكشف شيئا حقيقيا عن تاريخها. (4) مملكة تيماء
إن تيماء هي على الطريق التجاري الذي كان يقع بين مدن العرب التجارية في الجنوب والمدن التجارية في الشمال، وقد ذكر في التوراة «تيماء» على أنه اسم أحد أبناء إسماعيل الاثني عشر،
17
وبه سميت المدينة التي سكنها هو وأبناؤه من بعده، وعرف أهل هذه المدينة بالتجارة منذ القديم، وكانت لأهلها علاقات تجارية قوية مع أهل سبأ كما يفهم من أقوال التوراة: «نظرت قوافل تيماء سيارة سبأ رجوها، خزوا فما كانوا مطمئنين، جاءوا إليها فخجلوا، فالآن قد صرتم مثلها رأيتم خربة ففزعتم.»
18
وكان إلى جانب تيماء هذه مدينة أخرى تذكر كثيرا معها في التوراة، وهي مدينة «ددان»، وهي المعروفة اليوم بالعلا،
19
وأنها كانت تتاجر مع مدينة صور عاصمة الفينيقيين بالعاج والآبنوس وطنافس الركوب.
20
أما المصادر العربية فتذكر تيماء على أنها بليدة معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام، يقول ياقوت: تيماء بليدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق، والأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء اليهودي مشرف عليها، فلذلك كان يقال لها تيماء اليهودي ... ولما بلغ أهل تيماء في سنة 9 للهجرة وطء النبي وادي القرى، أرسلوا إليه وصالحوه على الجزية، وأقاموا ببلادهم وأرضهم، فلما أجلى عمر اليهود عن جزيرة العرب أجلاهم معهم، وقال الأعشى:
ولا عاديا لم يمنع الموت ماله
وورد بتيماء اليهود أبلق
وقال بعض العرب:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني
بتيماء تيماء اليهود غريب
21
فهذا يذلك على أنها في الجاهلية كانت بلدا يهوديا سكنه اليهود أو متهودة العرب.
وأما المصادر التاريخية القديمة فتحدثنا أن الملك «بنويند» ملك بابل (555-538ق.م.) قد قدم ديار العرب، واتخذ تيماء مقرا له في سنة 551ق.م.
22
بعد أن قتل ملكها، وفتك بأهلها، وجعل لنفسه قصرا فيها، كالقصر الذي بناه ببابل،
23
وقد أقام بنويند في قصره هذا مدة من الزمن، ثم اضطره الملك قورش أن يترك ديار العرب حوالي سنة 539ق.م، فلا شك في أن هذه الإقامة التي أقامها بنويند في تيماء قد قوت الصلات بين البابليين وأهل تيماء، كما أنها نقلت إليهم كثيرا من الثقافة والديانة والحضارة البابلية، ولا ريب في أن الدافع الذي دفع الملك بنويند إلى احتلال هذه المدينة وما إليها، واتخاذه إياها عاصمة لملكه بدل عاصمته في وادي الرافدين - بابل - هو ما كانت تتمتع به من مكانة تجارية هامة في الشرق كله، فضلا عن مكانتها السياسية وموقعها الحربي المهم من مدن الشرق والغرب. (5) دول الحجاز وتهامة ونجد
أقدم ما عثرنا عليه في المصادر الموثوقة عن تاريخ تحضر الحجاز هو ما تذكره المصادر العربية القديمة من أن قلب الجزيرة العربية كانت تسكنه بعض القبائل من العرب العرباء المعروفين ببني جرهم، وأن إسماعيل بن إبراهيم وأمه هاجر قد هاجرا من فلسطين في القرن التاسع عشر ق.م. إلى الحجاز، وتختلف المصادر العربية والتوراة في المكان الذي قصداه بعد أن هاجرا من فلسطين؛ فالتوراة تقول إنهما خرجا حتى بئر السبع، وإنه قد نفد ما عندهما من الماء، وكادا أن يموتا عطشا، فهدى ملك الله هاجر إلى بئر فملأت القربة، وسقت ابنها، وإن إسماعيل شب في برية فاران،
24
والمصادر العربية تقول إنهما قد قصدا الحجاز، وإن برية فاران هذه ليست إلا مكة، وإن إسماعيل - عليه السلام - شب بين قبيلة جرهم، وتعلم من أبنائها العربية، وأعجبهم فزوجوه رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وإن الماء الذي اهتدت إليه هاجر إنما هو بئر زمزم في مكة المكرمة، وإن إسماعيل بن إبراهيم قد ولد اثني عشر ولدا منهم نابت (نبيت) وقيدار، وهما أبوا العرب المستعربة.
يقول جرجي زيدان بعد أن ذكر قصة سفر إسماعيل وأمه: «يؤخذ من القرائن التي تقدمت أن عرب الشمال في الطور الثاني، تتصل أخبارهم بأقدم تاريخ تلك الجزيرة، ولا سيما إذا اعتبرنا حكاية إسماعيل تاريخية، وعددناها بدء تاريخ جديد لأولئك العرب؛ لأن الإسماعيلية يبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ومع ذلك فليس لدينا من أخبارهم القديمة ما يعول عليه، كأن هؤلاء العرب كانوا في سبات لم يستيقظوا إلا حوالي التاريخ المسيحي، والغالب أنهم كانوا خاملي الذكر؛ لأنهم لم ينشئوا دولا، وكانت دول العرب الأخرى في اليمن ومشارف الشام والعراق وغيرها تستخدمهم في نقل التجارة على القوافل بين ممالك ذلك التمدن، ويعبرون عنهم تارة بالإسماعيلية، وطورا بقيدار أو غيرهما ...»
25
وقول زيدان هذا لا يعتمد على نصوص منقولة، وإنما هو بحث شخصي، فلماذا لا نعتبر قصة هجرة إسماعيل قصة تاريخية واقعية جاءت بها التوراة ثم القرآن، وأثبتتها المصادر العربية القديمة ، وأن فاران التي ذكرتها التوراة ليست إلا اسما من أسماء مكة، أو هي على الأصح اسم جبل مكة، قال ياقوت: «فاران كلمة عبرانية معربة، وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة، وقيل هو اسم لجبال مكة.» وقال ابن ماكولا أبو نصر بن القاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني: «سمعت أن ذلك نسبة إلى جبال فاران، وهي جبال الحجاز.» وفي التوراة: «جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران»، ومجيئه من سيناء: تكليمه لموسى، وإشراقه من ساعير - وهي جبال فلسطين - هو إنزاله الإنجيل على عيسى، واستعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن.»
26
فهذا يدل على أن فاران هي مكة أو جبالها، وقد وفق بين الروايتين جرجي زيدان، حيث يقول: «فالتوراة تقول إنه برية فاران، أو جبل فاران، وكلاهما عند العقبة شمالي جزيرة سيناء، والعرب يقولون إنه مكة بالحجاز، ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال الحجاز تسمى أيضا فاران، فيكون المراد أن البرية التي أقام فيها إسماعيل برية الحجاز، أو أنه أقام حينا في سيناء، ثم خرج إلى الحجاز، وسكن هناك وتزوج، والتوراة لم يذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه هناك على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود وأديانها، وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية أو تؤيدها، ولا فائدة من الأخذ والرد فيها، فنتركها، ونعول على الثابت من أخبار عرب الشمال، أو المتواتر الذي لا يخالف العقل أو النقل ...»
27
والعرب من قحطانيين وعدنانيين قبل الإسلام وبعده ما زالوا يعتقدون أن إبراهيم هو أبو العرب، وأن ابنه إسماعيل هو جدهم ، وأنهما قد بنيا الكعبة، ففي القرآن الكريم:
وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين ،
28
وتجمع المصادر العربية على أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وأن ابنه إسماعيل قد تزوج من جرهم التي كانت تتولى سدانة الكعبة، والتي ظلت السدانة فيها حقبا طويلة إلى أن انتزعتها خزاعة منها، ثم انتقلت السدانة إلى قريش.
29
وقد كان لهؤلاء العرب المستعربة الذين ولدوا من أم عربية هي السيدة رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمية، ومن أب هو النبي إسماعيل بن الخليل إبراهيم؛ أعمال جليلة في إقامة مشيخة سامية ترعى الكعبة وتؤمن سبل الحج إليها، كما تؤمن طريق التجارة، وتعمل على إقامة مدن وقرى في ذلك الوادي المقفر غير ذي الزرع، كما أنهم كانوا يعملون على نقل التجارة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وقد ضاعت تواريخ هؤلاء القوم؛ لأن العلماء لم يقوموا بعد بدراسات أثرية أو علمية صحيحة في الحجاز، كما قامت الدراسات في اليمن والعراق والشام ومصر، ولا شك في أن التنقيبات الأثرية ستكشف حين وقوعها عن آثار حضارة لا تقل عن حضارات الجنوب والشمال، وليس لدينا اليوم من المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها في تفهم تاريخهم إلا التوراة والقرآن، أما القرآن فمعلوماته جد قليلة؛ لأنه لم يهتم بالنواحي التاريخية، وإنما اهتم بالنواحي الدينية وما إليها، وأما التوراة فمعلوماتها عنهم تكاد تنحصر فيما يلي: ذكر سفر التكوين شيئا عن نسب أولاد إسماعيل، كما أشرنا إليه آنفا، وقلنا رأينا فيه، كما ذكر أيضا قصة يوسف وإخوته، وأنهم «أخذوه وطرحوه في البئر، وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء، ثم جلسوا ليأكلوا طعاما، فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانا ولاذنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر.»
30
وكان هذا الحادث في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهؤلاء الإسماعيليون الذين أشارت إليهم التوراة، ثم الذين كانوا قادمين من ديار العرب إلى مصر للتجارة، وأنهم الذين اشتروا يوسف وباعوه بمصر كما هو معروف، وتذكر التوراة أيضا في سفر القضاة بعد هذا الحادث بنحو ستة قرون هؤلاء الإسماعيليين وتسميهم: «بني المشرق»،
31
وتذكرهم بعد ذلك بخمسة قرون في سفر أشعياء باسم «قيدار» بن إسماعيل، وتتنبأ بأن مجدهم سيزول،
32
ومنذ عهد أشعياء تذكر التوراة أن الإسماعيليين قد انقسموا قسمين: «أحدهما» بنو قيدار (قيذر)، والثاني بنو بنيت (بنايوت)، وبعد عهد أشعياء بقرن ونصف، حوالي القرن السادس قبل الميلاد - أي في عهد أرمياء - جاء الملك نبوخذ نصر، واكتسح ديار العرب، وغلب بني إسماعيل (أو بني المشرق)، وقد جاء هذا الجزء في التوراة على سبيل التحذير والوعظ مما أصاب أهل دمشق وحماة وبلاد العرب من النبلاء بسبب عصيانهم «... ارتجت دمشق، والتفتت للهرب، أمسكتها الرعدة، وأخذها الضيق والأوجاع كماخض، كيف لم تترك المدينة الشهيرة قرية فرحى؛ لذلك تسقط شبانها في شوارعها، وتهلك كل رجال الحرب، في ذلك اليوم يقول رب الجنود، وأشعل نارا في سور دمشق فتأكل قصور بن هدد، عن قيدار وعن ممالك صور، التي ضربها نبوخذ نصر ملك بابل، هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار ودمروا أبناء المشرق، إنهم يأخذون أخبيتهم وغنمهم، ويستولون على شققهم وجميع أدواتهم وإبلهم، وينادون عليهم بالخوف من كل جانب.
33
هذا كل ما تذكره التوراة من تاريخ بني إسماعيل، أما المصادر العربية فتنقل ذلك عن التوراة، وتضيف إليه معلومات تناقلها العرب في الجاهلية، وهي معلومات ممزوجة بالأساطير وكثير من الخرافات.
ويظهر أن هؤلاء العرب قد ظلوا بداة، وأن سلطانهم قد امتد من الحجاز إلى اليمن ومشارف الشام، وأنهم جعلوا مكة مقر دولتهم أو مشيختهم لما لها من المكانة القدسية الرفيعة.
ويظهر أنهم قد ضعفوا بعد الغزو البابلي، فإنه قد كان ظالما شديدا، ولا شك في أنهم قد استعادوا استقلالهم بتلك الديار، وتكاثروا وعادوا إلى الظهور قبيل الميلاد المسيحي المجيد، فقد تناقل المؤرخون طرفا من أخبارهم في ذلك الحين، وذكروا بعض قبائلهم بالقوة والمنعة، وامتدوا إلى تهامة ونجد وبلاد الشام، وأصل هذه القبائل هو عدنان، وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء ، فبعضهم يعدهم أربعين جدا، وبعضهم يجعلهم عشرين، وبعضهم خمسة عشر، ويقول آخرون إن المدة بين الاثنين هي طويلة؛ فلذلك يصعب ضبط العدد تماما.
34
وقد ولد عدنان أولادا عديدين أشهرهم: معد، وعك، ويقول ابن خلدون: إن معدا عاش أيام نبوخذ نصر (بختنصر)، وإنه خلص إلى حيران حينما هاجم أهل حضورا في اليمن،
35
وأما عدنان والده فلقي بختنصر فيمن اجتمع به أهل «حضورا» وغيرهم بذات عرق، فهزمهم بختنصر، ومات عدنان في أيامه، فلما هلك بختنصر خرج معد من حران إلى مكة، فوجد أخويه وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوجوا منهم، فرجع بهم إلى بلادهم.
وتذكر المصادر العربية أن معدا قد ولد ثلاثة نفر، وهم: نزار، وقضاعة، وقنص، ويجعلهم بعض المصادر أربعة فيضيف إليهم: إيادا.
36
على أن الأكثرين على أن إيادا هو ابن نزار لا أخوه.
ومن أولاد معد تسلسلت القبائل العدنانية أو النزارية في تهامة ونجد والحجاز ومشارف الشام، وأصلهم القبائل الآتية:
قضاعة:
وأكبر بطونها جهينة، وبلي، وتنوخ، وسليخ.
وإياد:
وأكبر بطونها أفصى، ودعمى، وغاره.
وربيعة:
وأكبر بطونها أسد، وبكر، وتغلب، وحنيفة، وسجل، وشيبان.
ومضر:
وأكبر بطونها قيس، وأسد، وكنانة، وتميم، وثقيف.
قد أقام بنو سليخ الذين نزلوا الشام دولة في بلاد مؤاب من أرض البلقاء، ومن مشاهير ملوكها: النعمان بن عمرو بن مالك، وابنه مالك بن النعمان، وابنه عمرو بن مالك، ولما غلبوا على أمرهم في الشام ارتحلوا إلى العراق، وشادوا دولة الحضر
Atra
قرب تكريت التي قامت منها حضارة عظيمة، ستكشف التنقيبات عن جلائل آثارها.
كما أقام بنو تنوخ دولتين: «إحداهما» في مشارق الشام وجنوبي العراق، وهي دولة جذيمة الأبرش التي قامت على أنقاضها دولة المناذرة اللخميين أملاك الحيرة؛ و«الثانية» في الشام، وهي التي قامت على أنقاضها دولة الغساسنة في منطقة حوران ودمشق.
وقد كان للقبائل الأخرى كبني أسد وتميم وبكر وتغلب وشيبان وقيس وثقيف دويلات أو مشيخات أو إمارات ازدهرت بعض الوقت، ولكن معلوماتنا عنها ما تزال جد ضئيلة، فلعل الزمن يكشف عن حقائق تاريخها.
حضارات الجنوب
(1) الدولة المعينية
هي أقدم دول العرب في الجنوب، وقد ازدهرت حضارتها في زمن سحيق جدا قبل الميلاد، واختلف العلماء المحققون في تحديد زمان نشوئها، فذهب البروفسور إدوارد كلاسر
Glasser
إلى أنها كانت في الألف الثالث قبل الميلاد،
1
وذهب المستشرقون جوزيف هاليفي
Halevy
ومولر
Müller
وشبرنجر
Sprenger
2
إلى أنها كانت في أواخر الألف الثاني وأوائل الألف الأول قبل الميلاد. وقالفلبي
إنها حكمت من سنة 112 إلى سنة 63ق.م،
3
وحجة معارضي رأي كلاسر أن الكتابة المعينية كانت ذات ألفباء وهي المعروفة بألفباء المسند، وقد اتفق العلماء على أن الألف باء الفينيقية أو ألفباء رأس الشمرة لا يتجاوز تاريخها القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فكيف يمكن جعل ألفباء المسند أقدم من الألفباء الفينيقية؟ فلا بد إذن من القول إنها قد ظهرت في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، أما قبل ذلك التاريخ فلا يعقل، وهو قول مقبول في رأينا.
وإن أقدم منطقة قامت فيها هذه الحضارة المعينية هي منطقة الجوف التي تقع فيها معظم خرائب المعينيين، وأطلال مدنهم، مثل: «معين» و«براقش» و«قرن» و«نشق» وغيرها.
4
وقد ظلت أخبار هذه الحضارة مجهولة أو كالمجهولة حتى زار ديارها العلماء الآثاريون والنقابون الأوروبيون في القرن الماضي، وفي طليعتهم المستشرق الفرنسي آرنود
Arnaud
الذي زار اليمن، وجمع عدة نقوش من منطقة سبأ في عام 1843، ثم جاء من بعده المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي الذي استطاع أن يدخل اليمن في سنة 1869م ويقوم برحلته المشهورة الهامة، فدخل مناطق الجوف ونجران وسبأ بتكليف من الأكاديمية الفرنسية، واستطاع أن يجمع في زيارته هذه ستمائة وخمسة وثمانين نقشا أثريا من النقوش العربية الجنوبية المكتوبة بالقلم المسند، وكانت رحلته تلك من أعظم الرحلات العلمية؛ لأنه اكتشف في تلك النصوص كثيرا من آثار المدن وأسماء الملوك، وعادات البلاد، وعبادات السكان ... وغير ذلك.
وفي سنة 1882 ذهب إلى اليمن العلامة النمسوي كلاسر، فزار سبأ وظفار، وتوغل في اليمن بمساعدة الحكومة العثمانية، وظل إلى سنة 1892، وجمع نقوشا عديدة صححت بعض أخطاء هاليفي.
ولم تجر بحوث صحيحة، ولا رحلات اكتشاف علمية، بعد هذا التاريخ إلا في سنة 1942، ثم في سنة 1945 حينما زار اليمن العالم المصري محمد توفيق؛ فإنه زارها موفدا من جامعة فؤاد الأول بمصر - جامعة القاهرة اليوم - ودخل بلاد الجوف، فكان أول عالم وصفها وصفا علميا دقيقا، وأعطانا معلومات عن أطلالها وآثارها.
5
والمصادر العربية القديمة تكاد تجهل هذه الدولة وأخبارها، أما المؤرخون والجغرافيون اليونان فقد ذكروا بعض المعلومات الهامة، مثل: سترابون وبلينوس وسربيلوس وبطليموس وديودوروس،
6
أما المعلومات الحقيقية فهي التي اكتشفها المستشرقون المحدثون الذين أسلفنا الحديث عنهم قبلا.
وقد توصل هؤلاء المستشرقون إلى بعض الحقائق التاريخية عن الدولة، وإليك مجمل ذلك: استطاع المؤرخون المستشرقون أن يثبتوا بعض أسماء الملوك المعينيين والسبئيين وأحوالهم السياسية والاجتماعية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يؤرخوا أزمنتهم واحدا بعد واحد، كما أنهم لم يستطيعوا ترتيبهم ترتيبا منتظما متسلسلا. وقد حاول بعض العلماء أن يصنفهم إلى أسر وطبقات فلم يوفق، وأرى أن الوقت لم يحن بعد لتقرير ذلك ولا بد من إتمام الحفريات حتى يستطاع عمل تصنيف عملي صحيح.
وقد كانت لهذه الدولة آثار جليلة في العمران والحضارة، على الرغم من أن آثارها لم يتح لها أن تدرس بعد درسا علميا؛ فإن ما اكتشف وكتب عنه إلى اليوم ليدلنا على تقدمهم في مضمار العمران والحضارة تقدما ظاهرا؛ فقد كانت لهم قدم راسخة في هندسة المباني وزخرفتها، وبناء القصور والجسور والحصون والقلاع والأسوار، وتنظيم الخنادق والأقنية، وغير ذلك من الأبنية العامة، كما كان لهم شرائع عادلة في فرض الضرائب وتوزيعها، وفي تنظيم العقود والبيوع والإيجار، والميراث، والتجارة والاقتصاد.
وكانت للمعينيين صلات تجارية قوية مع المصريين، فقد اكتشفت بعض الكتابات التي تدل على أن بعض الجوالي المعينية قصدت إلى مصر للتجارة، كما لهم صلات تجارية وسياسية مع سيناء والحجاز ومشارف الشام ولبنان وسوريا.
وكان نظام الحكم عندهم ملكيا، ويجوز أن يتولى الملك أكثر من ملك واحد، وكان النظام في الولايات لا مركزيا تتولى الحكم في ولاية أو مدينة حكومة مستقلة لها آلهتها وكهونتها الذين كان يقال لهم «عم»، ولها نائب ملك يسمى «كبر »، ولها مجلس نيابي يقال له «مسود» يدير شئونها، ويجتمع فيه الأشراف للحكم بين الناس وإعلان الحروب، وتقرير القوانين والضرائب، وكانت الضرائب عندهم على ثلاثة أنواع: (1)
ضرائب لمنفعة خزانة الملك. (2)
ضرائب لمنفعة الكهنة والمعابد ومن يلحق بها. (3)
ضرائب لمنفعة الشيوخ والحكام، وكان هؤلاء مع الإقطاعيين هم الذين يتولون جمع هذه الضرائب؛ لتقديمها إلى الملك أو الكهنة أو للقيام بالإنفاق على المؤسسات العامة ، وقد كانت للإقطاع أنظمة، فلا تسلم لصاحبها إلا بعد أن تحدد حدودها، وتذكر شروطها، وما يجب على مستغلها من الضرائب.
كما كان لسكان البادية الملحقين بالدولة أنظمة خاصة، وكان شيوخهم يبنون لأنفسهم دورا في الصحراء يتخذونها مجالس، ويجتمع فيها الوجوه والنبلاء للبحث في شئون القبيلة. (2) دولة سبأ وحمير
هذه الدولة هي من أقدم دول الجنوب العربية، ويكاد المؤرخون الثقاة يجهلون إلى اليوم مبدأ نشوئها، إلا أنهم يجمعون على أن كلمة «سابو» أو «سابوم» الواردة في بعض النقوش السومرية، والتي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي حوالي سنة 2500ق.م، يراد بها دولة سبأ اليمنية،
7
ولكن معلوماتنا عن هذه الدولة وتاريخها وتطورها معلومات لا تكاد تفيد؛ لعدم القيام بالحفريات الدقيقة.
ولعل أقدم فترة يمكننا تأريخها تأريخا صحيحا لهذه الدولة هي فترة «المكارب» جمع «مكرب»، ومعناه «الأمير الكاهن»، فقد سيطر هؤلاء المكارب على ديار سبأ منذ سنة 820ق.م. إلى سنة 115ق.م.
8
وأقدم مكرب عرفنا اسمه هو «المكرب سمه علي ذمر علي» الذي حكم حوالي سنة 820ق.م، ثم خلف من بعده عدة مكارب اختلف المؤرخون في تعدادهم وترتيبهم ومدد ملكهم، وقد بلغ عددهم سبعة عشر، وكانوا يتخذون مدينة صرواح عاصمة لهم.
9
وقد كانوا على جانب عظيم من الرقي الصناعي والزراعي والعمراني والثقافي والسياسي، وإنهم ظلوا يقوون أنفسهم ودولتهم حتى استطاعت ابتلاع دولة معين التي كانت تجاورهم.
