مقدمة
المقدمة
1 - اتصال العلماء المصريين بعلماء الحملة الفرنسية وأثر هذا الاتصال
2 - الترجمة الرسمية في عهد الحملة
3 - الترجمة العلمية في عهد الحملة
مقدمة
المقدمة
1 - اتصال العلماء المصريين بعلماء الحملة الفرنسية وأثر هذا الاتصال
2 - الترجمة الرسمية في عهد الحملة
3 - الترجمة العلمية في عهد الحملة
تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية
تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية
تأليف
جمال الدين الشيال
مقدمة
كانت رسالتي للماجستير التي تقدمت بها إلى جامعة فاروق الأول في أبريل سنة 1945 عنوانها «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، وقد أجيزت الرسالة لهذه الدرجة مع مرتبة الشرف الأولى.
وفي سنة 1946 نالت هذه الرسالة جائزة البحث الأدبي من مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
والرسالة تتكون من كتابين؛ أولهما: صغير وموضوعه «تاريخ الترجمة في عهد الحملة الفرنسية» وهو هذا الذي نقدمه للقارئ اليوم، وثانيهما: كبير وفيه لب البحث وصميمه وموضوعه «تاريخ الترجمة في عصر محمد علي» وهو قيد الطبع الآن ونرجو أن نقدمه للقارئ بعد شهور قليلة.
ولست أحب أن أتحدث هنا عن البحث وموضوعه وأهميته، فمكان هذا الحديث مقدمة الكتاب الكبير إن شاء الله؛ لأن هذا الكتيب ما هو إلا مدخل لذاك.
وإنما هناك فضل أسبغ علي لا أرى تأجيل الإشارة إليه، فإن من واجبي المبادرة إلى الإشادة به وبأصحابه. أسبغ هذا الفضل أساتذة أجلاء وأصدقاء أوفياء، أخص بالذكر منهم أستاذي الجليلين حضرة صاحب العزة الأستاذ عبد الحميد العبادي بك؛ فقد أعددت البحث تحت إشرافه، وحضرة صاحب العزة الأستاذ محمد شفيق غربال بك؛ فقد استعنت بآرائه وإرشاداته في كل خطوة من خطوات البحث، وكان لتوجيهاتهما القيمة الفضل الكبير في تنوير نواحي البحث الغامضة.
وأقدم الشكر كل الشكر لصديقي الكريم البحاثة شارل بشاتلي سكرتير جمعية الآثار القبطية، فقد تفضل وهداني إلى كثير من المراجع التي كتبت عن المترجمين السوريين، كما أفدت فائدة كبيرة من بحثيه القيمين اللذين كتبهما عن «الأب أنطون رفاييل زاخور»، وعليهما كان اعتمادي عند الكتابة عن هذا الأب العالم وعن جهوده في الترجمة أيام الحملة الفرنسية وفي عصر محمد علي.
والله أسأل أن يوفقني للعمل الطيب المفيد.
جمال الدين الشيال
إسكندرية في 22 ديسمبر 1949
المقدمة
(1) تزاوج الحضارات، وسائل هذا التزاوج وخاصة الترجمة
الاتصال والتزاوج أساس التطور والرقي، أمثلة، طرائق التطعيم والتلقيح بين الحضارات بعضها والبعض الآخر، الترجمة: عند العرب في العصر العباسي، في أوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة. ***
يقول علماء النبات: إن النبات إذا طعم ولقح بنبات غيره أنتج ثمرا أحلى من النباتين: فالتفاح إذا طعم بالكمثرى جاء فاكهة جديدة أحلى مذاقا، وأعطر شذى، وكان بالتالي في السوق أكثر طلبا وأعلى ثمنا، ففيه طعم الفاكهتين ورائحتهما.
ويقول علماء الوراثة والباحثون
1
في الذكاء: إن الأسرة أو القبيلة يتزوج أفرادها بعضهم البعض الآخر يكون مصير أجيالها الضعف والغباء جيلا بعد جيل، وعلى العكس إذا دخل الأسرة دائما دم جديد من أسرة أو أسر جديدة جاء النسل أكثر قوة وأذكى عقلا، وبالتالي أصلح للبقاء، وأقوى على النضال في الحياة.
ويقول علماء التاريخ والاجتماع والحضارة: إن الشعب أو المجتمع أو الدولة أو الحضارة التي تعيش وحدها وتنطوي على نفسها، ولا يصيبها تطعيم أو تلقيح من حضارة غيرها، يكون مصيرها الضعف والانحلال، ولا نقول الزوال، فإنها تبقى موسومة في سجل التاريخ بأنها حضارة ضعيفة. وهكذا نجد أن الحضارات القديمة كانت دائما على اتصال، فإذا ضعفت الحضارة القديمة قامت الحضارة اللاحقة لها وفيها جماع ما في سابقتها من خير تتخذه كأساس لتبني فوقه أبحاثا وكشوفا وعلوما وآدابا وفنونا جديدة؛ هي كلها ثمرات لمجهود بشري جديد.
ولهذا لا نجد الحضارة - من قديم - وقفا على شعب واحد دون غيره، بل هي كالوديعة يتناولها أبدا الشعب القوي فيزيد فيها وينميها، حتى إذا انتابته عوامل الضعف والكلال أسلمها أمانة - أيضا - إلى الشعب الذي ولد جديدا وفيه عناصر القوة الجديدة، وهكذا دواليك. فلا عجب إذن أن يجد طالب الفلسفة الحديثة - مثلا - نفسه في حاجة لأن يدرس تاريخ الفلسفة والفلاسفة عند أمم الشرق القديم، ثم عند اليونانيين، ثم عند المسيحيين والمسلمين في العصور الوسطى، إلى أن يصل إلى العصر الحديث؛ لأنه يجد للفلسفة قصة طويلة واحدة لا يمكن أن يقرأ فصلها الأخير ويفهمه، إلا إذا بدأ بالفصل الأول فاستوعبه، ثم أتبعه الفصول الأخرى فتفهمها، وهذا مثل بسيط ينطبق على كل علم أو فن أو أدب، بل وعلى كل فرع من علم أو فن أو أدب.
وطرائق التطعيم والتلقيح بين الحضارات بعضها والبعض الآخر كثيرة ومختلفة، تختلف باختلاف العصور، فقد كان الاتصال والتأثير عن طريق الحروب أحيانا، وعن طريق الهجرة والرحلة أحيانا أخرى، وقد كانت وساطته التجارة آنا، والسفارة آنا أخرى، والزواج آنا ثالثا ... إلخ، غير أن نقل العلوم من حضارة إلى حضارة، وترجمتها من لغة إلى لغة كانت هي الوسيلة المشتركة دائما، والناجحة أبدا.
فهؤلاء هم العرب، كانت حضارتهم قبيل ظهور الإسلام - إذا استثنينا ما قام في اليمن من حضارات قديمة - حضارة بدائية إذا قورنت بغيرها من الحضارات التي كانت تجاورها، كالحضارة المصرية، أو الحضارة الفارسية. وانتشر الإسلام في سرعة جامحة عجيبة شده لها العالم أجمع، وورث في سنوات قليلة أملاك الدولتين المجاورتين، وأخذ الدين الجديد ينتشر بين الأهلين، وأصبحت له حكومات في هذه البلاد الجديدة، وتزاوج الشعب العربي مع هذه الشعوب جميعا جنسا ولغة وحضارة. غير أن القرن الأول للدولة الإسلامية الجديدة انقضى والجهود تبذل لتوطيد الدعائم وتثبيت الأسس، وبذلت جهود ضئيلة في عهد بني أمية للنقل عن علوم الروم والفرس، ولم يبدأ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية إلا في عنفوان الدولة العباسية - في عصري الرشيد والمأمون - حيث أقبل العلماء - يدفعهم ويشجعهم هذان العاهلان العظيمان - على الترجمة عن اللغات الأجنبية
2
فترجمت كتب كثيرة في الطب والفلك والرياضة والفلسفة والجغرافية ... إلخ ... إلخ، ومنذ ذلك الحين تفتحت عقول المسلمين، وأقبلوا يقرءون ويفهمون، ثم أدبروا يفكرون ويبحثون، فكان لهم بعد ذلك طب إسلامي، ورياضة إسلامية، وفلسفة إسلامية، وجغرافية إسلامية ... إلخ، وكون هذا كله حجارة جديدة وطابقا جديدا في بناء الحضارة العلمية، انبعث منه وسط دياجير العصور الوسطى المظلمة أشعة قوية نفاذة ملأت بلدان أوروبا وممالكها نورا على نور، وكانت مبعث النهضة الأوروبية الحديثة وبعض مقوماتها، وكان السلاح القوي لنقل هذه الحضارة الإسلامية إلى أوروبا وقتذاك هو الترجمة أيضا، فقد ترجمت معظم مؤلفات المسلمين في هذه العلوم إلى بعض لغات أوروبا وخاصة اللغة اللاتينية - لغة العلم والتعليم في أوروبا في تلك العصور - وأصبحت كتب العرب هي المراجع التي تدرس في جامعات أوروبا، بل وكان العرب هم الذي يدرسون في بعض تلك الجامعات، وخاصة جامعات إيطاليا.
3
انتقلت الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عن طرق ثلاث: (أ)
اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس ومملكة الصقليتين. (ب)
التجارة. (ج)
الحروب الصليبية.
وانقلب الأوروبيون - بعد أن منوا بالفشل في الحروب الصليبية - إلى عقر دارهم، وقد بهرتهم أنوار الحضارة الإسلامية، ومعهم مفاتيح تلك الحضارة، فتفرغوا لها يقتبسون معالمها، وينقلون آثارها، ويدرسون تواليفها، وساعدتهم عوامل جغرافية وتاريخية أخرى على أن يسيروا بالحضارة في دورها الجديد على طريقة جديدة تعتمد أكثر ما تعتمد على التفكير الحر أولا، وعلى الملاحظة والتجربة ثانيا، وقد مهد لهم هذا كله السبيل إلى كشوف علمية جديدة كانت هي الطلائع الممهدة لظهور حضارة القرنين التاسع عشر والعشرين. (2) عرض عام لحالة مصر والشرق الأدنى قبيل الحملة الفرنسية
مصر تدفع عن الشرق خطر التتار، تأخر الحالة العلمية في مصر، ناحية واحدة اهتم بها المصريون في تلك العصور وهي التأريخ لأنفسهم ولمصر، جهود التأليف الموسوعي في القرن التاسع الهجري (15م)، الركود والخمود في العصر العثماني، أسباب هذا الركود كما صورها الأستاذ شفيق غربال بك، وصف الرحالة الفرنسيين لحالة مصر العلمية في القرن 18، وصف الجبرتي لها، انقطاع الصلات بين مصر والغرب، الدول الأوروبية تبدأ التفكير في غزو الشرق وخاصة مصر. ***
كان الأوروبيون يفعلون هذا بينما كان الشرق قد اتخذ لنفسه، أو اتخذ له القدر أسلوبا آخر من الحياة يختلف كل الاختلاف عن هذا الأسلوب الذي اصطنعته أوروبا لنفسها أو اصطنعه القدر لها.
بذل الشرق - وكانت مصر حينذاك مركزه وضيعته الغنية وحصنه القوي - جهودا عنيفة لرد الصليبيين عن مصر، ولم يكد ينجح في مهمته حتى فاجأته غارات أشد قوة وتدميرا هي قوة التتار يغيرون عليه في موجات متلاحقة متدافعة، فصمد لها، ودافعها حتى دفعها ودفع شرها، وكان لمصر وحكامها من سلاطين المماليك كذلك الفضل كل الفضل في تدويخ هذه الجموع الهمجية حتى أحست بالدوار فولت وجهها وجهة أخرى ترضاها، بعد أن قبست قبسا جديدا من الإسلام هذبها وشذب من وحشيتها، فاستقرت في الهند وكونت هناك دولة
4
مغولية جنسا، إسلامية دينا، كان لها شأن عظيم في تاريخ تلك البلاد.
تلاشت هذه الموجات الصليبية والتترية بعد أن بذلت مصر وبذل سلاطينها الجهد كل الجهد، والمال كل المال، في القضاء على هذين الخطرين؛ لهذا لا نعجب إذا لاحظنا - بالمقارنة - أن عصر المماليك الثاني - وخاصة في أواخره - يقل قوة وجاها عن عصر المماليك الأول.
ولا عجب أيضا أن نجد الحركة العلمية في مصر تخمد وتضعف في هذه القرون، فلم يظهر فيها مفكرون جدد، ولا مدارس تفكيرية جديدة، وانتهت العناية بالعلوم في الأزهر والمساجد والمدارس التي ينشئها سلاطين المماليك إلى دراسات دينية أو لغوية أو تاريخية، وانتهى جهد العلماء في مصر إلى نظم قصيدة لمدح سلطان إذا انتصر، أو تأريخ حياته إذا مات، أو شرح، أو تفسير، أو تهميش، أو تعليق، أو اختصار لأمهات الكتب القديمة في الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الدينية واللغوية.
غير أن هناك شيئا واحدا لم ينسه المصريون عصرا من العصور، ذلك هو شعورهم بأنفسهم وببلادهم مصر، ذلك الشعور كان له أثره الخطير في تاريخ مصر العلمي، فقد دفع المصريين دائما إلى تأريخ أنفسهم، وملوكهم، وقضاتهم، وعلمائهم، ومدنهم، ومعابدهم، ونيلهم، وأعيادهم ... إلخ ... إلخ، وكانت لنا من هذا الجهد المتصل سلسلة كتب الخطط وما يكملها من كتب التاريخ، تبدأ بكتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم، وتنتهي بالخطط التوفيقية لعلي مبارك، وتقويم النيل لأمين سامي، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي.
ولم يكد القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) يوشك على الانتهاء حتى كان الإعياء قد أخذ من مصر كل مأخذ؛ ولهذا نراها لا تستطيع أن تقف طويلا أمام قوى العثمانيين المتفوقة، وينتهي بها الأمر إلى الخضوع والاستقرار حينا.