وكان نظامهم السياسي نظاميا دينا ومدنيا، وكان لكل مدينة وقرية إلهها، وأعظم آلهتهم اسمه «المقه»، وكانت كتاباتهم على الطريقة الحلزونية
Boustrophedon ؛ أي إنها تبدأ من اليمين إلى الشمال، فإذا انتهى الكاتب من السطر الأول وأراد كتابة السطر الثاني، كتب من الشمال إلى اليمين، وهكذا دواليك. وقد عثر على طائفة من الكتابات الحلزونية المنقوشة على الحجارة والطين أو الجص، وهي ما تزال موضع دراسة العلماء الاختصاصيين. وقد كانت للغتهم السبئية نحو وصرف وبيان رفيع ودقيق، وأجل ما روي عن هذه الدولة هو بناء السدود والقلاع، وأجل سدودها وأعظمها شهرة هو سد مأرب، الدال على براعتهم بعلم الهندسة، وعلم تنظيم الري، وحسن الاستفادة من مياه المطر، وهو من أهم المشروعات العالمية التي قام بها العالم في ذلك الحين، وإنه لثورة في عالم الهندسة والفكر مكنت الإنسان من الاستفادة من الطبيعة، وقد ظل هذا المشروع قرونا عدة مصدر خير ورفاه، ولسنا نجد في التاريخ القديم سوى ممالك قليلة فكرت في مثل هذا المشروع،
10
وقد توسع ملك السبئيين حتى سيطروا على أكثر بقاع الجزيرة العربية، فاستولوا على مملكتي حضرموت، وقتبان.
11
ومهما يكن من أمر، فإن تاريخ هذه الدولة ما يزال محتاجا إلى توسع في دراساته. (3) الدولة القتبانية
هي دولة عربية جنوبية، ولكن أخبارها ما تزال مجهولة، ولم يتفق العلماء الأثريون حتى الآن على تعيين مبدئها ونهايتها، ولكنهم أجزموا بأنها قد عاصرت دولتي «معين» و«سبأ»، وذهب المستشرق الأثري هومل إلى أنها وجدت في الألف الأول قبل الميلاد،
12
ويرى المستشرق كلاسر أن نهايتها كانت بين سنتي 200 و24ق.م،
13
ويرى المؤرخ الأثري الرابت: «أن بداية القتبانيين كانت في القرن السادس ق.م، ونهايتها على أثر خراب مدينة «تمنع» المعروفة الآن بكخلان، حوالي سنة 50ق.م.» ويرى الدكتور جواد علي: «أن الوقت لم يحن بعد للحكم بأن المكرب الفلاني أو الملك الفلاني قد حكم في سنة كذا أو قبل هذا أو ذاك؛ لأننا لا نزال نطمع في العثور على أخبار حكام لم تصل أسماؤهم إلينا، لعلها لا تزال في باطن الأرض ... وإن خير ما يستطاع عمله في الوقت الحاضر هو جمع كل ما يمكن جمعه من أسماء حكام «قتبان» على أساس الصلة والقرابة؛ وذلك بأن يضم الأبناء والأخوة إلى الآباء على هيئة جمهرات، ثم تدرس علاقة هذه الجمهرات بعضها ببعض، وترتب على أساس دراسات نماذج الخطوط التي وردت فيها أسماء الحكام وطبيعة الأحجار التي حفرت الحروف فيها ... ولانتفاء ذلك أصبحت القوائم التي وضعها علماء العربيات الجنوبية لحكام قتبان أو حضرموت أو معين هي في نظري قوائم غير مستقرة.»
14
وكان حكام «قتبان» - لا قطبان كما ورد في تاريخ العرب المطول
15 - يلقبون بلقب «مكرب» ثم بلقب «ملك»، ومعنى كلمة «مكرب»: الوسيط والشفيع والمقرب الذي يتوسط بين الآلهة والناس، وهكذا كان أولئك المكارب وسطاء بين الناس والآلهة، ولما قوي سلطان هؤلاء المكارب، وتعدى حدود قبائلهم إلى القبائل والمدن المجاورة تلقبوا بلقب «ملك».
وأقدم مكارب القتبانيين هو «سمه علي وثر»، وابنه «هون عم يهنعم» الذين حكما في حوالي القرن التاسع قبل الميلاد،
16
وقد عثر في حفريات اليمن على كتابات حلزونية
Boustrophedon ؛ أي يبدأ السطر فيها من جهة اليمين فينتهي في جهة اليسار، ثم يبدأ السطر الثاني من جهة اليسار وينتهي في جهة اليمين، وهكذا ...
ويظهر أن هذه الدولة قد عاصرت حكومة «معين»، وقد ذكرها بطليموس، وقال إنها تقع على ساحل تهامة، ويقول سترابون - نقلا عن إيراتو ستينس الذي كان في سنة 194ق.م: إن القتبانيين كانوا يقطنون في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب أرض السبئيين.
17
أما المؤرخون العرب فلا يذكرون شيئا موثوقا عنهم، ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: إن قتبان موضع في نواحي عدن.
18
ويقول الفيروزآبادي: إن قتبان بالكسر موضع بعدن. وينقل الزبيدي في تاج العروس عن مراصد الاطلاع أن قتبان بعدن تبعا للبكري. ويقول في موضع آخر: إن قتبان بالكسر بطن من رعين من حمير، كذا في كتب الأنساب.
19
وهذا قول غير صحيح؛ لأنه لا صلة في النسب بين حمير وقتبان، وقد كان للقتبانيين أصنام ومعابد وهياكل شيدوها على اسم تلك الأصنام، ومنها: «عشتر» و«ابنى» و«ود» و«عم»، كما كانت لهم مجالس وندوات سياسية يجتمعون فيها لدراسة قوانين الحرب، وإدارة الحروب، وقوانين التجارة والزراعة والقتل والضرائب، وكانوا يسمون هذه المجالس «مشود»، وكان أعظم هذه المجالس في عاصمتهم «تمنع»، على أن المدن الأخرى لم تكن تخلو من هذه المجالس. وقد ارتفعت الفنون عندهم، وبلغت درجة رفيعة لا تقل عن الفنون الإغريقية، وبخاصة فن النحت، وقد عثر في خرائب العاصمة «تمنع» على تمثالين لأسدين كتب على قاعدتيهما كتابات قتبانية، ورد فيها اسم الفنان «ثوبم»، وهذان التمثالان مصنوعان بأسلوب لا يقل روعة عن الأسلوب اليوناني، ويرجع عهدهما إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
20
ومن عظم نفوذ قتبان السياسي والعسكري أنها سيطرت حوالي سنة 820ق.م. على الدولة السبئية،
21
كما عظم تقدمها الزراعي، وقد وضعت قوانين خاصة لاستغلال الأرض، وقد وصل إلينا بعض الوثائق أو الإعلانات التي كان يعلنها الملوك القتبانيون للشعب في العاصمة أو غيرها، فيما يتعلق بإدارة الأراضي في وادي لبخ، وهو من الأودية الخصيبة عندهم، وكذلك وصل إلينا صور اتفاقيات معقودة لاستثمار بعض الأراضي الزراعية.
22
وأما أعظم مدنهم فهي مدينتا:
تمنع:
وتقع في وادي بيجان الخصيب المنظم في ريه وتقسيم أراضيه، وتعرف الآن باسم كحلان، ولا تزال أطلال الأقنية ونظم الري موجودة، كما لا تزال الحفريات فيها تكشف عن كثير من النقود الذهبية، والتماثيل، والخزفيات الجميلة، التي جعلت علماء الآثار يقولون إن الصلة بين «تمنع» والهيلينية والرومانية كانت قوية، وإن الرومان قد أثروا في العرب، وأرى العكس قد يكون صحيحا؛ فالقتبانيين كانوا قوما بارعين جدا في الفنون كما رأيت، وقد عثر في حفريات «تمنع» على آثار رائعة من المرمر والنحاس والبرونز.
23
شوم:
أو «شور»، وهي مدينة كبيرة كانت تسكنها قبيلة «هرية»، وقد بنت فيها حصونا وقلاعا وسورا ومعابد، وذلك في عهد الملك «دروال غيلان بهنعم».
24
وكان نظام الحكم في قتبان مثله في معين؛ أي إنه نظام ملكي ديني وراثي، وكان يدير شئون المملكة حكام نيابة عن الملك، كما يسمى أحدهم: كبر أو كبير، وكانوا يجتمعون في «المشود»، وإن ملوكهم كانوا عادلين ديمقراطيين، بل كانوا يشاورون الشعب في المجالس والمشاود. أما نهاية عهد الدولة فلا نستطيع تحديدها بالضبط كما قلنا، وإنما نستطيع أن نجزم بأن الدولة السبئية قد استولت عليها كما استولت على الدولة المعينية والحضرمية بعد أن جرت حروب عديدة بين القتبانيين والسبئيين. (4) الدولة الحضرمية
حضرموت هي دولة عربية عريقة، عاصرت دولتي معين وقتبان، وذكرها في كتاب إيراتوستينس وإسترابون باسم
Ehatromotitae ،
25
وفي كتاب التوراة باسم حضرموت، على أنها سميت باسم حضرموت بن يقظان بن عابر بن شالخ،
26
وليست معلوماتنا عن بداية هذه الدولة ونهايتها جزءا من معلوماتنا عن دولة قتبان؛ فإن الدراسات العلمية التي جرت حتى الآن دراسات محدودة ضيقة، وقد عكف بعض المستشرقين الاختصاصيين بدراسات تاريخ جنوب الجزيرة العربية على دراسات تاريخ الدولة الحضرمية، وتوصل البروفسور «ألبرايت» أن يحصي قائمة بأسماء ملوكها، وأن يجعل في طليعتها اسم الملك «يدع إيل» الذي حكم حضرموت حوالي نصف القرن الخامس ق.م،
27
ويعارضه المستشرق فيلبي، فيقول: إن طليعة ملوك هذه الدولة هو «صدق أبل»، وإنه قد حكم في سنة 1020ق.م،
28
ومن مشاهير ملوك هذه الدولة: «معدي كرب» الملك القوي، العمراني، أخو الملك «أب يدع يثع» الذي كان ملكا على معين، ويظهر أنه في عهد هذه الأسرة القوية خضعت الدولتان الحضرمية والمعينية لها، وكان ذلك حوالي سنة 980ق.م، ومن أشهر ملوكها: العذيلط الأول.
قد كانت مدينة شبوة العاصمة الجديدة لهذه الدولة، وكانت زاخرة بالمعابد الفخمة، والقصور الشامخة، وقد كانت في الأصل مقرا للمكاربة، ثم صارت مقرا للملوك، وهي معروفة عن المؤرخين القدماء باسم
Sabratho
أو
Sabato ، وقد ورد اسمها في التوراة باسم سبت،
29
وقد ذكرها الهمداني في صفة جزيرة العرب، وعدها من حصون حضرموت ومحافدها،
30
وقد زارها المستشرق فيلبي، وعثر على آثار معابدها وقصورها القديمة وسدود واديها، وذكر المؤرخ القديم بلينوس: أن في اليمن توجد
Ostramitae ، وأنها منطقة من أرض شبوة
Saboei ، وأن عاصمتها مدينة شبوة
Saboei ، وتسمى أيضا
Sariba ، وأنها غنية بمناطق كثيرة الغابات ... ومنها يصدر اللبان، وأن شعب
Minaei
هو الشعب العربي الذي احتكر تجارة اللبان والطيب.
31
أما العاصمة القديمة للدولة فهي «ميفعة»، وهي المعروفة عند اليونان باسم
Mapharites ، وقد كانت مدينة محصنة ذات معابد وقصور.
وقد كانت الدولة الحضرمية دولة قوية بريا وبحريا وتجاريا، وكانت تعبد الأوثان، وتقيم لها المعابد، وأجلها عندهم هو الإله «سين»، وهناك آلهة غيره منها: عشتر، وصول، وحويل، وشمس.
ومن أشهر ملوك هذه الدولة:
معدي يكرب بن اليفع، الذي حكم البلاد حوالي سنة 980ق.م.
ديدع أبي غيلان، الذي حكم البلاد حوالي سنة 140ق.م.
العزيلط، الذي حكم البلاد حوالي سنة 29ب.م. (5) دولة أوسان
كانت أرض أوسان جزءا من المملكة القتبانية، ثم انفصلت عنها، وكونت دولة مستقلة ، وهي على الرغم من صغر الرقعة التي كانت تحتلها كانت دولة غنية عريقة في الحضارة، وقد خلفت لنا عددا من التماثيل الرخامية الرائعة التي تمثل لنا ملوك تلك الدولة، وهي من أروع ما عثر عليه من نفائس التحف الفنية في جزيرة العرب، وقد كتب على قاعدة كل تمثال اسم الملك الذي يعلوها، ونحن على الرغم من عدم عثورنا على كتابات أثرية تكشف لنا النقاب عن تاريخ هذه المملكة وأحوال ملوكها، فإننا قد أفدنا فوائد جليلة من طراز لباس الناس في ذلك العهد، وطرائق زينتهم وتنظيم شعورهم وحلق لحاهم، كما عثر في الحفريات على عدد من التماثيل الذهبية، والآثار الخزفية الرائعة.
وعلى الرغم من قلة المعلومات الآن، فإن الآمال معقودة على كشف تاريخ هذه الدولة وآثارها في العمران والسياسة، وقد ظلت هذه الدولة إلى وقت ظهور الإسلام، حتى إن الجغرافي العربي الهمداني ذكر لنا في الإكليل أنه نقل بعض أخبار اليمن وتاريخه القديم من محمد بن أحمد الأوساني، وزعم أنه كان يحسن قراءة العربية الجاهلية المدونة بالقلم المسند.
32
ولا نعرف من أحوال هذه الدولة إلا معلومات قليلة، منها أن الملك «كرب آل وتر» بعد أن استولى على مدينة شرجب بين الحوف ونجران، ساق جيوشه إلى أوسان، فقتل من رعاياها ستة عشر ألف رجل، وأسر أربعين ألفا، واحتل أماكن من المملكة الأوسانية وهي: حمان، وانضم، وجن، ودياب، ورشا، وجردان، ودتنت، وتفذ إلى ساحل البحر، وأن قتبان كانت حليفة لسبأ في هذه الحرب، وأن السبئيين احتلوا ديار أوسان بعد انتهاء الحرب، وقد استعادت الدولة الأوسانية سلطتها، واستمرت إلى وقت ظهور الإسلام، ولكن معلوماتنا عنها جد ضئيلة.
أيام النبي صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة
مقدمة
انبثق سيل تاريخ الأمة العربية قبل عصر النبي الكريم محمد
صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء محمد وخلفاؤه الراشدون «انطلق» العرب من جزيرتهم ينشرون دينهم ولغتهم وحضارتهم في أرجاء المعمورة، ولم ينقض عصر الخلفاء الراشدين حتى «اتسق» نور الأمة العربية - في عهد بني أمية - يشع في الخافقين، وينشر نوره في المشرقين، وامتد سلطان العرب من أقصى بلاد المشرق إلى أقصى بلاد المغرب، فحكموا العالم، وساسوا الشعوب، ونفذوا مطامع أمتهم وآمالها، وفرضوا على أهل الخافقين احترامها، ثم جاء بنو العباس «فازدهرت» بهم الحضارة العربية، وتم على أيديهم تكوين السيادة الإسلامية.
ثم خلف من بعدهم خلف فرطوا بالقيام بأعباء الملك، وانصرفوا إلى اللهو واللعب، فانكسف نور الحضارة، وركدت حركة التقدم والرقي، «فانحلت» الدولة، ثم توالت المحن، واشتدت ظلم الليل وحنادسه عليهم، وتمكن أعداؤهم منهم فقضوا على ملكهم وأذلوا بني قومهم، «فاندحروا» وزحف إليهم الليل بعساكره، وضرب عليهم بخيله ورجاله، وتمطى بصلبه وناء بكلكله، وخرب بجرانه، وقضى العرب ردحا من الزمن الطويل وهم يغطون في نوم طويل وليل مسود، وجهل مظلم، وتعصب مدلهم، وتفرق مطلخم، حتى ذاقوا من الذل ألوانا، وشربوا من كئوس المهانة والعار أقداحا، ثم نبغ فيهم من نفضوا عن عيونهم غبار الوسن، وأحسوا بوطأة الذل والمحن، فدعوا قومهم بدعوة الصلاح، وحثوهم على الانعتاق من ربق العبودية، والعمل على استعادة المجد القديم وإحياء الماضي الأثيل، فكدوا وجدوا حتى ابتسم لهم الدهر، وأشرق نور الفجر، وآن أوان «الانبعاث» فقاموا قومة رجل واحد، آخذين بأسباب العمل والنشاط والفلاح، وهم بحول الله بالغون غايتهم، واصلون إلى أهدافهم بمدد الله وقوته، وبمعونته وبركته.
الفصل الأول
(1) في البيئة العربية قبل البعثة النبوية
كانت بلاد الحجاز (ويراد بها الحجاز وتهامة معا) قبل البعث النبوي قلب البيئة العربية في جزيرة العرب؛ ففيها الكعبة مهوى قلوب العرب أجمعين، وموضع عزهم، وفيها مكة، أم القرى العربية، ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانا في الدين والدنيا، وفيها يثرب أخصب أراضي الجزيرة وأطيبها تربة وأعمرها بقعة، وفيها جدة والجار خير فرض الجزيرة وأغناها تجارة وربحا، وفيها الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح قبائل العرب وأكثرها شعرا، وفيها أجل أسواق العرب شهرة كعكاظ ومجنة وذي المجاز.
والحجاز بلد عريق في استقلاله وسيادته منذ أقدم العصور؛ لمكانه الحصين، وحرمته المقدسة، وصموده أمام النكبات والاحتلال الأجنبي، وما ذلك إلا لمكانة مكة المكرمة؛ قال ياقوت: إنها - أي مكة - كانت لقاحا لا تدين لدين الملوك، ثم لو يؤد أهلها إتاوة، ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان، تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضا وشرفا عندهم عظيما، وكان أهله - أي البيت - آمنين يغزون ولا يغزون، ويسبون ولا يسبون، ولم تسب قرشية قط فتوطأ قهرا.
1
وسكان الحجاز هم العرب واليهود؛ وأما العرب فهم سكانه الأصليون، وهم منتشرون في جميع مدن الحجاز، قراه وبواديه، ومن أشهر القبائل الساكنة فيه: بطون قريش، وسليم، ومزينة، وهوازن، وثقيف، وخثعم، وطي، وأشجع، وغفار، وفزارة، وغطفان، والأوس، والخزرج. وأما اليهود فكانوا يسكنون في يثرب وخيبر والطائف ووادي القرى، ومن أشهر القبائل اليهودية: بنو النضير، وبنو القينقاع، وبنو قريظة، وبنو هدل.
وأجل مدن الحجاز «مكة»، وهي من أقدم مدن بلاد العرب؛ سكنها العمالقة، ثم خلفتهم قبيلة جرهم عليها، وفي عهدها قصدها إبراهيم - عليه السلام - وبنى الكعبة، وصاهر ابنه إسماعيل بني جرهم، وسكن الحجاز، واستمر أولاده فيها من بعده.
2
وكانت سدانة البيت لآل مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل، إلى أن بغوا واستحلوا أموال الكعبة، فغلبتهم خزاعة عليها، وهي قبيلة يمنية قدمت الحجاز إثر سيل العرم.
3
ووليت البيت نحوا من ثلاثمائة سنة إلى أن نبغ قصي بن كلاب بن مرة، وكان يقيم هو وأبناؤه حوالي مكة، فعظم سلطانه، وانتزع حماية الكعبة من خزاعة، وتملك مكة، وبنى بها دار الندوة، ونظم أمور أهلها؛ فلا تزوج امرأة إلا في دار الندوة، ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرع جارية إلا فيها، وكأنه أراد بذلك تسجيل حوادث الأحوال الشخصية، وجعل تلك الدار مقرا للقوم يتشاورون فيه في كافة شئونهم من خير وشر، وكانت قبائل قريش تؤدي الرفادة إلى قصي؛ وهي أموال يؤدونها إليه يترافدون فيها، فكان يصنع الأطعمة والأشربة للحجاج أيام الموسم، ورتب سائر أمور مكة من حجابة وسقاية ولواء وما إلى ذلك مما فيه تنظيم شئون المدينة، كما سترى تفصيل ذلك فيما بعد.
ومن مدن الحجاز الكبيرة «يثرب»، وهي مدينة قديمة سماها المعينيون «يثرة»، والبيزنطيون «يثريبا»، وهي مدينة حصينة كثيرة القلاع والآطام، كثيرة الخيرات والمزارع، عذبة المياة وافرة النخيل.
4
نقل الألوسي عن كتاب نشر المحاسن اليمانية ما نصه: «كانت مدينة يثرب للعرب، فخرج إليها قوم من بني إسرائيل في زمن موسى بن عمران فغنموها من العرب العاربة، وقتلوا ملكا لهم يسمى الأرقم، وأقاموا فيها ما شاء الله حتى افترقت الأزد من مأرب في حادثة سيل العرم، فنزل الأوس والخزرج يثرب على الإسرائيليين.»
5
ثم جرت بين الأوس والخزرج والإسرائيليين حروب انتهت بانخذال اليهود، وفي الكتب العربية واليهودية تفاصيل وأقاصيص عن أحوال هؤلاء اليهود، فليرجع إليها من يريد التوسع في هذا.
6
وقد كان لليهود حين هجرة النبي إلى المدينة أثر كبير سنرى آثاره فيما بعد. وأشهر البطون اليهودية «بنو القينقاع»، وكانوا يسكنون المدينة ويمتهنون الصياغة والصيرفة، كما كانوا ذوي نفوذ كبير في المدينة؛ و«بنو قريظة»، وكانوا زراعا يسكنون في وادي مهزوز ووادي بطحان، وهما واديان يهبطان من حرة يهبط فيها مياه عذبة؛
7
و«بنو النضير» وكانوا زراعا في وادي بطحان، ويقول اليعقوبي: إنهم في الأصل من بني جذام، ثم تهودوا.
ولكن بعض المؤرخين يذكرون أن السيدة صفية أم المؤمنين - وهي من بني النضير - كانت منحدرة من نسل هارون بن عمران، وقد كانت لهم معابد ومدراسات وربانيون، وكان إلى جانب هؤلاء اليهود متهودون من العرب.
ولم يكن المتهودون في خصومتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم
مثل اليهود في خصومتهم إياه ، وقد اكتسب هؤلاء اليهود جميع التقاليد والأخلاق والأسماء واللهجات العربية، كما ثقفوا اللغة العربية إلى جانب لغتهم الأصلية، وظهر منهم شعراء وخطباء بالعربية، وتقول الروايات العربية إن هؤلاء اليهود كانوا هم المسيطرين على المدينة المنورة، وإنهم كانوا ملوكها، وإن آخرهم كان يسمى القيطون أو القيطوان أو الفيطون (بالقاف، والفاء)، وإنه كان عاتيا جبارا قتله مالك بن العجلان الخزرجي، ثم اضمحل أمر اليهود من بعده، وصارت السيادة للعرب.
8
ولكن الخلافات ما عتمت أن نشبت بين العرب - أي الأوس والخزرج - فاستفاد اليهود من ذلك، وأصبحوا يرجحون كفة أحد الجانبين على الآخر، ويظهر أن عرب المدينة من الأوسيين والخزرج كانوا أقل ثقافة من عرب مكة، فقد كان اليهود المدنيين مسيطرين على الأحوال المالية في المدينة، أما عرب مكة فقد كان منهم كتاب ومعلمون وتجار وأغنياء.
ومن مدنه «الطائف»، وهي بطن من جبل غزوان بشرقي مكة، نزه كثير المياه والفواكه والبساتين، وسكانها من ثقيف، ومن قرى الطائف «وج» و«النخب» و«العرج» و«ليه» و«جلدان» و«عكاظ» و«ذو المجاز» و«مجنة»، وكلها قرى كثيرة النخل والفواكه، وللعرب فيها أسواق مشهورة ومواسم مسماة.
ومن مدنه «خيبر»، وهي مدينة كبيرة كثيرة الحصون والمزارع، قال أبو عبيد البكري: إنها باسم أحد العماليق وأهلها يهود، وكانت لبني غزة بن أسد، ومن قراها المشهورة: «فدك».
ومن مدنه «جدة»، وهي الفرضة الكبرى للقطر، وهي تابعة لمكة المكرمة.
ومنها «الجار»، وهي فرضة حسنة تابعة للمدينة المنورة.
ومنها ينبع، وهي مدينة صغيرة قريبة من الساحل آلت لبني الحسن.
ومنها تبوك، وهي مدينة تجارية حسنة الأسواق.
وفي الحجاز كثير من الجبال أشهرها: «خندمة» و«أجياد» و«أبو قبيس»، و«ثور» و«ثبير» و«عرفات»، وكلها قرب مكة. (1-1) الحالة الدينية
كانت الحالة الدينية في بلاد الحجاز قبل البعثة النبوية متعددة النواحي؛ ففيها الحمس الحنفاء، وفيها المشركون، وفيها الزنادقة، وفيها المعطلون، وكان لكل فريق طقوسه وتقاليده التي أخذها عن رجال دينه وأسلافه، إلا أنهم كانوا جميعا يجمعون على شيء واحد وهو تقديس الكعبة واحترام مشاعرها، فقد جعلوا لها حرما مقدسا يحيط بمكة من دخله كان آمنا، وحده من جهة المدينة دون «التنعيم» عند بيوت بني نفار على ثلاثة أميال، ومن جهة العراق على ثنية جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق «الجعرانة» بشعب أبي عبد الله بن خالد على تسعة أميال، ومن طريق «الطائف» على عرفة، ومن بطن «غرة» على سبعة أميال، ومن طريق «جدة» عند منقطع العشائر على عشرة أميال،
9
وقد كان الناس منذ أقدم عصور «الجاهلية» يقدسون هذه البقعة فلا يسفكون فيها الدماء، ولا يقطعون الشجر والقصب، ولا يطردون الصيد، ولا يقتلون الطير. قال ياقوت: ومن شرفها أنها كانت لقاحا لا تدين لدين الملوك ... ومما زاد في فضلها أهلها ومباينتهم للعرب أنهم كانوا حلفاء متآلفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف، ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب.
10
والحمس هم المتشددون في الدين وحفظ التقاليد الموروثة عن إبراهيم - عليه السلام - وهم: بنو «خزاعة» و«كنانة» و«جديلة قيس»، و«ثقيف» و«عامر بن صعصعة»، وكان من سنة الحمس أن لا يخرجوا أيام المواسم إلى عرفات، وإنما يكتفون بالوقوف عند المزدلفة، ولا يشتكون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة، ولا يغزلون صوفا ولا وبرا، ولا يدخلون بيتا من الشعر والمدر، إنما يكتنون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم إنهم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يخلوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم، إما شرى وإما عارية وإما هبة، فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، وكلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة، وكانت تفيض من عرفة أيام كان الملك في جرهم وخزاعة، وصدرا من أيام قريش، فلولا أنهم أمنع حي في العرب لما أقرتهم على هذا العز والإمارة مع نخوة العرب في إبائها.
11
يقول العلامة الألوسي: كانت قريش ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه وأرادوه، فقالوا عن بني إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وسكانها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعترفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن تخرج من الحرمة ولا تعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس.
12
وقد كانت قريش وبطونها والحمس وقبائلها يقومون بالشعائر الدينية التي كانت تربط جميع من كانوا يقصدون البيت الحرام برباط ديني وثيق على اختلاف قبائلهم، وما ذلك إلا لمكانة مكة وقدسية الكعبة واحترامهم لقريش التي كانت تتمتع بمكانة مرموقة بينهم، وكان للعرب أشهر مقدسة حرم يعقدون فيها الأسواق التجارية حول الحرم، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فكان لا يجرؤ أحد على الإخلال بحرمة تلك الأشهر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن العرب على الرغم من احتفاظهم ببعض الطقوس الدينية الحنيفية الموروثة عن إبراهيم وإسماعيل، فإن الوثنية قد دخلت عليهم وامتزجت بديانتهم، ويقال إن عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من أدخل عبادة الأوثان مع الطقوس الدينية العربية، وإنه نقلها حينما زار الشام، وإنه وضع بعض الأصنام في الكعبة. يقول الشهرستاني في الملل والنحل: «أول من وضع فيه - أي في البيت الحرام - الأصنام؛ عمرو بن لحي لما ساد قومه بمكة، واستولى على أمر البيت، ثم سار إلى مدينة البلقاء بالشام، فرأى قوما يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية، نستنصر بها فننصر، ونستسقي فنسقى. فأعجبه ذلك، وطلب منهم صنما من أصنامهم، فدفعوا إليه «هبل»، فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة.» ويقال إن هبل كان من العقيق على هيئة إنسان، وقد كثرت الأصنام في بلاد العرب عامة وفي الكعبة خاصة، حتى إن المسلمين أخرجوا منها يوم فتح مكة (360) صنما.
13
وكان إلى جانب هؤلاء «نصارى» جاءتهم النصرانية من بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء، وأشهر القبائل التي دخلتها النصرانية: بنو تغلب، وطي، وبعض عرب الحجاز، وقد أثرت النصرانية في البيئة العربية تأثيرات واضحة، وأوجدت بعض الفكرات التي كان لها علاقة بالنصرانية، مثل فكرة اتخاذ الله البنين والبنات، ومثل فكرة الشفاعة والشفعاء، ومثل فكرة الرهبنة وطقوسها.
وكان في العرب نفر من المتهودة كانوا يسكنون في «فدك» و«وادي القرى»، و«تيماء»، و«المدينة»،
14
وقد أثر هؤلاء المتهودة في بعض العرب، فأخذوا عنهم بعض الطقوس الدينية كالختان واعتزال النساء في المحيض، وبعض المعلومات التاريخية والدينية والأخبار والقصص.
وكان في العرب مجوس أخذوا المجوسية عن الفرس في رحلاتهم التجارية إلى فارس، وكان فيهم «الحنفاء» أو «الصابئة» الذين نزهوا أنفسهم عن أوضار الوثنية، واستخلصوا لأنفسهم مذهبا نقيا أخذوه من اليهودية والنصرانية والحنيفية، فكانوا يستقبحون عبادة الأصنام ووأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر والمقامرة، ويؤمنون بوجود إله واحد عادل يحاسب الناس على أعمالهم في يوم القيامة، ومن هؤلاء: أمية بن أبي الصلت الشاعر، وورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعثمان بن الحويرث وغيرهم.
15
وكان فيهم معطلون دهريون يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيى، وما يهلكنا إلا الدهر؛ فأنكروا الخالق سبحانه، ونفوا البعث، ولم يقروا بالحشر، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني.
وكان فيهم زنادقة وثنوية، وكانت الزندقة منتشرة في قريش، قال ابن قتيبة في كتاب المعارف: «وقد كانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة.»
16
والمراد بزندقة قريش أن الزنادقة فيها كانوا ينكرون الحشر، ولا يؤمنون بالآخرة، ويثبتون أكثر من إله، وقد ينكرون الألوهية.
وعلى الرغم من هذا التعدد الديني عند العرب قبل الإسلام، فقد كانوا مشتركين في أمور، وكأنهم قد ورثوها عن أبيهم إبراهيم، فمن ذلك: تعظيم الكعبة - كما أسلفنا - ومن ذلك تقديس الأشهر الحرم، ومنه محافظتهم على طهارات الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم، وهي: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، ومنه الاغتسال من الجنابة، وتغسيل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ورثاؤهم، وصوم عاشر المحرم، والحج، والعمرة، والإحرام، والطواف، ومسح الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والتلبية، وكانوا يقفون المواقف كلها، ويهدون الهدي، ويرمون الحجار وغير ذلك من مشاعر الحج، وكانوا يصلبون قاطع الطريق، ويقطعون السارق، ويحكمون باعتزال الحائض ... وأمور أخرى كثيرة أقرها الإسلام.
17
وهناك أمور دينية أخرى اشترك العرب جميعا في الاعتقاد بها على الرغم من تباين مذاهبهم الدينية، ويمكننا إجمال ذلك في النقاط الآتية:
الملائكة:
اعتقد العرب بوجود الملائكة، وقالوا إنها بنات الله، وإن الله سبحانه قد أصهر إلى الجن فكانت الملائكة بناته منهم، وإنهم أجسام نورانية يرسلها الله إلى الناس رسلا مبشرين ومنذرين، وقد غالى بعض العرب فعبد الملائكة تقربا إلى الله. وذهب آخرون إلى أنهم أجسام كاللات والعزى ومناة، وأنها رموز وهياكل مادية تجسدت فيها الملائكة، وقد أشار القرآن إلى بعض هذه الاعتقادات الجاهلية بقوله:
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ،
18
وقوله:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .
19
الجن:
كان العرب يعتقدون بوجود الجن والمردة،
20
ويزعمون أنهم مخلوقات هوائية لطيفة قادرة على التشكل بما تريد، ويرون أنهم أقوياء يفعلون ما يعجز عنه البشر كأنهم شركاء الله، فخافوهم وعبدوهم، وفي القرآن الكريم والشعر القديم كثير من الأقوال التي تؤيد اعتقاد العرب بالجن، وتبين طرفا من اعتقاداتهم فيهم، ففي القرآن:
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه ،
21
وفيه:
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ،
22
وقال راجزهم:
من قد استعذنا بعظيم الوادي
من شر ما فيه من الأعادي
فلم يجرنا من هزبر عادي
وكان من عاداتهم في «الجاهلية» إذا ركب أحدهم مفازة، وخاف على نفسه من الجن والشياطين أن ينيخ راحلته إلى واد ذي شجر، ويقول: أعوذ بصاحب هذا الوادي أو عظيمه. وقال آخر:
قد بت ضيفا بعظيم الوادي
المانعي من سطوة الأعادي
راحلتي في جاره وزادي
وكانوا يعتقدون أن الجن والشياطين هم أصحاب نفوذ قوي وأعمال عجيبة، وأن لهم صلات ببعض بني الأنس من السحرة والكهان والشعراء، وأنهم كانوا يفعلون الأعمال الخارقة، ويعلمون الأمور المغيبة، وربما سمى العرب الملائكة «جنا» لاستتارهم، كما يسمونهم «حنا» بالحاء، وفي القرآن الكريم والأدب الجاهلي، والخرافات والأساطير الموروثة، كثير من أخبار الجن والشياطين والمردة وأحوالهم واعتقادات العرب فيهم.
23 (1-2) الحالة السياسية
لم يعرف أن الحجاز خضع لحاكم أجنبي طول عهده، ولم يعبث بحريته الملوك الفاتحون، في الوقت الذي عبث فيه كيرش وقمبيز وغيرهما من ملوك الفرس باستقلال كثير من الأمم، كذلك ظل محافظا على استقلاله أيام الإسكندر المقدوني حين أغار على دارا ملك الفرس، وكان من أثر تمتع أهل الحجاز بالاستقلال طول حياتهم أن ظهرت فيهم طبائع خاصة بهم من حيث عراقة أصلهم وشرف أهلهم وآبائهم وشهامتهم التي كانت ولا تزال مضرب الأمثال، ولغتهم التي حافظت على نقائها وصفائها،
24
وكان النظام القبلي يسيطر على الحالة العامة في الحجاز، فكان لكل قبيلة كيانها السياسي المستقل، ولكل قبيلة شيخها وأهل العقد والحل، كما كان لها حكيمها وحكمها وكاهنها وشاعرها، وكان لأهل مكة وقريش بصفة خاصة مكانة مقدسة رفيعة تجعلهم يمتازون عن بقية العرب بأنهم أهل بيت الله وأهل الحكم المسموع في القبائل العربية جميعا. وقد نبغ في العرب قبل الإسلام عدد من العقلاء والحكام والنبلاء الذين فرضوا طاعتهم على القبائل العربية كبني سهم، وبني هاشم، وبني عبد مناف،
25
وكان بنو سهم هم أصحاب الحكومة قبل الإسلام، ويظهر أن المراد بذلك أنهم كانوا أصحاب القول والفصل في المشاكل والخصومات التي تقع بين العرب.
ولما سيطر قصي بن كلاب على مكة نظم أمور البلد ورتب شئونه، وكان حازما داهية، نقل السيوطي عن ابن سعد قال: روي عن عباس أن قصي بن كلاب أول ولد لكعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، فابتنى دار الندوة وجعل بابها إلى البيت، ففيها كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوء بهم تشريفا له وتيمنا برأيه ومعرفة بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره، فكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة كله، وقد قام بأمر مكة بعد قصي ابنه عبد مناف، ثم ابنه هاشم، ثم ابنه عبد المطلب، وفي عهده أراد أبرهة الأشرم الحبشي صاحب الفيل أن يستعمر الحجاز ومكة، فخذله الله ورجع خاسرا عن مكة والبيت الحرام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحادثة بقوله:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .
يذكر المؤرخ الفرنسي سديو أن أبرهة الأشرم الحبشي المتغلب على اليمن أراد فرض سيطرته على الحجاز وسائر الجزيرة، ورأى أن حرمة الكعبة هي التي تجعل العرب أجمعين يخضعون لصاحب مكة، فأراد السيطرة عليه، وقد كاتب قيصر الروم أنه يرى أن يبني كنيسة كبرى في صنعاء فهو يسأله المعونة، وأن يبعث إليه الصناع والعمال والفسيفساء والرخام، فبعث إليه بما أراد - لما كان بينهما من رابطة النصرانية - ولما تم ما أراد كتب إلى النجاشي أنه يريد أن يحول حجاج العرب إلى صنعاء، وبذلك تنحصر تجارة الجزيرة في اليمن، وشاع ذلك بين العرب فثارت حفيظتهم، وخرج رجل من بني مالك بن كنانة فقدم اليمن ودخل كنيسة صنعاء، وعبث فيها، وانتهك حرمتها، وأفسد أثاثها، فلما علم أبرهة بذلك غضب وآلى ليهدمن الكعبة، ثم جرد جيشا يذكر المؤرخ سديو أن قوامه أربعين ألفا، ويقول آخرون بل ستين ألفا،
26
ولما وصل أبرهة المنمس - وهو مكان على ثلثي فرسخ من مكة في طريق الطائف - بعث القائد الأسود بن مقصود فأتى مكة، وأخذ أموال أهلها من قريش وغيرهم، وأصاب مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، فأراد أهلها قتاله، ولكنهم وجدوا أنفسهم ضعافا أمامه، ثم إن أبرهة بعث رسولا اسمه حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد هذا البلد، ثم قل له إن الملك يقول لكم إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم البيت ؛ فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له هو عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فخابره وقال له ما أمره بقوله أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد قتاله وما لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم. فقال له حناطة: فانطلق معي إلى الملك فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه هو وبعض بنيه، فلما أتى المعسكر، وتقابل مع أبرهة، قال لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائة بعير قد أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيحميه. ثم إنه عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن مكة ولا يهدم البيت فأبى، فخرج عبد المطلب حانقا، وجاء إلى الكعبة، ومعه جماعة من قريش، وقال:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا
ثم إن أبرهة صمم على دخول مكة وهدم الكعبة، فسار نحو مكة وعلى رأس جيشه فيله - وكان اسمه محمودا فيما رووا - فلما وجه الفيل نحو مكة برك ولم يتحرك، فضربوه فلم يقم، ثم وجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام فقعد مثل ذلك، فطاش صواب أبرهة، ثم إن الله أرسل عليه وعلى جنده طيرا من جانب البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاثة أحجار يحملها؛ حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، وأخذت الطير تلقيها عليها، فكانت لا تصيب أحدا إلا هلك،
27
فتراجع أبرهة وجيشه، ووقف عبد المطلب على باب الكعبة وهو يقول:
لاهم إن العبد يم
نع رحله فامنع رجالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدوا محالك
فلئن فعلت فربما
أولى فأمر ما بدالك
ولئن فقلت فإنه
أمر تتم به مقالك
وكانت سنة الفيل حدثا تاريخيا كبيرا حفظه العرب، وأرخوا به، ولو أتيح لأبرهة النصر لانتشر دين الأحباش في الجزيرة، وانصرف الناس عن مكة إلى صنعاء، ويأبى الله إلا أن تتم رسالته.
قال الطبري: ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا أهل الله قاتل عنهم الله فكفاهم مئونة عدوهم،
28
والحق أن الحالة السياسية في الحجاز قبل عصر النبي كانت حالة بسيطة غير معقدة، ليس لها ما للدول من مشكلات سياسية أو قضايا دولية، هي حالة قريبة الشبه بالنظام الجمهوري الشوري الذي يعتمد على النظام القبلي، ويحكم البلاد حكما يديره شيوخ قريش ووجوه القبائل الكبرى في الحجاز، وأن هذه القبائل وقريشا كانت تتوارث الحكم، ولعل أبرز هؤلاء الشيوخ في الجاهلية هو: قصي وعبد مناف وهاشم وعبد المطلب وأبو سفيان في مكة، وعبد الله بن أبي في المدينة. (1-3) الحالة الاقتصادية
الحجاز بلد فقير، وصفه إبراهيم - عليه السلام - بقوله:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (سورة إبراهيم: آية 37)، على أن فيه بقاعا خصبة هي يثرب ورياضها، والطائف وضواحيها، ففي هذه البقاع سهول خضرة وبساتين مثمرة وجنات وارفة ونخيل وأثمار وزرع، كما أن فيه مدنا ساحلية اتصلت بالعالم الخارجي، فكثرت تجاراتها، وربت خيراتها. كما أن مواسم الحجاز وأسواقه جعلت منه بقعة تجارية يقصدها العرب أجمعون؛ ليشهدوا منافع لهم، وقد كانت لقريش رحلتان تجاريتان إحداهما: في الصيف إلى الشام، وثانيتهما: في الشتاء إلى اليمن:
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، وقد رأينا سبب حملة أحباش اليمن؛ كانت حملة تجارية الأهداف، فقد رأى أبرهة وصحبه ما لقريش من أثر في حياة الجزيرة العربية الاقتصادية، فأراد تحويل ذلك إلى اليمن وحصره فيه، ولكنه فشل وظلت لمكة خاصة والحجاز عامة سيطرته التجارية ومكانته المالية.
فقد كانت مكة مقر حركة تجارية واسعة تمتد إلى اليمن ومصر والحبشة وسواحل أفريقيا، كما تسير إلى الشام والعراق وفارس والمشرق البعيد، وكان تجار مكة يذهبون بالبضائع ويجيئون بالسلع، وقد كان بنو عبد مناف جميعا يهتمون بشئون التجارة والاقتصاد، والمورخون يذكرون أن هاشما كان يتوجه إلى الشام، وعبد شمس كان يقصد الحبشة، والمطلب كان يتاجر إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش الآخرون يختلفون مع بني عبد مناف إلى هذه البلاد ولا يتعرض لهم أحد بسوء،
29
وكل واحد منهم يأخذ من البلد الذي يقصد بلاده أمانا له ولقومه، فكان عملهم هذا أشبه بالمعاهدات التجارية بين أمراء مكة وتجارها وبين ملوك تلك الأقطار، وقد كانت هذه التجارات احتكارا للقريشيين؛ لمكانتهم ووجاهتهم عند العرب أجمعين، ولأن أراضي الجزيرة وعرة صعبة المسالك لا يتيسر ورودها على من ليس أهلها، فلذلك لم ينافسهم أهل تلك الديار من فرس وروم وأحباش فيها، وقد أثرت قريش بهذه التجارات إثراء عظيما، ومن أشهر من عرف بذلك: أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، وعبد الله بن جدعان، وخديجة بنت خويلد ... وغيرهم، وقد كان كثير من الناس يوفدون عنهم من يتاجر بأموالهم إذا هم لم يقدروا على ذلك، أو كن نساء، كما فعلت السيدة خديجة في إرسال النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة متاجرا بأموالها، وقد كانت قوافل القرشيين معروفة في البلاد التي تمر بها كما كانت محترمة المكانة مرهوبة الجانب؛ لمكانتهم الاجتماعية، وحمايتهم للكعبة التي يقصدها العرب أجمعون، وكانت لهذه القوافل محطات في كل من الأمكنة التي كانوا يقصدون في غزة هاشم وحوران ودمشق وبيت المقدس في الشمال، وصنعاء وعدن وعمان وحضرموت في الجنوب. أما البضائع التي كانوا يتاجرون بها فهي: التوابل والطيب والبخور والمنسوجات الحريرية والأسلحة والجلد، يأتون بها من موانئ عمان وأسواق الحبشة وأفريقيا وصنعاء إلى بلاد الشام التي كانوا يأخذون منها الحبوب من القمح والشعير وزيت الزيتون والأخشاب والفواكه والمصنوعات النحاسية والحديدية والزجاجية. كانوا يشترون من الموانئ اليمنية بضائع الهند والصين وغيرهما من أقطار أقصى المشرق، وأهمها: المنسوجات الحريرية، والمعادن النفيسة، والحجارة الكريمة، والتوابل، والعاج ، وقد استفادت قريش من هذه التجارات فوائد جليلة مادية ومعنوية؛ أما المادية: فجعلتهم ينعمون بحياة رخصة رخية، وأما المعنوية: فجعلتهم أصحاب ثقافة وأفق عقلي واسع، ولا غرو فإن مخالطتهم لأرباب تلك المتاجر من روم وفرس وأحباش وأنباط وهنود وصين وغيرهم من أرباب الحضارات القديمة والعلوم العريقة قد جعلتهم أوسع مدارك من غيرهم، وأعظم مفكورات، وأجل نظرات، كما جعلتهم على اطلاع واسع بكثير من آداب التجارة والسياسة وأنظمة العلاقات التجارية، كما عرفتهم بكثير من أحوال المكاييل والموازين، ودقائق علم الحساب التجاري.
ثم إن يهود الحجاز قد لعبوا دورا تجاريا هاما في الحياة الاقتصادية الحجازية؛ فكانت لهم مزارع وحصون وآطام وقصور وثروات، وكانت لهم متاجر ومصارف وحوانيت ومصانع، وكان منهم الصناع والصياغ والصياقلة والحدادون والنجارون وغيرهم من أرباب الحرف، ولا شك في أن هذا كله قد رفع من مستوى الحجاز الاقتصادي، وجعل أهله يتمتعون بحياة رخصة وحركة اقتصادية نشيطة، وقد عرف العرب في الحجاز كثيرا من ضروب المتاجرة؛ من الصيرفة والربا والنسيء والتطفيف في البيع والحيل التجارية، ولا شك في أن العرب قد أخذوا كثيرا من هذه الأمور عن اليهود المقيمين بين ظهرانيهم أو من تجار الشام والعراق واليمن ومصر حينما كانوا يرحلون إليها متاجرين، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الأمور، وإلى تحريم الإسلام إياها، وتهديد من يتعاطاها من المسلمين.
وكما كانت التجارة مزدهرة فكذلك كان شأن الصناعة والزراعة، أما الصناعة: فقد ورد في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم أشياء كثيرة عن صناعات العرب وحرفهم، وتفننهم في بعض أنواعها؛ من نسيج ونقش وحدادة وصياغة وبناء وتجارة ودباغة ... وما إلى ذلك، قال تعالى:
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (سورة النحل: 80)، وقال:
يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك (سورة الكهف: 31)، وقال:
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات (سورة سبأ: 13).