وكأننا بالمصريين وقد أحسوا الخطر الداهم في ذلك الحين، فتدافعوا في منافسة عجيبة - طوال القرن التاسع الهجري - يسعون لجمع ما وصل إليهم من علم، وما كان بين أيديهم من كتب في موسوعات كبيرة،
5
فتظهر في هذا القرن أسماء لامعة، ونرى المقريزي يكتب الخطط والسلوك وعشرات غيرهما من الكتب، والقلقشندي يكتب صبح الأعشى، وابن خلدون يضع تاريخه في مصر، والسيوطي يجمع مئات الكتب، ثم نجد السخاوي أخيرا يؤرخ لهؤلاء جميعا ولغيرهم ممن عاشوا في هذا القرن في كتابه: «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع»، مترسما خطى أستاذه ابن حجر في كتابه: «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة».
فقدت مصر استقلالها بعد الفتح العثماني، وظلت القوى الثلاث الحاكمة (الباشا والديوان والمماليك)، وهي قوام النظام الذي وضعه سليم الأول لحكم مصر، وللاحتفاظ بها ولاية عثمانية أطول مدة ممكنة، ظلت هذه القوى تتناحر وتتنازع، وكل واحدة تبذل جهدها لتحقيق غرضين اثنين: (أ)
أن تقوى هي وتضعف القوتين الأخريين. (ب)
وأن تبتز من الشعب ما تستطيع ابتزازه من مال لتغنى.
وأما الشعب، وأما البلد، وأما نواحي الإصلاح للرقي بالشعب وبالبلد، فقد أهملت جميعا، حتى سطر التاريخ لهذا العهد صفحة سوداء، وغدت مصر توصف - في هذا العهد العثماني - بالضعف في كل شيء: بالضعف في النواحي الحربية والاقتصادية، وبالضعف في النواحي الصحية والعلمية، وخيم على البلاد نوع من الخمود والركود ظل ثلاثة قرون.
بحث الأستاذ شفيق غربال بك أسباب هذا الركود بحثا موفقا في المقدمة التي قدم بها كتاب: «الشرق الإسلامي في العصر الحديث» لصديقنا الدكتور حسين مؤنس، فنفى قول القائلين بأن هذا الركود يرجع إلى كون «الحكام العثمانيين من شعب يميل إلى المحافظة بسليقته، فالعثمانيون لم يكونوا من شعب واحد، ولم تكن العثمانية إلا دلالة على الانتماء لطائفة من الحاكمين، هذا إلى أن نظم العثمانيين الأولى، وما اختطه سلاطينهم الأول لشئون الحرب والسياسة، كان على جانب عظيم من المرونة والمقدرة ...»
6
ثم وضع الأستاذ بعد ذلك إصبعه على موطن الداء، وسبب هذا الركود، فقال: «قد يرجع الركود إلى أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال أمم الدولة بالحضارات الأجنبية عموما، وبالحضارة الأوروبية خصوصا.»
ولكنه شأن الباحث المنصف المدقق يعود فيلتمس للعثمانيين العذر في النقطتين التاليتين فيقول: (1)
ولكن الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للشرقيين المسيحيين والمسلمين من رعايا السلطان ثمرات نهوضهم العلمي هدية خاصة. كما أن الباحث لا يستطيع أن يجهل أن تقدم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسما مرادفا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، ويشد أزر الملوك - ولكن في سبيل المجد الأعلى - رجال الدين، وفي سبيل الاستقلال رجال المال. أما والأمر كذلك، فلا سبيل إلى القول بأن الشرق العثماني كان يستطيع الإفادة من النهضة الأوروبية دون أن ينزل عن رجولته وحريته ... (2)
والصحيح في مسألة الركود هو أن الدولة العثمانية تولت أمر أمم كانت على نوع من الإعياء، لم يكن الحكم العثماني قادرا على أن يزيله عنها: فالعثمانيون كانوا قوما يأخذون ولا يعطون، تشهد بذلك خططهم وفنهم وآدابهم، فلم يكن منهم إلا أن نظموا ما وقع تحت سلطانهم في ملك عريض وعملوا على ألا يتطرق إليه تغيير أو تعديل، شأنهم في هذا شأن الدول الكبرى المتعددة الأجناس والأديان تتهددها دول أخرى معادية.
7
ومهما تكن الأسباب، فإنا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الركود الطويل دفع مصر وسكانها إلى الانكماش داخل بلادهم كما تنكمش القوقعة داخل صدفتها، وطال انكماش مصر وسكانها فأصيبت وأصيبوا بالضعف، شأن المريض يطول به الرقاد وتطول به الوحدة؛ ولهذا لا نعجب إذا قرأنا وصف الرحالة الأوروبيين الذين وفدوا على مصر والشام وسائر بلدان الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر، أمثال سافاري وفولني وغيرهما. قال فولني يصف الحالة الصناعية والعلمية في مصر وقتذاك: «الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر تركيا، وهو يتناول كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية والطبيعية، وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية، فإنها في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وجد فهو إفرنجي، أما الصياغة فأصحابها فيها أكثر مما في أزمير وحلب، لكنهم جهلاء، وإنما يتقنون المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقل إتقانا وأغلى ثمنا من صنع أوروبا، أما العلم فوجود الأزهر فيها جعلها مرجع الطلاب في الشرق الإسلامي.»
وحتى هذا العلم، وحتى هذا الأزهر، لم يكونا في القرن الثاني عشر الهجري (القرن الثامن عشر الميلادي) في حالة طيبة مبشرة، بل شملتهما موجة من الركود والجمود. وقد وصف مؤرخ مصري معاصر هو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، مدى ما وصلت إليه الحالة العلمية في مصر من تأخر وجمود في ذلك القرن، فذكر أن أحمد باشا الوالي التركي على مصر (1162-1163ه / 1749 -1750م) كان: «من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر، واستقر بالقلعة، وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم: الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم، وناقشهم، وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا، وقالوا: «لا نعرف هذه العلوم.» فتعجب وسكت.»
ثم ذكر مؤرخنا أن الشيخ الشبراوي طلع على عادته إلى القلعة في يوم جمعة، «واستأذن، ودخل عند الباشا يحادثه، فقال له الباشا: «المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه».» فقال له الشيخ: «هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.» فقال: «وأين هي، وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد؟» فقال له: «نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث، كعلم الحساب والغبار (؟).» فقال له: «وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية ، بل هو من شروط صحة العبادة، كالعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم والأهلة، وغير ذلك.» فقال: «نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات، وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فيندر فيهم القابلية لذلك.» فقال: «وأين البعض؟» فقال: «موجودون في بيوتهم يسعى إليهم.» ثم أخبره عن الشيخ الوالد (يقصد والده الشيخ حسن الجبرتي العالم الرياضي الفلكي الكبير في ذلك الحين)، وعرفه عنه، وأطنب في ذكره ...»
ثم ذكر الجبرتي بعد ذلك أن الباشا أرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي فاستدعاه لمقابلته، وأنه «سر برؤياه واغتبط به كثيرا، وكان يتردد إليه يومين في الجمعة ... وأدرك منه مأموله ... ولازم المطالعة عليه مدة ولايته، وكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني».»
وأخيرا يختم الجبرتي قصة والده وعلماء مصر مع الباشا بجملة لطيفة فيها نقد ساخر لاذع، فيقول: «وكان المرحوم الشيخ عبد الله الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له: «سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا، فإنه لولا وجودك كنا جميعا عنده حميرا».»
8
لم تنقطع الصلات بين الشرق والغرب - حربا وسلما - منذ ظهر الإسلام. وكانت الحروب الصليبية أبرز صور هذه الصلات، ولكن معاركها الحربية انتهت بإخراج صليبي أوروبا من بلدان الشرق الإسلامي، فعادوا إلى قارتهم وهم يشيدون بشجاعة الشرق وقوته، ثم شغلت أوروبا منذ ذلك الحين بنهضتها وحروبها القومية قرونا، وشغل الشرق بالمغول حينا وبنفسه حينا آخر، كل ذلك والصلة تضعف شيئا فشيئا، ولكنها لم تنقطع؛ فقد ظلت السفن تنقل التجارة بين الشرق والغرب طول عصر المماليك، فكانت تجلب معها إلى موانئ مصر والشام التجار الغربيين، وكانت تقيم منهم جاليات في هذه الموانئ، وكان يقيم مع هذه الجاليات قناصل يرعون مصالح دولهم التجارية، وكانت تعقد المعاهدات والاتفاقات التجارية بين حكام مصر والشام من المماليك، وبين ملوك ودوقات هذه الدول الأوروبية، وكانت مصر أخيرا حريصة الحرص كله - طول عهد المماليك - على أن تبقي على هذه العلاقة قوية وثيقة، فهي المنبع الذي يدر عليها المال الوفير، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أن الصلة العلمية بين مصر والغرب في ذلك العهد كانت مبتوتة مقطوعة، إذ لم يكن لدى مصر وقتذاك علم جديد تقدمه وتزجيه، ولم يكن الوافدون عليها من تجار أوروبا ممن يعنون بنقل العلوم، ولم تكن أوروبا قد خطت بعد - حتى الفتح العثماني لمصر سنة 1517 - في سبيل نهضتها الجديدة الخطوات المثمرة.
وجاء الفتح العثماني كما قلنا فحجب مصر وبلدان الشرق عن الاتصال بالغرب، وعاصره أيضا كشف الغربيين لطريق رأس الرجاء الصالح، فتحولت التجارة، وتحول الخير معها عن مصر، وهكذا انقطع الخيط الأخير من الصلات التي كانت تربط بين مصر ودول أوروبا، فبدأت عهد رهبنة، أو تصوف، أو دروشة غريب، ساعدها عليه كثرة ما بها من خوانق، وربط، وتكايا، وزوايا، وسيطر على عقول الجماهير جماعات
9
من المشعوذين والمدعين الولاية، فشاعت الخرافات والترهات، وأصبح الإيمان بالمعجزات يقوم عند الشعب، بل وعند العلماء، مقام الدين.
وهكذا تم لمصر - وهي زعيمة الشرق - كل عوامل الضعف، فقد ضعفت حربيا بتملك العثمانيين لها، وضعفت اقتصاديا بتحول التجارة عنها، وضعفت علميا وروحيا بسيطرة أفكار التصوف والدروشة على عقول أهليها.
وكانت أوروبا حتى أواخر القرن الثامن عشر «لا تزال تحفظ للشرق الإسلامي الشيء الكثير من الاحترام؛ لأنها لم تنس بعد بأسه الشديد في الحروب الصليبية وفتوحات الأتراك. ولكن نفرا من السائحين بدأ يدخل الشرق، ويطوف به، ويتأمل أحواله، فيزداد عجبا، ثم يمضي إلى قومه فيتحدث إليهم عما رأى من انحطاط المجموعة الإسلامية، وضعفها البالغ. فبدأ الأوروبيون يشكون في قوة الشرق الإسلامي، وبدأت هيبته تسقط من أعينهم، وفكروا في استعمال طريق البحر الأبيض من جديد.»
10
وفيما نقلناه عن «فولني» تصديق لهذا القول؛ ولهذا بدأت بعض دول أوروبا - وخاصة فرنسا - تفكر تفكيرا جديا في غزو هذا الشرق الضعيف. وكانت نتيجة هذا التفكير الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 يقودها القائد الشاب المغامر «نابليون بونابرت».
الفصل الأول
اتصال العلماء المصريين بعلماء الحملة الفرنسية وأثر هذا الاتصال
التقابل بين جيش المماليك والفرنسيين، أعداء الفرنسيين في مصر، فشل الحملة حربيا، جهود علماء الحملة، موقف الشعب منهم، موقف علماء مصر منهم، الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يصف المجمع العلمي، اختياره عضوا في ديوان «مينو»، الشيخ إسماعيل الخشاب، علاقته ببعض مستشرقي الحملة، اختياره كاتبا ل «سلسلة التاريخ» في ديوان «مينو»، أسطورة إصدار صحيفة عربية في عهد الحملة ودحضها، الشيخ حسن العطار، عنايته بعلوم غير تلك التي كانت تدرس في الأزهر، اتصاله ببعض الفرنسيين، إفادته منهم ولهم، أثر هذا الاتصال في المشايخ الثلاثة، مطبعة الحملة. ***
كان الأمر في مصر قد انتهى بقوتين من ثلاث - وهما قوة الباشا وقوة الديوان - إلى الضعف العام، والانحلال الشامل، كما انتهى بالقوة الثالثة - وهي قوة المماليك - إلى نوع من الانتعاش والصحوة؛ لهذا نجد أن هذه القوة هي التي تتولى أمر الدفاع عن مصر أمام خطر هذا الغزو الجديد، ولكن المماليك اصطدموا هذه المرة بغرب غير ذلك الذي عرفوه في الحروب الصليبية، وسرعان ما رأوا أن لا أساس لما زعموا «من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم.»
1
فكان هذا الجيش الجديد الآتي من الغرب الجديد يتبع نظما جديدة، ويستعمل أسلحة جديدة، ويقوده شاب يمتلئ شجاعة وإقداما وأملا، فلم يكن من الممكن، أو من المحتمل، أن تقف أمامه فلول المماليك - رغم شجاعتهم الشخصية - بنظامهم الفروسي القديم، وخططهم العتيقة - خطط الكر والفر - وسلاحهم البالي من سيوف ورماح ونبال ... إلخ.
هزمت جيوش المماليك، وتفرقت جنودهم شيعا تلوذ بأذيال الفرار شرقا نحو الشام، وجنوبا نحو أقاصي الصعيد وبلاد النوبة والسودان؛ ولهذا نستطيع أن نقرر أن الحملة نجحت من الناحية الحربية، ولكنه كان نجاحا وقتيا لم يلبث أن انكشف عن صعوبات جديدة، يقوم بها عصبة من الأعداء: إذ لم يكن من اليسير أن تتنازل فلول المماليك عن غنيمتهم بهذه السرعة، ولم يكن من السهل أن يترك السلطان مصر - درة تاجه - للفرنسيين دون أن يناضل في سبيلها - ولو بجهد المقل - ولم يكن من الجائز عقلا في شريعة إنجلترا أن تلقي لفرنسا الحبل على الغارب تستولي على هذا الشريان الذي يصل بين قلبها وبين أطراف الإمبراطورية في الشرق، ولم يكن من المقبول أخيرا لدى سكان مصر أن يضع هؤلاء الفرنج أيديهم على بلادهم، وهم هؤلاء الكفرة الذين يشربون الخمر، ويراقصون النساء، ويرتكبون المنكر عيانا، وهم الذين يقيدون من حرياتهم يوما بعد يوم فيمنعونهم الدفن في منازلهم، ويأمرونهم بكنس الشوارع ورشها وإنارتها ليلا، ويهدمون أبواب حاراتهم، ويزيلون أسقف أسواقهم، ويسجلون مواليدهم وموتاهم، ويفرضون عليهم الضرائب ... إلخ.