وأما الزراعة: فقد كانت في المدينة والطائف وخيبر وما إليها، وكانوا يعنون بالزروع والكروم والنخيل والفواكه والبقول وغير ذلك مما أشار إليه الشعر الجاهلي والقرآن، ولا غرو فإن للجوالي اليهودية ورحلات العرب إلى الشام واليمن وغيرهما من الأقطار الزراعية أثرا كبيرا في تقدم الزراعة الحجازية، وقد أشار ابن هشام في السيرة إلى أن بعض أهالي العراق كان يعمل في بستان أحد زعماء الطائف،
30
وقد يكون هناك آخرون غير هذا يعملون في حدائق الحجاز وبساتينه. (1-4) الحالة الاجتماعية
إن معلوماتنا عن الحياة الاجتماعية في العصر الذي سبق البعثة المحمدية يمكن استقاؤها من الشعرين الجاهلي والإسلامي، والقرآن والحديث، ويمكننا إجمال تلك الحياة بالأمور الآتية:
العصبية القبلية
فقد كان الفرد متعصبا لقبيلته في البادية والحاضرة، وكانت القبيلة شديدة التعصب لأفرادها، وقد استمرت هذه الروح التعصبية في الإسلام على الرغم من محاولة الرسول
صلى الله عليه وسلم
القضاء على التعصب القبلي الأعمى الذي كان يسيطر على الحياة الاجتماعية أملا في إيجاد وحدة أممية مشتركة بين المسلمين بقطع النظر عن مصلحة القبيلة أو العشيرة أو البطن أو الفخذ، قال تعالى:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض (سورة الأنفال: آية 72)، وقال:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين (سورة التوبة: آية 11)، وفي القرآن والحديث أقوال كثيرة تنهى المسلمين عن العودة إلى العصبية القبلية الجاهلية المقيتة، وقد استطاع الرسول وخلفاؤه الراشدون؛ وخصوصا أبا بكر وعمر أن يقصوا العرب عن هذه الروح، ولكن هذا لم يدم طويلا، فرجع الوضع إلى ما كان عليه في الجاهلية بعدهما.
كان العرب في الجاهلية يعتبرون القبيلة هي المرجع الأساسي الذي يرجعون إليه في الدفاع عن حقوقهم، والاستنصار على عدوهم، والتعاون على أعداء بني قبيلتهم سواء كان محقا أو مبطلا، ولم يكن الدين ليحول بين هذا التناصر، ولما قدم الرسول بدعوته نصره كثير من قرابته لا لأنهم آمنوا به وصدقوه في دعوته حقا بل انتصارا له؛ لأنه فرد من أفراد قبيلتهم، وبذلك استطاع أن يبقى في مكة على الرغم من شدة خصومه عليه، وكان شذوذ عم النبي
صلى الله عليه وسلم
عبد العزي الملقب بأبي لهب شذوذا فرديا، على أن ابن هاشم يروي أن أبا لهب قد ثارت عصبيته لأخيه أبي طالب، وهدد زعماء قريش بأنه سينضم إلى أخيه إذا هم لم يحترموا شيخوخته وجواره، وأنه جاء إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم
بعد موت أبي طالب، وقال له: امض لما أردت، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، وحلف له بأنه لا يوصل إليه حتى يموت،
31
وقد أقر الإسلام بعض تقاليد الجاهلية التي تمت إلى العصبية القبلية بسبب، فمن ذلك أنه أبقى لولي القتيل حقه في طلب دم صاحبه؛ قال تعالى:
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (سورة الإسراء: آية 33)، ولا يشترط في هذا الولي أن يكون ابن القتيل أو أخاه أو من ذوي قرباه، بل ربما كان شيخ القبيلة، أو رئيس العشيرة، ومن ذلك حق «العقل»، وهو توزيع دية القتيل على القبيلة بسبب الصلح أو القضاء، كما أن مستحقي حق العقل هم الذين يجب عليهم الدفع فيما لو انعكست الآية، ومن ذلك بعض حقوق الميراث وحقوق أولي الأرحام واليتامى والمساكين في الأسرة، وقد كانت للعصبية القبلية درجات يتلو بعضها بعضا، فأولها العصبية للأسرة، ثم العصبية للقبيلة، ثم العصبية للأحلاف؛ أما العصبية للأسرة: فقد رأينا بعض أحوالها فيما سبق، وأما العصبية للقبيلة فتتجلى في أن أفراد القبيلة الواحدة تتضامن أمام القبائل الأخرى في الحروب أو المصالح المشتركة، وتتعاون في المغانم والمغارم، وأما العصبية للأحلاف: فهي أن يتعصب الفرد لأحلاف قبيلته، فيحارب معهم ويتعاون وإياهم ويتحمل تبعة أعمالهم، ومن أمثلة ذلك ما يروى من أن بعض يهود المدينة كانوا أحلافا للأوس وبعضهم كان أحلافا للخزرج، وكان كل فريق ينصر حليفه، وقد استمر هذا إلى ما بعد الإسلام، وإليه الإشارة في الآية:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء (سورة آل عمران: آية 28)، وتحالف اليهود مع قريش ضد النبي فكونوا حزبا واحدا مقابل الجبهة الإسلامية.
وقد كان لهذه الأحلاف والأحزاب طرق متبعة في عقدها وفي فسخها، ومما يلحق بالعصبية القبلية عصبيات أخرى يمكننا إجمالها فيما يلي: عصبية الولاء، وعصبية الجوار، وعصبية الأجيال، أما عصبية الولاء: فهي أن يلحق فرد أو بطن أو فخذ أو قبيلة بقبيلة أخرى فيكونون مواليهم، ويقطعون صلاتهم بقبيلتهم السابقة ، وليس هذا الولاء كولاء الرق والعبودية، ولكنه ولاء الاستنصار والاعتزاز والتقوى، وقد كان لهؤلاء الموالي كافة الحقوق التي للقبيلة، وأما عصبية الجوار: فهي أن يلتحق فرد أو بطن ضعيف بآخر قوي، ويستجير به، ويطلب حمايته، ودفع الظلم عنه، فإذا قبل المستجار ذلك أعلنه في المواسم على الأشهاد، وأصبح المستجير في حمى المجير كأنه فرد من أفراد عشيرته، ويظل حق الجوار محفوظا إلى أن يتخلى المستجير عنه على الملأ، وأما عصبية الأجيال: فهي التعصب للتقاليد والموروثات التي وصلت إلى الأخلاف عن الأسلاف من أمور الدين والدنيا وتقاليدها، وقد تجلى هذا واضحا في عزوف كثير من عرب الجاهلية عن الدعوة الإسلامية لبعض التقاليد الموروثة لا غير، ولما قوي أمر الإسلام ودخل العرب في دين الله، وجاء نصر الله والفتح؛ أبقى الرسول جزءا من هذه التقاليد التي كان يتعصب لها العرب؛ لتغلغلها في النفوس من جهة، وعدم معارضتها للمبادئ الإسلامية الرئيسية كبعض تقاليد الحج من رمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة واستلام الحجر الأسود وتقبيله والوقوف بعرفة، وذبح الضحايا والقرابين وتحريم لبس المخيط وتحريم الصيد، ومن تقاليد الأجيال التي نص عليها الإسلام؛ حرمة الأشهر الحرم، والإبقاء على الرضيعة، والتسري بالإماء بدون تحديد، والزواج بأربعة نساء.
ومما حرمته من تقاليد الأجيال: الزواج بامرأة الأب، والجمع بين الأختين، والزنا، والسفاح، والمخادنة، وطواف العاري حول الكعبة، والذبح على الأنصاب والأزلام، واعتزال النساء في المحيض، ودخول الرجال إلى بيوت النساء بدون إذنهن، والتبرج وكشف الزينة لغير المحارم، والتبني.
أحوال الأسرة
كان الرجل هو القائم بأمر الأسرة، وصاحب المنزلة الممتازة فيها، والمسئول عن أسباب الحياة والمعيشة والحماية لها، وهو الذي يعول الأهل والمحارم، وهو المسئول عن حفظ كيان الأسرة، أما المرأة فهي ثانوية المكانة عليها القيام بخدمة البيت وربه وأولاده، ولم تكن حالتها حسنة ولا حقوقها مصانة إلا قليلا، وكانت مغبونة في المواريث والحقوق والمكانة، قال تعالى:
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء (سورة الأنعام: 139)، وقال:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (سورة النحل: 58-59)، وفي القرآن والشعر الجاهلي شواهد تبرهن عن سوء حالة المرأة، وعلى وأد البنات، وحرمانهن حقوقهن في الحياة والمال والمكانة، على أن هذا لا يمنع من بروز بعض النوابغ منهن ممن أوتين بسطة في العقل والجسم؛ ففرضن احترامهن على الرجال ولمع اسمهن في البيئة العربية من الحكيمات والشواعر والنبيلات.
وهناك أمور تتعلق بأحوال الأسرة في العصر الجاهلي، نجملها في النقاط التالية: (1)
الزواج والنكاح: كان للعرب طرق للازدواج «منها»: أن يخطب أحدهم الفتاة إلى وليها، فإن قبلوا به زوجوه على مهر مسمى، وهذا هو الطريق المتعارف، وهو الذي أقره الإسلام، و«منها»: أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من حيضها: اذهبي إلى الشريف فلان واستبضعي منه، فتذهب إليه ولا يقربها زوجها حتى يتبين أنها حملت، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، و«منها»: أن يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة، فإذا حملت ووضعت سمت من أحبت أن تلحق ولدها به وتصبح له زوجا، و«منها»: أن يأتي الرجال بعض ذوات الرايات - وهن البغايا - فإذا ولدت ذهبت إلى القائف فألحق ولدها بالذي يراه شبيها بأبيه، و«منها»: أن يتبادل الرجلان زوجتيهما، فيتنازل الواحد للثاني وتصبح زوجته، و«منها»: أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوج أخته أو ابنته مقابل ذلك بلا مهر، وهو المسمى: نكاح الشغار ،
32
و«منها» نكاح المتعة؛ وهو زواج مؤجل ... وقد حرم الإسلام هذه الأنكحة كلها، واعتبرها من الفواحش، وكان العرب في الجاهلية يحرمون نكاح الأمهات والبنات والخالات والعمات، وقد كانت للجاهليين أحوال في زواجهم «فمن ذلك»: التماس الأبكار والشواب والأصيلات والجميلات، و«البعد» عن زواج الأقارب الشديدات القرابة:
فمن لم تلده بنت عم قريبة
فيضوى وقد يضوى رذيل الأقارب (2)
الطلاق والفراق: كانت عقدة الزواج بيد الرجل، يمسك المرأة إن شاء ويسرحها متى شاء، وكان بعض الأزواج يتخذون ذلك وسيلة إلى ابتزاز الأموال من النساء والتنازل عن حقوقهم المفروضة، كما كان منهم من «يظاهر» زوجته فيقول لها: أنت علي كظهر أمي؛ فتحرم عليه مجامعتها ولكنها لا تطلق، ويظهر أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا ولدت المرأة بنتا، وأنهم لا يريدون أن تتزوج المرأة بعدهم برجل آخر، ومنهم من كان «يهجر» زوجته إذا ما أتت بعمل لا يرضيه، وكان من عادة عقلاء العرب وحكمائهم في الطلاق أن يجعلوه ثلاثا متفرقات، ويقولون إن إسماعيل - عليه السلام - هو أول من فعل ذلك، ومن عاداتهم في ذلك «الخلع»؛ وهو فراق الزوجة على مال يأخذونه منها، وقد أقره الإسلام؛ لأنه من نوع من الشرط، ومن عاداتهم «الإيلاء»؛ وهو الحلف على ترك قربانها مدة، قال ابن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء،
33
وكانت النساء في الجاهلية تعتد من الطلاق والموت، وكن يبالغن في احترام حق الزوج القديم، وكانت المرأة إذا مات زوجها تربصت سنة بشر ثيابها وحفش بيتها ولم تمس طيبا ولا ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا، وقد جعل الإسلام العدة أربعة أشهر وعشرا، ومن العادات الذميمة التي كان العرب في الجاهلية يفعلونها وحرمها الإسلام؛ أنهم كانوا إذا قرب موعد عدة الطلاق «راجعوهن» لا عن حاجة ولا لمحبة؛ بل لقصد تطويل مدة العدة، وتوسيع مدة الانتظار؛ إضرارا بهن، وكان أحدهم يطلق أو يتزوج ثم يقول: عدلت عن هذا، أو إني كنت أمزح أو ألعب ، فحرم الإسلام ذلك، وفي الحديث النبوي: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة.» ومن عادات أشرافهم أنهم كانوا يمنعون مطلقاتهم أن تتزوجن بعدهم من آخر، وقد حرم الإسلام هذا الأمر إلا لنساء النبي
صلى الله عليه وسلم . (3)
البنوة: كان العرب في الجاهلية يرعون حق البنوة؛ لأنه حق طبيعي بشري، قال قائلهم: وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض، ولكنهم كانوا يفضلون في الغالب الذكور على البنات، كما كان منهم من يقتلون أولادهم ويئدون بناتهم خوف الفقر والعار، قال تعالى:
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (سورة الأنعام: 151)، وقال تعالى:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت (سورة التكوير: 8-9)، وكان من عاداتهم استرضاع أبنائهم في البوادي؛ ليتاح لأطفال المدن وأبناء سراتها أن يعيشوا في جو البادية الصافي الصحيح الفصيح، قال تعالى:
وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم (سورة البقرة: 233)، كما كان من عاداتهم أن لا يستعجلوا في فطم أبنائهم، قال تعالى:
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة (سورة البقرة: 233)، ومن عاداتهم: التبني، وهو أن يستلحق الرجل ابن غيره بنسبه، فيصبح بمثابة ابنه فيرثه ويعطى كافة الحقوق، وقد تبنى الرسول
صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة فصار يدعى زيد بن محمد حتى قال الله:
وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم (سورة الأحزاب: آية 4-5). (4)
الميراث: لم يكن للعرب نظام محدود في الميراث يعرف به صاحب كل سهم مقدار حصته؛ فالزوجات والبنات والأخوات لم يكن لهن حق في الميراث تبعا للقاعدة العامة في حقوق المرأة الجاهلية، وكان الأولاد هم أول من يستولي على التركة، ثم الأجداد والأعمام وذوو القرابة وأخيرا النساء، على أن وصية الميت كانت تلعب دورا خطيرا في الأمر، وصاحب المال هو أحق الناس به يوزعه كيفما شاء، ولكن الورثة قد لا يقيدون بالوصية، فيتصرفون كيفما يشاءون، وسبب ذلك كله: هو عدم وجود الوازع الديني والقانوني، ونحن إذا ما تتبعنا آيات الميراث في القرآن نخلص إلى ما أسلفنا.
الحج
ذكرنا بعض شئون الحج في الفصل الخامس بالحياة الدينية، ونتوسع هنا في بيان أحوال الحج، ومناسكه، وتقاليده؛ لأنها تتعلق بالحياة الاجتماعية تعلقا قويا، لأن الحج لم يكن مقصورا على طائفة بعينها أو نحلة مخصوصة؛ وإنما كان للعرب أجمعين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وكانوا يتخذون موسمه فرصة للاجتماع والاتجار والتعارف والتشاور والتفاخر والتناصر والتناصح وحل المشكلات، وكان العرب أجمعون يقصدون مكة يمارسون مناسك الحج، ويشهدون منافع لهم مشاة ورجالة، نساء ورجالا، وكان لمكة وحرمها قدسية عامة عندهم كما كان لأهلها مكانة خاصة عندهم؛ لمجاورتهم البيت الحرام، وكان أهلها بالمقابل يحسنون إلى الحجاج، ويكرمونهم؛ لأنهم ضيوف الله، وكان الحجاج يحرمون على أنفسهم أعمال الشر والفسوق والرفث والجدال في الموسم، وكانت أشهر الحج هي: شهر شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، وقد ابتدع العرب بدعة إنساء أشهر الحج؛ أي تأخيرها أو تحريم بعضها وتحليل بعضها؛ فتارة يصبح شهر ذي القعدة مكان شهر ذي الحجة، وشهر ذي الحجة مكان المحرم، والمحرم مكان صفر، أو يصبح شوال مكان ذي القعدة، وقد حارب الإسلام هذه البدعة فقال:
إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله (سورة التوبة: آية 37).
وأجل شعائر الحج: الإحرام وخلع المخيط والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعرفة أرض منبسطة محاطة بجبال يقف فيها الناس يصلون ويكبرون ويدعون الله سبحانه ويستغفرونه، ويخطبهم رئيس الموسم فيعلن ما يريد إعلانه، وينسئ إذا أراد النسيء،
34
ثم يفيض الناس من عرفات إلى المزدلفة، ويظلون هناك إلى الفجر، ثم يفيضون إلى منى، وهاتان الإفاضتان قد أبقاهما الإسلام، وكان الحمس يرون لأنفسهم امتيازا على سائر الحجاج فلا يفيضون من حيث أفاض الناس، ويكتفون بالوقوف بمزدلفة، وقد حرم الإسلام ذلك، وأمرهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس (سورة البقرة: آية 198-199).
ومن التقاليد الجاهلية التي أقرها الإسلام؛ رمي الجمرات بالحصى في منى بعد الإفاضة من عرفات والمشعر الحرام، والجمرات هي ثلاثة أمكنة: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة، ويجب على الحاج أن يرميها في ثلاثة أيام، ففي كل يوم سبع حصي، ثم ينصرف من مكة إلى منى، وسبب ذلك فيما نقلوا: أن إبراهيم - عليه السلام - فعله ليرمي الشيطان الذي جاء ليشوشه على المناسك.
ومن أجل مناسك الحج: الطواف حول الكعبة في أوقات متعددة؛ منها طواف القدوم أو التحية - والواجب على كل قادم إلى مكة أن يطوف حولها طواف التحية سواء أكان في موسم الحج أو غيره، ويسمى طواف غير الموسم «العمرة» - ومنها: الطواف قبل الوقوف بعرفة، ثم الطواف بعد ذلك، وهو دوران الحاج سبعة أشواط حول الكعبة يبدأ كل شوط من ركن الحجر الأسود، فيستلم الحجر ثم يطوف بها، و«الحجر» هو حجر من النوع الصواني اللامع، تذكر العرب أنه نزل من السماء، وإذا أتم المرء أداء المناسك المشار إليها تحلل من إحرامه بذبح هديه إلى الله تعالى، ثم يقص شعره، ويلبس المخيط، وأقر الإسلام ذلك كله.
ومن تقاليد الحج: «الطواف» بين الصفا والمروة، وهما هضبتان قريبتان من الكعبة تبتعدان عن بعضهما نحو أربعمائة متر، وكان للجاهليين عندها أصنام يقربون لها القرابين عندهما، وقد أبقى الإسلام هذا الطواف، وعده من شعائر الله.
ومن تقاليد الحج: «إهداء» البدن والهدي إلى الله، ومن تقاليده: «تحريم الصيد» حالة الإحرام، وتحريم القتال في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والأشهر الثلاثة الأخيرة هي أوقات الحج، وأما رجب فهو شهر مقدس عندهم، واسمه مشتق من الترجيب؛ أي من التقديس، وقد كان لهم فيه عيد يحتفلون به، وكانت مضر أكثر العرب احتفالا به حتى سمي «رجب مضر»، وقد أقر الإسلام هذه التقاليد، وحفظ لهذه الأشهر حرمتها.
وأرى قبل أن أنتقل من الكلام عن الحج أن أبين بإيجاز طقوس الحج الإسلامي؛ ليتبين القارئ هل كانت ثمة فروق بين الحج في الجاهلية والحج في الإسلام، قال المسلمون: إن الحج واجب في العمر مرة على كل مسلم أو مسلمة حر بالغ صحيح مالك للنصاب، وله فروض وواجبات وآداب؛ أما فروضه، فهي: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة، وأما واجباته: فالوقوف بمزدلفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وطواف الصدر والحلق، وأما آدابه فما عدا ذلك. وكل من يريد الحج عليه بالإحرام؛ وهو دخول الحرم المكي في الموسم، ولبس إزار ورداء طاهرين غير مخيطين، وأن يتقي الرفث والفسوق والجدال وقتل الصيد والتطيب وقلم الأظفار وقص الشعر، ويكثر التلبية وإذا دخل مكة كبر وهلل واستقبل الحجر الأسود واستلمه ثم طاف طواف التحية، ثم يصعد نحو الصفا ويدعو ربه، ثم يسعى نحو المروة فيصعدها ويدعو بفعل ذلك سبع مرات، ثم يسكن بمكة محرما، ثم يطوف بالبيت نفلا متى شاء، وفي ثامن ذي الحجة يخرج إلى منى فيمكث إلى فجر يوم عرفة، ثم يذهب إلى عرفة في اليوم التاسع، وعند الغروب يأتي المزدلفة، فإذا أسفر الصبح أتى منى ورمى جمرة العقبة بسبع حصوات، وكبر لكل حصاة، ثم حلق شعره، وحل له كل شيء إلا النساء، ثم يطوف طواف الصدر فطواف الزيارة بعد طلوع فجر يوم النحر، وبه تحل له النساء، ثم يأتي منى ويرمي الجمرات الثلاث بسبع حصوات بعد زوال ثاني يوم من أيام النحر، ثم يأتي مكة فيطوف طواف الوداع، وهكذا ينتهي.
فأنت ترى أن الإسلام قد أبقى على كثير من التقاليد التي كان العرب يفعلونها قبل الإسلام، وذلك مما توارثوه عن أبيهم إسماعيل، كما أنه ألغى ما اخترعوه مما لا أصل ديني له.
القضاء
ليست لدينا معلومات وافرة ثابتة عن أحوال القضاء والخصومة لدى العرب في العصر الذي سبق عصر النبي، وإنما نستطيع أن نفهم من بعض الأخبار المنشورة في تاريخ الجاهلية القليل المضطرب، وشعرها، وبعض نصوص القرآن وحكاياته لأحوال القوم قبل عصر الإسلام؛ أن الناس كانوا يتحاكمون في حل مشكلاتهم القضائية والجنائية إلى قضاة سمتهم البيئة العربية إلى هذا المنصب؛ لما امتازوا به من علم وعقل وحكمة وحنكة، وقد كان هؤلاء الحكام الحكماء يقضون في القضايا الحقوقية والقضايا الاجتماعية من ميراث ونكاح وديون وديات ودماء وأموال وأنساب ومفاخرات ومناظرات، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من قضاتهم وحكمائهم وحكيماتهم، أمثال: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، وجمعة بنت حابس، وخصيلة بنت عامر.
نظام الطبقات الاجتماعية
العرب ديمقراطيون لطبيعة البداوة، ولكن هذا لم يمنع من وجود نظام طبقي، فهناك طبقة الأرقاء، وطبقة الموالي، وطبقة العامة، وطبقة الأشراف، وطبقة الحمس، وطبقة الحكام، وطبقة الزعماء، أما الأرقاء: فهم العبيد والإماء المسبيون أو المجلوبون، وكانوا يعاملون بقسوة، وقد أبقى الإسلام الرق، ولكنه دعا إلى رحمته وفك رقبته، وأما الموالي: فهم طبقة من العرب المستضعفين الذين التجئوا لبعض القبائل القوية كما أسلفنا، وأما العامة: فهم سواد الأمة العربية كالرعاة والعمال والزراع، وأما الأشراف: فهم الرؤساء والشيوخ والسراة، وقد كانت لهم الوجاهة على الطبقة العامة، ولهم تمثيلها في النوادي والمجالس، ولهم الحقوق والمزايا التي توارثوها كابرا عن كابر، وأما الحمس أو الأحماس: فهم رجال كانوا من أشرف القبائل العربية توارثوا عن آبائهم بعض الخصائص الدينية، فترفعوا عن الناس في المواسم الدينية في مكة والطائف في الطواف والإفاضة والإنساء، وأما طبقة الحكام: فهم عقلاء القبائل وحكماؤها وقضاتها يدين الناس بفضلهم وعقلهم، ويخضعون لحكوماتهم وأمرائهم، ويقدمون إليهم الهدايا والعطايا، وأما طبقة الزعماء: فهم السادة الأعلون توارثوا زعامة قبائلهم، وفرضوا طاعتهم على قبيلتهم وعلى أحلافهم، وذاع صيتهم في الجزيرة العربية. (1-5) الحالة العقلية
مقدمة
إن معلوماتنا عن الحركات العقلية في «الجاهلية» هي معلومات ضئيلة لأسباب كثيرة، «منها»: أنه لم يصلنا أي أثر مكتوب موثوق عن ذلك العصر، وعن مدارك أهله في النواحي العقلية أو العلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحكم المنثورة التي لا تغني كثيرا في هذا الباب، «ومنها»: أن كل من كتبوا عنه من المسلمين أو أكثرهم صوروا ذلك العصر صورة قبيحة مغرقة في الجهالة؛ ليبينوا فضل الإسلام، وعمق أثر الحركة الإسلامية، «ومنها»: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على علوم الأركولوجيا والأتتوغرافيا والفيلولوجيا لم توجد بعد، «ومنها»: طول العهد وامتزاج التاريخ العربي بالأساطير والخرافات، مما جعل تمييز الصحيح من المدخول أمرا عسيرا، «ومنها»: أن كتابات المستشرقين كتابات لم تخل من الغرض - ككتاب المسلمين - ولم يكتب من كتب منهم في هذا الموضوع إلا وهو مغرض، وعلى رأسهم كاتبان: وغولدزبير وماسينيون وديمومبين وغيرهم من أعلام المستشرقين؛ لهذا كله أرى أن القرآن هو خير ما يمكن الاعتماد عليه - الآن - في تبيين الحياة العقلية قبل البعثة النبوية عند العرب قبل الإسلام، كما أرى أن نتريث الآن في أحكامنا على تاريخ العرب قبل الإسلام إلى أن توجد الأدلة والبحوث الصحيحة، ونكتفي الآن بدراسة القرآن والتنقيب داخل سطوره وتحتها، والاستعانة بما نقل إلينا من شعر الجاهلية وشعر صدر الإسلام؛ لأنه قوي الارتباط «بالجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها، وسيرى القارئ لهذا البحث أن أكثر الصور التي صورها المؤرخون والباحثون «للجاهلية» هي صور مغلوطة خاطئة، وإن من الجناية على الحقيقة والتاريخ أن نسمي هذا العصر «بالجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن «الجهل» و«الجهالة».
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل البروفسور كولذريهم في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»،
35
ومثل «البرنس كابتاني» في كتابه «سني الإسلام»؛
36
إلى أن نمو الإسلام وتكونه متأثران تأثرا عميقا بالأفكار والآراء الهيلينية، وأن نظامه التشريعي متأثر بالفقه الروماني، وأن تصوفه وفلسفته ليس إلا تمثلا لتيارات الأفكار الهندية والأفلاطونية الحديثة، وأن الإسلام قد صهر ذلك كله، وأخرج للناس مجموعة أفكار نشرها بين الناس باسم دين جديد. ويغالي كولدزيهر فيقول: إن تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية أو المسيحية وغيرها التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه ... لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه، وأدرك بإيحاء قوته التأثرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا، وأصبح - بإخلاص - على يقين بأنه أداة لهذا الوحي.
37
ويقول المستشرق الفرنسي البارون كارا دي فو: «يرى المسلمون أن التشريع الإسلامي - الفقه - ذو علاقة قوية بالدين، بل هم يذهبون إلى أنه جزء منه، وأن الفقه مأخوذ كله من الوحي - أي القرآن - كسائر أجزاء الدين، ولما كان في القرآن شيء من الإيجاز فقد عمدوا إلى توضيحه بالآثار - أي بسنة النبي والصحابة والتابعين - هذه هي النظرية الأساسية، وبناء عليها ذكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه بعد القرآن والآثار الإسلامية من غير إشارة إلى أصولها الأجنبية قط. وهذه النظرية لا تثبت عند النقد، وإذا قرأ إنسان بعض آيات الأحكام، ثم قرأ صحيفتين من أصل مبسوطات الفقه رأى الفرق الواضح بين الاثنين، فذلك نص ساذج عليه مسحة البداوة، وهذا تحليل منطقي علمي دقيق عليه آثار الثقافة، ذاك شبه مسودة جافة بالية قائمة في الصحراء، وهذا بحث ممحص معقول متسق مع التطور المدني. هاتان هما حالتا الإسلام اللتان ينبغي شرحهما، فمن أين جاءت قوانين القرآن؟ ومن أين جاءت قوانين الفقهاء؟ ... ولست أريد أن أنكر - بادئ الرأي - طرافة القرآن، ولكني لا أرى مساغا من الإشارة إلى أن تلك القوانين الفقهية متأثرة بالتلمود والقانون المسيحي، وقد تكون بقايا العادات العربية القديمة قد وجدت لها منفذا في بعض الأحوال.»
38
وهناك أقوال لمستشرقين آخرين، أمثال: ديموين في كتابه: «النظم الإسلامية»، وكولدزير في مقاله عن الفقه الإسلامي في دائرة المعارف الإسلامية، وساتتلانا المستشرق الإيطالي في مشروعه للقانون المدني التونسي الذي وضعه سنة 1899، وفون كرامر في «مباحثه الإسلامية» وواضح من هذه الأقوال أن روح التعصب المقيت السخيف قد أملتها؛ لأن صلات النبي
صلى الله عليه وسلم
وصحابته - رضي الله عنهم - باليهود والنصارى لم تكن صلات قوية بحيث يتدارس النبي وصحابته مع اليهود والنصارى، ويفيدون منهم هذه الفوائد العقلية التي تجلى أمرها في القرآن والحديث والآثار، ثم إن يهود الجزيرة ونصاراها كانوا يهودا مستعربين أو بداة، يعيشون مثل معيشة العرب ويفكرون مثل تفكيرهم، ولم يكونوا أرقى منهم مستوى ولا أفضل منهم درجة، وإذا قرأنا الشعر اليهودي العربي الذي خلفه يهود الجاهلية أو صدر الإسلام نرى أنه شقيق الشعر العربي الذي قاله العرب في أفكاره وألفاظه ومعانيه، وفي هذا دليل على أن القوم - من عرب ويهود بل ونصارى - كانوا على صعيد فكري واحد، وإن تمسك اليهود والنصارى بدينهم ولم يكن تمسكا مشينا ولا معرفتهم بدينهم إلا معرفة ضحلة، وإلا ظهر ذلك في أقوالهم وأشعارهم وحكمهم.
هذه مذاهب المستشرقين في تبيين العقلية العربية الإسلامية، ولم يفكر واحد منهم بدراسة أوضاع العرب قبل الإسلام، والفحص عن حالتهم العقلية ومستواهم الفكري، وإنه من المعقول جدا أن يتأثر النبي
صلى الله عليه وسلم
وكبار صحابته ببيئتهم العربية قبل أن يتأثر بالبيئات الأجنبية الغريبة عنهم؛ لهذا كله نرى أن من واجب الباحثين أن ينصرفوا إلى دراسة عصر ما قبل الإسلام؛ ليبينوا حقيقة ما كان عليه القوم والدرجة الثقافية والعقلية التي كانوا عليها. إن أركان الدين المحمدي هي خمسة: الشهادة بالتوحيد، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
أما التوحيد: فقد عرفه العرب في الجاهلية لا خاصتهم فحسب مثل: خالد بن حسان العبسي الحكيم المتأله (40 ق.ه)،
39
وأكثم بن صيفي الواعظ الراشد (9ه) ... بل عامتهم، وليس هذا بالقول العجيب؛ فإن الحقيقة التي جاء بها إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - والنبي تقول بتوحيد الله، وتصفه بالكمال والجلال والقدرة، وغير ذلك من صفات التنزيه؛ كانت معروفة بل وشائعة بين العرب، وإن الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة وما اخترعته عقول العرب ما كانت إلا لتقربهم إلى الله زلفى، و
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (سورة الزخرف: آية9)، و
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (سورة يونس: آية 18)، و
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين (سورة يونس: آية 22).
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون * الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم * ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (سورة العنكبوت: آية 61-63)، فهذه الآيات تدل على إيمانهم بالله القوي الجبار الخالق الضار النافع الخالق الأعظم الرزاق، وأن هذه الأصنام والتماثيل وسائط وشفعاء لديه.
وأما الصلاة فما هي إلا أدعية وحركات تعبدية مع التوجه إلى الكعبة، وقد كانت للعرب قبل الإسلام صلوات ذات طقوس وحركات وأدعية كما تدل عليه الآية:
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (سورة الأنفال: آية 35)، قالوا: والمكاء هو التصفير والتصدية هي التصفيق، وكلمة «الصلاة» في هذه الآية تعني أن العرب كانت لهم في جاهليتهم صلاة ذات طقوس دينية معينة، وليس هذا صحيحا ما يقرره الفقهاء من أن كلمة «الصلاة» كانت تعني في الجاهلية الدعاء وحسب وأنها خصصت في الإسلام فقط لهذا النوع من العبادة، ثم إن ذكر المكاء والتصدية يفهم منه أنه كانت لهم حركات وأنغام في صلواتهم، وليس هذا غريبا فقد أمر الله إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود (سورة البقرة: آية 125، وسورة الحج: آية 26)، فلعل بعض هذه الطقوس الصلاتية قد بقيت عند عرب الجاهلية؛ بل تكاد تؤكد ذلك؛ لما روي من أن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العباد الموحدين الحنفاء في الجاهلية كان «يسجد» أمام الكعبة.
وأما الصوم: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والحديث، وقد روينا سابقا أن العرب في الجاهلية كانوا يصومون في العاشر من المحرم، ونصيف هنا ما رواه الإمام الخازن في تقريره أن عائشة روت في حديث لها أن قريشا كانت تصوم في الجاهلية يوم عاشوراء؛ أي اليوم العاشر من المحرم، وأنه كان يوم ستر الكعبة، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يصومه كذلك قبيل بعثه، ويروي السيوطي أن أول من صام آدم - عليه السلام - صام ثلاثة أيام في كل شهر، وعن ابن أبي حاتم عن الضحاك: أن الصوم الأول صامه نوح فمن دونه حتى صامه النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، وكان صومهم في كل شهر ثلاثة أيام إلى العشاء، وهكذا صامه النبي
صلى الله عليه وسلم .
40
وأما الزكاة: فهي صدقة، وتعطى لبيت المال، كما تعطى للفقراء والأيتام وأبناء السبيل بشرائط معينة، وقد كانت للعرب قبل الإسلام أنواع من الصدقات يعطونها للفقراء أو الحكام، قال المجد الفيروز آبادي في القاموس: «مكس في البيع إذا جبى مالا، والمكس: الظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو دراهم يأخذها المصدق بعد فراغه من الصدقة.» وقال ابن الأثير في النهاية «في شرح قوله
صلى الله عليه وسلم : «إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه.» أي إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيما على دينه.»
41
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن زيد أنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «يا معشر العرب، احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور.» وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ليس على المسلم عشور، إنما على اليهود والنصارى.»
42
وفي هذا دليل على أن العرب في الجاهلية كانوا يدفعون جزءا من أموالهم للحكام.
وأما الحج: فقد رأينا مفصلا ما كان عليه في الجاهلية، وما أخذه الإسلام واستبقاه من طقوسه.
وبعد، فإذا كانت هذه حال أركان الإسلام الخمسة تبين ضعف نظرية هؤلاء المستشرقين المغرضين الذين يريدون أن ينسبوا كل شيء جاء به الرسول العربي إلى تقليد اليهود والنصارى، ومن كان من الأمم السالفة؛ ناسين أو متناسين أنه نشأ في إقليم وتربى في بيئة، فيجب أن يظهر أثر إقليمه في تعاليمه، كما يجب أن يتجلى طابع بيئته في طقوس ديانته، وليس في هذا ما يضر الدين الجديد، ولا يضع من مكانة النبي الكريم، فإن لله سننا ونواميس لا تخالف.
بعد هذه المقدمة ننقل إلى بيان الحالة العقلية عند العرب قبل الإسلام، فنقول: إن أبرز ما تتجلى فيه العقلية العربية هو الأمور الآتية: (1)
الألوهية وما يتعلق بها: قد بينا مفصلا في المقدمة أنهم كانوا يؤمنون بإله قاهر نافع ضار، ولكنهم كانوا «يشركون» به فيعبدون آلهة متعددة، شاركوا «الله الأعظم» في ألوهيته وربوبيته، وقد اختلف العرب في هؤلاء الشركاء؛ فبعضهم جعلهم «الملائكة»، وبعضهم جعلهم «الشياطين»، وبعضهم جعلهم «الشمس والقمر»، وبعضهم جعلهم «الأصنام والتماثيل»، وبعضهم جعلهم غير ذلك، وقد جعلوا لهؤلاء «الشركاء» أو «الأنداد» أو «الآلهة» ما لله سبحانه من صفات القدرة والربوبية، وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من عقائد هؤلاء المشركين، وحمل عليهم لهذا الاعتقاد السخيف، وأنذرهم بسوء العاقبة، ومما تجد الإشارة إليه أن العرب لم يكونوا متساوين في شركهم، فقد كان للعقلاء والخاصة اعتقاد يخالف اعتقاد العامة والبدو، فالأولون كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود الأعظم، وأن شركاء من الأصنام أو المخلوقات الأخرى ليسوا إلا وسائل ووسائط بينهم وبينه، وأن هؤلاء الشركاء ليسوا إلا أولياء أو شفعاء يشفعون له عنده، ولا شك عندنا في أن لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والبقايا الحنيفية تأثيرا في إيجاد هذه العقيدة أو بعضها. أما العامة من سكان البادية والحواضر فقد انحطت قواهم العقلية إلى درجة اعتقدوا معها أن هذه الأصنام والتماثيل والمعبودات الأخرى من روحية ومادية هي التي تضر وتنفع، وهي التي تمنع الشر وتمنح الخير، وهي التي تحيي وتميت، ومن أشهر هذه الأصنام «عم أنسى» وكان لبني خولان، «وسعد» لبني ملكان، «والعزى» لقريش وكنانة، «واللات» لثقيف بالطائف، «ومناة» بيثرب للأوس والخزرج، و«ذو الخلعة» لدوس وخثعم وبجيلة، «والفلس» لطي، «وذو الكعبات» لبكر بن وائل، «وإساف ونائلة» لقريش في الكعبة، «وهبل» وهو أعظم أصنام الكعبة لقريش جميعها ...
وهناك أصنام أخرى غير هذه عددها ابن الكلبي،
43
وقال: إن أجل الأصنام مكانة عندهم؛ «مناة، واللات، والعزى»، أما مناة فكانت منصوبة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة، ويليها في المكانة «اللات»، فكانت صخرة مربعة في الطائف، ثم «العزى»، وهو أحدث الثلاثة، وهي شجرة بوادي نخلة على بعد تسعة أميال من مكة، وكانت أعظم أصنام قريش ينذرون لها، ويذبحون عندها،
44
وهناك رواية تقول: إن هذه الأصنام الثلاثة كانت منصوبة في فناء الكعبة،
45
وكانوا يستفتحون عندها ويستقسمون بالأقداح لديها لحل مشاكلهم أو الاستخارة وما إلى ذلك، ويظهر أن أكثر أصنام الكعبة حظوة في الاستخارة هو «هبل»،
46
ويظهر أن العرب أخذوا - من أواسط القرن الخامس للميلاد حينما قوي اتصالهم بأهل الكتاب - يتحسسون بحطة الوثنية المادية التي كانوا عليها، ويحاولون السمو بأفكارهم إلى تنزيه الإله الأعظم، وقد كان «لليهود» والنصارى وحنفاء العرب أثر فعلي في إيجاد هذه الروح، ويفهم من تتبع آي القرآن وبعض الأحاديث النبوية والروايات والأخبار الجاهلية أن مجادلات ومناقشات كانت تقوم بين العرب وأهل الكتاب، وأن شيئا من التبجح والخيلاء كان يبدو من أهل الكتاب وبخاصة اليهود على العرب، وقد أثارت هذه الأمور غيرة العرب وعزتهم، وأذلت فيهم روح الحماسة الدينية، وجعلتهم يتطلعون إلى رسالة من السماء ترفع من قدرهم، وتعلمهم الكتاب:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (سورة البقرة: آية 129)، وقد كان اليهود يخبرون العرب بقرب بعثة نبي منهم، ويقولون لهم إنه سيكون منهم نبي، ولكنهم أخذتهم العزة حين جاءهم على يد محمد:
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ، وصفوة القول أن العرب في جاهليتهم كانوا على مستوى عقلي رفيع، وبرهان ذلك ما رأيناه في نظرتهم إلى الألوهية، وما سنراه في لغتهم الرفيعة وحكمتهم الموروثة وأشعارهم المتناقلة وأمثالهم المتداولة. (2)
تفوقهم اللغوي: إن من يدرس اللغة العربية بنحوها وصرفها واشتقاقها وعروضها وفنونها البلاغية يرى أن القوم قد بلغوا درجة رفيعة في الرقي والمستوى اللغوي.
اللغة العربية هي إحدى اللغات المعروفة باللغات السامية، وهي: الآشورية، والبابلية، والكنعانية، والفينيقية، والسريانية، والآرامية، والعبرية، والحميرية، والحبشية - وعلى الرغم من كون هذه اللغات توالدت من أم واحدة في عصور متباعدة - أقدمها الآشورية والبابلية التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وأحدثها العربية التي ترجع إلى ما قبل القرن الثالث بعد الميلاد، فإنها تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها، كما أنها تختلف فصاحة ورقا، ويظهر أن أرقى اللغات السامية وأفصحها وأوسعها هي اللغة العربية، وأن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عثر عليها ترجع إلى الفترة التي تمتد من القرن الثالث بعد الميلاد إلى القرن الخامس، وهذه النصوص هي الشعر الجاهلي والحكم الجاهلية، ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهذبة ذات نمو متسق وصرف منظم وقواعد عروضية وشعرية راقية، ولا شك في أن اللغة العربية قد مرت بأطوار بعيدة العهد تطورت فيها، وتدرجت إلى هذا الكمال الذي وجدناه في الشعر الجاهلي، ثم في القرآن، ومما يؤيد هذا أن المستندات الكتابية الحجرية التي عثر عليها الأستاذ ليتمان
Littmann - في جبل الصفا بحوران - والبرفسور وتسيتين
Wetzstein
قنصل ألمانيا في أواسط القرن الماضي بالشام،
47
وهي نصوص تتعلق بتاريخ تلك البقعة وسكانها وأنسابهم وقبائلهم وعقائدهم، وهي مكتوبة بلغة عربية قريبة جدا من الفصحى ومسطرة بحروف الخط الصفوي المشتق من الخط السيئي في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد، والذين كتبوا هم قوم من القبائل العربية من إخوان الغساسنة، وأكثرها يتعلق بأنسابهم وأعمالهم المجيدة وحياتهم وطريق رعيهم للإبل والماشية، وحروبهم مع الرومان والفرس، كما أنها تضمنت كثيرا من عقائدهم الدينية وآرائهم في الآلهة والملائكة والجن وما إلى ذلك، ولغة هذه النصوص عربية تشبه لغة الشعر الجاهلي مع وجود بعض الاختلافات النحوية التي تجمع بينها وبين اللغات السامية الأخرى،
48
ويظهر أن هذه النصوص هي صورة لما كانت عليه اللغة العربية في هذه العصور، وأنها ما زالت تتطور وتترقى حتى بلغت تمامها في الشعر الجاهلي أيام امرئ القيس ومن بعده، وهذا طبيعي فإن اللغة كسائر الكائنات الحية تمر بأدوار كثيرة، ويدخلها كثير من أحوال الحياة من نشوء ونمو وارتقاء وتفرع وانقسام، وإن أرقى عصور اللغة العربية كان في القرن السادس وفي الحجاز، فقد ارتقت فيه اللغة، وزادت المفردات، واتسعت أخيلتها، ودخلها كثير من الألفاظ الأجنبية مما اقتضته الحضارة العالمية والتقدم ونظام النشوء على النمط الذي نراه في شعر المعلقات وغيرها من عيون الشعر الجاهلي الإسلامي.
ولما ظهر الإسلام اتسعت اللغة العربية لتعاليمه وسعة مصطلحاته ومعانيه، وقد كانت هذه اللغة متحضرة في جزيرة العرب وجزيرة سيناء وديار الشام وبادية الجزيرة وما بين النهرين، وقد كان لسكان هذه الديار الواسعة لهجات ولهيجات تختلف قربا وبعدا عن اللغة الأم الفصيحة؛ فلهجات أواسط الجزيرة كانت أفصح اللهجات لبعدها عن الأعاجم من فرس وأحباش وروم وقبط ونبط، ويليها في الفصاحة لهجات عرب مشارف الشام، قال الأستاذ جرجي زيدان: «أكثر سكان أواسط جزيرة العرب من قبائل مضر، وكانت أعظمها يومئذ «تميم» في شرقي نجد وشمالها، و «غطفان» عبس وذبيان، و«سليم» وغيرهما في نجد، وأرقاها قريش في مكة، وكان من القبائل القحطانية هناك طي في نجد، ومذحج في أطراف الحجاز، وأكثر سكانها في الشمال من ربيعة، وفيهم «بكر» و«تغلب» في بادية العراق في الجزيرة، فلغات هذه القبائل كانت تختلف بعضها عن بعض باختلاف أحوالها ومساكنها، وكان الاختلاف على معظمه بين لغات اليمن ولغات الحجاز ونجد؛ أي بين جنوب الجزيرة وشمالها، وأحسن مثال للغات الجنوبية ما خلفه الحميريون من الآثار بالحرف المسند، وأحسن مثال للغة الحجاز لغة القرآن وشعر الجاهلية، والفرق بين اللغتين كبير.»
49
ولا شك في أن الرقي اللغوي دليل على الرقي العقلي، ونحن إذا دققنا لغة الشعر الجاهلي نجدها لغة ممتازة في نحوها وصرفها وأفكارها ودقة تعبيرها. (3)
مستواهم العلمي والأدبي: النظرية الشائعة لدى أكثر من كتب عن عرب الجاهلية هي وصفهم بالأمية، وجهلهم الكتابة والقراءة،
50
وانحطاطهم العلمي، وقلة بضاعتهم في المعرفة؛ لأنهم كانوا بداة جفاة أميين يعيشون في الصحراء، لا حضارة ولا مدنية عندهم، وغاية ما امتازوا به هو إجادتهم في القول من شعر وخطابة، وبراعتهم في رصف الجمل المتناسقة، والأسجاع الموفقة، وهذا الوصف على الرغم من تناقضه وتهافته لا يستند على حقيقة، ولا يقوم أمام المناقشة؛ فلا يعقل أن يكونوا فصحاء شعراء إذا لم يكونوا مثقفين كتابا ذوي مستوى علمي حسن، وتفكير منطقي معقول، وذوق فني راق، أما أميتهم فوصف خاطئ لا ينطبق على الحقيقة، وتنقضه نصوص موثوقة قديمة وأدلة علمية حديثة، أما النصوص العلمية القديمة: فأجلها ما في القرآن الكريم من آيات كثيرة تذكر الكتاب والكتابة وأدوات الكتابة والصحف والسجل والمداد والأقلام وما إليها مما يتعلق بالخط، حتى إن الأستاذ العلامة محمد عزة دروزه قد أحصى كلمات الكتابة ومشتقاتها في القرآن الكريم فوجدها أكثر من ثلاثمائة كلمة، كما أحصى كلمات القراءة ومشتقاتها فوجدها نحو تسعين مرة ونيف بأساليب متنوعة، وقد علق الأستاذ العلامة على هذا بقوله: «فورود هذه الآيات الكثيرة في القرآن تحتوي أسماء ووسائل وأدوات القراءة والكتابة، وتحتفي بالقراءة والكتابة هذه الحفاوة الكبيرة؛ دليل واهن على أن العرب في بيئة النبي
صلى الله عليه وسلم
وعصره قد عرفوا تلك الوسائل والأدوات واستعملوها، وعلى أن القراءة والكتابة فيهم كانتا منتشرتين في نطاق غير ضيق، فكثرة الترديد تدل على الألفة، وهذه لا تكون إلا حيث يكون المألوف ذائعا ذيوعا غير يسير، وإذا لاحظنا أن أولى آيات القرآن هي ...