2
وثارت هذه القوى جميعا ضد الفرنسيين، ولكل بغيتها وأمنيتها، وظلت الحملة الفرنسية سنوات ثلاثا تناضل نضالا عنيفا حتى عجزت فخضعت ثم خرجت.
غير أن فريقا آخر من رجال الحملة نجح نجاحا مشكورا في مهمته التي ألقيت على عاتقه، ذلك هو فريق العلماء المرافقين للحملة، فقد كان الجنود يحاربون ويناضلون في الصحراء، وفي المدن، وفي القرى، وهؤلاء العلماء عاكفون على أبحاثهم وآلاتهم وكتبهم، يدرسون تربة مصر، ونباتاتها، وحيوانها، وطيرها، ونيلها، ومعادنها، وطرقها، وأسواقها، وصناعاتها، ومجتمعاتها، وآثارها ... إلخ، ثم يسجلون في دفاترهم نتائج أبحاثهم هذه كلها، لتكون الرصيد المختزن للمؤلف العظيم الذي يضعونه عن مصر بعد خروج الحملة، وهو كتاب وصف مصر
Description de l’Egypte .
وكان الناس في مصر يشاهدون هؤلاء الفرنسيين يتنقلون في القرى والمدن يقلبون أنظارهم في كل شيء ويخضعون كل ما يرون ويشاهدون لبحثهم وآلاتهم، ويسألون ويقيدون، فلفت أنظارهم هذا الفضول، ولكنهم لم يلبثوا أن انصرفوا عن هؤلاء الفضوليين وجذبتهم شئون حياتهم الخاصة.
هذا كان موقف عامة مصر من علماء الحملة، أما موقف علماء مصر فكان مغايرا لهذا، فقد اتصلت الأسباب بينهم وبين رجال الحملة بعد أن هدأت المعارك الأولى وأسفرت عن فرار المماليك الذين كانوا سوط عذاب مشهرا على المصريين منذ أمد طويل، فهم من جانبهم رأوا أن حماتهم قد تخلوا عنهم وفروا هاربين، ونابليون من جانبه كان يرى كما قال في مذكراته أنه لكي يسوس «هؤلاء الناس - أي المصريين - لا بد من وسطاء يسعون بيننا وبينهم، وكان لا بد أن نقيم عليهم رؤساء وإلا أقاموا رؤساءهم بأنفسهم، وقد فضلت العلماء وفقهاء الشريعة؛ لأنهم: أولا كانوا كذلك - أي رؤساء بطبيعتهم - وثانيا لأنهم كانوا مفسري القرآن، ومعروف أن أكبر العقبات تنشأ عن أفكار دينية، وثالثا لأن للعلماء خلقا لينا، ولأنهم - دون نزاع - أكثر أهل البلاد فضيلة، لا يعرفون كيف يركبون حصانا، ولا قبل لهم بأي عمل حربي، وقد أفدت منهم كثيرا، واتخذت منهم سبيلا للتفاهم مع الشعب، وألفت منهم الديوان.»
3
وتكون الديوان من أظهر مشايخ المصريين، يرأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي، وكان للديوان شأنه الخاص - من الناحية السياسية - في حكم مصر تحت نفوذ الفرنسيين.
وكون علماء الحملة مجمعهم، وأقاموا عددهم وآلاتهم، وأعدوا مكتبتهم، وتوفروا على أبحاثهم، وجذب هذا كله بعض المستنيرين من علماء مصر كمؤرخ مصر وقتذاك الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، بل إنهم «كانوا إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية، أو معرفة، أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم، ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير، وكرات البلاد، والأقاليم والحيوانات، والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء، وسير الأمم، وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم، وحوادث أممهم مما يحير الأفكار.»
4
وطاف الجبرتي بحجرات المجمع وأروقته، ووقف عند كل مشهد جديد، ولدى كل كتاب طريف مشدوها مفتوح الفم من الدهشة والعجب، ولم يسعه وهو المؤرخ الثقة، إلا أن يثبت وصف ما رأى في تاريخه معلنا دهشته وإعجابه وعجزه - وهو كبير من علماء مصر وقتذاك - عن فهم هذه الآلات والعدد، فهو قد نشأ بالأزهر وتلقى فيه العلم، والنمط الذي كان يتبعه طلاب العلم في مصر وقتذاك ساذج بسيط، وإن كان متعبا في نفس الوقت، فالطالب يجلس في المسجد أو في داره، وينحني على كتاب مخطوط كلما أراد أن يقرأ، فإذا دخل الجبرتي بعد ذلك مكتبة المعهد وشاهد نظام المطالعة الجديد الدقيق أعجب به ووصفه بقوله: «وفيه جملة كبيرة من كتبهم، وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها موادهم، فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون، حتى أسافلهم من العساكر.»
5
ثم طاف الجبرتي بالقسم الخاص بعلماء الفلك من المجمع، وشاهد ما فيه من آلات عجيبة وصفها بقوله: «وعند «توت» الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة، وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب، الغالية الثمن، المصنوعة من الصفر المموه، وهي تركب ببراريم مصنوعة محكمة، كل آلة منها عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا ركبت صارت آلة كبيرة، فأخذت قدرا من الفراغ، وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي، وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير. وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها، ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها، واتصالاتها ومناظراتها، وأنواع الساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن.»
6
وترك هذا القسم إلى قسم التصوير فشاهد هناك المصورين يصورون الأشخاص والأشياء جميعا، ووصفه بقوله: «وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السناري، وهم المصورون لكل شيء، ومنهم «أريجو» المصور، وهو يصور صور الآدميين تصويرا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسم يكاد ينطق، حتى إنه صور صورة المشايخ، كل واحد على حدته في دائرة، وكذلك غيرهم من الأعيان. وعلقوا ذلك في بعض مجالس صاري عسكر، وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات، وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها.»
7
ثم عرج بعد ذلك على قسم الكيمياء والطب فوصفه بقوله: «وسكن الحكيم «رويا» ببيت ذي الفقار كتخدا ... ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية، وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح، وقدورا عظيمة وبرامات، وجعل له مكانان أسفل وأعلى، وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة. وبها كذلك عدة من الأطباء والجراحية وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، وبنوا فيه تنانير منهدمة، وآلات تقاطير عجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه، وخلاصات المفردات، وأملاح الأرمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات، واستخراج المياه الجلاءة والحلالة. وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات، وبداخلها أنواع المستخرجات.»
وقد أجريت أمام الجبرتي في هذا القسم بعض التجارب الكيميائية البسيطة التي يقوم بإجرائها تلميذ المدارس الثانوية عندنا اليوم ولكنها أدهشت عالمنا الكبير وحيرت فكره، فإنه يقدم لهذه التجارب قبل وصفها بقوله: «ومن أغرب ما رأيته في هذا المكان ...» ثم يصف ما رأى فيما يلي: «أخذ بعض المتقيدين زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئا في كأس، ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى، فعلا الماءان، وصعد منهما دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرا أصفر، فقلبه على البرجات حجرا يابسا أخذناه بأيدينا، ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرا أزرق، وبأخرى فجمد حجرا أحمر ياقوتيا. وأخذ مرة شيئا قليلا جدا من غبار أبيض ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه، فضحكوا منا. وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة الفم، فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص، وأدخل معها أخرى على غير هيئتها، وأنزلهما في الماء، وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما، وأتى آخر بفتيلة مشتعلة، وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء، وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضا. وغير ذلك أمور كثيرة، وبراهين حكيمة تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع، ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاجة فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة، وإذا أمسك علاقتها شخص ولو خيطا لطيفا متصلا بها، ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى، ارتج بدنه وارتعد جسمه، وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة، ومن لمس هذا اللامس، أو شيئا من ثيابه، أو شيئا متصلا به، حصل له ذلك، ولو كانوا ألفا أو أكثر ...»
8
وقد تعمدت أن أنقل هذه النصوص الطويلة عن وصف الجبرتي لأقسام المجمع لأبين الفارق العظيم الذي كان يفصل حينذاك بين عقلية الغرب وعلوم الغرب - يمثلها علماء الحملة - وبين عقلية مصر والعلوم في مصر - يمثلها كبير من علمائها - ويبرز هذا الفارق اعتراف الجبرتي في تعليقه على هذا الوصف كله، فإنه يقول: «ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة، «ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا».»
وبمضي الوقت قويت الصلة بين الجبرتي ورجال الحملة الفرنسية في مصر، وكان الديوان قد عطل إبان المفاوضات بين الفرنسيين والأتراك لعقد معاهدة العريش، فقد كان الفرنسيون معتزمين الرحيل إذا نفذت المعاهدة، ولكن المعاهدة نقضت، ومع هذا ظل الديوان معطلا، ولم يفكر كليبر في إعادته، فلما قتل وانتقلت القيادة إلى «مينو» أعاد الديوان في صورة غير صورته أيام نابليون، وليس فيه كما يقول الجبرتي: «خصوصي وعمومي ... بل هو ديوان واحد.»
9
وكونه من «تسعة أنفار متعممين لا غير، وليس فيهم قبطي، ولا وجاقلي، ولا شامي ...»
9
واختير مؤرخنا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي عضوا في هذا الديوان وأشار إلى نفسه عند ذكر أسماء الأعضاء بقوله: «وكاتبه»
9
بعد ذكر اسم الشيخ الصاوي مما جعل البعض ينكر اختياره عضوا في الديوان ويظن أنه يقصد بلفظ «كاتبه» كاتب الشيخ الصاوي، غير أنه مما يؤيد اختياره عضوا في الديوان أن جريدة «الكورييه دليجيبت
Courier de l’Egypte » التي كانت تصدر في مصر وقت وجود الحملة بها نشرت في العدد 91 الصادر في 5 افريمير من السنة التاسعة (ديسمبر سنة 1800) رسالة ودية أرسلها أعضاء الديوان وقتذاك إلى نابليون القنصل الأول في فرنسا، وفي أسفل الرسالة توقيعات أعضاء الديوان جميعا ومن بينها توقيع الجبرتي
10 (انظر أيضا الشكل رقم
1-1 ).
شكل 1-1: في سنة 1215 / 1800 وفي عهد الجنرال مينو، قام م. لوبير
M. Le Pér
المهندس وأحد أعضاء المجمع بإصلاح مقياس النيل بالروضة، وقد أرسل الديوان بهذه المناسبة خطابين إلى «مينو» و«لوبير» لشكرهما على العناية بالمقياس، وقد أثبتت صور الخطابين في كتاب «وصف مصر» ج15 ص140 وما بعدها، ونص في هامش هذه الصفحة على أسماء أعضاء الديوان في تلك السنة ومن بينهم عبد الرحمن الجبرتي، وهذه صورة للهامش المذكور.
ولم يكن الجبرتي العالم المصري الوحيد الذي اتصل بالفرنسيين وأعجب بعلمهم، بل اتصل بهم أيضا شاعر مصر وقتذاك السيد إسماعيل الخشاب، فالجبرتي يروي له شعرا قاله في رجلين منهم، أحدهما اسمه «ريج»
11
والثاني واحد من رؤساء كتابهم من العارفين ببعض العلوم العربية. يقول الجبرتي: «ولما وردت الفرنساوية لمصر اتفق أن علق (أي الخشاب) شابا من رؤساء كتابهم، كان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية، مائلا إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح اللسان العربي، يحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة مال كل منهما للآخر، ووقع بينهما توادد وتصاف حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة الآخر، فكان - الخشاب - تارة يذهب لداره وتارة يزوره هو ...»
12
كان أبو الخشاب نجارا ثم احترف تجارة الأخشاب، غير أن ابنه لم يشأ أن يمتهن مهنة أبيه، وتثقف بثقافة العصر الدينية اللغوية، وتلقى العلم على مشايخ العصر، واتصل منهم بالشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر (1193-1208 / 1179-1793)، وبالعلامة السيد محمد المرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس، وبالشيخ محمد الأمير
13
مفتي المالكية ... إلخ ... إلخ، ثم أقبل على قراءة الكتب الأدبية، وكتب الصرف والتاريخ، «وأولع بذلك ... حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات، واستحضار المناسبات والماجريات، وقال الشعر الرائق، والنثر الفائق ...»
14
ويبدو أن هذه الصداقة بينه وبين بعض المستشرقين من علماء الحملة مهدت له السبيل للاتصال الرسمي بقادة الفرنسيين، فلما أعيد تأسيس الديوان في عهد «مينو» اختير الشيخ إسماعيل ليكون أمينا لمحفوظات الديوان، أو على حد تعبير الجبرتي: «كاتب سلسلة التاريخ»، فكان هو «المتقيد برقم كل ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي، أو خطاب أو جواب، أو خطأ أو صواب.» وذلك لأن «القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم، وأماكن أحكامهم، ثم يجمعون المتفرق في ملخص يرفع في سجلهم بعد أن يطبعوا منه نسخا عديدة يوزعونها في جميع الجيش حتى لمن كان منهم في غير مصر من قرى الأرياف، فنجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم ...»
15
وقد أخطأ كل من جورجي زيدان والأب لويس شيخو فهم هذا النص، فأثبتا في كتابيهما عن تاريخ الآداب العربية في القرن 19 أن هذه السجلات التي كان يكتبها الخشاب تعتبر أول صحيفة عربية صدرت في الشرق، قال زيدان: «إن هذه النشرة التي كان يدونها الخشاب، وتطبع ثم توزع على الجنود، تشبه أن تكون أول جريدة عربية رسمية لكنها عسكرية.»