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم
بأسلوب يدل على حفاوة عظيمة، وأن ثانية آيات نزلت بعدها على ما عليه كثير من الرواة هي آيات سورة القلم الأولى التي أقسم الله فيها بالقلم والكتابة:
ن والقلم وما يسطرون ، مما يدل كذلك على حفاوة بالغة ازداد قولنا قوة وتأييدا.»
51
فهذا يدلك على كثرة الكتاب بين الناس في صدر الإسلام، وأن الأمر لم يكن كما ذهب إليه المؤرخون القدامى من أن كتاب مكة يوم جاء الإسلام لم يتجاوزوا السبعة عشر.
وأما الأدلة العلمية الحديثة فقد بحثها المستشرق المؤرخ الإيطالي البرنس كايثاني في الفصل الذي كتبه، نشأة الخط العربي، وأثبت فيه بالأدلة المادية والاكتشافات النقشية والوثائق الخطية، وبخاصة في الشام والجزيرة، أن الخط العربي قديم الوضع، وأن الكتابة كانت رائجة في الجزيرة ومشارف الشام قبل البعثة النبوية بكثير،
52
ثم إن وجود الكتابيين بكثرة في الحجاز واليمن ومشارف الشام من يهود ونصارى، وصلتهم القديمة بالعرب؛ يجعل العرب من متهودين ومتنصرين يفيدون من إخوانهم وجيرانهم، فيتعلمون الكتابة والقراءة حتى الكتابة غير العربية من عبرانية وسريانية ورومية ، وقد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
كاتبه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بتعلم العبرية، كما روى البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي أن ورقة بن نوفل كان قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب العبرانية، ويظهر أن الكتاتيب كانت معروفة في الجاهلية في البدو كما كانت معروفة في الحضر، فالمؤرخون يذكرون أن يوسف الثقفي أبا الحجاج كان معلم كتاب في الطائف،
53
ونقل السيد الكتاني عن الماوردي في أدب الدنيا والدين نقلا عن ابن قتيبة : «أن العرب كانت تعظم قدر الخط، وتعده أجل نافع حتى قال عكرمة: بلغ قراء أهل مكة أربعة آلاف، حتى إن الرجل ليغاوي على أنه يعلم الخط لما هو مستقر في نفوسهم عن عظم خطره، وظهور نفعه وأثره، قال الله لنبيه:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ، فوصف نفسه بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم، عد ذلك من نعمه العظام ومن آياته الجسام حتى أقسم به في كتابه، فقال:
ن والقلم وما يسطرون ، فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم ...» هذا يبطل ما قاله ابن خلدون من جهلهم بالخط، فإن عكرمة كان يتكلم عن مشاهدة، وابن خلدون قال ما قال عن تخمين،
54
ويشير السيد الكتاني بهذا إلى ما قاله ابن خلدون من أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وأن العرب كانوا بعيدين عنها؛ لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير مجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق
55
إلى آخر ذلك الكلام الطويل المبني على التخمين والزعم البعيد عن التحقيق العلمي الصحيح. هذا وقد كان للنبي كتاب بلغ عددهم ما ينيف على الأربعين،
56
وكان أكثرهم من الشبان المكيين والمدنيين، ولا شك في أنهم قد تعلموا الخط والقراءة وما إليها في بعض كتاتيب البلدين، والكتاتيب كانت معروفة في بلاد الشام ومصر والعراق قبل الإسلام، فلا غرابة إذا نقل القريشيون ذلك عنهم في رحلاتهم التجارية، كما أن الجوالي النصرانية واليهود في الجزيرة قد كانت تعلم أبناءها في مدارسها وكنائسها ، وليس بعيدا أن يكون جيرانهم العرب قد أفادوا ذلك منهم.
أما ما كان يعلم للأطفال في الكتاتيب فليست لنا به أية معرفة جازمة به، ولم ترمز آثار إليه، ولكن بالقياس على ما كانت عليه الكتاتيب في العصر الإسلامي نذهب إلى أنهم كانوا يتعلمون مع القراءة والكتابة شيئا من مبادئ الحساب، ورواية الشعر القديم، والحكم المأثورة، وأخبار الماضين وقصصهم، وأنساب العرب الأقدمين وأحوالهم.
57
بعد أن بينا أن الكتابة والقراءة كانتا منتشرتين انتشارا ملموسا في الجاهلية في الحواضر ، وأن بعض أهل البادية كانوا قد ألموا بها بعض الإلمام، وأن العرب كانت لهم في جاهليتهم كتاتيب يعلمون فيها أبناءهم؛ ننتقل إلى بيان علوم العرب وثقافتهم، فنقول إنها كانت:
معرفة أخبار الماضين وأنسابهم من العرب والأعجميين
ففي القرآن والشعر الجاهلي وكتب الأخبار كثير من النصوص التي تعرفنا شيئا عن معرفة أهل الجاهلية بأخبار الأمم الماضية، وبخاصة أخبار عرب الجزيرة من ملوك اليمن وحضرموت ومدائن صالح وشبه جزيرة سيناء والأحقاف وعرب العراق والشام وقصص الأنبياء والرسل وتواريخ الأمم والشعوب، وقد قص القرآن من هذه المعلومات، وفصل في أخبارها وأحوالها وحضاراتها وغيرها، والقصص القرآني التاريخي رائع بأسلوبه دال على سمو منزلة القصة عند العرب، وقد احتوت كتب السيرة الشريفة والحديث النبوي والتفاسير كثيرا من الروايات والقصص التفصيلية التي أجملها القرآن أو أشار إليها إشارات خفيفة، على الرغم من أن بعضها قد وضع بعد الإسلام إلا من الكثرة الكاثرة التي تشتمل عليها هذه الكتب؛ لتدل على أن العرب كانوا ملمين بهذه الأخبار مطلعين على أحوالها وأمورها، وفي القرآن إشارات إلى معرفة العرب قبل الإسلام بهذه الأخبار؛ ففي سورة هود آية (49) جاء ما يلي - بعد أن سرد أخبار قصة نوح:
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، وفي سورة يوسف آية (102):
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ، وقال ابن هشام في السيرة: إن النضر بن الحارث كان ذهب إلى فارس وتعلم قصص إسفنديار ورستم ، ثم رجع إلى الحجاز وأخذ يقصها على الناس،
58
ويظهر أن العرب كانوا قد دونوا بعض هذه الأخبار والتواريخ القديمة، ومن عبارة القرآن
أساطير الأولين اكتتبها
و
إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين
59
يفهم ذلك، وقال ابن هشام إن سويد بن صامت لقي النبي
صلى الله عليه وسلم
في موسم فدعاه إلى الإسلام، فأجابه: لعلك تدعو إلى ما في هذه المجلة، ثم أخرج «مجلة لقمان» وعرضها عليه.
60
ومما يتعلق بهذا الباب من العلم أخبار العرب وحروبهم وأيامهم وفرسانهم وأسماؤهم، ومن أشهر قصصهم المتوارثة قصص مأرب، وسيرة أصحاب الأخدود، وقصة الفيل، وقصة ذي يزن الحميري، وقصة عمرو بن لحي صاحب عبادة الأصنام في الجزيرة، وقصص عاد وثمود وبلقيس وما إليها، ومما يتعلق بهذا الباب أيضا: أخبار أنساب العرب، وقد كان للناس بها عناية شديدة، منذ أقدم العصور للتناصر والتفاخر، وكثر النسابون في الجاهلية، ولم تخل قبيلة أو بطن، أو فخذ، أو فصيلة من عالم أو نسابة، ومن أشهر علماء النسب: عميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمزة التميمي، وزيد بن الكيس النمري، والتمار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن الحجر، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب.
61
معلومات جغرافية
كان للعرب في جاهليتهم رحلات وأسفار برية وبحرية يقوم بها الحجازيون واليمانيون، وقد كانت رحلاتهم البرية تبدأ من اليمن إلى الشمال فمشارف الشام ووادي الكنانة وديار الرافدين، ولا غرو في أنهم كانوا يعرفون دروب هذه البلاد وطرقاتها كما كانوا يعرفون المعلومات الضرورية عن أحوال البلاد التي يزورونها، ويدل سفر المسلمين حين ضاق عليهم الأمر في مكة في أول الدعوة الإسلامية على أن الصلات كانت طيبة بين الجزيرة العربية وبلاد الحبشة النصرانية، وأن هناك روابط تجارية كانت تربط بين البلدين، ثم إن هذه الرحلات البحرية تقضي بأن يكون أصحابها عارفين بأحوال البحر مطلعين على أمور الملاحة، فاهمين لأحوال الجو والرياح والأنواء.
معلومات فلكية وطبيعية
ذكر الأقدمون من المؤرخين أن العرب كانوا ذوي معرفة بأحوال النجوم ومنازل الشمس والقمر والأفلاك وحركاتها والاهتداء بها في البر والبحر والأسفار الليلية والنهارية، كما ذكروا أنهم كانوا ملمين بالأحوال الجوية ومهاب الرياح، وكانوا ينسبون ذلك إلى طلوع بعض الكواكب وغروبها، ويسمون هذا «علم الأنواء»، وكانوا يعتقدون أن الأنواء أو النجوم التي تسبب الأمطار والرياح والحر والبرد هي «28» نجما، ولكل واحد اسم، في الشعر الجاهلي والأمثال والخرافات المتوارثة عن الجاهلية شيء كثير عن معلوماتهم بأحوال الجو والفلك والفصول، ولا ريب في أن كثيرا من معلوماتهم الفلكية والجوية قد استفادوه من الأقوام الذين رحلوا إليهم من كلدان وصابئة، وقد أخذ العرب أسماء النجوم والشمس والقمر واصطلاحاتها ومنازلها من الكلدانيين،
62
وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تدل على هذا العلم.
الطب والبيطرة والصيدلة
كانت للعرب معارف طبية توارثوها عن أسلافهم أو اقتبسوها من جيرانهم وبخاصة الكلدان، أو اهتدوا إليها بتجاربهم، والطب العربي ذو شقين؛ شق يعتمد على العقاقير والأشربة والمداواة المادية من حجامة وفصد أو كي وقطع وبتر وجراحة، والشق الآخر: يعتمد على الرقى والعزائم والتمائم، ومن أشهر أطبائهم: لقمان الحكيم، وقصصه وأخباره أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة حتى أدرك زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
فكان يوصي من مرض أن يستوصفه، ومن الجراحين المشهورين: ابن أبي رومية التميمي. وأما البيطرة والبيزرة فقد برعوا فيها، ونبغ فيها جماعة من أطباء الحيوان والطير أمثال العاص بن وائل، وكذلك علم الصيدلة؛ وهو من متعلقات الطب، وقد تفننوا في معرفة العقار العربي، كما عرفوا الحشائش التي تنبت في بلادهم وفوائد كل حشيشة مع الخصائص لكل نبات، وفي كتب الطب القديم والحيوان والأدب أخبار منثورة كثيرة عن معرفة العرب بالعقاقير والنبات والمفردات الطبية، وأجمع كتاب فيها «مفردات» ابن البيطار الأندلسي المغربي.
علوم الأدب
من نثر وشعر وقصص وأمثال وخطب وغير ذلك مما كانوا يلقونه في المجامع والأسواق والمسامرات من الأخبار والأشعار، وقد تفنن العرب في هذا كثيرا، وليس هاهنا مجال القول فيه.
الكهانة والسحر والعرافة
فالكهانة: هي البحث في أمور المستقبل والتنبؤ، والعرافة: ادعاء علم الماضي وكشفه، والسحر: هو تخييل الأشياء على غير حقيقتها، والتظاهر بخلق الخوارق، أما الكهانة والعرافة فقد كانتا فاشيتين في البيئة العربية منذ زمن سحيق، وقد كان العرب ينظرون إلى الكاهن والعارفة نظرات تقدير واحترام زائدين، وكانوا يفزعون إليهما لحل مشاكلهما الروحية والنفسانية ولتعبير الرؤى، وكان للكهان والكواهن سجع يرددونه في جلساتهم، فبعضه حلو مقبول وبعضه سخيف مرذول يوهمون به الناس حين يدسون فيه بعض الكلمات الغريبة والألفاظ الواسعة المعنى،
63
وكان الكاهن والعارفة العربي يقابل الحبر اليهودي والراهب النصراني، ومن أقدمهم: شق وسطيع وخنافر بن التوأم الحميري وسواد بن قارب.
وأما السحر فكان أمره أقل فشوا من الكهانة، وكان العرب يزعمون أن بين السحرة والشياطين صلات روحية، وأن الساحر قادر على أشياء خارقة، وكان بعض اليهود في الحجاز يتعاطى هذه المهنة، ويقوم بعقد العقد، والنفث عليها، وتلاوة بعض الكلمات السرية أو الغريبة المعاني.
القيافة والفراسة والريافة
فالقيافة: هي تتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي نوعان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، وقيافة الأثر: هي آثار الأقدام والحوافر والأخفاف للاستدلال عليها، وقيافة البشر: هي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخص على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب، والفراسة: هي الاستدلال بهيئة الشخص وأشكاله وأقواله وحركاته وأعضائه على أخلاقه ومناقبه، ولا شك في أن الذكاء الفطري والسياحة تلعبان دورا كبيرا في هذه المعرفة، وأما الريافة: فهي الاستدلال من تراب الأرض وأعشابها على المياه الجوانية وأمكنتها فيها.
معرفة اللغات الأجنبية
كانت بعض اللغات الأجنبية من كلدانية وسريانية وعبرانية ورومية وحبشية وفارسية معروفة لدى العرب في عصر النبي، وقد أوصى صحابته بتعلمها للترجمة والكتابة بها إلى أصحابها، ويظهر أن هذه اللغات كانت منتشرة بين النصارى واليهود والصابئة المقيمين بين ظهراني العرب، أو عند العرب الذين اعتنقوا تلك الديانات؛ لأن كتبهم الدينية كانت غير مترجمة إلى العربية.
64
ثم إن الرحلات إلى فارس والحبشة والشام وبلاد آشور دفعت العرب إلى تعلم هذه اللغات؛ للتفاهم مع أهلها، وقد ظهر أثر هذه اللغات من آشورية وآرامية وحبشية وقبطية وفارسية ورومية في بعض مفردات الشعر الجاهلي والحديث النبوي والقرآن الكريم.
الفصل الثانى
في المبعث النبوي (1) في البيئة النبوية ومولده وطفولته
صلى الله عليه وسلم
كان عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (127ق.م.) من أشرف بني قومه، وأجلهم قدرا، وكانت إليه السقاية والرفادة؛ وهي أعظم وظائف الحرم المكي مكانة، وما زالت مكانته تنبل في قومه وفي العرب أجمعين حتى لم يعدل به أحد منهم، وهو الذي كشف عن بئر زمزم، بئر إسماعيل، واستخرج ما كان مدفونا فيها؛ وهي: غزلان من ذهب كانت قد دفنتها جرهم حين أخرجت من مكة، وأسياف قلعية نفيسة، وأدراع ثمينة القيمة، فجعل من الأسياف بابا للكعبة، وجعل الغزالين صفائح ذهبية كسى بها باب الكعبة،
1
وهو الذي خذل الله على يديه أبرهة الأشرم، ودمر أصحاب الفيل، فازداد قدره لدى العرب أجمعين، وكان عبد المطلب مثل أبيه جوادا كريما؛ فقديما سمى العرب أباه هاشما؛ لهشمه الثريد لهم، وإطعامهم إياه في سنوات القحط، ولم يكن عبد المطلب أقل من أبيه سماحة يد ورجاحة عقل وشرف نفس وعلو مكانة.
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمح خالصة لعبد مناف
وكان لعبد المطلب عشرة بنين وعشرة بنات؛ هم: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب، والزبير، والحارث، وحجل، والمقوم، وضرار، وعبد العزي، وأبو لهب (2ه)، وحنيفة، وأم حكيم البيضاء وعاتكة، وأمية، ووبرة، وكلهم نبيل وجيه لم يؤثر عنه ما يشينه ولا ما يحط قدره، حتى أبو لهب الذي كان يكره محمدا فقد كان من الأشراف الشجعان والكرماء الباذلين والأقوياء المعتزين بمكانتهم ونبلهم، ولذلك عز عليه أن يغير دينه ويتبع دين ابن أخيه، فعارضه إلى أن قتل بعد وقعة بدر بأيام، ولا بد لنا من وقفة أمام أعمام النبي الآخرين؛ لنبين مكانتهم، وشرف نفوسهم، والبيئة الطيبة التي كانوا فيها.
فالعباس (51ق.ه/32ه) وصفه النبي بقوله: أجود قريش كفا وأوصلها رحما، هذا بقية آبائي، وكان من الأجواد المحسنين، سديد الرأي، واسع العقل، مغرى بإعتاق العبيد، كارها للرق؛ اشترى ثمانين عبدا ورقيقة فأعتقهم، وهو الذي تولى سقاية الحجاج ورفادة البيت بعد أبيه، كما أنه كان يتولى عمارة البيت؛ وهي أن لا يدع أحدا يسب آخر في المسجد الحرام أو يقول هجرا. أسلم في السنوات الأولى من الدعوة، وكتم إسلامه، وأقام بمكة يكتب للنبي أخبار المشركين.
وحمزة (54ق.ه/3ه) هو صنديد قريش وسيدها الجواد القوي النبيل، ولما ظهر الإسلام تردد في الدخول فيه، ثم علم أن أبا جهل بن هشام قد أخذ يتعرض للنبي وينال منه، فقصده وضربه، وأعلن إسلامه، فقالت الناس: اليوم عز محمد وإن حمزة سيمنعه، وكفوا عن الإساءة للمسلمين.
وأبو طالب - واسمه عبد مناف - (3ق.ه )، وكان من أبطال قريش ورؤسائهم وخطبائهم وفصحائهم وعقلائهم وآبائهم، وكان يعيش من التجارة، وهو الذي ربى النبي وحماه، له أياد بيض على الإسلام.
والزبير: كان أكبر أعمامه، وكان وجيها نبيلا فصيحا، رووا أنه كان يرقص النبي في طفولته، ومما كان يقوله له:
محمد بن عيدم عشت بعيش النعم
في دولة ومغنم دام سجيس الأزم
2
والحارث: كان أول ولد ولد لعبد المطلب، ولكنه هلك صغيرا.
وحجل: وكان يسمى المغيرة، وقيل مصعب، ويلقب بالغيداق؛ لكثرة خيره وسعة ماله، وكان أجود قريش وأكثرها طعاما ومالا.
المقوم: وكان من وجوههم وعقلائهم وفصحائهم.
ضرار: وكان فتى قريش وأكثرها نبلا وكرما.
ولم يسلم من أعمامه سوى الحمزة والعباس،
3
وأما بنات عبد المطلب فكن عفيفات شريفات فاضلات شاعرات شجاعات؛
4
أسلمت منهن صفية أم الزبير، وشهدت وقعة الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، وضرب لها النبي بسهم.
5
هؤلاء هم أبناء عبد المطلب وبناته، ولم يكن فيهم إلا الجواد الشجاع الفاضل، وأما عبد الله أبو النبي فكان من أنجب أولاده وأحبهم إليه؛ لعقله وأدبه، والرواة يذكرون أن عبد المطلب لما رأى ضيق أهل مكة بقلة الماء أخذ يفتش عن موضع زمزم الذي طمره عمرو بن الحارث الجرهمي؛ لما اضطر إلى مغادرة مكة فارا إلى اليمن، فلما بلغ يسر الله على يديه الكشف عن موضع زمزم، وحفرها، واستخرج كنوز الكعبة.
نذر لئن جاءه عشرة بنين فليذبحن أحدهم لله قربانا، حتى إذا تكامل بنوه عشرا أتى هبل في جوف الكعبة ومعه أولاده، ثم أعطى كل واحد قدحا - وهو سهم بلا نصل - وكتب كل اسمه على سهمه، ثم أخذ عبد المطلب القداح وأعطاها إلى قيم الكعبة؛ ليضرب بها عند هبل، فضربها القيم فخرج على عبد الله، فقبض أبوه على يده، وأخذ الشفرة، وأقبل إلى إساف ونائلة بين الصفا والمروة؛ لينحره حيث تنحر النسائك، فقام إليه سادة قريش وقالوا لا تذبحه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه وتكون سنة، وأشارت عليه الكاهنة بخيبر أن يقرع بين ابنه وبين ما يدفعون دية للواحد منهم من الإبل وهو عشرة، فقالت له: ارجع إلى بلدك وقرب ولدك، ثم قرب عشرة من الإبل، ثم اضرب عليه وعليها قدحا، فإن خرجت على صاحبه فزد في الإبل، ثم اضرب ثانية، وهكذا حتى يرضى ربك، فإذا خرجت على الإبل فانحرها فقد رضي ربك وتخلص ابنك، وضرب بالقداح إلى أن بلغت الإبل مائة فنحرها
6
وازداد تعلقه بابنه الحبيب، ولما جاء أبرهة إلى الكعبة بفيله ورده الله ابتهج عبد المطلب أعظم الابتهاج، واهتبل ذلك الحين فرصة للاحتفال بزواج ابنه الحبيب، فأخذ يختار له النساء حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، فخطب إليه وتزوج عبد الله آمنة ابنة وهب، وهي يومئذ أفضل نساء عصرها حسبا وموضعا، وكان ذلك في المدينة في آب (570 للميلاد) وهي السنة المعروفة بعام الفيل، ولكن عبد الله لم يلبث طويلا بعد زواجه، وقد اختلفت الروايات في ذلك؛ فقيل إنه بعد شهرين، وقيل إنه مات بعد سبعة أشهر، وقيل: غير ذلك،
7
ومهما يكن من شيء فإن السيدة آمنة وضعت طفلها صبيحة يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول المصادف لليوم العشرين من نيسان (571)، فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده أن قد ولدت لك غلاما فأته فانظر إليه، فأتاه ونظر إليه فأخذه ودخل به الكعبة، فقام يدعو الله ويشكره على ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وسماه محمدا، ثم استرضعه في بني سعد، وأعطاه لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، فأحبته وعنيت به، وكانت تلاعبه وترقصه، ومن مأثور قولها فيه:
يارب إذ أعطيته فأبقه
وأعله إلى العلا وأرقه
وادحض أباطيل العدى بحقه
8
فلما مضت عليه سنتان جاءت به حليمة إلى أمه، فقالت لها: لو تركت ابني حتى يغلظ، فأنا أخشى عليه وباء مكة، ولم تزل بها حتى ردته معها، فرجعت به وبقي عندها إلى أن بلغ خمس سنوات وشهرا،
9
قال حليمة: وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان،
10
ولما بلغ ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم ومعه أم أيمن حاضنته، فنزلت به «دار التبابعة» فأقامت به عندهم شهرا ثم رجعت به، فلما كانت في طريقها إلى مكة هلكت بالأبواء، فكفله جده ورعاه، وهذبه أحسن تهذيب، ولما أحس بدنو أجله - وكان لمحمد ثماني أعوام - أوصى أبناءه به، وبخاصة أبا طالب، ومما قال في وصيته:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بمؤتم بعد أبيه فرد
فأرقه وهو ضجيع المهد
11
ولما مات عبد المطلب في السنة الثامنة لعام الفيل ارتجت مكة لفقده، وأكثر الشعراء من رثائه وتعديد مناقبه، وفدح المصاب بفقده،
12
وأجمع أبناؤه ووجوه قريش على إسناد السقاية، وهي أجل رئاسات قريش، إلى ابنه العباس، وهو يومئذ أحدث أبنائه، كما عهدوا بكفالة ابن أخيهم عبد الله إلى أخيهم أبي طالب، فتولى أمر تربية محمد وتهذيبه والعطف عليه حتى ألفه محمد، وأصبح لا يطيق مفارقته، ويذكر الرواة أن أبا طالب أراد في السنة التاسعة لعام الفيل أن يخرج للاكتساب والتجارة، وأحس محمد بأن عمه وكافله يريد أن يبتعد عنه، فتعلق به وألح عليه في الذهاب معه؛ فأخذه في رحلة الشام، ويقال إن الركب لما بلغ بصرى الشام، ونزلوا بصرى بقرب صومعة راهب اسمه بحيرا رأى محمدا، فتوسم فيه الخير، ودعا له، وأوصى عمه به،
13
فاشتد حرص أبي طالب على ابن أخيه، وأصبح لا يفارقه إلى أن عاد من رحلته، وكان محمد يشب ويترعرع وهو متخلق بأفضل الأخلاق متصف بأنبل السجايا بعيد عن أوضار الجاهلية، ويجمع الرواة والمؤرخون على أنه اشترك في هذه الفترة من عمره بحادثتين؛ «أولاهما»: شهود حلف الفضول الذي عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة. «وثانيهما»: خروجه مع أعمامه في حرب الفجار التي وقعت بين قبائل قريش وكنانة وبين قيس وعيلان،
14
وقد كان محمد يذكر حرب الفجار ويقول: «كنت أنبل على أعمامي.» أي: إنه كان يرد عنهم سهام الأعداء، كما كان يذكر حلف الفضول، ويقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت.» أي لما كان عليه ذلك الحلف من المبادئ الإنسانية السامية والأخلاق الرصينة.
وبعد، فهذه لمحة عن بيئة محمد، وشيء عن طفولته، وهي كما ترى بيئة رفيعة رضية، وطفولة طاهرة مرضية. (2) في سيرة محمد
صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة
نشأ الطفل النبيل محمد في تلك البيئة النبيلة متحليا بالأخلاق الفاضلة، والسجايا العربية الشريفة والمزايا القدسية الحسنة، فلما أدرك سن البلوغ ظهرت كمالاته، ففحص ما حوله، ودقق فيما كان عليه قومه، فرأى بعقله السديد أن العرب في جهالة جهلاء، وأنهم قد ابتعدوا عن الدين الحنيفي القويم، وسلكوا مسالك الزيغ والضلال؛ بما أشركوا مع الله وما أفسدوا من شعائر دين الله، على أنه قد رأى فيما كان عليه آباؤه من حلم ونبل وأخلاق وعقل؛ شيئا من ديانة إبراهيم وابنه إسماعيل، فأعجبته وتمسك بها.
ثم رأى أن في العرب من سكان الحجاز نفرا قد نفروا عن الإشراك بالله، وتخلوا عن التقاليد الوثنية إما إلى النصرانية أو اليهودية أو إلى الحنيفية، فأعجبه ذلك، وأخذ يلتمس الحنيفية، ويبحث عن الطريق السوي، ولكنا لا نعرف بوجه يقين ما كانت عليه حقيقة أمره في تلك الفترة من حياته، وعلى أن هناك بعض آيات قرآنية نستطيع أن نفهم منها ما كانت عليه نفسه في تلك الفترات من عمره من التفتيش عن دين الله والاهتداء إلى الصراط المستقيم، كقوله تعالى:
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (سورة الأنعام: 161-163)، ولم يكن عمل محمد هذا بدعا، فقد تواردت الأخبار في القرآن والسنة والشعر الجاهلي وكتب السيرة عن جماعات من العرب في مكة ويثرب والطائف وسائر الحجاز والجزيرة تخلوا عن الشرك وقدسوا الله ووحدوه، واتبعوا ما بقي من ديانة إبراهيم أو ما ظنوه من بقايا ديانة إبراهيم:
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (سورة النحل: آية: 120-123).
ولم نعثر فيما بين أيدينا من نصوص قرآنية وتاريخية وشعرية على شيء يبين كيف كان يتعبد محمد، أو كيف كان يقضي أوقاته في التحنث، فهل كان يمارس الطقوس الدينية التي كان يمارسها العرب من السجود أمام الكعبة أو القيام بطقوس الحج أو ما إلى ذلك؟ وهل كان يجاري قومه في القيام ببعض الشعائر الدينية الأخرى مما عرفناه سابقا! الحق أن معلوماتنا في هذا الصدد قليلة جدا، ولا نرى ما رآه الأستاذ عزة دروزة في كتابه القيم «سيرة الرسول» حيث يقول: «أن ليس في القرآن ما يمكن الاستدلال به على كيفية تعبد النبي
صلى الله عليه وسلم
لربه قبل البعثة، ولقد استدللنا في كتابنا «عصر النبي» وبيئته قبل البعثة
صلى الله عليه وسلم
على أن أهل هذه البيئة من العرب كانوا يعرفون أن الصلاة مظهر من مظاهر العبادة لله أو إلههم، وأنهم كانوا يقومون بصلاة تعبدية، وأن حالات الركوع والسجود كانت معروفة وممارسة ككيفيات تعبدية عند العرب والكتابيين، وعند العرب أمام الكعبة بنوع خاص، وبناء على هذا فإننا نستطيع أن نقرر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يعرف هذه الكيفيات، وأنه كان يمارسها جهرا عند الكعبة وفي صلواته كعمليات تعبدية قبل بعثته لله وحده.»
15
ولا أدري حجة الأستاذ في هذا القول، فإن أحدا ممن كتب في سيرة الرسول من القدامى الموثوق بأقوالهم لم يذكر شيئا من كيفية تعبد محمد قبل البعثة، والقرآن الكريم على الرغم من تقصيه لأحوال النبي لم يشر إلى شيء من هذا القبيل كما رأينا، وإنما ذكر أنه كان يتطلب الهداية من ربه إلى أن هداه إلى الصراط المستقيم دين أبيه إبراهيم، على أنهم رووا أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء، وأن النبي كان يصومه، وهو يوم تجديد أستار الكعبة.
وهنا أمور لابد من الإشارة إليها، وهي تتعلق بمعرفة النبي القراءة والكتابة، وبعلمه وثقافته واطلاعه على ديانات الأقدمين، وما إلى ذلك. (2-1) كتابة النبي وأميته
يذهب جمهور المسلمين من علماء دين ومؤرخين إلى وصف النبي بالأمية، ونفي اكتسابه العلوم، وتوكيد ذلك، والإصرار عليه تصحيحا لجلال نبوته، وتفخيما لحركته؛ ظنا منهم أن أمية النبي وجهله للكتابة والقراءة يرفع من قدره، وأن القول بكتابته يحط من قدره، وسنعرض فيما يلي لبيان هذا الأمر حسبما توصلنا إليه.
يستند القائلون «بأمية النبي»
صلى الله عليه وسلم
على الآية القائلة:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (سورة العنكبوت: آية 48)، والآية القائلة:
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (سورة الفرقان: آية 5)، أما الآية الأولى فهي في أن النبي كان قبل البعثة النبوية لا يقرأ ولا يخط، وأما الآية الثانية فتقول كذلك بأميته وأنه كان يستكتب بعض القصص، وأنها كانت تملى عليه فيستمع إلى من يتلوها صبحا ومساء حتى يحفظها، ثم يقصها زاعما أن الله أوحاها إليه،
16
وليس في القرآن الكريم أو كتب السنة الصحيحة حجة على أميته أقوى من هاتين الآيتين، وما يقال من أن هناك آية ثالثة تؤيد ذلك وهي وصف الله له «بالنبي الأمي» (في سورة الأعراف: 157) فقول مردود؛ لأن كلمة «الأمي» يراد بها في القرآن الكريم من لم يكن كتابيا؛ أي يهوديا أو نصرانيا ذا كتاب. «والأميون» في القرآن هم يقابلون «أهل الكتاب»؛ ففي سورة آل عمران:
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا ، قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: قل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم؟ ... ومثلها قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا (سورة الجمعة)، وقوله:
ليس علينا في الأميين سبيل (آل عمران: 75) ... على أن في القرآن آية واحدة يفهم منها أن المراد بالأميين هم الذين لا يقرءون ولا يكتبون، أو الضعفاء في القراءة والكتابة، وهي آية (البقرة: 78):
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب .
وبعد، فإذا صح أن «النبي الأمي» أنه لم يكن من أهل الكتاب، وهذا أمر لا شك فيه، لم يبق هناك دليل يمنع من وصف النبي بأنه كان يكتب ويقرأ، وخصوصا بعد الهجرة تماشيا مع آية العنكبوت، فليس من المستبعد أن يكون محمد قد عرف شيئا من الكتابة والقراءة بعد البعثة أو الهجرة؛ فقد وردت عدة شواهد في كتب السيرة والحديث تفيد أنه كان يكتب ويقرأ شيئا قليلا، فقد أجمع المؤرخون ورجال السيرة على أنه لما عقد مع كبار قريش صلح الحديبية دعا عليا كما في صحيح مسلم، وقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال زعيم قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس:
17
لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال: اكتب. فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لما قاتلتك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال محمد لعلي: امح محمد رسول الله. قال: لا والله لا أمحوك، فأخذ رسول الله الكتاب فكتب: ابن عبد الله،
18
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عتيبة بن مسعود قال: ما مات النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى كتب وقرأ، قال عجالة: فذكرت ذلك للشافعي فقال: صدق، سمعنا قوما يذكرون ذلك.
19
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أن منده بسنده إلى عوف بن عبد الله بن عتيبة عن أبيه قال: «ما مات النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى قرأ وكتب.»
20
وروى البخاري في باب عمرة القضاء: «فأخذ رسول الله الكتاب، وليس يحسن، فكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبد الله.»
21
فنحن نرى من أقوال البخاري ومسلم في صحيحيهما وابن أبي شيبة في مسنده والذهبي في تذكرته أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب، وقد بحث هذه القضية كثير من أئمة المؤلفين القدامى، وناقشوها، ولم يجدوا في القول بها ما يحط من قدر النبي.
ومن أقدم من بحث في أمر «كتابة النبي» الإمام المؤلف المؤرخ المحدث الراوية عمر بن شبة بن عبيد النميري البصري (262)، فقد ألف كتابا «في الكتاب» ذكر فيه هذه القضية، وقال: كتب النبي
صلى الله عليه وسلم
بيده يوم الحديبية.
22
ثم جاء الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث (474) فجزم بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب، وقد حمل عليه بسبب ذلك جماعات من الفقهاء حتى إن بعضهم كفره، قال برهان الدين بن فرحون في الديباج المذهب: إن الذي أنكر على الباجي وكفره هو أبو بكر بن الصائغ الزاهد، وتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام حتى أطلقوا عليه اللعن، فلما رأى ذلك الباجي ألف رسالته المسماة «بتحقيق المذهب» بين فيها المسألة لمن يفهمها، وأنها لا تقدح في المعجزة، كما لا تقدح القراءة في ذلك، فوافقه أهل التحقيق بأسرار العلم، وكتب بها لشيوخ صقلية، فأنكروا على ابن الصائغ، ووافقوا أبا الوليد على ما ذكره،
23
وقال ابن التلمساني في شرح الشفاء الشريف بعد ذكر مذهب أبو الوليد الباجي: وصوب أهل الحق مقالته، وإنه لا يقدح في المعجزة كونه كتب مرة، وقد ألف الفقيه الزاهد أبو محمد عبد الله بن منصور المعاقري جزءا انتصر فيه لابن الصائغ ورد على الباجي.
24
وجاء القاضي الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري المشهور بابن العربي الإشبيلي المحدث الفقيه الأديب (543) فذكر في كتابه «سراج المريدين» حين تكلم على «الغربة» وقال: وأشد أنواعها فقد النظير وعدم المساعد، والاضطرار إلى مصاحبة الجاهل، وذكر بقي بن مخلد ومحسن بن موهب، وما لقيا من أهل بلدهما بعد الرجوع من الرحلة حسدا على ما رجعا به، ثم قال ... وهذا أبو الوليد الباجي رحل وأبعد، وجلب علما جما، وقرئ عليه البخاري وفيه أن النبي محا وكتب، فقيل له: على من يعود قوله «وكتب»؟ فقال: على النبي، فقيل له: وكتب بيده؟ فقال: نعم، ألا ترونه يقول في الحديث: «فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الكتاب، وليس يحسن الكتابة، فكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله»، فقولوا عليه، وحملوا كل تكذيب وتعطيل عليه، وانتدب جاهل من المقرئين - فأخبرني أبو محمد عن ابن أبي عصام - بالمسجد الأقصى قال: رأيته يصيح في المسجد الجامع ويعلن بالزندقة إليه، بيد أن الأمير كان متشبثا فدعا بالفقهاء، فاتفقوا على أن هذا القول كفر، فاستظهر الباجي ببعض الحجة في ذلك، وقال للأمير: هؤلاء جهلة، ولكن اكتب إلى علماء الآفاق، فكتب إلى أفريقيا وصقلية، فجاء الجواب: أن يكتب بعد أميته فيكون ذلك من معجزته، لا يطعن أحد بذلك عليه؛ لأنهم تحققوا أميته، ثم شاهدوا معجزته، فوقفوا ولم يطعنوا.»
25
ثم جاء الإمام أبو الفرج بن الجوزي (597) فقال في كتابه «المشكل»: إن إطلاق يده
صلى الله عليه وسلم
بالكتابة ولم يحسنها كالمعجزة، ولا ينافي هذا كونه أميا لا يحسن الكتابة؛ لأنه ما حرك يده تحريك من يحسن الكتابة، إنما حركها فجاء المكتوب.
26
ثم جاء الحافظ الحجة الإمام عمر بن الحسن بن دحية الكلبي الأديب الكاتب المحدث (633) فقال بذلك، ونقله عنه قطب الدين محمد بن محمد الحضيري محدث الشام (894) وقال: إن جماعة من العلماء وافقوه على ذلك فيهم شيخه أبو زر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء أفريقيا.
27
ثم جاء الإمام المحدث الفقيه الحجة مؤرخ الإسلام محمد بن أحمد الذهبي (748) وتعرض لهذه القضية، فقال في ترجمة أبي الوليد الباجي: إن الباجي لما ألف رسالته التي بين فيها أن ذلك - أي كون النبي كان كاتبا - غير قادح في المعجزة رجع عنها جماعة، ثم قال: ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا؛ لأنه لا يسمى كاتبا، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة - أي توقيعهم وإشارات ملكهم - وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة، فقد قال عليه السلام: «إنا أمة أمية» أي: أكثرهم كذلك، لندور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ،
28
وقال في ترجمة الحافظ ابن منده: إنه روى بسنده إلى عوف بن عبد الله بن عتيبة عن أبيه قال: «ما مات النبي حتى قرأ وكتب.» ثم علق على هذا الحديث بقوله: قلت: وما المانع من جواز تعلم النبي
صلى الله عليه وسلم
يسير الكتابة بعد أن كان أميا لا يدري ما الكتابة؟ فلعله لكثرة ما أملى من كتاب الوحي وكتاب السنن والكتب إلى الملوك هذه عرف من الخط وفهمه، وكتب الكلمة والكلمتين، كما كتب اسمه الشريف يوم الحديبية «محمد بن عبد الله»، وليست كتابته لهذا القدر اليسير مما يخرجه عن كونه أميا ككثير من الملوك أميين يكتبون العلامة،
29
وقال أبو عيسى المهدي بن أحمد الفاسي في كتابه «سمط الجوهر الفاخر في مفاخر سيد الأوائل الأواخر»: كتب
صلى الله عليه وسلم
بيده كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام، منها كتابه
صلى الله عليه وسلم
في الصدقات، كان عند أبي بكر، وكتابه
صلى الله عليه وسلم
في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر، وكتابه
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل اليمن في أنواع من الفقه وأبواب مختلفة، وهو كتاب جليل احتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات.
30
وقال الإمام عبد الله بن الحسن بن أحمد القرطبي المحدث القارئ المفسر (611) في مختصره عن شرح البخاري عند حديث «عمرة القضاء» قوله: فأخذ الكتاب فكتب «ظاهر قوي في أنه عليه السلام كتب بيده، وقد أنكر قوم تمسكا بقوله تعالى:
وما كنت تتلو ... إلخ.» قال: «ولا نكرة فيه؛ الخط المنفي الخط المكتسب عن التعليم، وهذا خط خارق للعادة أجراه الله على أنامل النبي مع بقائه لا يحسن الكتابة المكتسبة، وهذا زيادة في صحة نبوته.»
31
وقال الشهاب أحمد بن محمد الخفاجي قاضي القضاة الأديب العلامة (1069) في شرح الشفاء بعد أن لخص ابن العربي السابق علق عليه بقوله: ورأيت في بعض الكتب أنه مما يدل على ذلك - أي على معرفته الكتابة - أنه
صلى الله عليه وسلم
قال لكاتبه طول السينات، وقوله تعالى:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ، فقوله
من قبله
يدل على أنه
صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك كان يكتب نادرا.
32
وعقد السيد عبد الحي الكتاني فصلا في كتابه التراتيب الإدارية النفيس الذي اعتمدنا عليه كثيرا من فصول هذه البحوث، عنونه بقوله: «هل كتب عليه السلام بنفسه شيئا، وأمضى بعد كتبه بيمينه الشريفة أم لا؟»
33
وبعد أن أورد أكثر النصوص السابقة، وأيد وجهة نظر القائلين بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب ويقرأ، وأن ذلك لا يطعن في معجزاته
صلى الله عليه وسلم ، وأنه يرى أن مذهب الذهبي هو أحسن المذاهب، وقد علق عليه بعد أن أورده بما نصه: كلام الذهبي وهو وجيه لا غبار عليه ... وما أشار إليه الذهبي أقوى صدمة للمعارضين من كون كتابته
صلى الله عليه وسلم
كانت معجزة، وقال بعد أن أورد كلام القرطبي: قلت أحسن منه ما سبق عن الذهبي في ترجمة ابن بنده، ثم قال الكتاني: ووقفت في المدينة المنورة على رسالة حافلة للعلامة المحقق الشمس محمد بن عبد الرسول البزرنجي الشافعي المدني في إثبات الكتابة والقراءة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يتيسر لي تلخيصها. وعندي جزء للفقيه الزاهد محمد بن عبد الله بن مفوز المعافري في نحو كراسة عنوانه: جزء فيه التحرير من ترك الواضحة والتنبيه على غلط القائل «كتب» في يوم الحديبية النبي الأمي، وفي آخره سماعات لأعلام أندلسيين وتونسيين، وموضوعه الانتصار لابن الصائغ في المسألة، والرد على الباجي والله أعلم، وسيأتي في القسم العاشر عن «سمط الجوهر الفاخر» أنه
صلى الله عليه وسلم
كتب عدة كتب بيده الشريفة،
34
وأورد الكتاني في الجزء الثاني من كتابه نص كلام صاحب سمط الجوهر كما أوردناه سابقا، ويمكننا إجمال أقوال الأئمة العلماء الذين قالوا إن النبي كان يكتب بما يلي: (أ)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب اسمه فقط، وهو قول الذهبي. (ب)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب الكلمة والكلمتين، وهو قول الذهبي أيضا. (ج)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب ولكنه لا يحسن الكتابة، وهو قول ابن الجوزي. (د)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب ولكن كتابته لا بالتعليم والاكتساب بل معجزة، وهو قول القرطبي. (ه)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب ولكن ذلك كان نادرا، وهو قول الخفاجي. (و)
أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يكتب كل شيء ويحسن الكتابة، وأنه كتب بيده عدة كتب، وهو صاحب سمط الجوهر.
أما المحدثون من المسلمين فقد تحيروا في هذا الأمر، وخبطوا فيه خبطا ظانين أن البحث في هذا الأمر الحرج مخرج للمرء عن دينه مثير للعامة عليه، وخير من بحث فيه هو الأستاذ العلامة الصديق: محمد عزة دروزة في كتابه «سيرة الرسول»، فهو بعد أن أورد آية العنكبوت (48) قال: إنها تضمنت نصا صريحا على أن النبي لم يكن يكتب أو يقرأ قبل البعثة ... ثم أورد آية الفرقان، فقال: وهذا يؤيد أنه كان لا يقرأ ولا يكتب ... وننبه أولا إلى أن هاتين الآيتين هما اللتان تفيدان أن النبي لم يكن يقرأ أو يكتب لا كلمة «الأمي» ... إذ إن هذه الكلمة قد استعملت ... بمعنى «غير كتابي» ... وثانيا إلى أن آية العنكبوت إنما تنفي معرفة القراءة والكتابة عن النبي قبل البعثة، ولقد وردت روايات تفيد أنه
صلى الله عليه وسلم
كان بعد بعثته يكتب اسمه، وأنه محا كتابة معينة بيده في أثناء مفاوضات صلح الحديبية، وكتاب عقد الصلح، وبقطع النظر عن سند ومضمون تلك الروايات، فليس من المستبعد أن يكون قد تعلم القراءة والكتابة بعد بعثته، كما أن الآية لا تنفي ذلك، غير أن هذا إن كان وقع قد ظل فيما نعتقد في دائرة محدودة لا تتعدى كتابة الاسم أو قراءة بعض الجمل؛ لأنه لو تعدى هذه الدائرة لأثر في الروايات والأحاديث على الأقل،
35
ويتجلى من هذا أن الأستاذ دروزة يميل إلى مذهب الذهبي في أن الرسول قد تعلم القراءة والكتابة بعد البعثة؛ لكثرة ما أملى، واتصل بالكتاب، ولكن علمه لم يتجاوز الجملة أو بعض الجمل.
أما المستشرقون فقد بحثوا في الأمر مفصلا، وأفضل من بحث فيه هو شيخ المستشرقين في هذا القرن، وهو البرنس كايثاني، فقد ذهب إلى: «أنه من غير المعقول أبدا ألا يكون النبي قارئا وكاتبا، وحجة ذلك ما في القرآن من المعارف والعلوم والأخبار، وأحوال الكتابة والكتاب، فمن المستحيل أن يصدر عن رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، وأن فتيان قريش وشبابها من لداته وبيئته وأبناء عمومته وخئولته كانوا يقرءون ويكتبون، وأن الفترة التي كان بها محمد كانت فترة تتجه نحو الثقافة والتكامل العقلي، فلا يعقل أن يشب محمد أميا في هذه البيئة، ولكن محمدا - إظهارا لكون حركته حركة إلهية ومعجزة - كان يخفي علمه بالكتابة والقراءة، ويكتم ذلك على الناس وعن أصدقائه.»