16
ثم قال في نفس المرجع ص52: إن الفرنسيين أنشئوا في مصر «ديوانا للقضايا كان يصدر صحيفة اسمها «التنبيه» ينشرون فيها ما يجري فيه، ويفرقونها على العمال، وكان يحررها السيد إسماعيل الخشاب، فهي كالصحيفة العسكرية أو القضائية.»
وقال شيخو استنتاجا من نص الجبرتي: «فهذه كما ترى جريدة يومية وهي أول جريدة ظهرت في العربية.»
17
وواضح جدا من عبارة الجبرتي أن الخشاب لم يكن إلا كاتب الديوان أو مسجل مضبطته، وإذ كانت هذه العناية بتدوين ما يقال في الديوان جديدة وغريبة على الجبرتي فقد عللها بعناية القوم «بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم»؛ لأنهم كانوا «يجمعون المتفرق في ملخص» ويوزعونه «في جميع الجيش»، ولا يعقل أن يوزع هذا الملخص في جميع الجيش - الفرنسي طبعا - باللغة العربية. والصحيح أن هذا الملخص الذي كان يطبع وتوزع نسخ منه في جميع الجيش حتى لمن كان في الأرياف هو الصحيفة الفرنسية
Le Courier de l’Egypte
التي كانت تصدر
18
كل 5 أيام.
وقد يكون الباعث لهذين المؤرخين على هذا الاستنتاج ما ذكره الجبرتي بعد ذلك من أن الخشاب اختار لنفسه بعض ما ورد في هذه المضابط، فإنه يقول: «فجمع من ذلك عدة كراريس ولا أدري ما فعل بها.» والذي تذكره المراجع الفرنسية أن الجنرال «مينو» أصدر مرسوما في 26 نوفمبر سنة 1800 بإنشاء جريدة عربية اسمها «التنبيه
L’Avertissement »
19
واختار السيد إسماعيل الخشاب ليكون رئيسا لتحريرها، وذلك تحت إشراف أعضاء الديوان من العلماء، ويكون من أغراضها البحث في أعمال الديوان وأعمال الحكومة الفرنسية ونشر الأخبار الداخلية والخارجية وبعض المقالات في الفنون والعلوم والأخلاق ... إلخ، ويقول الدكتور إبراهيم عبده: «على أن الآمال التي علقت على ظهور التنبيه لم تتحقق إذ إن الظروف السياسية واضطراب الأمن كل ذلك حال دون ظهور الجريدة، وبقي مرسوم إنشائها معطلا حتى جلا الفرنسيون عن مصر.»
20
وقد ظل الخشاب يلي وظيفته هذه في الديوان «ضحوة يومين في الجمعة» طول عهد «مينو» حتى خرجت الحملة من مصر، وذلك مقابل أجر شهري قدره سبعة آلاف نصف فضة.
وكانت الصداقة تربط بين هذين العالمين - وأحدهما مؤرخ والثاني شاعر - وبين عالم ثالث جليل هو الشيخ حسن العطار، يقول الجبرتي عن صديقيه: «فكانا كثيرا ما يبيتان بداري لما بيني وبينهما من الصحبة الأكيدة والمودة العتيدة، فكانا يرتاحان عندي ويطرحان التكلفات ... ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات ... وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا وقتهما ووحيدا عصرهما ...»
21
وكانت أسرة العطار مغربية الأصل، كما كان أبوه عطارا، ولكن الشيخ حسن مال لدراسة العلم منذ الصغر، فشجعه أبوه على ذلك وأعانه، فشب شغفا بالعلم والبحث في كل غريب، وكان شخصية فذة، وامتاز على أقرانه بعقلية حرة ناضجة، فأحس بأن العلوم التي كانت تدرس في الأزهر حينذاك علوم فجة لا طائل تحتها، فدرس بنفسه علوم الهيئة والطب والفلك والرياضة، ومرن على استعمال الاسطرلاب وألف رسالة في كيفية العمل به وبالربعين المقنطر والمجيب، وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية.
22
ويقول صديقه ومعاصره الشيخ محمد شهاب الشاعر إنه «كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء، ولقد كان يزورنا ليلا في بعض الأحيان فيتناول الكتاب الدقيق الخط الذي تعسر قراءته في وضح النهار، فيقرأ فيه على نور السراج وهو في موضعه، وربما استعار مني الكتاب في مجلدين فلا يلبث عنده إلا الأسبوع أو الأسبوعين، ويعيده إلي، وقد استوفى قراءته وكتب في طرره على كثير من موضعه ...»
23
ويذكر تلميذه وصديقه رفاعة أنه كان معنيا بالبحث في العلوم غير الدينية، وخاصة العلوم الجغرافية والتاريخية، وأنه وجد بخطه هوامش على كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء، وعلى طبقات الأطباء، وغيره من الكتب التاريخية، وأنه «كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية مع غاية الديانة والرصانة، وله بعض تآليف في الطب وغيره ...»
24
وذكر المستشرق الإنجليزي المستر لين
Mr. Lane : أن الشيخ العطار كان واحدا من أكبر علماء مصر الممتازين وقت وجوده بها، ولكنه أشار إلى أنه لم يكن متضلعا في العلوم الدينية تضلعه في الدراسات الأدبية.
25
وعندما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر كان العطار في الثانية والثلاثين من عمره فسافر إلى أسيوط، فلما استقرت الأحوال عاد إلى القاهرة، يقول علي مبارك باشا: «واتصل بناس من الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم ويفيدهم اللغة العربية، ويقول: إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها، ويتعجب بما وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم، وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطريق الاستفادة.»
26
أيقظت الحملة الفرنسية إذن عقول بعض علماء مصر وخاصة عقول هؤلاء الأقطاب الثلاثة، وبهرتهم علوم الفرنسيس وأثرت في فن كل منهم، فكانت كتابة الجبرتي «في تاريخه بعد الحملة أدق وأكثر نقدا لسير الحوادث ورجالها مما كانت عليه قبل الحملة ...»
27
كما أصبح شعر الخشاب أرق حاشية وأسلس أسلوبا، أما العطار فقد انحرف عن علماء عصره وترك الدراسات الدينية واللغوية جانبا، وعني عناية كبيرة بالدارسات الأدبية، وكون له في هذا الميدان مدرسة جديدة كان من تلاميذها الذين حذوا حذوه: الشيوخ إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، ورفاعة رافع الطهطاوي، وسيكون لهذه النخبة الطيبة جهود محمودة في حياة الترجمة الحافلة في عصر محمد علي.
وقد عاش الشيخ العطار حتى ولي مشيخة الأزهر في عهد محمد علي، وشهد هذا التغير في الأحوال والمعارف الذي تنبأ به، وخطب في الاحتفال الذي عقد بمناسبة عقد الامتحانات الأولى لمدرسة الطب، وهو أخيرا صاحب الفضل على تلميذه رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة العلمية الحديثة، وهو الذي قدمه لمحمد علي ليكون إمام البعثة المصرية إلى فرنسا (سنة 1826م)، وهو الذي أشار عليه أن يسجل مشاهداته في هذه البعثة التي أخرجها رفاعة فيما بعد في كتابه الممتع «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز». •••
بدأت إذن الثقافتان الفرنسية والعربية تتصلان إحداهما بالأخرى وتؤثران إحداهما في الأخرى، ولو قدر للحملة أن تطول مدتها لكان من المحتم أن يعمل كل فريق على نقل ثقافة الفريق الآخر إلى لغته، وخاصة أن علماء الحملة كان من بينهم عدد من المستشرقين، وكانت مكتبتهم تضم كتبا عربية وفرنسية كثيرة أحضروها معهم، وكانت مكتبات المساجد والخاصة في مصر تضم بين جدرانها آلاف الكتب المخطوطة التي كانت تنتظر في صبر نافد من يفتحها ليقرأها ويعدها للنشر أو للترجمة، وكانت الحملة أخيرا قد أحضرت معها عدة هذا النشر وآلته وهي «المطبعة العربية» أو «مطبعة جيش الشرق» أو «مطبعة الجيش البحري» كما كانت تسمى وهي في طريقها إلى مصر.
وكانت هذه المطبعة معدة بالحروف العربية والفرنسية
28
واليونانية التي جمعها لها نابليون من باريس ثم استكمل لها الأحرف العربية الناقصة من مطبعة «البروباجندا»
29
بروما، وقد بدأ القسم العربي من هذه المطبعة عمله وهو على ظهر البارجة «أوريان
L’Orient » في عرض البحر، فطبعت به نسخ من الترجمة العربية للمنشور الذي أعده نابليون لإذاعته على المصريين، وعندما نزل جنود الحملة الفرنسية إلى أرض مصر سميت مطبعتهم ب «المطبعة الشرقية» و«المطبعة الفرنسية»، وأمر نابليون أن تنقل بأقسامها الثلاثة إلى منزل قنصل البندقية بالمدينة، وأن تركب أجزاؤها وتكون معدة للعمل في ثمان وأربعين ساعة، وأن تطبع أربعة آلاف نسخة أخرى من المنشور، ولما استقر الفرنسيون في القاهرة نقلت هذه المطبعة إليها، وسميت «المطبعة الأهلية»
30
و«مطبعة الجمهور الفرنساوي»، وكان مقرها الأول دار عثمان بك الأشقر بالأزبكية على مقربة من بيت الألفي حيث كان يسكن نابليون، ولما قامت ثورة القاهرة الثانية نقلت المطبعة إلى الجيزة، ومنها نقلت مرة أخرى إلى القلعة وهي مقرها النهائي، فقد أخذها الفرنسيون معهم وهم يجلون عن مصر، وسترى أن محمدا عليا سيعنى بعد ذلك بإنشاء مطبعة عربية أخرى في بولاق، وهي التي لا تزال موجودة حتى الآن، وتاريخها في الواقع شطر كبير من تاريخ النهضة العلمية الحديثة.
الفصل الثاني
الترجمة الرسمية في عهد الحملة
حاجة رجال الحملة إلى الترجمة الرسمية، استعانتهم بأسرى المسلمين في مالطة وخاصة المغاربة، المترجمون في ديوان «مينو»، هيئات المترجمين الرسميين في عهد الحملة، أسرى المسلمين في مالطة، المستشرقون من رجال الحملة: «فانتور»، «جوبير»، «براسرفيش»، «لوماكا»، «حنا روكه»، «كليمان»، «بوديف»؛ المترجمون السوريون، هجرات «الشوام» إلى مصر منذ بدء القرن 18، الحملة تصطحب مترجمين سوريين من إيطاليا: دون إلياس فتح الله، يوسف مسابكي، أنطون مشحرة؛ مترجمون سوريون من مصر: يوسف فرحات، ميخائيل كحيل، القس رفاييل، إلياس فخر، نصر الله، عبود وميخائيل الصباغ، نقولا الترك؛ المترجمون المصريون، صلة الأقباط بالفرنسيين، الفرنسيون يعلمون بعض الشبان الأقباط اللغة الفرنسية، أليوس بقطر، الرأي في الترجمة الرسمية في عهد الحملة. ***
ولكننا قد نتساءل بعد هذا: ألم يكن للحملة - على الرغم مما كان يكتنفها في الداخل والخارج من اضطرابات وقلاقل - أثر في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية أو عن الفرنسية إلى العربية في هذه السنوات الثلاث التي قضتها في مصر؟
والحقيقة أننا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بأنه كان في مصر إبان وجود الحملة بها نوعان من الترجمة: ترجمة رسمية، وترجمة علمية.
فالحملة من الناحية الرسمية كان لها أثر في هذا النقل، وكانت في أشد الحاجة إلى مترجمين دائمين ينقلون عنها الأوامر، ويترجمون المنشورات، ويسجلون محاضر الدواوين، ويكونون الوسطاء في نقل الحديث بين الحكام والمحكومين. وقد استعانت أول الأمر بأناس غرباء عن مصر أحضرتهم معها أول قدومها، وهم جماعة من أسرى البحارة المسلمين الذين كانوا تحت أيدي فرسان القديس يوحنا بجزيرة مالطة، وقد اشتركوا مع المستشرقين من علماء الحملة في ترجمة المنشور الذي أعده نابليون بالفرنسية، والذي طبع على ظهر البارجة «الشرق
L’Orient » - إحدى سفن الأسطول - في المطبعة العربية ليكون معدا للتوزيع على المصريين وقت نزول الفرنسيين إلى بر مصر. يقول الجبرتي عن هؤلاء الأسرى: «كانت الفرنسيس حين حلولهم بالإسكندرية كتبوا مرسوما، وطبعوه، وأرسلوا منه نسخا إلى البلاد التي يقدمون عليها تطمينا لها، ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة، وحضروا صحبتهم، وحضر منهم جملة إلى بولاق، وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين، ومعهم منه عدة نسخ، ومنهم مغاربة، وفيهم جواسيس، وهم على شكلهم من كفار مالطة، ويعرفون باللغات ...»
1
فلما هزم المماليك، وفروا جنوبا وشرقا، ووجد المصريون أنفسهم بلا جيش يحميهم أو يدافع عنهم، اجتمع شيوخهم وعلماؤهم في الجامع الأزهر، «وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الإفرنج ... وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم، وآخر صحبته، فغابا وعادا، فأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: «وأين عظماؤكم ومشايخكم؟»»
2
ولما استقر الفرنسيون في القاهرة أخذوا يتتبعون من بقي بها من عائلات المماليك، ويهاجمون بيوتهم، ويستولون على أموالهم، وكانوا في تنقلاتهم يستصحبون معهم المترجمين ليقوموا بنقل الحديث بينهم وبين زوجات الأمراء، وأولادهم، وخدمهم. يذكر الجبرتي في حوادث شهر ربيع الأول سنة 1213ه أن جماعة من جنود الفرنسيين ذهبوا إلى «بيت رضوان الكاشف ... وصحبتهم ترجمان ومهندس.»
3
وبدأ نابليون يضع الأسس لحكومة جديدة يشترك فيها زعماء المصريين، ليستعين بهم في إدارة شئون البلاد، وإقناع الأهلين، وقد نص في الأمر الصادر بتكوين الديوان أن يكون أعضاؤه تسعة ينتخبون من بينهم واحدا للرياسة، وأن يختاروا سكرتيرا (كاتم سر) من غير الأعضاء، ويعينوا اثنين من الكتبة والتراجمة يعرفان الفرنسية والعربية.
والجبرتي يتحدث عن بعض أعمال هذين المترجمين في شذرات متفرقة نستطيع أن نتبين منها أن «الترجمان» كان الناقل لأوامر الفرنسيين، والقارئ لأوامرهم وفرماناتهم في الديوان، وأنه كان يضمن كلامه العربي كلمات فرنسية مما يدل على أن هذين المترجمين كانا من علماء الحملة الفرنسيين العارفين باللغة العربية. يقول الجبرتي عند كلامه عن الجلسة الأولى للديوان: «فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطي القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط،
4
وفي المناقشة، فابتدر كبير المديرين في إخراج طومار آخر، وناوله الترجمان فنشره وقرأه ...»
5
ثم يقول عند الكلام على انتخاب رئيس الديوان: «ثم قال الترجمان: نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون كبيرا ورئيسا عليكم ... فقال بعض الحاضرين: «الشيخ الشرقاوي.» فقال: نو، نو، وإنما ذلك يكون بالقرعة ... إلخ.»
6
وأراد نابليون أن يصبغ المجتمع المصري بالصبغة الفرنسية. فانتهز فرصة اجتماعه بالمشايخ الذين اختيروا أعضاء للديوان، وأحضر لكل منهم طيلسانا وشارة مثلثتي الألوان، وبدأ فألبس الطيلسان للشيخ الشرقاوي، فثار، وألقى به إلى الأرض، «واستعفى، وتغير مزاجه، وامتقع لونه، واحتد طبعه، فقال الترجمان: «يا مشايخ أنتم صرتم أحبابا لصاري عسكر، وهو يقصد تعظيمكم، وتشريفكم بزيه وعلامته ...» وغضب نابليون لفعلة الشرقاوي غضبا شديدا، وتكلم بلسانه، وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي إنه لا يصلح للرياسة ... إلخ.»
7
ولم يكن الشيخ السادات بين الحاضرين، ولكنه أتى بعد انصرافهم، «فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صاري عسكر، ولاطفه في القول الذي يعربه الترجمان، وأهدى له خاتم ألماس.»
8
ثم ألبسه الشارة المثلثة الألوان، فلم ير كزملائه أن لبسها كفرا، بل تركها حتى خرج فنزعها.
وعندما أصدر الفرنسيون أوامرهم بتنظيم دفن الموتى، وشرع بعض رجالهم في هدم التراكيب المبنية على المقابر في مقبرة الأزبكية، وتسويتها بالأرض، ثار القاهريون وخرجوا في مظاهرة كبيرة إلى بيت نابليون، «ووقفوا تحت بيت صاري عسكر، فنزل لهم المترجمون واعتذروا بأن صاري عسكر لا علم له بذلك ...»
9
وذكر الجبرتي عند كلامه على تنظيم الديوان في عهد نابليون، وتقسيمه إلى «خصوصي وديمومي» أسماء أعضاء الديوان، ثم قال: «ومعهم وكلاء ومباشرون من الفرنسيس، ومترجمون ...»
10
هذا، ولم تخضع أطراف مصر للفرنسيين في الحال، فأرسل نابليون جنوده لإخضاع الصعيد،
11
وشمال الدلتا الشرقي، وتنظيم هذه البلاد، ثم كونت في عواصم المديريات دواوين صغيرة على نمط الديوان الكبير في القاهرة، وكان يصحب هذه الكتائب من الجيش الفرنسي ويعين رجال الإدارة منهم في حكم الأقاليم نفر من هؤلاء المترجمين، كذلك اصطحب الجيش الفرنسي بعضا منهم معه في حملته على الشام.
وذكر الجبرتي أيضا أن المشايخ والأعيان ذهبوا لمقابلة نابليون والسلام عليه بعد عودته من الإسكندرية عقب موقعة أبي قير البرية، «فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان: إن صاري عسكر يقول لكم إنه لما سافر إلى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه، وأما في هذه المرة فليس كذلك، لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون، بل يموتون ... وأن المهدي والصاوي ما هم «بونو» أي ليسوا بطيبين.»
12
وعاد نابليون إلى فرنسا، وولى كليبر قيادة الحملة، فظل للترجمة الرسمية شأنها الأول، وللمترجمين مركزهم الهام كوسطاء لنقل الحديث بين الحكام والمحكومين وترجمة الأوامر والفرمانات والوثائق الرسمية، يقول الجبرتي عند كلامه على مشروع اتفاقية العريش: «ولما ورد ذلك الطومار المتضمن لعقد الصلح والشروط عربوه وطبعوا منه نسخا كثيرة فرقوا منها على الأعيان، وألصقوا منها بالأسواق والشوارع.»
13
ولما قتل القائد كليبر كونت محكمة فرنسية خاصة لمحاكمة المتهمين، وألف الفرنسيون «في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة، وكيفيتها، وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث: الفرنساوية، والتركية، والعربية ...» وطبعوا «من كل لغة قدر خمسمائة نسخة لكي يرسلوا ويتعلقوا في المحلات اللازمة ...»
14
شكل 2-1: صورة الصفحة الأولى من الكتاب المتضمن للترجمة العربية لمحاضر محاكمة سليمان الحلبي، وهو من الكتب القليلة التي ترجمت في عهد الحملة وطبعت بمطبعتها بالقاهرة.
وكان الديوان قد عطل في عهد «كليبر»، فلما ولي «مينو» قيادة الحملة أعاد تنظيمه على نسق جديد كما ذكرنا، وعين له - إلى جانب الأعضاء من المشايخ - كاتبا عربيا اسمه «الشيخ علي»، وكاتبا (يوميا) اسمه «قاسم أفندي»، ومترجما أول - أو ترجمان كبير - هو «القس روفائيل»، ومترجما ثانيا - أو ترجمان صغير على حد تعبير الجبرتي - هو «إلياس فخر الشامي»، وجعل مقر هذا الديوان بيت رشوان بك في حارة عابدين، وخصص جناح من هذا البيت لسكن «الوكيل الكومسيير
Commissaire
فوريه»، «وأعدوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانا خاصا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة الأوراق، والوقائع، وغيرها.»
15
ووصف الجبرتي هيئة انعقاد جلسات الديوان، فقال إنه: «إذا تكامل حضور المشايخ يخرج إليهم الوكيل فوريه، وصحبته المترجمون، فيقومون له ، فيجلس معهم، ويقف الترجمان الكبير رفائيل، ويجتمع أرباب الدعاوى، فيقفون خلف الحاجز عند آخر الديوان ... وعنده الجاويش ... ويدخلهم بالترتيب، الأسبق فالأسبق، فيحكي صاحب الدعوى قضيته، فيترجمها له الترجمان ... إلخ.»
16
وكان عمل المترجم الأول في هذا الديوان يشبه عمل سلفه في ديوان نابليون إذ كان يقوم إلى جانب الترجمة بقراءة الأوامر والرسائل والفرمانات، فقد ذكر الجبرتي في حوادث شعبان سنة 1215ه أن صاري عسكر أرسل «إلى مشايخ الديوان كتابا، وقرأه الترجمان الكبير رفائيل ...»
17
ولما حضرت الحملة الإنجليزية التركية في سنة 1216ه / 1801 لإخراج الفرنسيين كانت الرسائل تأتي تباعا من الجنرال «مينو» في الإسكندرية إلى أعضاء الديوان في القاهرة، وبدأ الفرنسيون يتقربون إلى المصريين حتى لا ينتهزوا الفرصة فيثوروا ضدهم، ويزيدوا في متاعبهم، ذكر الجبرتي في حوادث المحرم سنة 1216ه أن القائمقام «بليار» استدعى إليه مشايخ الديوان و«قال لهم على لسان الترجمان: نخبركم أن الخصم قد قرب منا، ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية ...»
18
وانتهت المعارك بين الجيشين بالصلح والاتفاق على أن يجلو الفرنسيون عن مصر، وتعود البلاد إلى السلطان، وفي القاهرة أعلنت الشروط الخاصة بالشعب «في أوراق ألصقت بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة.»
وفي نفس الشهر دعي الديوان للاجتماع، «وحضر المشايخ والوكيل، فقال الوكيل: هل بلغكم بقية الشروط الثلاثة عشر؟ فقالوا: «لا»، فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي، فشرع يقرؤها، والترجمان يفسرها ... إلخ.»
19
وبعد أيام عقد الديوان آخر جلساته، «فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية، «واستوف» الخازندار، والوكيل، والترجمان، فلما استقر بهم الجلوس أخرج الوكيل كتابا مختوما، وأخبر أن ذلك الكتاب من صاري عسكر «مينو» بعث به إلى مشايخ الديوان، ثم ناوله لرئيس الديوان، ففضه وناوله للترجمان فقرأه ... إلخ.» ثم أخرج الوكيل «ورقة بالفرنساوي وقرأها بنفسه حتى فرغ منها، ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل، ومضمونها حصول الصلح، وتمويهات وهلسيات ليس من ذكرها فائدة، ولما انتهى من قراءتها أبرز أيضا «استوف» الخازندار ورقة، وقرأها بالفرنساوي، ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان وهي في معنى الأولى ...»
20
وبعد، فهذه نبذ متفرقة مما ذكره الجبرتي عن الترجمة الرسمية يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذا النوع من الترجمة كان له خطره وأهميته أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، غير أن المراجع المعاصرة لم تعن بذكر ثبت بهؤلاء المترجمين أو التعريف بهم، ومع هذا ففي الفقرات الآتية محاولة لهذا الإحصاء، وهذا التعريف. (1) هيئات المترجمين الرسميين في عهد الحملة
من الممكن أن نقسم جماعة المترجمين الرسميين في عهد الحملة إلى الهيئات الآتية: (1)
الأسرى الذين كانوا في جزيرة مالطة
21
من مغاربة وعرب وأتراك، وقد أطلق سراحهم رجال الحملة الفرنسية بعد استيلائهم على مالطة، وصحبوهم معم إلى مصر، وأطلقوهم في كل مكان يوزعون منشور نابليون بين المصريين، وقد قام واحد منهم بحمل رسالة المشايخ إلى نابليون وهو في الجيزة - كما ذكرنا - ولم تذكر الكتب المعاصرة اسم واحد من هؤلاء. (2)
العارفون باللغة العربية من رجال الحملة الفرنسية، وأهم هؤلاء: (أ)
فانتور
Venture : وهو أحد أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع المصري، وأكبر أعضاء هذا المجمع سنا، قضى أربعين سنة من حياته في الشرق، فكان مترجما بالسفارة الفرنسية في تركيا، ثم مترجما للغات الشرقية للحكومة الفرنسية في باريس، ثم مدرسا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، ثم صحب الحملة إلى مصر فكان كبير مترجميها، أو «ترجمان صاري عسكر» كما يسميه الجبرتي، وكان نابليون يقدره، ويثق به ثقة كبيرة، ويرجع إليه في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين، ومن تلاميذه المعروفين: المسيو مارسيل، والمسيو جوبير الآتي ذكرهما.
ولما سار نابليون بحملته إلى سوريا استصحب معه المسيو «فانتور» ولكنه مرض هناك بالدسنطاريا ومات، فتألم نابليون لموته، وأرسل بنعيه إلى الديوان في خطاب تاريخه المحرم سنة 1214ه (يونيو سنة 1799) قال فيه: «وفانتوره مات من تشويش، هذا الرجل صعب علينا جدا، والسلام ...» وعقب الجبرتي على هذا الخبر بقوله: «وفانتوره هذا ترجمان صاري عسكر، وكان لبيبا متبحرا، ويعرف باللغات التركية والعربية والرومية والطلياني والفرنساوي.»
22 (ب)
جوبير
(1779-1847): أحد المستشرقين من علماء الحملة، وواحد من تلاميذ «دي ساسي». تخرج في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، وكان تلميذا لفانتور، فلما توفي الأستاذ اختار نابليون تلميذه ليشغل مركزه، ويكون كبيرا لمترجمي الحملة، وقد كتب أبحاثا كثيرة
23
نشرت في كتاب وصف مصر، وبعد جلاء الحملة عين مدرسا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية، ثم اختير مدرسا للفارسية في «الكوليج دي فرانس»، وفي أخريات أيامه عين ناظرا لمدرسة اللغات الشرقية. (ج)
براسرفيش: أحد أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع المصري، ويسميه الجبرتي: «السيتوين الخواجة داميانوس براشويش كاتم السر وترجمان صاري عسكر.»
24
ويبدو أنه خلف «جوبير» فتولى هذا المركز بعده في عهد «الجنرال مينو»، وقد قام بالاشتراك مع زميله لوماكا
l’Homaca
بترجمة أقوال المتهمين بقتل الجنرال «كليبر». (د)
لوماكا
l’Homaca : عضو آخر من أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع، وقد اشترك مع زميله «براسرفيش» كما ذكرنا في النقل عن سليمان الحلبي وزملائه، وترجمة أقوالهم أثناء التحقيق معهم، وكانت له جهود أخرى في ترجمة الوثائق الرسمية
25
كرسائل «مينو» التي أرسلها في أيام الحملة الأخيرة من الإسكندرية إلى أعضاء الديوان بالقاهرة.
شكل 2-2: صورة صفحة 47 من الكتاب المتضمن الترجمة العربية لمحاضر محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر وبها اسم واحد من مترجمي الحملة وهو «براشويش». وقد طبع هذا الكتاب بمطبعة الحملة بمصر.
ويبدو أن هؤلاء الأقطاب الأربعة كانوا يكونون الهيئة العليا للترجمة الرسمية، فقد كانوا جميعا أعضاء في لجنة الترجمة بالمجمع العلمي أو «مدرسة العلماء في بر مصر»،
26
وشغل ثلاثة منها منصب كبير مترجمي الحملة أو «ترجمان صاري عسكر»، واشترك الرابع في ترجمة كثير من الوثائق الرسمية الهامة.