36
أما الشق الأول من كلام المستشرق كايثاني فلا غبار عليه، ولكنا نخالفه في الشق الثاني؛ وهو دعواه أن النبي كان يكتم أمره ويتظاهر بالأمية؛ ليكون ذلك أوقع في قلوب سامعيه، وهو أمر يأباه ما أثر عنه
صلى الله عليه وسلم
من خلق نبيل وصدق متوافر مقطوع به، كما يجل على أن يتصف ذلك «الأمين» الذي خبره قومه، وعرفوا سمو خلقه، ونبل نفسه، وصدق حديثه، ثم إن سورة العنكبوت لتدل دلالة صريحة على كون النبي أميا لم يتعلم الكتابة كما كان يتعلمها لداته؛ لأن القرآن كان منتشرا بين الناس يقرءونه ويعونه، فلو كان فيهم من عرف أن محمدا قد تعلم معه أو فيهم ما قد يدل على تعلمه الكتابة والقراءة لأنكر عليه مضمون تلك الآية، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.
وصفوة القول في هذه القضية - وهو الذي نرتئيه - هو أن محمدا كان قبل البعثة لا يقرأ ولا يكتب، ولم يؤثر عنه أنه تعلم في كتاب ، ولا درس في مدارس، ولا لازم شخصا من لداته أو شيوخه تعلم منه الكتابة والقراءة، وإنما كان واسع الإدراك ذكيا فطنا لبيبا، ولما أوحى الله إليه أن يبشر بدينه ويدعو إلى تقديسه كثر اختلاطه بالناس من كتاب وقراء في مكة والمدينة اللتين كانتا تعجان بالقراء والكتاب، وكان لأماليه على كتابه، وقراءاتهم أمامه وتدقيقه في رسائلهم وأوراقهم ووثائقهم وشدة تعمقه في تتبع كل جليل ودقيق، وبخاصة في أمر الرسائل - كما سنرى ذلك مفصلا فيما بعد - أثر كبير في تعلمه الكتابة والقراءة، وإحاطته ببعض متعلقاتها ، ومعرفته ببعض قواعد الخط وأصوله، ولسنا نرى في هذا أيه غضاضة على معجزاته، فإن العلي القدير قد حباه بمواهب انفرد بها، ومزايا كانت موضع الغرابة والعجب والفخر
صلى الله عليه وسلم . (2-2) مواهبه وثقافته
كان لمحمد اطلاع واسع على تاريخ قومه وآدابهم، ويظهر لنا ذلك مما نجده في كتب السنة من رسائله ومعاهداته ومواثيقه وخطبه وحكمه ومواعظه، كما تتجلى لنا من مطالعة آثاره فصاحة معجزة، ولا غرو فإن مواهب محمد
صلى الله عليه وسلم
مواهب انفرد بها من بين لداته سواء منهم من كان خطيبا أو حكيما أو شاعرا، فقد نشأ في بيت عرف أهله بالعقل الرجيح، والقول الفصيح، والحكمة البليغة، واللهجة الفصيحة، ثم إنه نشأ في بني سعد، فقد أجمع كل من كتب عن فصاحته ومواهبه أنه كان ذا اطلاع واسع على لهجات عرب الحجاز وسائر بقاع الجزيرة، وكان يكلم كل قوم بلهجتهم وفصيح عبارتهم، وكان يعيد أقواله، ويكرر كلماته ليعقل عنه، وكان يكره التشادق والتفاصح والتحلف والتقعر، ويقول: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها.» وكان يكره سجع الكهان المصنوع الثقيل على الأسماع، أما السجع المستساغ المحبوب المطبوع الصادر عن السليقة الطبيعية؛ فإنه كان يحب قوله وسماعه كما كان يحب الشعر الجيد، ويطرب له، ويجيز عليه، ولما سمع قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
طرب له وقال إنها أصدق كلمة قالها شاعر، ولما سمع بعض شعر أمير الشعراء الجاهليين وسيد فحولهم امرئ القيس، قال إنه صاحب لواء الشعر، ولكنه كان لا يرضى عن عهره وفسقه في شعره، فيقول: «إنه صاحب لواء الشعراء إلى النار.» وكان يطرب لشعراء الإسلام الداعين إلى محاسن الأخلاق ومكارم الشيم، والمنافحين عن الدين الجديد أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكان يستحسن أشعارهم، ويردد جميل أقوالهم، ويدرك مواطن الفصاحة ومواضع سحر القول وجماله، ولا عجب فإنه أفصح العرب، وصاحب جوامع الكلم، ومالك أعنة القول، حسن المنطق، سليم اللهجة، خال من عيوب اللفظ، بارع الإشارة، وقد وصفت السيدة عائشة طريقه في القول، فقالت: «ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من يجلس إليه.»
وقد قضى محمد سني شبابه وهو يفكر فيما حوله، ويدرس هذا الكون في أرضه وسمائه وحيوانه، وأناسه وشجره وزهره، فيحلل كل شيء يراه، ويستخلص منه العبر.
أما اطلاع محمد على أخبار النبوات السابقة فلا شك في أنه قد عرفه مما كان يسمعه من أقوال أحبار اليهود أو متهودة العرب وحنفائهم، أما أنه كان يتدارس ذلك ويتلقاه كما زعم بعضهم حتى في زمن النبي فأمر لم يثبت، وقد رد القرآن على هؤلاء فقال:
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (سورة النحل آية: 103)، فقد زعم بعض مشركي قريش أن محمدا إنما كان يتردد على بعض الحدادين النصارى في مكة واسمه «جبرا»، وأنه كان يتعلم منه ويطلع على أخبار النبوات السابقة، فردت عليهم الآية وهي وإن لم تنكر التردد على الرجل أصلا، وإنما أنكرت عليهم أن يقولوا إن محمدا كان يتعلم من هذا الأعجمي، إن ما يجيء به عربي مبين، وقد أورد المفسرون في تأويل هذه الآية أن محمدا كان يتردد قبل البعثة إلى رجل نصراني فيسمع منه، وليس هذا بالغريب ولا بالمستحيل ولا بالطاعن في النبوة، ومثل هذه الآية آية الفرقان:
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ، والآية لا تنفي كون محمد قد اتصل قبل البعثة أو بعدها بفرد أو جماعة آخرين تذاكر وإياهم ببعض أمور الحياة الأخرى والدين؛ أمثال سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأبي بكر الصديق، وعثمان، وإنما تنفي مزاعم الكفار أن ما جاء به محمد هو إفك وباطل. (2-3) شخصيته
كان محمد
صلى الله عليه وسلم
فتى عربيا أصيلا لم يطعن أحد في حسبه أو نسبه، وكانت له أسرة محترمة وجيهة من أعمام وعمات وأخوال وخالات وأبناء عمومة وخئولة، وقد نشأ منشأ متواضعا في حضانة رحيمة على يد أمه وجده وعمه - رضي الله عنهم - وكان منذ نعومة أظفاره رهيف الإحساس، يتطلع إلى ما يتطلع إليه لداته، وقد أفاد معارف كثيرة في العلم من اتصاله ببعض النبهاء الأجانب كسلمان وبلال وصهيب وجبرا، أو العرب أمثال أبي بكر الصديق وعثمان وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة وغيرهم من أصدقائه في الجاهلية وأوائل المسلمين، وكلهم عرف عنه الفضل والعقل، وليس في هذا أي مطعن عليه فإنه بشر، وهذه سنة البشر.
وقد اشتهر محمد
صلى الله عليه وسلم
في قومه قبل البعثة بالأمانة والعقل والصدق وعدم الفضول وحب الخير والبعد عن مساوئ الأخلاق، وكانوا يلقبونه «بالأمين»، وقد فرحوا لما رأوه مقبلا عليهم حين اختلفوا في يوم بناء الكعبة في من يضع «الحجر الأسود»، فحل المشكلة أحسن حل ووضعه في مكانه، وفي القرآن والشعر الإسلامي شواهد كثيرة تنطق بسمو شخصيته، وتعدد مزاياه وفضائله، وتعطينا صورة نضرة عنه تهدم كل ما بناه المستشرقون والمبشرون من التهجم عليه، ووصفه بمرذول السجايا قبل الطعن في شرفه وأصالته، ووصفه بالجنون والسفه والصرعة، وما إلى ذلك،
37
على الرغم مما كان عليه من الخلق العظيم والأمانة والصدق والزهد والثقافة في الله، والأخلاق التعبدية:
وإنك لعلى خلق عظيم (القلم: 4)،
الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام: 124)،
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك (سورة آل عمران: آية 159)،
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (التوبة: 128).
ولم يكن محمد على شيء من عنجهية الشباب المغرورين بجاههم ومكانتهم، بل كان متواضعا متفانيا في دعوته؛ ليسهل كل شيء في سبيلها، ويستوي عنده الغنى والفقر والجوع والشبع والنوم والسهر في الوصول إليها، وكان ناصرا للحق صابرا على المكروه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا بالموعظة، مسالما وقت السلم محاربا وقت الحرب، وصفوة القول أن شخصيته تتحلى بما أودعه الله في القرآن من السجايا النبيلة والصفات الكاملة، ولقد صدقت عائشة حينما سئلت عن أخلاق النبي وشخصيته وما كان يتحلى به فقالت: إنها كانت أخلاق القرآن، وهو جواب صادق. (3) في الحوادث الكبرى قبل البعث (3-1) زواجه من السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي
كان محمد في شبابه يعيش في كنف عمه أبي طالب، وربما رعى الغنم لبعض أهل مكة على قراريط كما ذكر ذلك البخاري وابن إسحاق،
38
ولما جاوز العشرين بعثت إليه خديجة بنت خويلد - التي رأت فيه الأمانة والثقة - غلامها ميسرة، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرا في رحلة الصيف على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي التجار، وكانت امرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، فقبل محمد وخرج سنة 594م ومعه ميسرة حتى قدم الشام فتاجر، ثم قفل إلى مكة فباعت ما جاء به وربحت، ثم إنها بعثت إليه قائلة: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، فانشرح صدره لذلك لما كانت عليه من الشرف والنبل والجاه.
ولدت خديجة في أواسط القرن السادس، وكان لها - لما خطبها محمد - نحو من أربعين سنة، وهي من أعرق أسر قريش شرفا وأكثرهم مالا؛ فأبوها خويلد كان ممن قاد قريشا في حرب الفجار، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي، ويذكر الذهبي أن جدها عمرو بن خنثر المزني كان من أبطال الجاهلية وشيوخها، وعمها عمرو بن أسد كان من سادات قومه ووجوههم وأثريائهم، وأخوها العوام بن خويلد كان من عقلاء قريش، وأما جدها وهو والد الزبير بن العوام [...] وأبناء عمومتها حكيم بن حزام، وورقة بن نوفل، وقتيلة بنت نوفل. فأما حكيم فقد كان من أنبل الرجال وأكرمهم، وكان له موقف مجيد يوم حاصرت قريش بني هاشم في الشعب؛ فإنه لم يتأخر عن خدمتهم ومعونتهم بكل ما يستطيع، وورقة بن نوفل كان من الحنفاء والعقلاء في الجاهلية؛ قرأ التوراة والإنجيل وكتب العبرانية، وقتيلة أخته كانت نبيلة عاقلة نظرت في الكتب القديمة ودرستها .
تزوجت خديجة قبل محمد رجلين؛ أولهما: النباش بن أبي زرارة، لم يلبث أن مات، فتزوجت بعده عتيق بن عائد المخزومي،
39
وقد ورثت عن أبيها وزوجها مالا كثيرا كانت تستعمله في الاتجار، ولما عرضت خديجة على محمد الزواج شاور أعمامه فقبلوا، وخرج هو وعمه الحمزة حتى أتيا وليها - أباها وفي رواية أخاها - فخطبها إليه، ووافق على ذلك، فاحتفل القوم بهذا، وخطب أبو طالب في ذلك الحفل فقال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل ضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حفظة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا حرما محجوجا، وبيتا آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا يرجح عليه، فإن كان في المال فلا فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله اثني عشر أوقية ونش (النش نصف أوقية والأوقية أربعون درهما)، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.» ثم تمت الخطوبة والزواج، وحضره رؤساء مضر وشيوخ قريش.
40
ولما تزوجها نحر جزورا أو جزورين وأطعم الناس، وهي أول وليمة أولمها محمد،
41
وكانت به برة رحيمة وفية، تعطف عليه وتحنو وتفديه بمالها وجاهها، وقد استطاع محمد بجانبها أن يجد السكينة والهدوء، وينصرف عن التكسب للمعاش إلى التفكير والتحنث، ودراسة الكون، والتطلع إلى السماء، ولولاها للقي من دهره عنتا، فقد كانت - رضوان الله وسلامه عليها - على جانب كبير من الحنان والعطف، وقد أحست بنبل قلب محمدها وعظم نفسه، فهيأت له الأسباب للهدوء والطمأنينة لما قرأت في عينيه من الإخلاص والإيمان، وما وجدت في قلبه من سمو الأخلاق والفضل، وكان هو يقدر فيها هذا الحنو والحب فبادلها حبه وإعجابه، ولم يكن محمد كسائر رجال العرب، فهو فذ في أفكاره، فذ في طعامه، فذ في شرابه، فذ في حركاته وسكناته، وكان لا يفكر بما يفكرون، ولا يأكل كما يأكلون، ولا يشرب كما يشربون، ولا يتحرك كما يتحركون ، كان ميالا إلى العزلة، يطيل الانفراد والخلو بنفسه بعيدا عن ضوضاء المجتمع المكي الصاخب، فهيأت له ما يحب ويتمنى، وكان يشتهي أكلات خاصة من الدباء، والعسل، والخزبر، والثريد، والخزيرة،
42
والخبيص والشواء ولحم الدجاج، والكبد، والسمك، والسلق، والتمر، والمنقوع باللبن المخلوط بالقثاء،
43
ويكره الثوم، والبصل، وكل كريه الرائحة، فتكثر له ما يحب، وتبعده عما يكره، وكانت تعنى بلباسه وطيبه ونظافته.
وقد رأت رغبة محمد في الانزواء والتحنث في غار حراء، فكانت تهيئ له ما يحتاج إليه في خلوته الإلهية من زاد وماء، كما كانت تتعهده إذا طالت غيبته عنها، ولكنها كانت رفيقة به لطيفة معه لا تقطع عليه تأملاته، ولا تكدر صفو تحنثه.
وكما كانت زوجة برة، كانت أما صالحة تعتني بأولادها منه، وتحنو عليهم، وقد ولدت له كل أولاده ما عدا إبراهيم ابن مارية القبطية، فقد رزق منها: القاسم، فزينب، فرقية، ففاطمة، فأم كلثوم، وهؤلاء جميعا قد ولدتهم قبل الإسلام، ثم ولدت له بعد الإسلام: عبد الله الطيب، وأخاه الطاهر، وقد ماتا صغيرين، أما البنات فقد أدركن الإسلام، وتزوجن وهاجرن معه، وقد ضم محمد إلى أسرته ابن عمه علي بن أبي طالب برا بعمه أبي طالب وتكريما لعلي، وكانت خديجة حفية بأبنائها وبناتها تنشئهم أحسن تنشئة، وتعق للغلام منهم بشاتين والفتاة بشاة، وتسترضع لهم أحسن المراضع على الطريقة العربية القديمة. «وبعد»، فإن عظمة هذه السيدة الفاضلة تتجلى في تثبيت قلب محمد بعد الدعوة، وإعانته على تحمل أعبائها، وبخاصة في السنوات الأولى من البعثة حين تألب الناس عليه
صلى الله عليه وسلم
فأنكره الأقربون وآذاه المشركون، فوقفت هي وقفة السيدة الكبيرة العاقلة المفكرة، تمتن فؤاد محمد، وتسكن خاطره بقولها: «والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، إلخ ...» تلك الأقوال الجميلة الجليلة التي سنعرض إليها فيما بعد، وقد شاطرت هذه السيدة الفاضلة النبي كل ما تحمله في سني الدعوة الأولى من المحن، وعملت على نصر دين الله، ولما اشتدت خصومة قريش على النبي وآل البيت الهاشمي وحصروهم في الشعب، ومنعوهم من وصول الطعام والماء إليهم أنفقت خديجة كل أموالها في سبيل تأمين معيشتهم، وقاست هذه السيدة المرفهة في أواخر عمرها ظروفا قاسية، فأضر ذلك الحصار بجسمها، ولم تعش طويلا بعد أن خرج النبي
صلى الله عليه وسلم
وآل البيت من الشعب، ماتت في عاشر رمضان من السنة العاشرة لمبعثه
صلى الله عليه وسلم ،ولها من العمر خمسة وستون عاما، فدفنها الرسول في الحجون، وكان كثير البر بها والذكر لها. (3-2) اشتراكه في بنيان الكعبة ووضع الحجر الأسود
كانت الكعبة أقدس مكان لدى العرب منذ جاهليتهم الأولى، توارثوا تقديسها كابرا عن كابر منذ أيام إبراهيم، ولقد بنيت الكعبة خمس مرات «أولاهما» أيام النبي شيت
صلى الله عليه وسلم
في العهد الغابر، «والثانية» أيام إبراهيم وكانت أول أمرها رضما فوق القامة؛ أي حجارة تتجاوز قليلا طول الإنسان، وقيل إنها كانت تسعة أذرع، وقد استمرت على ذلك إلى ما قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، «والثالثة» أيام قريش؛ قال ابن إسحاق: اجتمعت قريش قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
بخمس سنوات لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها - إذ لم يكن لها سقف من قبل - ولكنهم يهابون ذلك، ثم أقدموا عليه، «والرابعة» حين احترقت أيام ابن الزبير، «والخامسة» أيام عبد الملك بن مروان، ولما استخلف أبو جعفر المنصور أراد هدمها وبناءها من جديد فقال له مالك بن أنس: أنشدك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة الملوك من بعدك .
44
أما البناء الذي اشترك فيه محمد
صلى الله عليه وسلم
فقد كان في السنة الخامسة والثلاثين من عام الفيل، حين رأت قريش أن كنوزها قد سرقت، وأن اللصوص قد عاثوا فيها؛ لأنها لم تكن مسقوفة ففكروا في سقفها، ولكنهم خافوا مغبة ذلك أول الأمر، ثم قال الحكماء: ليس في هذا بأس، فأقدموا على هدمها، وباشر ذلك الوليد بن المغيرة، وأحضروا لها الخشب من سفينة ألجأتها الرياح إلى ساحل جدة، وعهدوا بها إلى نجار قبطي أن يقوم بذلك، فأخذ يهيؤه وهم يبنون، وكان المشرف على ذلك أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي خال النبي، وقال لقريش: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا حلالا، ولا تدخلوا فيه مهر بغي أو بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس، ثم إن قريشا تجزأت الكعبة؛ فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمع وسهم، وكان شق الحجر وهو المعروف بالحطيم لبني عبد الدار بن قصي، وبني أسد بن عبد العزى، وبني عدي بن كعب.
قال ابن هشام: ولما أرادوا هدمها قال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا نريد الخير، ثم هدم من ناحية الركن، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: انتظروا فإن أصيب لم نهدم شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا فهدمنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسمنت آخذ بعضها بعضا،
45
ولما شرعوا في البناء، وبلغوا موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال أنفسهم، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، وتعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في الدم، ومكثت قريش أربع ليال أو خمسا وهم مختلفون، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومي - وكان أسن قريش: يا معشر قريش، اجعلوني بينكم فيم تختلفون فيه؛ إن أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم، ففعلوا فكان أول من دخل محمدا، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هلم إلي ثوبا؛ فأتي له، فأخذ الركن فوضعه بيده فيه، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة ناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده، ثم بنى عليه، فلما فرغوا من البنيان من ذلك قال الزبير بن عبد المطلب قصيدة منها:
فقمنا حاشدين إلى بناء
لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه
وليس على مسوينا ثياب
أقر به المليك بني لؤي
فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي
ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا
وعند الله يلتمس الثواب
وكان بناؤها هذا ثماني عشر ذراعا، وجعلوا لها كسوة من القباطي والبرود. (3-3) الوحي
مقدمة في الوحي والنبوة. الوحي هو في اللغة الإلهام الغريزي، أو الإشارة الخفية السريعة، والإلقاء في الروع، وفي الاصطلاح: هو الإلهام الذي يقذفه الله في قلب النبي أو الرسول، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن سبعين مرة؛ «تارة» بمعنى الإشارة والقول:
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (سورة مريم: 11)، «وتارة» بمعنى الوسوسة:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ، «وتارة» بمعنى الإلهام الغريزي:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا (سورة النحل آية: 68)، «وتارة» بمعنى الفزع والروع:
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا (المائدة: آية 111)، «وتارة» بمعنى الإلهام للأنبياء والرسل، وهو الأكثر:
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به (الأنعام: آية 19)، ولكن أكثر استعمالاتها في القرآن هو المعنى الأخير؛ أي الإلهام للرسل، ووحي الله يكون بطرق، منها: القذف في القلب، ومنها: إنزال الملائكة كجبريل وغيره رسلا بين الله وبين أنبيائه، ومنها: سماع صوت الله لمن يريد بواسطة شيء ما، قال تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (الشورى: آية 51)، وجمهور المسلمين يرون أن جبريل الروح الأمين كان ينزل إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
فلا يراه أحد غيره، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه كان ينزل إلى النبي في صورة دحية الكلبي، فيراه غير النبي على صورة رجل، أو يأتي إلى مجلس النبي على صورة رجل ما فيراه الناس جميعا.
أما كيفية بدء النبوة فقد حدثتنا به السيدة عائشة؛ فقد روى عنها البخاري: أن أول ما بدئ رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء؛ وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، والتحنث التحنف والتعبد في الليالي ذات العدد، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ: قال: فأخذني فغطني حتى بلغ بي الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ: قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم قال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم
فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك ربك أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عمها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الأعظم الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ...
46
وقد كان الرسول يقول عن هذا الوحي إنه يأتيه مرة بعنف مثل صلصلة الجرس، ومرة بغير عنف فيكلمه كما يكلم الرجل، فيعي منه ما يقول، وقالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فينفصل عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
47
وهناك أحاديث وأخبار كثيرة بلغت مبلغ التواتر تبين أن النبي كان يأتيه الوحي الإلهي، فينصرف عن هذا الكون، ويصبح في عالم ثان، ثم ينفصل عنه الوحي فيملي الرسول على كتاب الوحي ما أوحاه الله إليه، وقد اختلفت الأقوال في أول ما أوحي به إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، فالقول المشهور أنه أول «سورة العلق»، وفي قول آخر أنه «سورة الفاتحة»، وقول ثالث أنه «سورة الضحى»، وفي قول أنه «سورة المدثر» وفي خامس أنه «أول سورة المزمل»، ولكن الأشهر هو ما ذكرناه أولا من أنه أول «سورة العلق»، وعلى هذا جرى المصحف العثماني ومن نقلوا عنه، ثم إن السورة الثانية هي سورة «القلم»، والثالثة هي «المزمل»، والرابعة هي «المدثر»، وعلى هذا جرى إجماع كافة أصحاب التراتيب والمصاحف، والخلاف يبدأ بين أصحاب التراتيب عند السورة الخامسة، فالأكثر على أنها: «الفاتحة»، وقال ناس بل هي «سورة المسد»، وقال آخرون: بل هي «سورة التكوير»، ونحن إذا أمعنا في هذه السور وجدناها تدور حول الدعوة والإنذار والتبشير بالدين الجديد، وبما قوبل
صلى الله عليه وسلم
من التكذيب والارتياب في دعوته؛ فقد نزلت سور القرآن تحتوي على الردود والحملات الشديدة على المكابرين، والوعظ والإرشاد للتائهين، ولما سار الرسول شوطا في دعوته انقطع عنه الوحي، فاضطربت نفسه، وظن أن ربه ودعه وقلاه، فنزلت سورة الضحى بعد فترة قصيرة من الوحي، وفيها يخاطبه ربه بقوله:
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ثم تعاقب الوحي في مكة والمدينة.
अज्ञात पृष्ठ