ومع هذا فقد كان هناك نفر آخرون من جنود الحملة وقوادها على علم بالعربية، فساهموا بقسط أقل في الترجمة الرسمية، من هؤلاء:
شكل 2-3: صورة الصفحة 12 و13 من الكتاب المتضمن الترجمة العربية لمحاضر محاكمة سليمان الحلبي وبها ذكر لثلاثة من مترجمي الحملة وهم: لوماكا، وحنا روكه، وبراشويش. (أ) «حنا روكه»:
27
وقد اشترك مع «براسرفيش» و«لوماكا» في ترجمة بعض أقوال المتهمين بقتل «الجنرال كليبر». (ب) «كليمان»: ذكر الجبرتي أنه كان يقوم أحيانا بالترجمة في بعض جلسات الديوان، قال في حوادث ذي الحجة 1215ه / أبريل 1800: «حصلت الجمعية، وحضر الخازندار، والوكيل ... وبعض التجار ...، و«كليمان» الترجمان ، فتكلم «استوف»، وترجم عنه الترجمان أن صاري عسكر الكبير «مينو» يقرئكم السلام ... إلخ.»
28 (ج)
ومنهم مترجم ثالث اسمه «أبي ديف» هكذا ذكره الجبرتي، فقد وصف الجلسة الأخيرة للديوان بعد أن تم الصلح بين الفرنسيين من ناحية والإنجليز والأتراك من ناحية أخرى، ونقل نص الخطب التي ألقيت في تلك الجلسة، وكان آخرها خطبة ألقاها «استوف» باللغة الفرنسية، ثم قرأ المترجم ترجمتها باللغة العربية، قال الجبرتي بعد ذكر هذا النص: «وهو من تعريب «أبي ديف» وإنشاء «استوف» بالفرنساوي ...»
29 (3)
المترجمون السوريون:
كان السوريون أكثر شعوب الشرق الأدنى اتصالا واختلاطا بشعوب أوروبا المطلة على البحر الأبيض المتوسط في العصور الوسطى، ففي ربوع بلادهم كانت ميادين الحروب الصليبية، وفي شواطئ سوريا قامت الإمارات اللاتينية، وعاش أخلاط من هذه الشعوب اللاتينية، وانتهت الحروب الصليبية ولكنها خلفت في الشام طائفة من المسيحيين تدين بالمذهب الكاثوليكي، وتعترف بالولاء لزعيم الكاثوليك ورئيسهم «البابا» المقيم في روما؛ ولذلك ظلت رحلة البطارقة والمطارنة والقساوسة السوريين دائمة إلى «روما» لزيارة مقر البابوية، ولتلقي العلوم الدينية في مدارس «روما» الدينية، وكثر - تبعا لهذا - العارفون باللغتين الفرنسية والإيطالية بين كاثوليك سوريا.
وفي القرنين السابع والثامن عشر اضطربت أمور الحكم العثماني، وزاد طغيان الباشوات الأتراك في الشام، ونال الطوائف المسيحية شيء من الاضطهاد، «ولما ساعد فخر الدين المعني أمير لبنان الشهير المرسلين الإفرنج الكاثوليكيين على النزول في سوريا ولبنان وفلسطين، لجأ فريق من السوريين المسيحيين إلى قناصل الإفرنج، وتمذهبوا بمذهبهم طمعا في حماية دولهم، والفوز بشيء من المساعدة المادية، فثار عليهم رؤساء الأرثوذكس اليونانيون، وأخذوا يزرعون البغضاء والتعصب الديني في قلوب إخوانهم السوريين الأرثوذكس، ويلجئون إلى البطريرك القسطنطيني ليستصدروا الأوامر في اضطهاد الكاثوليك ... فانتهز الحكام العثمانيون هذه الفرصة الثمينة ليضطهدوا المسيحيين من المذهبين الكاثوليكي والأرثوذكسي ... فأخذوا ينزحون إلى القطر المصري في أوائل القرن الثامن عشر. وزادت مهاجرتهم بعد اضطهاد سنة 1725 الشهير، وكان أغلبهم من دمشق الشام، فلقبوا بالشوام، وعم هذا اللقب كل السوريين المهاجرين إلى مصر.»
30
ولجأ هؤلاء «الشوام» إلى القاهرة أولا، ودمياط ثانيا، والإسكندرية ثالثا، وهي المدن المصرية الكبرى ذات الصدارة حينذاك في التجارة والصناعة، واستغلوا في هذه المدن نشاطهم التجاري والصناعي الممتاز، فسرعان ما أثروا، وكونوا ثروات وجاليات كبيرة لها شأن في تاريخ مصر الاقتصادي وقتذاك، ووصلت أخبار هذا النجاح إلى إخوانهم في سوريا ولبنان فتوالت الهجرات وتتابعت؛ ولهذا يرجع الأب قسطنطين الباشا هجرة مسيحيي الشام إلى مصر إلى سببين: «قوة الجذب وقوة الدفع؛ إذ كانت أخبار نجاح من تقدم منهم إلى هذا القطر تجذب سواهم، وكان الاضطهاد الديني الذي كان يجري في مدن الشام يدفعهم بقوة إلى هذا القطر.»
31
وكانت موانئ إيطاليا التجارية، وخاصة البندقية وجنوة وليفورنو، تضم منذ القرن الخامس عشر جاليات شرقية كبيرة، وإذ كانت موانئ مصر الشمالية على اتصال تجاري دائم بموانئ إيطاليا فقد تجددت رحلة السوريين من مصر إلى موانئ إيطاليا للتجارة أحيانا، وهربا من اضطهاد المماليك أحيانا أخرى.
32
وقد بلغ من ازدياد نفوذ هؤلاء المهاجرين المالي والاقتصادي أن طغوا على طائفتي اليهود والأقباط اللتين كان لهما احتكار الوظائف المالية في مصر منذ عهد طويل، ففي سنة 1182ه / 1768-1869م «قبض علي بك الكبير على المعلم إسحاق اليهودي معلم الديوان ببولاق وضربه حتى مات.»
33
ثم أعطي التزام هذا الديوان للمعلم ميخائيل فرحات السوري، وأصبح هذا الالتزام المالي الهام وقفا على مسيحيي السوريين منذ ذلك الحين، فقد حل المعلم ميخائيل الجمل بعد قليل محل ميخائيل فرحات، ولكن علي بك الكبير سرعان ما غضب على الجمل فعزله، وأعطى الديوان للمعلم يوسف البيطار الحلبي، فاستغاث الجمل بصديقه المعلم إبراهيم الصباغ مستشار ظاهر العمر أمير عكا، وحليف علي بك، فأجاب رجاءه، وسعى لدى علي بك حتى أعيد الديوان للجمل والبيطار معا، وفي سنة 1188 / 1774م توفي، فأعطي التزام الديوان للمعلم «أنطون فرعون قسيس»
34
زعيم مسيحيي الشام في مصر وقتذاك، وأثرى أثريائهم.
لهذا لا نعجب إذا عرفنا أن «نابليون» أرسل - وهو يعد العدة للحملة - إلى العالم «مونج» و«الجنرال ديزيه» في «روما» يأمرهما أن يتعاقدا مع بعض المترجمين من الشرقيين المقيمين في «إيطاليا»، وقد كان من بين المترجمين الذين تعاقدوا معهم اثنان من السوريين المقيمين في إيطاليا - من طائفة الروم الكاثوليك - هما: دون إلياس فتح الله ويوسف مسابكي.
35
وجاء في مذكرات القس أنطون مارون أن الفرنسيين - وهم في طريقهم إلى مصر - «طلبوا بعض الشرقيين للترجمة حيث صمموا النية للحضور للإقليم المصري، فخرج معهم جملة رهبان، وتقلدوا السلاح، ومن جملتهم «الراهب أنطون مشحرة» الذي نزع «الأسكيمو» والثوب الرهباني، وتقلد السلاح ... وحضر مع الفرنساوية لمصر.»
36
ولما بدأ الفرنسيون ينظمون شئون الحكم في مصر كان من بين أعضاء الديوان الذي أنشأه نابليون اثنان من السوريين، هما: يوسف فرحات وميخائيل كحيل.
37
وكان من الطبيعي أن يستعين الفرنسيون بمن في مصر من المسيحيين وخاصة السوريين لمعرفتهم باللغة العربية وباللغتين الفرنسية والإيطالية، ولاتفاق الطائفتين في اعتناق دين واحد ومذهب واحد، فكان «أنصارهم من نصارى البلد الأقباط، والشوام، والأروام.»
38
ولما انتهى نابليون من وضع النظام الجديد لحكم مصر فكر في أن يتقرب إلى والي عكا أحمد باشا الجزار، وأن يكتسب صداقته، فأرسل إليه هدية يحملها فرنسي، «وكان بصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار، ومعهم جانب أرز ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفائن أحمد باشا، فلما وصلوا إلى عكا وعلم بهم أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه إلى بعض النقاير، ولم يواجهه، ولم يأخذ منه شيئا، وأمره بالرجوع من حيث أتى، وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.»
39
وبعد تحطيم الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية، واليأس من وصول أي مدد جديد من فرنسا، أنشأ «نابليون» فرقة عسكرية من مسيحيي السوريين والأروام، وقام بتنظيم هذه الفرقة وتدريبها الجنرال «كليبر».
40
ولما أعيد إنشاء الديوان في عهد الجنرال «مينو» عين له مترجمان سوريان: القس رفائيل «ترجمان كبير»، وإلياس فخر
41 «ترجمان صغير». وقد لعب الأب أنطون رفائيل زاخور راهبة دورا هاما في الترجمة الرسمية في عهد الحملة، غير أنه لعب دورا أهم في الترجمة العلمية في عهدي الحملة ومحمد علي، مما سنتناول الكلام عنه بالتفصيل في مواضعه.
وذكر الجبرتي مترجما سوريا آخر اسمه «نصر الله»، قال في حوادث ذي القعدة 1215 / أبريل 1801: «توفي محمد أغا مستحفظان مطعونا (أي بمرض الطاعون) ... ولم يقلدوا عوضه أحدا، بل أذنوا لعبد العال أن يركب عوضا عنه، وذلك بمعونة نصر الله النصراني ترجمان قائمقام «بليار».»
42
وممن اتصل بالفرنسيين من المترجمين السوريين أيضا: عبود وميخائيل الصباغ، وهما حفيدا إبراهيم الصباغ طبيب ظاهر العمر، وقد ولد ميخائيل
43
في عكا، وتلقى العلم بها، ثم ارتحل إلى مصر طلبا للعلم أيضا، واتصل بالفرنسيين عند قدومهم، وعاد معهم عند خروجهم حيث اتصل بالمستشرق الكبير «دي ساسي
De Sacy » في باريس، وعين مصححا للكتب العربية في المطبعة العربية هناك ثم ناظرا للمخطوطات الشرقية في المكتبة الأهلية.
ونقولا الترك
44
المؤرخ الثاني للحملة باللغة العربية بعد الجبرتي، كان والده من القسطنطينية، وارتحل إلى دير القمر حيث ولد له نقولا الذي نبغ في الأدب شعرا نثرا، واتصل بخدمة الأمير بشير الشهابي، وله فيه مدائح كثيرة، ثم سافر إلى مصر، وقيل إن سيده أرسله إليها ليدرس عن كثب مدى ما ترمي إليه أطماع الفرنسيين، وفي مصر اتصل بالفرنسيين وترجم لهم، وله كتاب بالعربية عن تاريخ الحملة في مصر والشام اسمه: «ذكر تملك الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية»، وقد قام بنشر النص العربي وترجمته الفرنسية في «باريس» سنة 1839 المسيو «ديغرانج
M. Desgranges ».
وكان من المترجمين السوريين للحملة أيضا القس جبرائيل الطويل:
45
غادر مصر مع الحملة، وبقي في فرنسا سنوات إلى أن عين أستاذا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية في «باريس» خلفا للأب رفاييل زاخور راهبة.
هؤلاء طائفة من المترجمين السوريين الذين شاركوا في الترجمة الرسمية في عهد الحملة الفرنسية، نضيف إليهم اسما أخيرا هو يعقوب بن يوسف (عزيز) الترجمان الحلبي الماروني، ذكره الأب بولس قرألي ضمن وفيات السوريين
46
في مصر سنة 1803.
ولا يمكن أن تكون هذه القائمة المختصرة ثبتا كاملا لأسماء المترجمين السوريين، فقد اتصل بالفرنسيين منهم أثناء مقامهم في مصر عدد كبير، وعند جلاء الفرنسيين عن مصر خرج معهم «جماعة كثيرة من القبط وبحار الإفرنج والمترجمين، وبعض مسلمين ممن تتداخل معهم، وخاف على نفسه بالتخلف، وكثير من نصارى الشوام والأروام ...»
47
ويذكر الأب قرألي أنه كان من بين هؤلاء المهاجرين «نحو خمسمائة سوري من طائفة الملكيين الكاثوليكيين ومعهم كاهنهم الخوري جبرائيل طويل، فاستوطنوا مارسيليا.»
48 (4)
المترجمون المصريون:
قد يلجأ الباحث المفكر بعد ذكر هذه الطوائف إلى البحث والتنقيب عله يجد من بين المصريين من قام بالترجمة للفرنسيين، ولكنه يجد أن حالة المصريين التعليمية في ختام القرن الثامن عشر لم تكن تؤهل واحدا منهم للقيام بهذه المهمة، كان المصريون أغلبية من المسلمين، وأقلية من الأقباط، ولم تكن مدارس الطائفتين ومعاهدهما العلمية تعنى بتدريس اللغة الفرنسية، أو أي لغة أخرى غربية، كذلك باعد الخلاف الديني بين المسلمين من المصريين وبين الفرنسيين، فلم يحاول أحد من عامة مسلمي مصر وطلابهم الاتصال بالفرنسيين في هذه المدة اليسيرة اتصال تلمذة ليتعلم عنهم اللغة الفرنسية، كذلك لم يكن علماء المسلمين الذين اتصلوا بالفرنسيين وأعجبوا بهم في السن التي تسمح لهم ببدء تلقي لغة جديدة.
أما العنصر الثاني من عناصر الشعب المصري، وهم الأقباط، فقد اتصلوا بالفرنسيين اتصالا وثيقا، وخاصة زعيمهم المعلم يعقوب الذي جعله الفرنسيون «صاري عسكر القبط»، فجمع «شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة على ما يضاف إليها من قبح صورهم، وسواد أجسامهم، وزفارة أبدانهم، وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن فيها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذي رمه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين الوقوف ليلا ونهارا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية.»
49
وعند خروج الفرنسيين رحل معهم يعقوب وفي صحبته عدد كبير من جنود هذه الفرقة القبطية، أما يعقوب فقد أدركته المنية وهو في السفينة في عرض البحر، «أما أصحابه فقد عاد نفر منهم لوطنهم بعد قليل، وظل منهم في أوروبا آخرون قامت بينهم القضايا والدعاوى، ووقع أكثرهم في الفقر والفاقة، فأجرت عليهم الحكومة الفرنسية معاشا مدة طويلة، وانتهى أمرهم بالاندماج في الفرنسيين، ولم يكن من أثر ثابت لأحد منهم إلا لأليوس بقطر صاحب القاموس الفرنسي العربي ...»
50
ويبدو أن الفرنسيين اصطنعوا أول مجيئهم إلى مصر طائفة من شبان الأقباط الذين تسمح لهم سنهم بتعلم اللغة الفرنسية، ولم ينبغ من هؤلاء إلا أليوس بقطر، فقد كانت سنه عند مجيء الفرنسيين 15 سنة فاتصل بهم وتتلمذ عليهم، وتعلم اللغة الفرنسية، واشتغل بالترجمة لرجال الحملة، ثم ارتحل معهم، وأقام مع الجالية المرتحلة من مصر في «مارسيليا» حتى سنة 1812، ودأب في تلك المدة على تعلم اللغة الفرنسية حتى أتقنها، وفي تلك السنة استدعي إلى باريس حيث عهد إليه بترجمة بعض الوثائق العربية الخاصة بالحملة إلى اللغة الفرنسية، وشارك العلماء الفرنسيين في تحقيق الأسماء العربية الواردة في المصورات الجغرافية التي كانت تعد حينذاك لتنشر في كتاب «وصف مصر
Description de l’Egypte »، وعمل في ذلك الحين على وضع قاموس فرنسي عربي، وفي سنة 1821 - وهو في السابعة والثلاثين من عمره - عين مدرسا للغة العربية العامية بمدرسة اللغات الشرقية في «باريس»، ولكن المنية عاجلته في تلك السنة بعد أن انتهى من وضع قاموسه، فأشرف على طبعه في «باريس» خلفه في تدريس اللغة العربية المستشرق الكبير «كوسان دي برسيفال
Caussin de Perceval » في جزأين
51
سنة 1829.
وبعد، فهذه هي الطوائف التي قامت بالترجمة الرسمية في عهد الحملة، ولم تكن إحداها على علم متين باللغة العربية؛ لهذا جاءت النصوص المترجمة ضعيفة ركيكة الأسلوب، أقرب إلى اللغة العامية منها إلى اللغة العربية، وإن نظرة واحدة إلى النصوص الفرنسية لوثائق الحملة، ومنشوراتها الواردة في مراسلات نابليون وكتب الحملة، وإلى النصوص العربية لترجمة هذه الوثائق والفرمانات مما حفظه الجبرتي ونقولا الترك في كتابيهما، لتؤيد هذا الرأي. بل لقد أبدى الجبرتي نفسه رأيه في ضعف الترجمة في أكثر من موضع، فقد ذكر عند كلامه عن إنشاء الديوان في عهد «نابليون» أن الفرنسيين وضعوا لهذا الديوان قواعد وشروطا كتبوها «بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية.»
52
ولما ذكر نص محاكمة سليمان الحلبي قاتل «كليبر» قال في مقدمتها: «وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها، لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرا من الناس تتشوق نفسه إلى الاطلاع عليها ... إلخ.»
53
الفصل الثالث
الترجمة العلمية في عهد الحملة
المجمع العلمي، لجانه، أعضاء لجنتي الترجمة والطباعة، أغراضه، جهوده، أهم من اشتغل بالترجمة من أعضاء المجمع: «مارسل»، الأب روفاييل: ترجمة حياته قبل الحملة وفي عهدها، جهوده في الترجمة في عهد «نابليون» وفي المجمع العلمي، اختياره مترجما أول للديوان في عهد «مينو»، ترجمته لرسالة طبية عن مرض الجدري من تأليف «ديجينيت»، الرسائل التي ترجمت في عهد الحملة وطبعت في مطبعتها. ***
أما الترجمة العلمية فقد بدأ بها المستشرقون من علماء الحملة يساعدهم نفر من المترجمين السوريين، وإن كانت القلاقل السياسية التي انتهت بإخراج الحملة من مصر لم تمكنهم من الاستمرار في أداء هذا الواجب.
أسس نابليون المجمع العلمي المصري، أو «مدرسة العلما في بر مصر»
1 - كما يسميه مستشرقو الحملة - من علماء الحملة المختصين في دراسة نواحي العلم المختلفة، فكان بينهم المتوفرون لدراسة الرياضة والهندسة، والفلك، والميكانيكا، وطبقات الأرض، والمعادن، والطب، والجغرافيا، والآثار، والآداب، والفنون ... إلخ ... إلخ، ويهمنا أن نذكر أنه كان من بينهم المختصون في: (1)
الترجمة. (2)
الطباعة العربية والفرنسية.
فكانت لجنة الترجمة تتكون من:
فانتور
Venture ، ماجالون
Magallon ، لوماكا
l’homaca ، أميدي جوبير
Amedee Jaubert ، دلابورت
DeLaporte ، ريج
Raige ، براسرفيش
Bracervich ، وبلتيت
Belletéte .
2
كما كانت لجنة الطباعة تتكون:
مارسل
Marcel (مدير المطبعة)، بونتيس
، جالان
Galand ، بودوان
Bouduin ، بسون
Besson .
3
وكانت مكتبة المجمع عامرة بآلاف الكتب، ومن بينها «كثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم ... وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات، وتصاريفها، واشتقاقاتها، بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت ...»
4
وقد حددت أغراض المجمع في الأمر الصادر بتكوينه في 22 أغسطس سنة 1798: (1)
تقدم العلوم والمعارف في مصر. (2)
دراسة المسائل والأبحاث الطبيعية والصناعية، والتاريخية الخاصة بمصر، ونشر هذه الأبحاث. (3)
إبداء رأيه للحكومة في المسائل التي تستشيره فيها.
وجعل للمجمع أقسام أربعة: (1) للرياضيات. (2) وللطبيعيات. (3) وللاقتصاد السياسي. (4) وللآداب والفنون.
وقرر أن يمنح المجمع «جائزتين كل سنتين: الأولى لأهم بحث خاص بتقدم الحضارة في مصر، والثانية لأهم بحث خاص بتقدم الصناعة ... وتطبع الأبحاث التي أجيزت في مجموعة المجلس، وكذلك الأبحاث التي لم تنل الجائزة متى رأت اللجنة أنها جديرة بالنشر ...»
5
وانتشر علماء الفرنسيين في كل طرف من أطراف مصر يبحثون وينقبون، وجمعوا بحوثا طريفة جليلة ستكون المادة التي يكتب منها فيما بعد كتاب وصف مصر
Description de l’Egypte
والكتب الكثيرة الأخرى التي ظهرت عن تاريخ الحملة من النواحي العسكرية، والطبية والعلمية ... إلخ.
ويتضح من القائمة السابقة التي تضم أعضاء لجنتي الترجمة والطباعة أن كثيرين من هؤلاء الأعضاء قد شاركوا في نوعي الترجمة الرسمية والعلمية، غير أنه يبدو أن عبء الترجمة العلمية في جملته كان يحمله ويقوم به عضوان من أعضاء المجمع: أحدهما مستشرق فرنسي كبير هو «جان يوسف مارسل»، والثاني سوري مسيحي هو «الأب أنطون رفاييل زاخور راهبة المخلصي» وهو العضو الشرقي الوحيد بمجمع نابليون.
أما «جان يوسف مارسل» (1776-1854) فكان رأس المستشرقين من رجال الحملة، وأكثرهم نشاطا، كان جده «جيوم مارسل» أحد قناصل فرنسا القدامى في الشرق، ولد في باريس في 24 نوفمبر سنة 1776، وفقد أباه وهو صغير فكفلته أمه وأشرفت على تربيته وتعليمه فألحقته بجامعة «باريس» حيث عني بدراسة الرياضيات والعلوم، وفي السابعة عشرة من عمره التحق موظفا بمعمل البارود، ثم اشتغل فترة ما بالإشراف على طبع مجلة مدارس المعلمين، ثم اشترك مع سوارد
Suard
ولاكرتل
Lacretelle
في تحرير
Journal des Nouvelles Publiques ، وفي حوادث الثورة ألغيت هذه الصحيفة وفر محرروها خوفا من إلقاء القبض عليهم، ولكن مارسل عاد من مخبئه بعد قليل وبدأ في سنة 1790 يتفرغ - شأنه شأن أسلافه - لدراسة اللغات الشرقية، وقد تتلمذ في مدرسة اللغات الشرقية على الأساتذة المستشرقين:
Langlès
و
De Sacy
و
Venture ، ومن المحتمل أنه رشح ليكون عضوا من أعضاء اللجنة العلمية للحملة بناء على توصية
6
أستاذه «فانتور».
وقد عين «مارسل» - لمعرفته باللغة العربية - مديرا لمطبعة الحملة العربية، وذلك في نفس الوقت الذي اختار فيه «ديزيه» و«مونج» وهما في إيطاليا، دون إلياس فتح الله ليكون مديرا لنفس المطبعة؛ فلهذا منعه نبل أخلاقه أن يجمع بين أن يكون مديرا للمطبعة وعضوا في لجنة العلوم والآداب، بل اكتفى بعضوية اللجنة وتنازل عن مرتب إدارة المطبعة لمعاونيه.
وقد أشرف وهو في مصر على إخراج الصحيفتين الفرنسيتين
Le Courier d’Egypte
و
La Décade Egyptienne ، ثم عين بعد عودته إلى فرنسا مديرا للمطبعة الأهلية التي سميت بعد قليل بالمطبعة الإمبراطورية
l’Imprimerie impériale ، وله أبحاث جليلة كثيرة - وخاصة عن مقياس الروضة - نشرت في كتاب وصف مصر.
7
أما العضو الشرقي فهو الأب «أنطون رفاييل»
8
زاخور راهبة، كانت أسرته من طائفة الروم الكاثوليك الملكانيين، وقد رحلت عن حلب إلى مصر في أوائل القرن الثامن عشر، وفي القاهرة ولد رفاييل في 7 مارس سنة 1759، وفيها أيضا نشأ نشأة دينية فتلقى العلوم الدينية ودرس اللغة العربية على آباء طائفته، وخاصة على رئيس مذهبهم البازيلي في القاهرة الأب «أغابيوس مطر»، وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره سافر إلى إيطاليا مع أستاذه هذا ليتم علومه الدينية
9
في روما، واستغرقت رحلته مائة يوم فوصل إلى مدينة البابوات في أواخر يناير سنة 1775، وهناك التحق بمدرسة «سانت أتاناز الإكليركية
Séminaire de Saint-Athanase » حيث بقي بها 5 سنوات أتم في خلالها دراساته الدينية، ثم مكث سنتين أخريين في إحدى الجامعات لدراسة اللغات، وخاصة اللغة الإيطالية.
وفي سنة 1781، عندما أتم رفاييل الثانية والعشرين من عمره غادر روما وعاد إلى صيدا مركز الطائفة البازيلية فالتحق بدير المخلص
Couvent de Saint-Sauveur ، وهناك اشتغل بترجمة بعض الكتب الدينية
10
والوثائق المحفوظة في مكتبة هذا الدير، وظل يرتقي في المناصب الدينية، فعين شماسا في سنة 1782، ثم قسيسا في سنة 1785، ثم ارتحل بعد ذلك إلى روما في سفارة دينية قام في أثنائها بترجمة كثير من وثائق هذه السفارة عن العربية إلى الإيطالية وعن الإيطالية إلى العربية.
وبانتهاء هذه السفارة عاد رفاييل إلى مصر واستقر بها حتى وصلت الحملة الفرنسية، فكانت أعمالها ميدانا طيبا لإشباع طموحه وتحقيق آماله العريضة.
في 3 «فركتيدور» من السنة السادسة (20 أغسطس سنة 1798 / 8 ربيع الأول سنة 1213) صدرت اللائحة بتكوين المجمع المصري، وكانت المادة 20 من هذه اللائحة تقول بأنه سيكون هناك مترجم عربي يتقاضى مرتبا خاصا، ومن الممكن أن يكون عضوا بالمجمع:
Ily aura un interprete arabe qui aura un traitement particulier et qui pourra être membre de l’Institut .
11
واختير «أنطون رفاييل زاخور راهبة»
12
ليكون هذا المترجم، وعين عضوا في لجنة الآداب والفنون الجميلة بالمجمع، ولم تذكر المراجع الأسباب التي مهدت لرفاييل سبل الاتصال بنابليون ورجال الحملة، واختياره دون غيره ليكون عضوا بالمجمع، وإن كان الأستاذ بشاتلي
13
يقدم فرضين قد يكون أحدهما أو كلاهما سببا لهذه الصلة:
أولهما:
أن نابليون كان قد أرسل إلى العالم «مونج» والجنرال «ديزيه» وهما في إيطاليا يوصيهما بالاستيلاء على مطبعة «البروباجندا» وأن يتفقا مع عدد من المترجمين الموجودين في إيطاليا، فكان من بين هؤلاء المترجمين سوريان من طائفة الروم الكاثوليك هما: دون إلياس فتح الله ويوسف مسابكي،
14
ومن المحتمل أنهما كانا على معرفة وثيقة برفاييل مذ كان يتلقى العلم في روما، فقاما عند وصولهما إلى مصر بلفت أنظار أولي الأمر من الفرنسيين إليه.
وثانيهما:
أنه كان من بين أعضاء الديوان الذي أنشأه بونابرت عضوان من السوريين هما: يوسف فرحات وميخائيل كحيل،
15
ومن المرجح أيضا أنهما كانا على اتصال بالأب رفاييل الذي كان يقوم بشئون طائفتهما الدينية، فلعلهما مهدا له السبيل للاتصال برجال الحملة الفرنسية.
ومهما كانت الأسباب فقد اختير رفاييل عضوا بالمجمع، وبدأ به جهوده العلمية، فقد ذكر في صحيفة
La Decade Egyptienne
أن المواطن «بونابرت» دعا المجمع لوضع تقويم للسنة الثامنة، على أن يكون هذا التقويم ثلاثيا يشتمل على التاريخ الفرنسي والقبطي والعربي، وكلف الأعضاء:
Nouet, Monge, Bauchamps, & Raphaél . بوضع هذا التقويم، وقامت اللجنة بمهمتها، ووضع التقويم، وطبع بالمطبعة العربية تحت عنوان: «تقويم الجمهورية الفرنسية حسب تبعا لتوقيت القاهرة، والسنة الثامنة للجمهورية الفرنسية، وذلك بالقاهرة بالمطبعة الأهلية، السنة الثامنة للجمهورية
Annuaire de la Republique Française, calculé pour le meridien du Caire, l’an VIII de l’ère Française ».
16
ونستطيع أن نقرر دون أن نكون مخطئين أن دون رافييل كان الواضع الوحيد أو الرئيسي للجزء الخاص بالعصرين الهجري والقبطي،
17
ولا شك أن رفاييل قد قام بنصيب كبير من أعمال المجمع عند إعداد كثير من الأبحاث وترجمة كثير من الوثائق التي كان يجمعها علماء المجمع ليصنفوا منها كتاب وصف مصر، وليضعوا على ضوئها النظم الجديدة السريعة لإدارة البلاد، وحكم الشعب الجديد، كذلك يبدو أن رجال الحكومة الفرنسية قد عهدوا إلى رفاييل بترجمة كثير من المراسيم والفرمانات والقوانين الصادرة منهم إلى الشعب المصري، ويقول الأستاذ بشاتلي: إن كثيرا من هذه الوثائق التي تكون جزءا من
Fonds Marcel
المحفوظة في المجمع المصري الجديد لا تحمل أي توقيع، ولكن أي مقارنة بسيطة بين بعض نصوص هذه الوثائق وبين ما ورد في مخطوطة رفاييل التي في حوزته تدل يقينا على أن هذه الوثائق هي من وضع أو ترجمة رفاييل.
وأول هذه الوثائق الترجمة العربية لمرسوم خاص بجمرك السويس صدر في نوفمبر سنة 1798 (نيفوز عام 7
Nivöse an VII ، جماد ثاني ورجب سنة 1213)، وثانيهما ترجمة أمر بتأجير بعض أملاك الجمهورية وتاريخها 30 ديسمبر سنة 1898 (10 نيفوز عام 7 / 22 رجب سنة 1213ه).
18
وفي اليوم السابق لمسير بونابرت بحملته إلى سوريا (5 فبراير سنة 1799) (17 بلوفيوز سنة 8
/ 30 شعبان 1213) عزل نابليون «جلوتييه
Gloutier » عن وظائفه التي كان يتولاها من قبل اللجنة الفرنسية في الديوان الجديد، وعهد بهذه الوظائف إلى «فورييه
Fourier » السكرتير الدائم للمجمع. وكان فورييه يعرف رفاييل زميله في المجمع معرفة وثيقة فاستمر في التعاون معه، ولكن لا في الميدان العلمي، بل في ميدان الشئون الإدارية؛ وفي اللحظة التي وصلت فيها القوات الفرنسية إلى العريش وصل من «برتييه» إلى «الجنرال دوجا» منشور باللغة الفرنسية موجه إلى أعضاء ديوان القاهرة، وقد قام رفاييل بترجمة هذا المنشور إلى اللغة العربية.
19
وبعد سفر نابليون إلى فرنسا انتقلت قيادة الحملة إلى كليبر، وفي 25 نوفمبر سنة 1799 / 27 جماد ثان 1214 أصدر القائد الجديد أمرا بتكوين لجنة لجمع المعلومات عن مصر
Commission des renseignements sur l’Egypte .
20
وقد ذكر رفاييل في مخطوطته التي يملكها الأستاذ بشاتلي أن هذه اللجنة كانت تتكون منه ومن سبعة أعضاء آخرين، وفي هذه المخطوطة أيضا صورة لخطاب
21
أرسله رفاييل للشيخ السادات يشكره فيه على حسن استقباله لتابعه، ويطلب منه - كعضو في اللجنة - أن يزوده بالمعلومات الوافية عن أسرته.
وإبان قيام رفاييل بهذا العمل قتل كليبر في 14 يونيو سنة 1800 / 21 المحرم سنة 1315 فانتقلت مقاليد الأمور إلى الجنرال «مينو»، وأصدر «مينو» أمره فأعيد تكوين الديوان في صورة جديدة من تسعة من المشايخ المسلمين، يشترك معهم «فورييه» بلقب قوميسيير «كمثاري» أو «مدبر سياسة الأحكام الشرعية» كما يسميه الجبرتي، وطفر رفاييل طفرة جديدة فعين «ترجمان كبير» للديوان الجديد، وتمكنت الصداقة في هذا العهد بين رفاييل والقوميسيير «فورييه» فكانا يسكنان معا في بيت رشوان بك بعابدين حيث كانت تعقد جلسات الديوان.
وفي «ضحوة يومين في الجمعة»
22
أي حوالي الساعة التاسعة صباحا كان يدخل «فورييه» إلى قاعة الاجتماع يتقدمه رفاييل «ترجمان كبير» كاتب مضبطة الجلسة أو «كاتب سلسلة التواريخ» السيد إسماعيل الخشاب حيث ينضمون إلى بقية الأعضاء، وقد أعدوا في بيت رشوان بك «للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانا خاصا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام، لترجمة أوراق الوقائع وغيرها، وجعلوا لها خزائن للسجلات ...»
23
وقد أشار الأستاذ بشتلي في بحثه القيم عن رفاييل إلى أنه عثر في محفوظات المجمع المصري الجديد على وثيقتين هامتين من ترجمة «رفاييل» أثناء قيامه بوظيفة المترجم الأول للديوان، أولى هاتين الوثيقتين ترجمة عربية بخط «دون رفاييل» للائحة قضائية أصدرها «الجنرال مينو» لتنظيم المحاكم المصرية، وتاريخها أول أكتوبر سنة 1800 (
10 Vendémiaire an LX
فندميير السنة التاسعة / 10 جماد أول سنة 1215)، وفي أسفلها هذه التوقيعات:
24
مدير سياسة الأحكام الشرعية
فورييه
كاتب سلسلة التواريخ
الشيخ إسماعيل الخشاب
ترجمان كبير الديوان
دون رفاييل
والوثيقة الثانية ترجمة أمر يومي صادر عن «الجنرال مينو» في 23 أغسطس سنة 1801 (5 فركتيدو) / 12 ربيع الثاني سنة 1216 خاص بطريقة اختيار مشايخ البلاد وحقوقهم، وهي مكتوبة أيضا بخط دون رفاييل
25
نفسه.
وظل رفاييل على نشاطه المعهود يقوم بترجمة الرسائل والمراسيم والفرمانات ويقرؤها بنفسه على أعضاء الديوان، ففي جلسة 35 شعبان سنة 1215 أرسل صاري عسكر «مينو» إلى مشايخ الديوان كتابا وقرأه الترجمان الكبير رفاييل،
26
وفي هذا الكتاب وجه «مينو» الشكر للمشايخ على تهنئتهم له بالمولود الجديد الذي رزقه من زوجته المسلمة «زبيدة ».
وفي المحرم سنة 1216 / مايو-يونيو سنة 1801 - وهي السنة التي حضر فيها الإنجليز والأتراك لإخراج الفرنسيين - «حضر الوكيل والترجمان وطلبهم (أي مشايخ الديوان) للحضور إلى قائمقام، فلما حصلوا عنده قال لهم على لسان الترجمان: نخبركم أن الخصم قد قرب منا، ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية.»
27
وفي نفس الشهر «اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العادة، وحضر «استوف» الخازندار، وترجم عنه رفاييل بقوله: إنه يثني على كل من القاضي والشيخ إسماعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال ...»
28
وفي صفر من نفس السنة - 1216 - أبرمت شروط الصلح بين الفرنسيين وأعدائهم، فعقد الديوان «وحضر المشايخ والوكيل، فقال الوكيل: هل بلغكم بقية الشروط؟ ... فقالوا: لا، فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي فشرع يقرؤها، والترجمان يفسرها ...»
29
وفي أواخر هذا الشهر - 24 صفر سنة 1216 - عقدت الجلسة الأخيرة للديوان وألقيت فيها الخطب، وكان من بينها خطبة للوكيل ألقاها بنفسه «حتى فرغ منها، ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل، ومضمونها حصول الصلح وتمويهات وهلسيات ليس في ذكرها فائدة ...»
30
وقد حاول رفاييل قرض الشعر إلى جانب عمله في الترجمة الرسمية والعلمية، فقد وصل إلى مصر في 14 سبتمبر سنة 1800 خبر موت الجنرال «ديزيه» - توفي في 14 يونيو سنة 1800 - وكان المعلم يعقوب قد اشترك مع «ديزيه» في إحدى معاركه في الصعيد ضد جماعة من المماليك، وأبلى في هذه المعركة بلاء حسنا مما دفع «ديزيه» إلى تقليده سيفا تقديرا لشجاعته.
تألم يعقوب لهذا الخبر ألما شديدا، وأرسل إلى الجنرال «مينو» يعرض عليه رغبته في دفع ثلث نفقة الأثر المزمع إقامته لتخليد ذكرى «ديزيه»، كذلك فكر يعقوب في إرسال تعزية شعرية للحكومة الفرنسية، فتقدم بالرجاء إلى صديقه «رفاييل» أن ينظم له هذه القصيدة، فنظمها من أربعين بيتا في ثلاثة أيام، وصورة هذه القصيدة موجودة في مخطوطة «رفاييل» التي يملكها الأستاذ بشتلي الذي يرى أن المقارنة البسيطة بين الأصل العربي والترجمة الفرنسية للقصيدة لا تدع أي شك في أنها من نظم
31
رفاييل، وإن كانت الترجمة الفرنسية تحمل اسم يعقوب.
كذلك لم تشغل الترجمة الرسمية في العهد الأخير رفاييل تماما عن الترجمة العلمية، فقد قام في شعبان سنة 1214 / يناير سنة1800 بترجمة رسالة طبية صغيرة ألفها «ديجينيت» كبير أطباء الحملة عن مرض الجدري وطرق علاجه، وقد طبعت هذه الرسالة مرتين في مطبعة الحملة، وكان عنوان الطبعة الأولى:
هذا تنبيه فيما يخص داء الجدري المتسلط الآن، وذلك بشرح موجه إلى أرباب الديوان بمصر القاهرة من قبل البلدي دجنخط رئيس الأطباء في الجيش الفرنساوي بجهة الشرق، بمصر القاهرة بدار المطبعة الجمهور الفرنساوية (كذا)، في يوم 20 من شهر شعبان سنة 1214 هجرية.
32
وقد ذكر «ديجينيت» أنه أهدى 250 نسخة من رسالته إلى الديوان، و50 نسخة أخرى للست نفيسة المرادية، وأيد هذه الرواية الجبرتي، فقال في حوادث شعبان سنة 1215: «وفيه أرسل رئيس الأطباء الفرنساوي نسخا من رسالة ألفها في علاج الجدري لأرباب الديوان، لكل واحد منهم نسخة على سبيل المحبة والهدية ليتناقلها الناس ويستعملوا ما أشار إليه فيها من العلاجات لهذا الداء العضال، فقبلوا ذلك منه، وأرسلوا له جوابا شكرا له على ذلك ...» ولا شك أن الجبرتي نال نسخة منها - فقد كان عضوا في الديوان - وأنه قرأها، فقد قال معقبا على هذا الحادث: «وهي رسالة لا بأس بها في بابها.»
33
هذه هي الطوائف التي شاركت في الترجمة الرسمية والعلمية في مصر في عهد الحملة الفرنسية (1798-1801)، وإنا لنرجح أنه إذا كان قد قدر للحملة أن يطول عمرها في مصر لنشطت هذه الحركة وأثمرت وآتت أكلها، غير أنها انقطعت بعد خروج الحملة فترة ما، على أن تبدأ حياة جديدة أكثر نشاطا وأوفر إنتاجا في عهد العاهل العظيم محمد علي، وسنرى أن الفرنسيين - ومنهم بقية من علماء الحملة - هم الذين سيوجهون الحياة العلمية كلها - لا حركة الترجمة فقط - في ذلك العهد.
ونرى أخيرا أن خير ما يتوج به الكلام عن الترجمة العلمية في عهد الحملة أن نرصد فيما يلي ثبتا بالكتب - بل الكتيبات - القليلة التي ترجمت
34
وطبعت في مطبعة الحملة: (1)
وصايا لقمان الحكيم
Fable de Loqman, surnommé le Sage . طبعت باللغة العربية ومعها ترجمتها الفرنسية في مطبعة الحملة في كتاب صغير من 120 صفحة، كان ثمنه تسعين نصف فضة. (2)
نشرة بها محضر محاكمة سليمان الحلبي باللغات الفرنسية والعربية والتركية، وكان عنوانها باللغة العربية : «مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بأعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كليبر، بمصر القاهرة، بمطبعة الجمهور الفرنساوي، في سنة 8 من إقامة الجمهور»، وعنوانها بالفرنسية:
Recueil des piéces relatives à la procédure et au jugement de Soleyman al-Haleby, assassin du general en chef Kléber ، وتقع هذه الكراسة في 150 صفحة. (3)
أجرومية للغة العامية
Grammaire arabe Vulgaire à l’usage des Français et des Arabes (Incomplet) ، وهي من وضع «مارسل»، وقد بدأ في تصنيفها في قلعة القاهرة، ثم أضاف إليها زيادات في الإسكندرية، غير أنها ظلت غير كاملة، وطبعت في سنة 1801 باللغتين الفرنسية والعربية في 168 صفحة. (4) «رسالة في مرض الجدري»، تأليف «ديجينيت» كبير أطباء الحملة، وترجمة الأب رفائيل زاخور، وقد ذكرنا فيما سبق عنوانها العربي والفرنسي الكامل، طبعت باللغتين الفرنسية والعربية في 43 صفحة طبعتين: الأولى في شعبان سنة 1214 / يناير سنة 1800، والثانية في شعبان 1215 / ديسمبر سنة 1800.
अज्ञात पृष्ठ